النظر في كتب علم الكلام وكتب أهل الأهواء

جاءَ التَّحذيرُ في كلامِ السَّلَفِ من علم الكلام، وشدَّدوا في النكيرِ على مَن تعاطاه، وقد أفتَى ابنُ الصَّلاحِ والنَّوويُّ وغيرُهما بتحريمِ النَّظرِ فيه وقال الناظم:

فابنُ الصَّلاحِ والنَّواوي حرَّما

 

وقالَ قومٌ ينْبغي أنْ يُعْلَما

لكنَّ شَيخَ الإسلامِ –رحمه الله- عَرَفَ عِلمَ الكلامِ لكي يرُدَّ على المُتكلِّمينَ والمُبتدِعةِ، والأمورُ بمقاصدِها، والوسائلُ لها أحكامُ المقاصدِ، فشَيخُ الإسلامِ لمَّا احتاجَ إلى أنْ يَرُدَّ على هؤلاءِ المتكلمين اضطرَّ أنْ يَنظُرَ في عِلمِهم، ولمَّا أرادَ أنْ يَرُدَّ على النَّصارَى في (الجوابِ الصَّحيحِ) اضطَرَّ إلى أنْ يقرَأَ في كُتبِهم. فإذا تعيَّنَ الرَّدُّ على إنسانٍ فلا بدَّ أنْ تُعرفَ جميعُ المُقدِّماتِ التي يُحتاجُ إليها، والذي يَتصدَّى لهذا لابد أن يكون كاملَ القريحةِ، صحيحَ الاعتقادِ، بَنَى عِلمَه على أصلٍ مَتينٍ من الكِتابِ والسُّنةِ، والاطِّلاعِ التَّامِّ على عِلمِ سَلَفِ الأمَّةِ، وإلا فلا يَبْعُدُ أنْ يعْلَقَ في قلبِه شُبهةٌ لا يستطيعُ التَّخلُّصَ منها، إذ كيفَ يستطيعُ أنْ يردَّ على الرَّازي بقوةٍ ويُرديهِ -كما قالَ ابنُ القيِّمِ- إلا من هو مثلُ شَيخِ الإسلامِ. وتفسيرُ الرازي مملوءٌ بالشُّبَهِ التي عجَزَ هو نفسُه عن ردِّها، فكيفَ يردُّها مَن هو ضعيفٌ مهزوزٌ؟!.

والدَّعوةُ إلى عدمِ النَّظرِ في الكُتبِ التي ترُدُّ على هذه المذاهبَ بزعمِ أنَّها انقرضت، دعوةٌ للتَّقليلِ من شَأَنِ هذا العِلمِ، وإذا لم نُعنَ بالرَّدِّ على الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والأشَاعِرَةِ والرَّافِضَةِ وغيرِهم من صُنوفِ المُبتدِعةِ، ليَطَّلِعَ عليها طلابُ العلمِ من خلالِ الرُّدودِ التي رُدَّ بها عليهم؛ بحيثُ يُصبحُ بالإمكانِ أنْ يَعرِفَ طالبُ العِلمِ مذهبَ الرَّافِضَةِ من مِنْهَاجِ السُّنةِ مثلًا؛ لأنَّه يُخشَى عليه من الزيغ فيما لو قَرَأَ في كُتبِهم؛ أنْ يَقِفَ على شُبهةٍ وهو ليسَ مُتأهلًا للنَّظرِ التَّامِ فيها، فضلًا عن ردها وتَفنِيدِها. وهذا الباب ينبغي ألا يفتحَ على مصراعيه، فليس لكلِّ أحدٍ أنْ يقرَأَ في مثلِ هذه الكتبِ، فَيُفَرَّقُ بينَ عالِمٍ قد رسخت قدمُه في العلمِ، وبينَ متعلّمٍ بسيط.

ومن طلبة العلم غير المتأهلين من يتكايسُ ويزعُمُ أنَّ من دلائلِ قوَّةِ البَحثِ والباحثِ ردَّ كلِّ قولٍ إلى مصادرِه الأصليَّةِ، وأن هذا من بابِ التَّحقيقِ العِلميِّ، وفي هذا خطرٌ عظيمٌ. ولمَّا أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه-، النَّبِيَّ -ﷺ- بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَيه غَضِبَ -ﷺ- وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ» [المسند: 15156] يعني: هل أنتَ بحاجةٍ إلى أنْ تنظُرَ في هذا؟، فإنه لم يكُنْ أحدٌ يُروِّجُ للدِّيانةِ اليهوديَّةِ، فلا يحتاجُ أنْ يُنظَرَ في كُتبِهم ليرُدَّ عليها، خاصة مع وجودِ المعصومِ المؤيَّدِ بالوحيِ بين أيديهم –عليه السلام-، ومن ثَمَّ زجره النبي -ﷺ-. والسَّخاويُّ له كِتابٌ أسماه (الأصلُ الأصيلُ في ذِكْرِ الإجماعِ على تحريمِ النَّظرِ في التَّوراةِ والإنجيلِ)، ومقصودُه التَّوراةُ والإنجيلُ المحرَّفةُ التي بأيدي اليهودِ والنَّصارَى.

فوصيتي لطلَّابِ العِلمِ أن يكونوا على حذرٍ تامٍّ منَ النَّظرِ في هذه الكتب، وألا يَنظُروا فيها إلا إذا احْتِيجَ إلى الرَّدِّ عليهم في مسائلَ جدَّتْ لم يتعرَّضْ لها شَيخُ الإسلامِ وغيره من العلماء، فالمذاهبُ لم تنقرِضْ، ولكلِّ قومٍ وارثٌ، وكلَّ يومٍ يظهرُ شخصٌ برأيٍ يُلحَقُ إمَّا برأيِ الجَهْمِيَّةِ أو برأيِ المُعْتَزِلَةِ أو غير ذلك.