شرح المنظومة البيقونية (1)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،  

 أما بعد:

 فلا يخفى على أحد أهمية العلم الشرعي، وأن مداره على الكتاب والسنة.

العلم قال الله قال رسوله

 

قال الصحابة هم أولو العرفانِ

فالأمة المحمدية أمة نص واتباع، ولا يمكن أن يؤخذ العلم إلا من هذين المصدرين، فلا مسلك لنا، ولا وسيلة لتحصيل العلم إلا عن طريق الكتاب والسنة، فطالب العلم بأمس الحاجة إلى معرفة هذين الوحيين، وما يخدمهما، وما يُعين على فهمهما، القرآن العظيم كلام الله -جل وعلا- ثابت ثبوتًا قطعيًّا، غير قابل للزيادة والنقصان، محفوظ،  قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر]******.

وأما السنة: وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع لهذه الأمة، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد بقوله، ويُعول على كلامه من أهل العلم، خالف في ذلك بعض طوائف البدع الذين لا يرون الاحتجاج بالسنة، وإنما يكتفون بالقرآن، والمراد بالسنة: ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، جميع ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-، المسلم ملزم باتباعه، والعمل به، وليست له مندوحة في أن يختار غير هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكل عمل شرعي يشترط لقبوله بعد الإخلاص لله -جل وعلا- متابعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد))، فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من العناية بالسنة النبوية، لكن العناية بما ثبت منها عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكيف نعرف الثابت من غيره؟ لا بد أن نعرف القواعد والضوابط التي استنبطها أهل العلم؛ ليتوصل بها إلى معرفة المقبول من المردود، وذلك في علم مصطلح الحديث.

فهو علمٌ بأصول وقواعد يعرف بها الصحيح من الضعيف، المقبول من المردود، مما ينسب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولسنا بصدد الكلام والإفاضة فيما ألِّف في هذا العلم، فالتأليف فيه قديم، يوجد أو توجد قواعد أهل العلم في كتب المتقدمين، وإن لم تدون في مصنف مستقل، توجد في سؤالات الأمة، بل وجد أصل بعض فنون هذا العلم من عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالجرح والتعديل، والكلام في الرجال حصل من النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((بئس أخو العشيرة))، وهذا أصل في الجرح، لكن على ما سيأتي في بابه، لا ينبغي أن يكون هذا الأصل مدخلًا لبعض من يتفكه بأعراض الناس، بل على الإنسان أن يحتاط لنفسه، وأن يحافظ على ما اكتسبه من حسنات، ولا يأتي يوم القيامة مفلسًا، كما جاء في الحديث الصحيح، فالجرح والتعديل واجب، لكن بقدر الحاجة، فإن احتيج إلى ذلك تعين، حفظًا للدين، وصيانة للشريعة المكرمة أوجب أهل العلم الكلام في الرواة، وليعلم طالب أن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، كما يقول ابن دقيق العيد، وجاء في النصوص القطعية ما يقتضي تحريم الكذب في أعراض الناس، مع الأسف الشديد أن يوجد بعض من يتكلم حتى في أعراض خيار الأمة، من المتقدمين والمتأخرين، لم يسلم منه أحد، فهذا المسكين لا يدري أنه قد يتعب على تحصيل الحسنات، ثم يفرقها، شعر أولم يشعر، كما جاء في الحديث الصحيح: ((أتدرون من المفلس؟)) قلنا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، قال: ((المفلس من يأتي بأعمال)) وفي بعض الروايات: ((كأمثال الجبال، يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، ثم يأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيآتهم فألقيت عليه، فطرح في النار)) يأتي يفني عمره، ويقضي وقته في طلب العلم، ثم بعد ذلك يأتي مفلسًا يوم القيامة، هذه هي الخسارة، هذا الذي خسر نفسه يوم القيامة، وهذه هي الخسارة الحقيقية، وهذا هو الفَلَسُ الحقيقي، وإن كان الفلس أيضًا يطلق في أمور الدنيا: على من لا درهم له ولا متاع، وحقيقته أيضًا شرعية في باب الحجر والتفليس المفلس: من لا درهم له ولا متاع، أو عنده درهم ومتاع، لكن لا يفي بديونه، هذه حقيقة شرعية، لكن الحقيقة التي ينبغي أن نتنبه لها ما أشار إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((أتدرون من المفلس؟)) وكلها حقائق شرعية، لكن تلك أهم، كما أن الغبن في أمور الدنيا أن يشتري الإنسان سلعة يُزاد في ثمنها عليه، أو يبيع سلعة يُنقص من ثمنها بالنسبة لما تستحقه، هذا غبن عند أهل العلم، لا سيما إذا كان كثيرًا، لكن الغبن الذي ينبغي أن يتفطن له طالب العلم ما جاء في سورة التغابن: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [(9) سورة التغابن]، وتعريف الجزأين معروف أنه يدل على الحصر عند أهل العلم، ذلك يوم التغابن الحقيقي، أما الدنيا كلها لا شيء بالنسبة لغبن الآخرة، فلنتنبه لهذا.

وأصول هذا العلم وجدت منذ القدم، فالكلام على الرجال حصل منه -عليه الصلاة والسلام-، والتحري والتثبت والاحتياط للسنة، حصل من كبار صحابته -عليه الصلاة والسلام-، وحذر -عليه الصلاة والسلام- من أن يكذب عليه فقال: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) وجاء ما هو في الاحتياط أشد: ((من حدّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبِين)) أو الكاذِبَين، فعلى الإنسان أن يحتاط، وإذا كان الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- كبيرة، وموبقة من الموبقات فالكذب في أحاديث الناس العادي تهمة بالكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، كما سيأتي في حديث المتهم.

وجدت قواعد هذا العلم منثورة في كتب الأئمة، ففي كتب الشافعي، وفي سؤالات الإمام أحمد، وفي جامع الترمذي، وفيما يسأل عنه الإمام البخاري، وفي تواريخه، وفي صحيحه قواعد منثورة لهذا العلم، وفي أيضًا العلل الكبير، وعلل الجامع للإمام الترمذي قواعد كثيرة من قواعد هذا العلم، لكن من أول من صنف في هذا العلم على سبيل الاستقلال: القاضي الرامهرمزي في كتابه (المحدِث الفاصل)، المحدث الفاصل هذا من أول ما صُنف، توفي مؤلفه سنة ستين وثلاثمائة، يعني على سبيل الاستقلال، ثم جاء بعده الحاكم أبو عبد الله فألف (المعرفة)، ثم جاء بعده أبو نعيم فألف على المعرفة مستخرجًا، ثم القاضي عياض،  ثم ابن الصلاح الذي جمع شتات هذا العلم في كتابه (علوم الحديث)، وعكف الناس على هذا الكتاب، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومنتصر، دار الناس في فلكه، فاختصروه، ونظموه، وشرحوه، فاكتفوا به عما تقدم؛ لأنه جمع شتات هذا العلم، ثم بعد ذلك تتابع التأليف، فألف الحافظ ابن حجر نخبته الشهيرة، وسبق أن شرحناها هنا، وهذه النخبة أيضًا حصل لها من القبول ما حصل، وما زالت تقرأ وتُدْرَس وتُدَرّس، وتشرح وتنظم، وتختصر على اختصارها إلى يومنا هذا.

قد يقول طالب العلم: كتب علوم الحديث كثيرة جدًا، لا يمكن الاحاطة بها، والأمر كذلك صحيح، لكن ما الذي ينبغي أن يعتني به، ويدرسه من كتب المصطلح، هذا الكتاب الذي معنا كتاب مختصر جدًا، وهي منظومة سهلة، لكن نصيحة لطلاب العلم الذي لا تسعفه الحافظة يحفظ هذه المنظومة، أربعة وثلاثين بيت سهلة، لكن الذي تسعفه الحافظة، حافظته متوسطة مثلًا يحفظ نظم النخبة، في مائتي بيت وبيت، أو ستة أبيات على خلاف بين النسخ، أو منظومة الشيخ حافظ الحكمي: (اللؤلؤ المكنون) وقد أنهينا شرحها قبل ثلاثة أيام أو أربعة، وهي منظومة رائعة، ثلاثمائة وأربعين بيت، فإن كانت الحافظة أقوى فليقصر حفظه على ألفية العراقي، على كل حال يبدأ طالب العلم بالكتب الصغيرة، المتون الميسرة في مثل هذا الكتاب، ثم النخبة، ثم اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير، ثم يتوفر جهده كله على ألفية العراقي -رحمه الله تعالى- وشروحه، بعد ذلك يكون هذا العلم على ما قرره المتآخون، وأما قواعد المتقدمين التي ينادي بها بعض الغيورين ممن عرف بالحرص والحرقة على السنة النبوية، وهي دعوة -إن شاء الله- إنها نابعة من قلب طيِّب، ومن إخلاص صادق، لكن مثل هذا الكلام لا يوجه إلى المبتدئين؛ لأنه إذا وجه مثل هذا الكلام للمبتدئين صار تضييعًا لهم؛ لأن المبتدئ لا يستطيع أن يتعامل مع أحكام المتقدمين، حتى يتأهل لذلك، كما يطالب الطالب المبتدئ بالاجتهاد في الأحكام الشرع، مثل هذا يضيعه، فعلى طالب العلم أن يتربى على قواعد المتأخرين، ثم بعد أن يتأهل لذلك، ويكثر النظر في أحكام  الأئمة، ويخرج الأحاديث، ويدرس أسانيدها، ويكثر من ذلك، إذا صارت لديه الأهلية لمحاكات المتقدمين في أحكامهم هذا فرضه؛ لأن المتأخرين عالة على المتقدمين، ولا يضن بمن ينادي بنبذ قواعد المتأخرين، والاهتمام بكلام الأئمة، لا يضن بهم سوء لا أبدًا، إنما باعثهم على ذلك الحرص على هذا العلم، ولا شك أن المتأخرين عالة على المتقدمين، لكن يبقى أنه كيف يتربى طالب العلم على كلام الأئمة المتقدمين؟ ومن يقلد من الأئمة المتقدمين؟ إذا عرف القواعد، وضبط وأتقن، وأكثر من دراسة تخريج الأحاديث، ودراسة الأسانيد، وتأهل للنظر في القرائن التي يرجح بها؛ لأن أحكام المتقدمين مبنية على القرائن، والقرائن ما كل يدركها، قد يفنى عمر الإنسان ما استطاع أن يحكم بالقرائن؛ لأن هذا العلم كما يقولون: إلهام، لكن إلهام مبني على صدق وإخلاص وحرص وجد واجتهاد، فالأئمة المتقدمون الذين يحفظون مئات الألوف من الأحاديث، أصبح لديهم ملكة، بالشم يعرفون الصحيح من الضعيف، لكن شخص لا يحفظ الأربعين كيف يحكم بالقرائن هذا؟ أو يخفى عليه حديث في بدهيات المتون المحفوظة عند صغار طلاب العلم هذا يحاكي المتقدمين؟ لا يمكن، فالدعوة التي تقال، وتطرق بين حين وآخر دعوة جيدة وصحيحة، ومقصد *(هنا تشويش وكلام غير واضح ) ، لكن لا يخاطب بها آحاد المتعلمين، إذا عرفنا أن من يقال: إنه مجدد لهذا العلم في هذا العصر قلنا: مثلًا إنه بالنسبة للرواية الشيخ الألباني -رحمه الله-، وبالنسبة للدراية والاستنباط الشيخ ابن باز، ولا نظير لهما فيما نعلم، يعني في العصر المتأخر، واهتمامهم بالسنة، ما قالوا بمحاكاة المتقدمين، ولا حاكوهم هم أيضًا، إنما حكموا من خلال القواعد المعروفة الآن، لكن إذا تعارض حكمهم مع أحكام الأئمة أعادوا النظر في أحكامهم، وبهذا يتأهل الإنسان، والإنسان عليه أن يعرف قدر نفسه، فالإنسان إذا سلك الجادة وصل -بإذن الله تعالى-، لكن إذا كان يطوّح يومًا في أقصى اليمين، ويوم في أقصى الشمال، ويجرب هذا القول ويجرب..، هذا يضيع، ويضيع عمره ما حصل شيء، هذا التصنيف لأهل العلم على الطرق المعروفة، وتقسيم الطلاب إلى مبتدئين ومتوسطين ومنتهيين وكذا، ويؤلِّفون على قدر عقول هؤلاء وعقول هؤلاء وعقول..، يعني هذا ما هو بعبث، هذا جرب من مئات السنين، ووجد من أنفع الأمور، إلى طبقة شيوخنا الآن المبرزين في العلم والعمل ولله الحمد وهم على هذه الجادة، وهم على هذه الجادة، وهي جادة مثمرة، وأنتجت فحول، قد يقول قائل مثلًا : إن هذه الطرق، وهذه التقسيمات لا توجد عند سلف الأمة, سلف الأمة عندهم من الأذهان الصافية غير المشوشة، نعم وسلامة الفطرة، ومعرفة اللغة، ومعاصرة النصوص على وجهها ما يؤهلهم للاستنباط مباشرة، لكن شخص لا يعرف العام من الخاص، ولا المطلق من المقيد، ولا الناسخ ولا المنسوخ، كيف يتعامل مع النصوص مثل هذا؟ لا يستطيع أن يتعامل حتى إذا تأهل؛ لأن العلم ينمو في ذهن الإنسان مثل ما ينمو جسمه، مثل نمو النبات، ما تقول: والله هذا -ما شاء الله- شاب كامل القريحة، تجاوز به المراحل، أعطوه كتب المتقدمين، ما يمكن، ولو كان كامل القريحة، ولو كان من أذكى الناس وأنبلهم، لا بد أن يتدرج؛ لأن العلم سلّم يصعد إليه، حتى تصل إلى السقف، وليس معنى هذا السقف الاحاطة بالعلوم كلها، لن يحلم أحد بهذا؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [(85) سورة الإسراء] الأئمة الكبار الذين وصفوا بأنهم بحور العلم لن يخرجوا عن قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [(85) سورة الإسراء] قصة موسى والخضر أكبر شاهد على هذا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخذ حديث الجسّاسة من تميم الداري، واكتسب الشرعية هذا الحديث من إقرار النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا يقال كما يقول بعضهم: إن العلم الشرعي مزيج من حضارات وثقافات وما أدري إيش؟ هذا الكلام تضليل هذا، يستدلون بمثل هذه القضايا، حديث الجساسة لو لم يكتسب الإقرار من النبي -عليه الصلاة والسلام- ما التفتنا إليه قلنا: خرافة، لكن لما أقره النبي -عليه الصلاة والسلام- قلنا: على العين والرأس، اكتسب القطعية.

حديث عبد الله بن زيد في الأذان رؤيا، لكن هل الرؤيا والأحلام يقرر بها شرع؟ لا أبدًا، لكن اكتسب الشرعية من إقرار النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإقرار النبي -عليه الصلاة والسلام- نوع من أنواع سنته -عليه الصلاة والسلام-، يأتي من يكتب في الصحف مثل هذا الكلام، ويقول: إن الشريعة والدين مأخوذ من مزيج من حضارات، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يستفيد من الحضارات الآخرى، ((وكدت أن أنهى عن الغيلة، فإذا فارس والروم يستعملونها ولا يؤثر عليهم)) يقول: أبدًا النبي -عليه الصلاة والسلام- استفاد هذا الحكم من فارس والروم، نقول: ليس بصحيح، النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث لجميع من على وجه الأرض، بعث للناس كلهم، والأحكام عامه، تشمل العرب وتشمل العجم، وتشمل فارس والروم والمشرق والمغرب، فكون هذا الأمر يؤثر على بيئة من الناس أو فئة من الناس، أو أهل مجتمع، نعم، لا يعطي حكم عام، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن ينهى لأنه يضر، لكن يضر من؟ يضر في هذه البيئة التي عاش فيها؛ لوجود مؤثرات أخرى مع هذا، فلما عرف أنه لا يؤثر على  بقية الناس إذًا لا ينهى عن مثل هذا، نعم يبقى أن من يضره شيء يمتنع منه، بعض الناس يضره التمر نقول: لا تأكل التمر يا أخي، وليس معنى هذا أن التمر حرام، بعض الناس يضره اللبن نقول: يا أخي لا تشرب لبن، وليس معنى هذا أن اللبن حرام، بعض الناس يتضرر بالغيلة، والغيلة: إرضاع الطفل مع الحمل، مع حمل أمه، هذه الغيلة، العرب أو الحجاز على وجه الخصوص يتضررون لما يواكب ذلك من جو مثلًا، فلا يحسن أن يصدر حكم عام لمن بعث إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في المشرق والمغرب، وأكثر الناس ما يتضرر؛ لأن الحكم للغالب، فبعض الناس يكتب في الصحف، ويحط من بعض النصوص، ويتكلم في بعض النصوص بناء على فهمه هو، نقول: لا يا أخي، لا بد من مراجع أهل العلم في مثل هذه الأمور، أنت أشكل عليك شيء، نعم أشكل عليك شيء أسأل يا أخي، نقول: الديانة مزيج من حضارات ما هو بصحيح أبدًا، بل العكس، النبي -عليه الصلاة والسلام- حرّم التشبه بالآخرين، باليهود والنصارى والمشركين وغيرهم، هل معنى هذا أنه مزيج؟ أبدًا، أمة مستقلة، معتزة بدينها، موجودة وجودًا مؤهِلًا لها لأن تكون خير أمة أخرجت للناس.

نعود إلى تقرير ما نحن بصدده، فهذا العلم لا شك أنه في غاية الأهمية لطالب العلم، يتدرج فيه الطالب كغيره من العلوم، يقرأ هذه المنظومة، ويقرأ شرحها، إن كانت حافظته ضعيفة جدًا يحفظها، وينظر فيما عداها من مطولات هذا الفن، إذا كانت حافظته أقوى يحفظ نظم النخبة، أو (اللؤلؤ المكنون) لحافظ  الحكمي -رحمه الله-، إن كانت حافظته أقوى وأقوى فليقصر همته على الألفية، ولا أنصح بحفظ أكثر من نظم في فن  واحد؛ لأن بعض المتون يشوش بعضها على بعض، فإذا أراد الطالب أن يستشهد ببيت من الألفية طلع عليه كلام البيقوني، يشعر أو لا يشعر، إذا أراد أن يقرر كلام هذا طلع عليه كلام الصنعاني؛ لأنها متقاربة تنظم نظم علم واحد، تنظم في علم واحد، نعم، فإذا أراد هذا..، تشوش بعضها على بعض، ولا يستطيع أن يميز النظم، النظم غالب، يغلب على الإنسان، ويخرج من غير أن يقصد، ويشوش..، فيحفظ همته على متن واحد، وهو على حسب ما يؤنس من نفسه، ويعرف منها، إن كانت حافظته قوية فليقصر همته على ألفية العراقي، وكل الصيد في جوف الفرا، أما هذه المنظومة في أربع وثلاثين بيت، يعني هي مجرد تذكرة لطالب العلم، وهي معتمدة على الشرح، إذا شرحت بأسلوب مناسب، يعني وأفيض في شرحها، بحيث تغطي حاجة الطالب لا بأس، لكن الغالب أن مثل هذا المتن ما يعطى المدة الكافية ليبسط في شرحه، أربع وثلاثين بيت يعطى ثلاث أيام، علشان يشرح شرحًا يناسب، يناسب المبتدئين، يمكن أن يشرح هذا في سنة، على طريقة البسط، وكل إنسان يؤنس من نفسه أنه يستطيع أن يشرح مثلًا العلوم التي يبثها لألفية العراقي يبثها هنا؛ لأن الأبواب هي هي ما تغيرت، ونشرح هذا المتن بأسلوب -إن شاء الله- يكون مناسب، وبطريقة بحيث ننهي هذا المتن خلال ثلاثة أيام، ومن أراد شروح كتب أخرى فهي موجودة في التسجيلات، شرحنا أكثر كتب المصطلح، آخر ما شرحنا (اللؤلؤ المكنون) أنهيناه قبل ثلاثة أيام، في شرح متوسط أيضًا، سم.

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال العلامة البيقوني -رحمه الله تعالى- وغفر له، وجمعنا فيه ووالدينا وشيخنا في الفردوس الأعلى، إنه جواد كريم.

                                        بسم الله الرحمن الرحيم

أبدأ بالحمد مصليًا على
وذي من أقسام الحديث عده
أولها الصحيح وهو ما اتصل
يرويه عدل ضابط عن مثله
والحسن المعروف طرقًا وغدت
وكل ما عن رتبة الحسن قصر
وما أضيف للنبي المرفوع
والمسند المتصل الإسناد من
وما بسمع كل راوٍ يتصل

 

محمد خير نبي أرسلا
وكل واحد أتى وحدّه
إسناده ولم يشذ أو يعل
معتمد في ضبطه ونقله
رجاله لا كالصحيح اشتهرت
فهو الضعيف وهو أقسامًا كثر
وما لتابع هو المقطوع
راويه حتى المصطفى ولم يبن
إسناده للمصطفى فالمتصل

يقول الناظم -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم.

أبدأ بالحمد مصليًا على   

 

محمد خير نبي أرسلا

ابتدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- الناظم -رحمة الله تعالى عليه- بالبسملة، أولًا: الناظم لا يوجد له ترجمة، وقد أختلف في اسمه، هل هو طــه أو عمر؟ ولا يعرف على وجه التأكيد إلا البيقوني؛ لإشارته إلى هذه النسبة في آخرها، أما اسمه فمختلف فيه، ولا يعرف عن حياته شيء يذكر، وهذا يسلكه بعض العلماء لإخفاء نفسه، مبالغة في الإخلاص لله تعالى، فالبيقوني وابن آجروم لا يعرف لهم كبير ترجمة، القحطاني الذي نونيته سارت بها الركبان لا يعرف له ترجمة، فيهمنا العلم الذي بين أيدينا، وأجره ثابت -إن شاء الله تعالى- لصاحبه، ولو لم يعرف، يكفيه أن يقال: قال -رحمه الله تعالى- يكفيه، والله المستعان، والآن بعض طلاب العلم قدمه اليمنى على العتبة الأولى من أبواب العلم، وتجد الترجمة المطولة منشورة على أعلى المستويات، في الإنترنت والمواقع وغيرها، والله المستعان، هذا حاصل، ووجد ما هو أشد من ذلك، نسأل الله -جل وعلا- العفو والمسامحة، على الإنسان أن يتواضع، وأن يهضم نفسه بقدر المستطاع، والحساب عند الله -جل وعلا-، لن يضيع شيء، يعني لا يتصور الإنسان أنه بيضيع له شيء، وكل ما أخفى الإنسان عمله كان أقرب إلى الإخلاص؛ لأن الإخفاء والبعد عن أنظار الناس هو لا شك أنه يعين النفس على الإخلاص؛ لأن الذكر بين الناس وإن كان كما جاء في الحديث الصحيح ((عاجل بشرى المؤمن)) لكن له أثر، ولذا جاء النهي عن مدح الإنسان في وجهه، مدح الإنسان في وجهه لا شك أنه يعرضه لخدش الإخلاص، وقد يزول عنده بالكلية في بعض الأحوال والظروف، وعلى الإنسان أن يلاحظ مثل هذه الأمور، إذا تيسر أن يعمل عملًا لا يطلع عليه أحد فهذا أقرب بلا شك، ولذا شرعت النوافل في البيوت ((أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) شرع إخفاء النوافل كلها، لكن إذا كان الإنسان بحيث إذا رئي يقتدي به، وأمن على نفسه من أن يزل قدمه في باب الإخلاص يظهر للناس، ولذا جاء في الحديث الصحيح ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) فإذا كان غلب على ظنه أنه لا يتأثر بإظهار العمل، وقصد من ذلك إقتداء الناس به، فهذا له وجه، لكن ليحذر كل الحذر أن يتأثر بالمدح والذم، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إذا حدثتك نفسك بالإخلاص فعمد إلى حب المدح والثناء فاذبحه بسكين علمك أنه لا أحد ينفع مدحه، ولا يضر ذمه إلا الله -جل وعلا- "، ونحن ومن على شاكلتنا من أوساط المتعلمين إذا قيل له: أن فلان الشيخ فلان ذكرك أو مدحك، أو الوزير فلان، أو الأمير فلان يمكن ما ينام تلك الليلة من الفرح، غافلًا عن الحديث ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)) الخالق هو الذي يذكرك إذا ذكرته، لا فلان ولا علان، الذي لا يستطيع أن يقدم لك شيء لم يكتبه الله لك، ((وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) أقول: هذا المؤلف الذي لا يعرف أختلف في اسمه، ومجرد التماس واحد يقول: طه، واحد يقول: عمر، مجرد ميل واسترواح؛ لأنه قد يوجد على بعض النسخ من يجتهد ويكتب، وهل هو ابن محمد، أو ابن عمر، أو ابن فتوح؟ المقصود أن اسمه ليس بمعروف على سبيل القطع، إنما يعرف البيقوني، والمنظومة البيقونية، وانتهى الإشكال، وابن آجروم، والكتاب: الآجرومية، والخلاف فيما عدا ذلك، ويكفيه أن يقال على مر العصور، قرون والأجر يكتب له: قال -رحمه الله تعالى-.

المؤلف -رحمه الله تعالى- بدأ بالبسملة، ثم ثنى بالحمدلة إقتداء بالقرآن الكريم، افتتح بالبسملة والحمدلة، وجاء في الحديث ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع)) وفي رواية: ((بالحمد لله رب العالمين)) وفي رواية: ((بذكر الله)) وحكم بعضهم على الحديث بجميع طرقه وألفاظه بالضعف، وحسن بعضهم لفظ: (الحمد) فقط، كابن الصلاح والنووي، وبعض العلماء حسنوا لفظ: (الحمد)، وعلى كل حال يكفينا الإقتداء بالقرآن الكريم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- في مخاطباته ومراسلاته يبدأ بالبسملة، وفي خطبه يبدأ بالحمدلة.

وأما الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- فقد جاء الأمر بها {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] والحمد يعرفه بعضهم أو كثير ممن عرف الحمد قال: إنه الثناء على الله -جل وعلا- بما يستحقه من محامد، وابن القيم -رحمه الله تعالى- فرق بين الحمد والثناء، وأن الحمد ذكر الباري -جل وعلا- بأوصافه الجميلة، ونعمه العظيمة، والثناء تكرار المحامد، واستدل بحديث: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)) ثم قال: ((فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليّ عبدي)) فالثناء غير الحمد، وهذا ما قاله ابن القيم في الوابل الصيب، فليرجع إليه، الصلاة جاء الأمر بها في قوله -جلا وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] ولا يتم الامتثال، امتثال الأمر في الآية حتى يصلي ويسلم، أما الاقتصار على الصلاة فقط دون السلام، أو السلام دون الصلاة فقط، فلا يتم الامتثال بذلك، المؤلف يقول:

(مصليًا على *** محمد خير نبي أرسلا)، ما سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يتم امتثال الأمر، بل صرح النووي في مقدمة شرح مسلم بكراهة إفراد الصلاة دون السلام؛ لأن مسلم -رحمه الله تعالى- أفرد الصلاة دون السلام، فصرح النووي بكراهة ذلك، وابن حجر خص الكراهية بمن كان ديدنه ذلك، يصلي باستمرار ولا يسلم، أو يسلم باستمرار ولا يصلي، أما من كان يجمع بينهما تارة، ويفرد الصلاة تارة، ويفرد السلام تارة فلا تتناوله الكراهة، الكراهة تختص بمن ديدنه ذلك، وعلى كل حال امتثال الأمر لا يتم إلا بالجمع بينهما، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- في الحث على الصلاة عليه نصوص كثيرة جدًا، حتى أوجب بعض العلماء الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- كل ما ذكر، أما وجوبها في التشهد الأخير كونها ركن من أركان الصلاة  ، معروف عند جمع من أهل العلم، وما عدا ذلك فعامة أهل العلم على الاستحباب، ولا شك أن الأصل في الأمر الوجوب، لكن قد يرد ما يصرف هذا الأمر، ولذا جمهور أهل العلم على الاستحباب، ولا شك أن من يسمع ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا يصلي عليه محروم، فمن صلى على النبي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، ممن له حق على الإنسان أن يلحقه بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ويعطفه عليه الآل، لما لهم من حق، فهم وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيعطفون عليه، وممن له حق أيضًا على المسلمين من وصلهم الدين بواسطتهم، وحملوه إلى الناس بأمانة وإتقان وصدق وإخلاص وهم الصحابة الكرام، الذين نشروا الدين وحملوه إلى أقطار المعمورة، فلهم علينا من الحق أن نصلي عليهم ونسلم تبعًا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا قال: صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، ولا يفرد الآل، ولا يفرد الصحب؛ لأنه مطلوب منه أن يصلي على الآل؛ لأنهم وصية النبي -عليه الصلاة والسلام-، والصحب أيضًا لهم حق عظيم على الأمة فيصلى عليهم، تبعًا له -عليه الصلاة والسلام-، أما إفراد الآل فهو شعار لبعض المبتدعة، وإفراد الصحب أيضًا شعار لقوم آخرين، وأهل السنة يتوسطون، ويمتثلون جميع الأوامر، المقصود أن المؤلف -رحمه الله تعالى- بدأ بالبسملة، ثم ثنى بالحمدلة، ثم صلى على النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولو سلم لكن أكمل.

"خير نبي أرسلا" لا شك أنه -عليه الصلاة والسلام- سيد ولد آدم، وهو أفضل الأنبياء، وهو إمامهم وخاتمهم، من ختم الله به الرسالات، ورسالته -عليه الصلاة والسلام- إلى الخلق أجمعين، إلى الجن والإنس، رسالته عامة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعث النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى الناس أجمعين، "خير نبي أرسلا" فهو خيرهم وأفضلهم على الإطلاق، وقد جاء النهي عن التفضيل بين الأنبياء، وجاء نهيه -عليه الصلاة والسلام- أن يُفضل على يونس أو على موسى، ولذا يمتنع كثير من العلماء عن التفضيل، لكن التفضيل جاء به النص القطعي {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة]، والنبي -عليه الصلاة والسلام- سيد ولد آدم، وله من الخصائص ما يجعله أشرف الخلق، وخير نبي أرسلا، والنهي عن التفضيل ((لا تفضلوا بين الأنبياء))، و((لا تفضلوني على يونس)) إذا اقتضى هذا التفضيل تنقص المفضول؛ لأن سبب الورود، ورود النهي جاء بهذا الصدد، فيما تشاجر مسلم مع يهودي فقال اليهودي: والذي فضل موسى على البشر، وقال المسلم: والذي فضل محمد على البشر، حصلت الخصومة فالمسلم ضرب اليهودي، في مثل هذه الخصومات لا يسلم الإنسان من تنقص الطرف الآخر، وحينئذٍ ينهى عن التفضيل، أما في غير هذه الظروف فقوله -جل وعلا-:  {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة] يقتضي أنهم درجات، وألو العزم منهم الخمسة أفضل من غيرهم، وكل نبي من الأنبياء له مزية على غيره تقتضي تفضيله من هذه الحيثية، والنبي -عليه الصلاة والسلام- خير الأنبياء وأفضلهم على الإطلاق، ثم قال الناظم -رحمه الله تعالى-:

وذي من أقسام الحديث عدة

 

وكل واحد أتى وحده

بعد البسملة والحمدلة والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- يشرع في الخطب وفي الكتب أن يقول الخطيب أو الكاتب: أما بعد، وجاءت بها النصوص، ثبتت في أكثر من ثلاثين حديثًا، أما بعد فكذا، لكن هذا نظم مختصر جدًا، يمكن يعوز أن يأتي بكل المطلوب، وإلا الإتيان بها سنة، ولا يتم أيضًا امتثال بالسنة حتى نقول: أما بعد، وأما الاستعاضة بـ(أما) عن (أما) بالواو بعض الناس يقول: وبعد، هذا لا يتم به الامتثال، وإن قال بعض المتأخرين: إن الواو قائمة مقام (أما)، ما الذي يمنع من النطق باللفظ النبوي، أما بعد.

و"ذي" الأصل أن يقول: "أما بعد فذي"، وذي: إشارة إلى هذه المنظومة، أو إلى هذه الأبيات اللاحقة، إشارة إلى ما في الذهن، الأصل أن الإشارة أن تكون على ما في الأعيان، تشير إلى شيء موجود، هذا أو هذه، هذا الأصل في الإشارة، لكن لما كان ما في الذهن كالموجود في الأعيان حكمًا، يعني شيء مقدور عليه، يشار إليه، هذا إذا كانت هذه المقدمة كتبت قبل المنظومة، كثير من الناس يؤخر الكلام في المقدمة حتى ينتهي الكتاب، ثم يكتب له مقدمة، فإذا أشار أشار إلى شيء موجود في الأعيان، أما بعد: فهذا، كتاب جاهز، يمكن أن يشار إليه، أما إذا كان هذا البيت قبل نظم ما بعده فالإشارة إلى ما في الذهن، والإشارة إلى ما في الذهن المقطوع به، يعني ما تقدر تقول: أما بعد: فهذا كتاب يحتوي على عشرين مجلدًا، ثلاثين مجلدًا، يمكن تموت قبل ما تكمل، فلا تشير إلى مثل هذا، لكن أشياء مقدور عليها يغلب على الظن أنك تفي بها، هذه رسالة لطيفة يمكن تكتبها، نعم، فيغلب على الظن حصولها فتشير إليها، أما شيء لا يغلب على الظن حصوله، أما بعد: فهذا تفسير عظيم يحيط بجميع ما كتب في التفاسير، يمكن يصل مائة مجلد، تستطيع أن تشير إليه وأنت لا تدري وش ورآك؟ يحتاج إلى سنين طويلة، عشرين، ثلاثين سنة، ما تدري وش ورآك؟ فما تشير، لكن أشياء يسيرة ثلاثين بيت أو شبهها، يمكن أن تشير إليها، باعتبار أنها في حكم الموجود، ولذا قال: "وذي" يعني هذه المنظومة، وهذه الأبيات من أقسام الحديث عدة، يعني تشتمل على شيء من أقسام الحديث، من أقسام الحديث يعني وأنواعه: الصحيح، الحسن، الضعيف، أنواع الضعيف الكثيرة ، أيضًا الأقسام المساندة للأقسام الثلاثة الكبرى الكلية التي يأتي تعدادها، والحديث عنها -إن شاء الله تعالى-.

"عدة" يعني عديدة، يعني كثيرة أو معددة، نعم، "وكل واحد" يعني من هذه الأقسام "أتى وحده" يعني سيأتي، "أتى وحده" أتى: يعني سيأتي، وعبر بالماضي عن المضارع هذا إذا قلنا: إن المقدمة كتبت قبل الأبيات، عبر عنها لتحقق الوقوع، يعني في حكم الموجود حكمًا، كأنه زوّر هذه الأبيات في ذهنه ثم سطرها على الورق، "وكل واحد أتى" وإذا قطع بمجيء الشيء، نعم، يعبر عنه بالماضي، كما في قوله -جلا وعلا-: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [(1) سورة النحل] وسيأتي، لكن لتحقق وقوعه يعبر عنه بالماضي، "أتى وحده" الحد هو التعريف، ويأتي كل واحد وحده، وهذا مما تختلف به هذه المنظومة عن منظومة لا تقل عنها، إن لم تكن أشهر منها، وهي منظومة ابن الفرح (غرامي صحيح)، هذه منظومة طارت بها الركبان، وشرحت عشرات الشروح، وهي ما فيها إلا الأسماء، تعداد، وهذه أولى منها، نعم تلك من الناحية الأدبية، الذوق الأدبي على ما يقولون أقوى، نعم، لكن هذه من حيث اقتران الاسم بالتعريف أفضل، نعم، نظم النخبة يقرن الاسم والتعريف والمثال والتقسيم، ألفية العراقي تأتي بهذا كله وتضيف إليه خلاف العلماء في المسائل الاصطلاحية، خلاف العلماء، هذا يأتي باسم الموضوع وحده، تعريف، لكن لا يذكر أمثلة، ولا يذكر خلاف، ولا يذكر شيء؛ لأنها مختصرة جدًا، أما نظم النخبة يذكر مثال، ويشير إلى بعض ما يحتاج إليه من قواعد وضوابط تعين على فهم النوع، وأما ألفية العراقي فيأتي بكل شيء يحتاجه طالب العلم، فلذا من حفظها أتقن هذا الفن، لاسيما إذا طبق بالأمثلة العملية، واقترن عنده النظري بالعملي، ولاحظ مواقع الاستعمال، استعمال الأئِمة لهذه الاصطلاحات، مثل هذا ينبل ويبرز في هذا الفن -إن شاء الله تعالى-، "وكل واحد أتى وحده" والحد كما هو معروف التعريف، "أولها" أول هذه العدة، وأول هذه الأنواع "الصحيح" لذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:

وأهل هذا الشأن قسموا السنن
فالأول المتصل الإسنادِ
عن مثله من غير ما شــــــذوذِ

 

إلى صحيح وضعيف وحسن
بنقل عدل  ضابط الفؤادِ
وعلة قادحة فتـوذي

هنا يقول: "أولها الصحيح" هذا الاسم، العنوان، وتعريفه، "وهو ما اتصل إسناده، ولم يشذ أو يعل".

يرويه عدل ضابط عن مثله

 

معتمد في ضبطه ونقله

هذا تعريف الحديث الصحيح، هذا كل ما عنده بالنسبة للصحيح؛ لأنها في غاية الاختصار، اقتصر على الاسم، والتعريف، "وكل واحد أتى وحده" التعريف، "أولها الصحيح" فعيل، صيغة مبالغة، من الصحة، ضد السقم، وهو ما اتصل إسناده بأن يكون كل راوٍ من رواته قد تحمله عمن فوقه، بطريق معتبر من طرق التحمل، ما اتصل إسناده بأن يكون كل راوٍ من رواته الآتي وصفهم من العدول الضابطين، كل راوٍ من هؤلاء الرواة تحمل الخبر عمن فوقه بطريق معتبر من طرق التحمل الثمانية، التي تأتي الإشارة إليها -إن شاء الله تعالى-، التي هي: السماع من لفظ الشيخ، القراءة على الشيخ، الإجازة، المناولة، المكاتبة، الإعلام، الوصية، الوجادة، أما بالنسبة للسماع من لفظ الشيخ، والقراءة على الشيخ لا خلاف في اعتمادهما طرق من طرق التحمل، لم يخالف فيهما أحد، الإجازة محل خلاف بين أهل العلم، واستقر العمل على الرواية بها عند أهل العلم، المكاتبة أيضًا طريق معتبر من طرق الرواية، ووجدت بين الصحابة فيما بينهم، وبينهم وبين التابعين ومن بعدهم إلى شيوخ الأئمة، فرووا بها، واعتبروها طريقًا معتبرًا، المناولة أيضًا إذا اقترنت بالإجازة فهي معتبرة، وإن خلت عنها فالخلاف فيها قوي، والأصح باطلة، يقول الحافظ العراقي -رحمه الله-:       

وإن خلت عن أذن المناولة   

 

قيل: تصح والأصح باطلة      

الإعلام بأن هذا مرويه أيضًا الرواية بها ضعيفة، وإن وجد الخلاف، وكذلك الوصية، إذا أوصى بكتبه، مروياته لأحد لا يجوز أن يروي بمجرد الوصية إلا على قول شاذ، والوجادة: أن يجد بخط شيخه الذي لا يشك فيه، يجد فيه مرويه، يرويه بطريق الوجادة، يقول: وجدت بخط فلان هذا معروف، وفي المسند أحاديث كثيرة يقول عبد الله بن أحمد: "وجدت بخط أبي"، فهي طريق معتبر إذا لم يشك في الخط.

"أولها الصحيح وهو ما اتصل إسناده" عرفنا كيف يتصل الإسناد، أما إذا انقطع الإسناد سواء كان من أوله أو من آخره، نعم، أو من أثنائه بواحد أو أكثر، سواء كان الانقطاع ظاهرًا أو خفيًا، على ما سيأتي تفصيله في أنواع الانقطاع الظاهر والخفي، فلا يكون الخبر صحيحًا، فقوله: "ما تصل إسناده" يخرج ما انقطع إسناده، على أي وجه كان الانقطاع، "ولم يشذ أو يعل" يعني لم يكن مشتمل على شذوذ، والشاذ الذي استقر عليه الأمر: ما يخالف فيه الثقة من هو أوثق منه.

الشاذ ما يخالف الثقة

 

فيه الملأ فالشافعي حققه

ومنهم من يطلق الشذوذ على مجرد التفرد، سواءً كان المتفرد ثقة أو غير ثقة، ومهم من يقول: الشاذ تفرد من لا يحتمل تفرده، على خلاف في ذلك مبسوط في كتب ومواضع أخرى.

"أو يعل" يعني لم يشتمل الخبر على علة، والعلة: سبب خفي غامض يقدح في صحة الحديث الذي ظاهره السلامة منها، "يرويه عدل ضابط عن مثله" العدل عند أهل العلم يقولون: من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، هذا العدل عند أهل العلم، بمعنى أنه لا يترك واجب، ولا يرتكب محرم؛ لأن التقوى فعل الواجبات، وترك المحرمات، والمروءة آداب نفسانية، تحمل مراعاتها التخلق بأجمل الأخلاق، وعدم الخروج على الأعراف، هذه هي المروءة، ليس من المروءة أن يخرج الإنسان حاسر عن رأسه بين أناس يغطون رؤوسهم، ليس من المروءة أن يأكل في الأسواق بين أناس يعيبون ذلك، نعم، فالمروءة ليست من الأمور المحرمة الظاهرة، وإنما هي ملاحظة الغير، وعدم الاشتهار بشيء يختلف فيه الإنسان عن غيره، نعم، وأما ارتكاب المحرمات وترك الواجبات هذا داخل في التقوى، "يرويه عدل ضابط" ضابط نعم، الضابط: الحازم الحافظ الذي يحفظ الخبر، ويأديه، يحفظه ويحافظ عليه بحزم من حيث يتحمل إلى أن يؤدي؛ لأن للرواية طرفين، الرواية لها طرفان: طرف يسمى التحمل، وطرف يسمى الأداء، فالتحمل: أخذ الأحاديث عن الشيوخ، حفظ، تسمع من الشيوخ، أو تقرأ على الشيوخ هذا تحمل، والأداء تؤدي إلى التلاميذ، نعم، في حال التحمل لا يشترط شيء، إنما يشترط التمييز، يعني تفهم وتحفظ فقط، لا يشترط أن يكون بالغًا، ولا يشترط أن يكون عدلًا، ولا يشترط أن يكون مسلمًا أيضًا حال التحمل؛ لأن العبرة في حال الأداء، كون الإنسان يحفظ شيء في حال الصغر، في حال الفسق، في حال الكفر هذا لا يعنينا كونه يحفظ، متى نحتاج إلى الشروط؟ إذا أراد أن يؤدي، هل تنطبق عليه الشروط أو لا تنطبق؟ نأخذ عن هذا أو لا نأخذ؟ هنا لا بد من توافر الشروط، أما تحمل الفاسق، تحمل الصغير، تحمل الكافر مقبول إذا أدى بعد انطباق الشروط عليه، محمود بن الربيع عقل المجة التي مجها –النبي عليه الصلاة والسلام- في وجهه من دلو، وهو ابن خمس سنين، تقول: ما نقبل روايته لأنه صغير ما هو مكلف؟ نعم لا نقبل أداءه لهذا الخبر إلا بعد أن تنطبق على الشروط، {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [(6) سورة الحجرات] وفي قراءة: "فتثبتوا" أما في حال الأداء فلا نشترط شيء، جبير بن مطعم سمع النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو في حال كفره يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور فتحمل على الوجه المطلوب، لكن لو أدى حال كفره نقبل وإلا ما نقبل؟ ما نقبل؛ لأن العدالة شرط، أدى بعد إسلامه فقبلنا، وخرج الخبر في الصحيحين.

أجمع جمهور أئمة الأثر
بأن يكون ضابطًا معدلًا
يحفظ إن حدث حفظًا يحوي 

 

والفقه في قبول ناقل الخبر
أي يقضًا ولم يكن مغفلًا
كتابه إن كان منه يروي

لا بد أن يكون ضابطًا يضبط ما سمع، ولو كان عدل من أوثق الناس من خيار الناس بالصدق والعدالة، لكن إذا  سمع شيء نسيه ما يقبل خبره، هذا ليس بضابط،  ولو كان من أضبط الناس وأحفظهم، لكن يرتكب المحرمات، هذا لا يؤمن، إذًا لا يقبل خبره.

"يرويه عدل ضابط عن مثله" بأن يكون جميع طبقات السند يتصفون بهذين الوصفين: العدالة والضبط، ومجموع العدالة والضبط ينتج منهما وصف لا بد منه في الرواية هو الثقة، الثقة: هو عبارة عن اجتماع عدالة وضبط، فلا بد أن يتوافر هذان الشرطان في جميع طبقات السند من أوله إلى آخره عن مثله مع اتصال السند "معتمد في ضبطه ونقله" معتمد عن مثله، راوٍ مثله في الأوصاف السابقة، وهو أيضًا يكون ممن يعتمد عليه في الرواية "معتمد في ضبطه" ضابط، حافظ، حازم، حافظ، "ونقله" مأمون على السنة، وإذا توافر الشرطان: العدالة والضبط صار الراوي معتمد في ضبطه ونقله، والأمثلة على الحديث الصحيح كثيرة جدًا، فالصحيحان وغيرهما فيهما الأحاديث الصحيحة، فمظنة الحديث الصحيح في الصحيحين.

أول من صنف في الصحيحِ

ومسلم بعد وبعض الغرب مع 

 

محمد وخص بالترجيحِ

أبي علي فضلوا ذا لو نفع

"ولم يعمّاه" يعني ما عم جميع الصحيح، ولذا الدعوى إلى الاقتصار بالصحيح مع القرآن دعوى غير مقبولة، هناك من يقول: يكفينا الصحيحان، القرآن والصحيحان، وكل دعوى تجد من يتبعها، هناك جماعة يسمون جماعة الاقتصار على القرآن مع الصحيحين، وألف في ذلك: (تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن والصحيحين) لكن هذه دعوى غير صحيحة؛ لأننا بهذا نعطل أكبر قدر من السنة، فصح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في غير الصحيحين أكثر مما في الصحيحين، ولذا يقول الحافظ العراقي:

ولم يعماه ولكن قلما

 

عند ابن الأخرم منه قد فاتهما

فات الصحيحين قليل، "ورد" هذا الكلام ليس بصحيح بل كثير، "ورد لكن قال يحيى البرُ  -النووي-، ولكن قال يحيى البر *** لم يَفُت الخمسة إلا النزرُ"، الخمسة: يعني من الصحيح، الخمسة: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، هذه دواوين الإسلام الخمسة، قبل أن يضاف السادس، لم يفت الخمسة إلا النزر، يعني النزر القليل من الصحيح، "وفيه ما فيه" وهذا أيضًا كناية عن ضعفه؛ لأنه أيضًا يصفو لنا من مسند أحمد  -رحمه الله تعالى- صحيح كثير، لا يوجد في الخمسة، يصفو من صحيح ابن حبان صحيح كثير، لا يوجد في الخمسة، يصفو من صحيح ابن خزيمة كذلك، من مستدرك الحاكم، من سنن البيهقي، من غيرها من الكتب يصفو صحيح كثير في غير الخمسة، "وفيه ما فيه" كناية عن ضعفه، "لقول الجعفي أحفظ منه -يعني من الصحيح- عُشْر ألفِ ألفِ" يعني يحفظ مائة ألف حديث البخاري -رحمه الله تعالى-، لكن قد يقول قائل: وين هاالمائة ألف؟ حديث صحيحة مائة ألف وين هي؟ أجاب الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى- بقوله:

وعله أراد بالتكــــرار
أربعة الآلف والمكررُ  

 

لها وموقوف وفي البخاري
منها ثلاثة ألوف ذكـروا 

المقصود أن الأحاديث الصحيحة كثيرة جدًا، وفيها ما يشغل عمر المسلم تعلمًا وتعليمًا وعملًا، وما يغنيه عن تتبع الأخبار التي لم تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضلًا عن الأخبار التي  تضاف إلى غيره، فضلًا عن الوسائل التي تلقن الناس اليوم، وفتنوا بها من وسائل إعلام مقروءة ومرئية ومسموعة، الناس انصرفوا عن العلم الصحيح الأصيل إلى هذه الأمور التي تشغلهم، وتشوش أفكارهم، ولا تفيدهم لا في دينهم، ولا في دنياهم، فعلينا أن نعنى بالأحاديث الصحيحة، ولتكن عنايتنا بصحيح البخاري أكثر من غيره؛ لأنه ديوان الإسلام بعد القرآن، وفيه من العلم ما لا يستغني عنه أحد، نعم طالب العلم المبتدئ يربى على المتون الصغيرة، يحفظ الأربعين، يحفظ العمدة، يحفظ البلوغ أو المحرر، لكن بعد ذلك لا يقف، يعتني بالكتب الكبار المسندة الأصلية في الباب، ولتكن عنايته الأولى بصحيح البخاري، حتى إذا أتقنه ينظر فيما عداه كصحيح مسلم والسنن وغيرها، ثم قال -رحمه الله تعالى-:

والحسن المعروف طرقًا وغدت

 

...................................

"الحسن المعروف طرقًا" الأصل طرق جمع طريق، "وغدت رجاله لا كالصحيح اشتهرت"، والحسن المعروف طرقًا وغدت، أولًا: الحسن في مرتبة واقعة بين الصحيح والضعيف، وما كان هذا شأنه يصعب ويعسر تمييزه؛ لأن الإنسان أحيانًا يتراءى له أن هذا الطريق إلى الصحيح أقرب، وأحيانًا يتراءى له أنه إلى الضعيف أقرب، فيلحقه به، والأول يلحقه بالصحيح، فهذه المنزلة المتوسطة بين الطرفين يصعب تمييزها، وتحقيقها والاتفاق عليها، نعم قد يحكم الإنسان بأنه متأرجح بحيث لا يمكن إلحاقه بالصحيح، ولا يمكن إلحاقه بالضعيف، يأتي عالم يستروح إلى أن إلحاقه بالصحيح  له وجه، ويأتي آخر يرى العكس أنه قصر أيضًا عن رتبة التوسط إلى أن يلحق بالضعيف، ولذا صعب تعريف الحديث الحسن، حتى صرّح الحافظ الذهبي وغيره أنه لا مطمع في تمييزه، وليس في هذا تضيع ولا تذويب، لا، إنما في هذا حث وشحذ للهمم؛ لأن بعض الناس إذا قال: لا مطمع في تمييزه، ليش نسعى، خلاص، لا، لا، هم يريدون منك أن  تعلو همتك، وتكثر من جمع الطرق التي علّه يلتحق بها إلى الصحيح ولو لغيره، نعم، اختلف العلماء اختلاف كبير في تعريف الحسن، هنا يقول: "والحسن المعروف طرقًا وغدت" الطرق جمع طريق، وهو يذكر ويؤنث، تقول: من طريق آخر، كما تقول: من طريق أخرى، فالطريق يذكر ويؤنث، "وطرْقًا" سُكن للحاجة، لضرورة الوزن، "طرقًا وغدت" يعني صار "رجاله لا" كرجال "الصحيح اشتهرت" تعريف الحسن الذي اختلف فيه من قبل أهل العلم اختلفوا فيه على أقوال كثيرة، يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:  

الحسن المعروف مخرجًا وقد 

 

اشتهرت رجاله بذاك حد

(حمدٌ).

هذا قريب جدًا من تعريف البيقوني.

الحسن المعروف مخرجًا وقد 

 

اشتهرت رجاله بذاك حد 

(حمدٌ) الخطابي.

وقال الترمذي ما سلم
 بكذب ولم يكن فردًا ورد
وقيل ما ضعف قريب محتمل  

 

من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم
قلت وقد حسّن بعض ما انفرد
فيه وما بكل ذا حدٌ حصل

 كل هذه الأقوال ما حصل بها حد يميزه عن الصحيح والضعيف.

الحسن المعروف طرقًا وغدت

 

رجاله لا كالصحيح اشتهرت

"الحسن المعروف طرقًا" عرفت طرقه، هل عرفوا بضعف وإلا عرفوا بتوثيق؟ إن عرفوا بضعف صار ضعيف، وإن عرفوا بتوثيق صار صحيح، فهو متردد متأرجح بين هذين، إلا أن قوله: "لا كالصحيح اشتهرت" يخرج الصحيح، لكن كونهم معرفون بالقبول لكنهم دون رجال الصحيح، يخرج أيضًا الضعيف، وهذا يبين لنا مدى التأرجح بين الصحيح والضعيف في هذا النوع، ولذا صعب تمييزه عند أهل العلم، "وقال -يعني ابن الصلاح-":

وقال بان لي بإمعان النظر 

 

أن له قسمين كل قد ذكر
ج

يعني الخطابي ذكر قسم، والترمذي ذكر قسم، فالخطابي اقتصر على الحسن لذاته، والترمذي اقتصر على الحسن لغيره، وعلى كل حال المتأخرون استنبطوا تعريفًا جامعًا لكل نوع من نوعي الحسن، من خلال أقوال وتعاريف الأئمة المتقدمين؛ لأنه من خلال تعريف الأئمة المتقدمين يصعب أن تميز الحسن من غيره، يعني لو كان عندك ثلاثة أولاد، ولد بار غاية في البر، والثاني عاق واضح العقوق، هل يختلف في تصنيف أن هذا ما شاء الله على خير عظيم وهذا على شر؟ نعم، لكن واحد دول يوم كذا، ويوم كذا، هذا اللي تبلش به، نعم إن أردت أن تدعو له ذكرت العقوق وأثر على قلبك، وإن أردت أن تدعو عليه ذكرت ما عنده من خير وفضل، وأحيان ينفع، مشكلة، هذا تصور إيش؟ الحسن الواقع بين هذين، يصعب أحيانًا يزيد بره تستطيع أن تلحقه بالأول، وأحيانًا ينقص، بحيث لو حصل وصية مثلًا، وصية: بيتي يسكنه البار من أولادي، العاق الذي ما في إشكال في عقوقه هذا لن يسكن، والبار الواضح البر هذا بيسكن، لكن الثالث: هذا الذي يوم كذا، ويوم كذا، ينطبق عليه الوصف وإلا ما ينطبق؟ هذا المتأرجح مثل الحسن عندنا هالحين، مثله، هل نقول: يلغى الحسن؟ نقول: ما يلغى يا أخي، موجود في اصطلاح الأئمة وتعبيراتهم، حكموا على أحاديث بأنها حسنة، فلا يمكن إلغاؤه، والمسألة إيش؟ اجتهادية، فتجدون هذا الحديث الذي حكم عليه بعض الأئمة بأنه حسن، اجتهد بعضهم وقال: صحيح، واستروح إلى هذا، ومال إليه، وقوي عنده من القرائن ما يقتضي ثبوته، بينما يجيء ثالث يقول: لا والله أنه أقل من الحسن، أنا واضح لي ضعفه، ولذا لا يستشكل الإنسان أن يجد في أحكام الأئمة في حديث واحد أن يحكم عليه بأكثر من حكم؛ لأن المسألة إيش؟ اجتهادية، ومسألة مبنية على القرائن التي تقتضي الثبوت أو عدم الثبوت.

قد يقول قائل: الأحكام المبنية على مثل هذا الاختلاف مصيرها؟ يعني هل تتصور أن أحكام الإسلام كلها متفق عليها؟ نعم، لا، الخلاف موجود، ولولا الخلاف في أحكام الدين لصار العوام علماء، المسألة حفظ أحكام سهل، لكن الكلام كيف تثبت هذه الأحكام؟ هذا الذي يميز العالم من غير العالم، وإلا لو اتفق الناس على جمع المسائل، وهذا حلال، وهذا حرام، وميزوا هذا من هذا  صار الناس كلهم علماء، لكن من حكمة الله -جل وعلا- أن جعل في هذا الدين في أحكامه، وفي وسائل ثبوت هذه الأحكام من النصوص أيضًا ما فيها، القرآن لا يشك أحد في حرف من حروفه أنه ثابت ثبوتًا قطعيًا، لكن دلالة النصوص، دلالة الآيات على بعض الأحكام يكون فيها خلاف بين أهل العلم، والأجور العظيمة رتبت للعلماء في هذا الاستنباط، وهذا التعب، وكد الذهن، وإلا صار الناس كلهم علماء، ليس هذا كوننا نقول: إن هذا النوع متأرجح بين كذا وكذا، حتى الحكم بالصحة إلا أنه أسهل من الحكم بالحسن، الحكم بالصحة قد ينازع فيه من يحكم بالصحة، وهذه أمور اجتهادية رتب عليها الأجور العظيمة، والمنازل العالية في الدنيا والآخرة، من أجل إيش؟ أن يتميز الناس بالجد والاجتهاد، وإلا ما صار لأحد ميزة؛ لأنه لو كانت المسائل حلال، لا خلاف فيه، حرام لا خلاف فيه، ما صار هناك ميزة، المسألة مسألة حفظ كل الناس يحفظون، وبالتوارث يفهمونه، لكن لا منه وجد شيخ يقول: هذا حرام، ثم وجد ثاني يقول: لا مكروه، ثم وجد ثالث العام وش يقضب ، ما يمكن يدرك العلم إلا بطلب، يعني لو صارت الأمور المسائل كلها متفق عليها أدرك العلم من غير طلب، بالتوارث يدركونه الناس، ولذلك المسائل القطعية التي لا خلاف بين أهل العلم عوام المسلمين يعرفونها، ما في عامي ما يعرف أن الزنا حرام، أو أن الصلاة واجبة، أو أن الحج ركن من أركان الإسلام، ما يختلفوا في هذا، لكن لو كانت كل مسائل الدين بهذه المثابة، هل يصير لأهل العلم مزية؟ ما لهم مزية، ولذا العلم من أقرب الطرق الموصلة إلى جنات النعيم، إذا طلب مع الإخلاص، وهو أفضل ما يتنفل به، وتقضى فيه الأعمار من الأعمال الصالحة، فمثل هذا الكلام لا يشكك طالب العلم في دينه، ولا في كيفية ثبوته، لنعلم أن العلم متين فيحتاج إلى معاناة، ويحتاج إلى..، ولولا ذلك لصار الناس كلهم علماء؛ لأننا ابتلينا الآن بمن يكتب عن الدين، ومسائل الدين، وقواعد الدين، وقضايا الدين الكلية، الآن في الصحف، وفي غيرها من القنوات، في وسائل الإعلام يتطاولون على الدين، ويقولون: يالله هذا دينكم مبني على خلاف، هذا عجزتم تميزونه، اشلون تبنون عليه أحكام؟ نقول: نعم، وعلى العين والرأس، وهذا ديننا، ونحن من المسلمين {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [(33) سورة فصلت] يعتز بدينه، وهذه حكمة إلهية، وإلا كان الناس كلهم علماء، لولا وجود مثل هذه القضايا التي تحتاج إلى تعب، لكن هل تذبذبت الأمة؟ هل ضاعت الأمة على مر العصور؟ هل وجد عالم راسخ يقول: خلاص أنا ماني بطالب العلم بعد أن عرف؟ ما يمكن، لكن طالب العلم المبتدئ المتذبذب ما يدري وش يسوى؟ قد يترك، ولذلك ما كل الناس علماء، ولا كل الناس يصبرون على العلم، لكن من أدرك حقيقة الأمر استمر في طريقه، مهما قيل عن هذه العلوم.

والحسن المعروف طرقًا وغدت

 

رجاله لا كالصحيح اشتهرت

فمثلًا حديث: ((لولا أن أشق على أمتي)) في طريقه محمد بن عمرو بن علقمة حفظه أقل من أن يصل إلى درجة رواة الصحيح، فحكموا عليه بالحسن، لم يقصر عن رتبة الحسن إلى الضعيف؛ لأن الرجل معروف روى أحاديث كثيرة، وتوبع عليها، ووفق عليها، يعني ما شذ، لكنه ليس من الحفاظ الضابطين المتقنين، فقصرت درجة حديثه من الصحة إلى الحسن، ووجد لحديثه ما يشهد له، فارتقى إلى الصحيح لغيره، ولذا قال الحافظ العراقي:

والحسن المعروف بالعدالة
طرق أخرى نحوها من الطرق

 

والصدق راويه إذا أتى له
صححته كمتن (لولا أن أشق)

فأصل الحديث حسن؛ لأن راويه محمد بن عمرو بن علقمة هذا أقل من رتبة رواة الصحيح في حفظه شيء، لكنه لم يثبت فيه ما يرد حديثه من أجله فقبل من هذه الحيثية، أتى له من يتابعه، ويشهد لحديثه، فارتقى إلى درجة الصحيح لغيره، فعندنا صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، الصحيح لذاته هو الذي عرف فيما تقدم: ما يرويه عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ، هذا الصحيح لذاته، الحسن لذاته ما عرف هنا وهو: ما يرويه عدل خفيف الضبط، يعني ضبطه أقل من ضبط راوي الصحيح، بسند متصل، غير معلل ولا شاذ، هذا الحسن لذاته، إذا وجد للحسن لذاته طريق أخرى من غير طريق راويه هذا ارتقى إلى المرتبة المتوسطة، وهي الصحيح لغيره، فالصحيح لغيره هو الحسن لذاته، إذا تعددت طرقه.

والحسن المعروف بالعدالة
طرق أخرى نحوها من الطرق

 

والصدق راويه إذا أتى له
صححته كمتن (لولا أن أشق)

فبهذا نكون عرفنا ثلاثة أنواع، هناك حسن لغيره، نعرفه بعد معرفة الضعيف؛ لأنه هو الضعيف القابل للإنجبار إذا تعددت طرقه، فالأقسام خمسة: صحيح لذاته، صحيح لغيره، حسن لذاته، حسن لغيره، ضعيف، فعندنا الصحيح لذاته متميز، والصحيح لغيره هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه، الحسن لغيره هو الضعيف إذا تعددت طرقه، الضعيف يأتي تعريفه في كلام المؤلف -إن شاء الله تعالى-.  

وكل ما عن رتبة الحسن قصر

 

فهو الضعيف وهو أقسامًا كثر

الأصل أن يقول: وهو قد كثر أقسامًا، كثر الضعيف أقسامًا، كما تقول: تفقأ زيد شحمًا، تمييز، يسمونه تفسير أيضًا، لكن بعض اللي نشروا الكتاب ما استوعبوا مثل هذا، وهو لازم مبتدأ...... يحتاج إلى خبر، فرفعها، وهو أقسامٌ، واحتاج أن يقول: كثر، يعني كثيرة؛ ليصف هذه الأقسام أنها كثيرة، لكن كثر أقسامًا ما فيها أدنى إشكال، نعم، كيف؟

طالب:.......

"وكل ما عن رتبت الحسن قصر" الحسن عرفناه بأنه مرتبة تلي الصحيح إذا تخلف شرط القبول ضعف الخبر، "كل ما عن رتبة الحسن قصر" لم يصل إلى درجة الحسن، إذًا هو إيش؟ ضعيف، ابن الصلاح يقول في الحديث الضعيف: ما لم تجتمع فيه شروط الصحيح والحسن، يعني إذا لم تتوافر شروط الصحيح والحسن إذًا ضعيف، شروط الصحيح والحسن عرفناها، ما يرويه عدل، الضابط، بسند متصل، غير معلل، ولا شاذ، خمسة شروط، وقل مثله في الحسن إلا أنه أخف ضبط، لكن إذا عدمت العدالة، عدم الضبط، انقطع السند، وجدت الشذوذ، وجدت العلة، إذًا تخلف شرط من شروط  القبول، إذًا هو إيش؟ ضعيف، تخلف شرط من شروط الصحيح، أو شرط من شروط الحسن ضعيف، أيهما أفضل تعريف ابن الصلاح أو تعريف الناظم الذي معنا "وكل ما عن رتبة الحسن قصر فهو الضعيف"؟

أما الضعيف فهو ما لم يبلغِ 

 

مرتبة الحسن وإن بسط بغي

هل نكتفي بذكر الحسن أو لا بد من التنصيص على الصحيح؟ لأن ابن الصلاح ذكر الصحيح في حده، يعني  المفترض هنا أن يقول: كل ما عن رتبة الصحيح والحسن قصر، أو يكفي أنه يقصر عن رتبة الحسن؟ يكفي؟ أو لا بد من أن ينص على الصحيح؟ ابن الصلاح نص على الصحيح، الحافظ العراقي يقول: لسنا بحاجة إلى التنصيص على الصحيح؛ لأنه إذا قصر عن رتبة الحسن -لم يبلغ مرتبة الحسن- فهو عن رتبة الصحيح أقصر، لكن نحتاج إلى أن ننظر ما بين الأقسام الثلاثة من نسبة، هل بينها تداخل والا بينها تباين؟ هل قولنا: صحيح وضعيف وحسن مثل قولنا: الكلمة اسم وفعل وحرف؟ يعني ذكرنا للاسم علامات، وللفعل علامات، وقلنا في الحرف: كل ما لا يصلح له علامات الاسم ولا علامات الفعل، يعني نكتفي بواحد؟ نقول: كل ما لم تجتمع فيه صفات الفعل تكفي أو لا بد من التنصيص عليها؟ لأن النسبة بينها إيش؟ التباين فلا بد من التنصيص، لكن إذا كانت النسبة تداخل، نعم، فيكفي أن ننفي أدناها لينتفي أعلاها، يعني هل أنت إذا قلت: فلان شاب، يقولك واحد: إيش معنى شاب؟ نعم تقول: الشاب من لم يصل إلى حد أو إلى سن الكهولة، يحتاج أن تقول: والشيخوخة؟ أو إذا لم يصل سن الكهولة ما هو بواصل سن الشيخوخة؟ نعم، لكن لو قلت: كل من لم يصل إلى حد الشيخوخة دخل الكهل، فأنت تريد أن تخرج الكهل، فلا يحتاج أن تنص إلى ما فوقه؛ لأنه إذا قصر عن رتبة الكهولة فهو عن رتبة الشيخوخة أقصر، هل هذا نظير ما عندنا؟ أو نظيره الفعل؟ كل مالا يقبل علامات الاسم ولا علامات الحرف الفعل؛ لأن النسبة بين الاسم والفعل والحرف تباين، لا بد أن ننفي الجميع لنثبت ما نريد إثباته، أيهما أقرب؟ يعني هل يمكن أن نصحح حديث وهو ما مر بمرتبة الحسن؟ يتجاوز إلى الصحيح مباشرة يمكن؟ ما يمكن، صحيح، طيب أنتم عندكم في العلوم مسألة الجامد إذا صهر صار سائل ثم تبخر، نعم، يمكن الجامد يتبخر قبل أن يمر بمرحلة السيولة، نعم، المسألة واحدة، مسألة إيش تسمى إيش؟

طالب:........

إيه هذه هي، بس هذا اللي نعرفه إن كان علم جديد ما ندري، ترى المسألة فيها عراك طويل هذه المسألة، يعني يمكن أن يصحح الحديث قبل أن يمر على مرتبة الحسن؟ يعني تتوافر فيه شروط الصحيح ولا يمكن أن يقال: حسن؟ نعم، يختل فيه شرط من شروط الحسن ويصير صحيح؟ يمكن؟ الحافظ العراقي أطال في تقرير هذه المسألة، وقال: النسبة تداخل بينها، فإذا كانت النسبة تداخل فلسنا بحاجة إلى ذكر الصحيح؛ لأنه إذا قصر عن رتبة الحسن فهو عن رتبة الصحيح أقصر، طيب إذا قلت: فلان تقديره جيد، يقول لك: وش معنى جيد؟ تقول: ما وصل إلى الجيد جدًا، يحتاج أن تقول: ولا الامتياز؟ ما يحتاج؛ لأنه قصر عن الجيد جدًا، إذًا عن الامتياز أقصر، وهنا يقرر الحافظ العراقي أنه إذا لم يصل إلى مرتبة الحسن فهو عن مرتبة الصحة أقصر، فلسنا بحاجة إلى أن نقول..، الحافظ ابن حجر ما استوعب هذا الخلاف، وأراد أن يخرج منه بالكلية، بكلام مختصر، ولا يحتاج إلى أن يستدرك عليه بشيء، كل ما لم تتوافر فيه شروط القبول فهو ضعيف، وخرج من هذه الإشكالات كلها؛ لأن النسب بين الأنواع الثلاثة منهم من يقول: بينها تباين، فنحتاج إلى ذكر الصحيح أحيانًا، ومنهم من يقول: تداخل، وإذا نظرنا إليها بعين الاعتبار وجدنا أن فيها تباين، وفيها تداخل، فمثلًا الصحيح والحسن ما الذي بين الصحيح لذاته، والحسن لغيره من النسب؟ هل في تداخل وإلا تباين؟ فيه تباين، نعم، لكن ما الذي بين الصحيح لغيره والحسن لذاته؟ تداخل، تداخل تام؛ لأن الصحيح لغيره هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه، فهما متباينان من وجه، متداخلان من وجه، فلذا تعريف ابن حجر أزال الإشكال كله، ما لم تتوافر فيه شروط القبول وانتهى الإشكال، وهنا سلك مسلك الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-، وأنه إذا قصر عن مرتبة الحسن لن يصل إلى الصحيح بحال.

وكل ما عن رتبة الحسن قصر

 

فهو الضعيف وهو أقسامًا كثر

كثر أقسامًا، أقسام الضعيف كثيرة جدًا؛ لأن شروط القبول: العدالة، الضبط، اتصال السند، السلامة من الشذوذ، السلامة من العلة القادحة، عدم الجابر عند الاحتياج إليه، هذه شروط قبول، إذا فقدنا العدالة خرج لنا نوع، إذا فقدنا العدالة مع الضبط خرج لنا نوع ثالث، إذا فقدنا الضبط وحده خرج لنا نوع رابع، إذا فقدنا..، المهم أوصل بعضهم هذه الأنواع إلى خمسمائة نوع، كيف يصل إلى هذا العدد؟ لأنه بالمضاعفات تمشي، أنت امسك الشرط الأول ومشه بمفرده، ثم مشي عليه اجمع معه كل شرط من الشروط، ثم ابدأ بالثاني ومثله، والثالث ومثله، لكن الاشتغال بمثل هذا التقسيم ما الذي يفيدنا؟ ماذا يفيدنا مثل هذا التقسيم الذي لا توجد له تسميات عند أهل العلم؟ إن كان القصد أنه مجرد أن يقال: يصل عندنا على سبيل العملية الحسابية إلى خمسمائة، والعلماء ما سموا ولا حكموا، إنما أطلقوا حكم الضعيف، وسموا أنواع معددة، سموا الشاذ، سموا المعل، والمنكر، والمعضل، والمنقطع، والمعلق، والمرسل، والمضطرب، أنواع معدودة يعني، وكلها تأتي، أما أن نعرف إلى كم يصل العدد بالبسط من غير أن نجد له واقع  في تسميات الأئمة، ولا في أحكامهم، هذا ما له قيمة، ولذا قال: "وهو أقسام كثر".

 إذا حكم الأئمة على خبر بأنه صحيح أو حسن أو ضعيف فهذا بحسب ما يظهر لهم من خلال القواعد المعروفة عندهم، لكن لا يعني هذا أننا نقطع بأن هذا صحيح ثابت، أو أن هذا ضعيف مردود، والسبب في هذا أن راوي الصحيح مهما بلغ من الحفظ والضبط والعدالة والإتقان، نعم، إلا أنه ليس بمعصوم قد يخطئ، ومثله راوي الضعيف، وإن ضعف حفظه، وإن اختلت عدالته، إلا أنه قد يصدق، وقد يضبط، نعم، ألا يمكن هذا؟ الأئمة الحفاظ المتقنون ضبطت عليهم بعض الأوهام، فليسوا بمعصومين، كما أن الضعفاء قد يضبطون يعني هل معنى هذا أن الراوي ضعيف كل كلام يقوله ما ضبطه؟ نعم، أو قد يضبط بعض الشيء؟ لكن الحكم للغالب، قد يضبط، كما أن الحافظ الثقة العدل المأمون قد يخطئ، ومالك نجم السنن ضبط عليه أوهام، وشيخ الإسلام يقول: "قد يوجد الخطأ حتى من بعض الصحابة" وروى بعض الصحابة ما هو مرجوح. 

وبالصحيح والضعيف قصدوا
إمساكنا عن حكمنا على سند 

 

في ظاهر لا القطع والمعتمدُ
بأنه أصح مطلقًا وقد

 إلى آخره.

فأحكامنا مبنية على الظاهر، والحكم للغالب عند أهل العلم، لكن قد يقول قائل: أنا عندي سند، وش يدريني أن مالك ضبط وإلا ما ضبط؟ أنا عندي مالك ثقة، وخبره صحيح، نقول: تعيش لها الجهابذة، الذين دونوا هذه الأخطاء، ونبهوا على هذه الأوهام، يعني لو أن الله وكل العلم إلينا، وإلى قدراتنا لضاع، لكن هناك أئمة لمن يخطأ بالمرصاد، علل لا تخطر على البال، ومع ذلك بينوها، وهذا من حفظ الدين الذي تكفل الله بحفظه وبقائه إلى قيام الساعة؛ لأن الإنسان قد يسمع مثل هذا الكلام يقول: وشلون أننا نطالب بالحكم على السند والسند ما فيه احتمال أن هذا الراوي الثقة العدل الضابط يخطأ؟ نقول: في احتمال يخطأ، طيب من يبين لنا أخطاءنا؟ تعيش لها الجهابذة، العلماء ما فرطوا في شيء، ولذلك يضبطون أوهام الثقات، ويضبطون ما ينكر على فلان، وضبطوا ما أخطأ فيه فلان، ما تركوا شيء، ويبقى أن الطالب، طالب العلم يمرن على هذه القواعد تمرين، نعم، يمرن على هذه القواعد تمرين، وإلا فالعدل الضابط الثقة قد تجد سند كالشمس صحته، ما فيه أدنى إشكال، كلهم أئمة حفاظ، وتجد فيه وهم، وَهِم واحد منهم، أخطأ، لكن إذا سلسل الخبر بالحفاظ، قد يجزم الإنسان ويقطع أنه ما فيه خطأ، نعم؛ لأن الوهم إذا قلنا مثلًا: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، إذا أخطأ نافع لن يوافقه مالك عليه، نعم لو أخطأ مالك وضبط عليه بعض الأخطاء لن يوافق عليه من بعده من الأئمة، فاجتماع الأئمة..، يقولون: المسلسل بالحفاظ المتقنين يكاد يقطع بأنه ثابت، ولو أوردنا هذا الاحتمال أنهم ما هم معصومين، نعم الواحد ما هو بمعصوم، لكن موافقة الثاني عليه بخلاف ما إذا روي بإسناد صحيح لم يبلغوا إلى هذه الدرجة، نعم فعندنا الخطأ وارد، نعم، ابن عباس روى حديث زواج النبي -عليه الصلاة والسلام- بميمونة في الصحيح، وقال: إنه تزوجها وهو محرم، خُرّج في البخاري، هل معنى هذا أن هذا الكلام هو الواقع؟ ميمونة قالت: تزوجها وهو حلال، وأبو رافع السفير بينهما يقول: تزوجها وهو حلال، فلا يعني أن هذا..، هذا صحيح إلى ابن عباس، كلهم يرونه من قول ابن عباس، لكن ابن عباس أخطأ في هذا، وش المانع؟ لأنه ليس بمعصوم، وتعيش له الجهابذة، الترجيح والقواعد موجودة، قواعد الترجيح، رجحنا خبر ميمونة؛ لأنها صاحبة الشأن، ورجحنا خبر أبي رافع؛ لأنه السفير بينهما، ولذلك يقول الحافظ العراقي:  

وبالصحيح والضعيف قصدوا     

 

في ظاهر لا القطع والمعتمدُ

إلى آخر ما قال -رحمة الله تعالى-، كله من أجل أن الرواة ما يحكم لهم بالعصمة، قد يخطئون، وهم حفاظ ثقات أثبات، وكذلك إذا روى الضعيف نعم قد يضبط الضعيف، يكون حديث يهمه شأنه، ومن عادته يخطأ، لكن هو بحاجة إلى الحديث ضبطه وأتقنه وأداه، نعم يحكم له العلماء بأنه ثابت، ويعملون به، وإن كان راويه في الأصل ضعيفًا؛ لأنه نعم غالب ما يروي مردود، يبقى أن هذا الخبر الذي وافق فيه..، كيف نعرف أن هذا الضعيف ضبط؟ نعرفه بعرض روايته على رواية الثقات الأثبات، فنصحح خبره؛ لأنه وافق الثقات؛ لأن سيء الحفظ قد يحفظ، وغير العدل قد يصدق، والكذوب قد يصدق، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال عن الشيطان: ((صدقك وهو كذوب)) إذًا لا نقطع بأن هذا الضعيف لم يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا نقطع به نرده؛ لأننا مطالبين بالحكم على الظاهر، أما حقيقة الأمر فالله أعلم، ويبقى أن الدين دين حكم على الظاهر، ولذا النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا بشر فلعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع)) فما علينا إلا الحكم بالظاهر، والقواعد الشرعية المتبعة، والطرائق المسلوكة، ورتب عليها الثواب والأجر على هذه الوسائل الشرعية المرعية في الشرع، كونه يصيب إذا أصاب له أجران، إذا أخطأ له أجر واحد على الاجتهاد، لكن لا بد أن يكون الهدف نصر الحق، لا يكون الباعث على ذلك الهوى، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.ة في آخره له تعالى على آله وصحبه