التعليق على تفسير القرطبي - سورة يوسف (06)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قوله -تعالى-: {وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف: 19] أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبًا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، وإنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤها ملحًا فعذب حين ألقي فيه يوسف".

السيارة القوم والرفقة الذين يسيرون، يسيرون فأُخذ منهم هذا الوصف على البناء للمبالغة، الواحد سيار، فعّال صيغة مبالغة لكثرة سيره، ومنه السيارة للجمع، ، وأما إطلاق السيارة على الواحدة، فالهاء هاء تأنيث، هاء تأنيث، وتلك هاء تأنيث، لكنها تأنيث الجماعة، تأنيث الجماعة، وهذا تأنيث الوحدة، معروف أن جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث إن قصد به الجماعة، ويعامل معاملة المذكر إن قصد به الجمع، فتقول: قام الرجال، وقامت الرجال، قام الرجال، وقامت الرجال، إن قصدت الجمع قلت: قام الرجال، وإن قصدت الجماعة قلت: قامت الرجال، ولذا جاء: {وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف: 19]، وعوملوا معاملة الجمع في قوله: "{فَأَرْسَلُوا} [يوسف: 19]، ما قال: فأرسلت واردها، قال: "{فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ} [يوسف: 19]، معاملةً لهذا اللفظ على أن المراد به الجمع، وأما قوله: {وَجاءَتْ} [يوسف: 19]، فالمراد به الجماعة، والجماعة والجمع بمعنى.

وكان ماؤها ملحًا، ماء هذا الجب ملح، فعذب حين ألقي فيه يوسف، هذا يحتاج إلى نقل، وليس ببعيد، أقول: لا يستبعد، بل هو قريب جدًّا أن الله -سبحانه وتعالى- يغير طبيعة هذا الماء؛ لحاجة صفيه يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم؛ لحاجته إلى ذلك، وهذا أيضًا من باب الكرامة.

"{فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ} [يوسف: 19] فذكَّر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مثل {وَجاءَتْ} [يوسف: 19]. والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم، وكان اسمه -فيما ذكر المفسرون- مالك بن دعر، من العرب العاربة. {فَأَدْلى دَلْوَهُ} [يوسف: 19] أي أرسله، يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلّاها أي أخرجها، وعن الأصمعي وغيره: ودَلَا -من ذات الواو- يدلو دلوًا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء؛ لأنها أخف من الواو، قاله الكوفيون.

وقال الخليل وسيبويه: لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعًا للمستقبل".

اتباعًا للمستقبل الذي هو إيش؟ المضارع.

"وجمع دلو في أقل العدد أدل، فإذا كثرت قلت: دُلِي ودِلِي، فقلبت الواو ياءً، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع، ودلاء أيضًا، فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث الإسراء من صحيح مسلم: «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن»".

أعطي يوسف -عليه السلام- شطر الحسن، يعني ولباقي الخلق الشطر الثاني، كذا؟ يعني أعطي يوسف نصف الحسن، ولباقي الخلق النصف الثاني، يعني هذا ظاهر من اللفظ؟ ألا يمكن أن يجتمع الحسن في شخص واحد؟ ولذا نقول: هل يوسف أجمل من الرسول -عليه الصلاة والسلام-؟

إذا كان يوسف قد أُعطي شطر الحسن بالنسبة للخلق كلهم، والنصف الثاني للخلق أجمعين، لا شك أنه أجمع، لكن جاء في وصفه -عليه الصلاة والسلام- أنه أحسن الناس وجهًا، وأجملهم وأكملهم، فهل يقتضي كونه أعطي شطر الحسن أن يكون أجمل الناس كلهم، وأنه في كفة والناس كلهم في كفة، أو لا يمنع أن يكون، أن يوجد من قد أعطي الحسن كله؟ لكنه كونه مُدح بهذه الصفة، وخصها النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلة الإسراء، يدل على أنه متميز، على أنه متميز بالجمال.

ولا يمنع من أن يكون أكمل من بعض الناس في هذه الصفة أن يكون أفضل منهم مطلقًا؛ لأن التفضيل من وجه أو في صفة لا يقتضي التفضيل المطلق، وهذا تقدم مرارًا، كون إبراهيم -عليه السلام- أول من يكسى يوم القيامة قبل النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يعني أنه أفضل من محمد، كون موسى -عليه السلام- حينما يبعث النبي -عليه الصلاة والسلام-، موسى واقف قائم أو آخذ بقائمة العرش، ولذا يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا أدري هل بُعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور»، ولا يعني هذا أنه أفضل من محمد -عليه الصلاة والسلام-، وكون يوسف في هذا الباب أجمل من غيره لا يعني أنه أفضل من غيره لا سيما وأن الكمال الجبلي لا يُمدح به الإنسان، بل المدح في الصفات الاختيارية، ولذا يعرفون المدح بأنه: الثناء على الممدوح، كيف؟ نعم، بصفاته الاختيارية لا بالصفات الاضطرارية.

يعني هل تفضل شخص زيد على عمرو بأنه أبيض منه أو أطول؟ لا، فلا يُمدح -كما يقولون- ببياض الخد ولا بإيش؟

طالب: ..........

بطول القد، الشيء الإجباري لا يُمدح به؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي ركبه فيه.

طالب: ..........

لكن الرسول ليلة الإسراء قال هذا الكلام: «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أُعطي شطر الحسن»، وسيأتي ما يدل على أنه على صورة آدم حينما خلقه الله -سبحانه وتعالى- بيده، وأسكنه جنته قبل المعصية.

طالب: ..........

الشطر إذا أطلق فالمراد به النصف، الشطر إذا أطلق فالمراد به النصف.

"وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم -عليه السلام- يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، وقيل: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن".

الوارث إنما يرث بعض ما يتركه الموروث، وهنا ورث ثلاثة أضعافه، نعم أعطيت سدس الحسن، فورث عنها النصف -نصف الحسن-، وهذا لا يثبت مثل هذا، كونها تعطى سدس الحسن، ويرث عنها، والعادة جرت بأن الوارث أقل من الموروث، الوارث أقل من الموروث، فمثل هذا منكر.

"فلما رآه مالك بن دعر قال: {يا بُشْرى هذا غُلامٌ} [يوسف: 19]، وهذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة، إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ (يا بُشْري هذا غُلامٌ}) [يوسف: 19] فقلب الألف ياء؛ لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضًا. وقرأ أهل الكوفة (يا بُشْرى) [يوسف: 19] غير مضاف، وفي معناه قولان: أحدهما: اسم الغلام، والثاني: معناه يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك. قال قتادة والسدي: لما أدلى المدلى دلوه تعلق بها يوسف فقال: يا بشرى هذا غلام".

نداء، نداء من لا يصلح للنداء، نداء من لا يصلح للنداء، {يَاأَسَفَى} [يوسف: 84]، ومثل {يَابُشْرَى} [يوسف: 19]، أقول: لا بد من تقدير ما يصلح للنداء؛ كأنه قال: يا قوم هذه بشرى، أو يا قوم إليكم البشرى، البشارة بما وقع أو ما وقف عليه من هذا الغلام الجميل.

"قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبدًا. وقال السدي: نادى رجلًا اسمه بشرى".

نادى رجلًا اسمه بشرى، هذا مثل من يقول: إن لهم أخًا اسمه نكتل، مثله، هو مجرد ما دخلت عليه يا النداء، قالوا: إنه يصلح للنداء، إذًا؛ هو رجل اسمه بشرى، وليس المعنى كذلك، إنما هو يبشر أصحابه وقومه بما وجد.

"قال النحاس: قول قتادة أولى؛ لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرًا، وإنما يأتي بالكناية".

كيف يذكر اسمه وينص عليه؟ القرآن لم يسم فيه إلا النفر اليسير، ولذا من مناقب زيد، زيد بن حارثة، زيد بن حارثة، تسميته في القرآن، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} [الأحزاب: 37]، سُمي غيره؟ القرآن ما سمى غيره إلا بعض الملائكة وبعض الأنبياء، والمشاهير من العصاة.

"كما قال عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 28] وهو أمية بن خلف، قاله النحاس. والمعنى في نداء البشرى: التبشير لمن حضر، وهو أوكد من قولك: تبشرت، كما تقول: يا عجباه! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فاحضر، وهذا مذهب سيبويه، وكذا قال السهيلي.

وقيل: هو كما تقول: واسروراه! وأن البشرى مصدر من الاستبشار: وهذا أصح؛ لأنه لو كان اسمًا علمًا لم يكن مضافًا إلى ضمير المتكلم، وعلى هذا يكون {بُشْرى} [يوسف: 19] في موضع نصب؛ لأنه نداء مضاف، ومعنى النداء هاهنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري، وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول: يا زيد هذا غلام".

قول السدي الذي تقدم وأن {بُشْرى} [يوسف: 19] اسم رجل.

"ويجوز أن يكون محله نصبًا كقولك: يا رجلًا، وقوله: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ} [يس: 30]، ولكنه لم ينون {بشرى} [يوسف: 19]؛ لأنه لا ينصرف".

متى ينون المنادى؟

طالب: ..........

إذا كان نكرة غير مقصودة، إذا كان نكرة غير مقصودة؛ كقول الأعمى: يا رجلًا خذ بيدي، هو ما يقصد أحد، لكن لو قصد رجلًا بعينه لقال: يا رجلُ.

"{وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً} [يوسف: 19] الهاء كناية عن يوسف -عليه السلام-، فأما الواو فكناية عن إخوته. وقيل: عن التجار الذين اشتروه، وقيل: عن الوارد وأصحابه. {بِضاعَةً} [يوسف: 19] نصب على الحال. قال مجاهد: أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعَناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر، وإنما قالوا هذا خيفة الشركة. وقال ابن عباس: أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب، وذلك أنهم جاءوا فقالوا: بئس ما صنعتم! هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك، فقال: أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم".

خاطبوه والقوم يسمعون، لكن بغير لغتهم، خاطبوه بغير لغتنهم، فما فهموا المقصود.

"وقيل: إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية، فإني أخشى إن لم تفعل قتلوك، فلعل الله أن يجعل لك مخرجًا، وتنجو من القتل".

ولا شك أن العبودية والرق أسهل من القتل، أسهل من القتل.

"فكتم يوسف شأنه؛ مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: والله ما هذه سمة العبيد! قالوا: هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا، فقال: ما تقول يا غلام؟ فقال: صدقوا! تربيت في حجورهم، وتخلقت بأخلاقهم، فقال مالك: إن بعتموه مني اشتريته منكم، فباعوه منه، فذلك قوله -تعالى-: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]".

جاء الوعيد الشديد في حق من باع حرًّا فأكل ثمنه، «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة»، «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة»، ومنهم «رجلٌ باع حرًّا فأكل ثمنه»، كأن هذه كبيرة من الكبائر -نسأل الله العافية-، وما فعلوه قبل ذلك من حسده ومحاولة قتله وتآمرهم ثم اتفاقهم على إلقائه في الجب، كل هذه -نسأل الله العافية- كبائر، لكنهم في النهاية تابوا، تابوا، واستغفر لهم أبوهم، وهو نبي من الأنبياء، والخلاف فيهم قد تقدم ذكره هل كانوا أنبياء أو لا؟

طالب: يا شيخ، أحسن الله إليكم، في قولكم: استغفر لهم أبوهم، تعبير القرآن قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} [يوسف: 98].

يعني أجَّله إلى وقت السَّحَر، إلى وقت السَّحَر، أجَّله إلى وقت السَّحَر، ما استغفر لهم في الحال؛ ليكون أدعى إلى الإجابة.

طالب: ..........

مثل المناجاة، مثل المناجاة، أقول: المعنى واحد، العلة واحدة.

طالب: ..........

ماذا فيه؟

طالب: ..........

بلى، هم عادوا، عادوا ما معنى باعوه؟ باعوه على هؤلاء السيارة.

طالب: ..........

كيف يبيعونه بثمن بخس؟

طالب: ..........

لا، من رآه عرف قيمته، لكن يأتي ما يوضحه -إن شاء الله-.

"فيه ست مسائل: الأولى قوله -تعالى-: {وَشَرَوْهُ} [يوسف: 20] يقال: شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة، قال الشاعر:

وشريت بردًا ليتني

 

من بعد برد كنت هامه".

يعني: بعته، بعت بردًا، وبرد غلام، شريت بردًا يعني بعته، ليتني من بعد برد كنت هامه، يعني ندم على بيعه هذا الغلام.

"وقال آخر:

فلما شراها فاضت العين عبرة

 

وفي الصدر حزاز من اللوم حامز".

فلما شراها فاضت العين عبرة، ندم على الشراء أو ندم على البيع؟ ندم على البيع.

"{بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي نقص، وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم، أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص. ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه.

وقيل: إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاءوا وباعوه من الواردة.

وقيل: لا، بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا: هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم.

وقال قتادة: {بَخْسٍ} [يوسف: 20] ظلم.

وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء: {بَخْسٍ} [يوسف: 20] حرام.

وقال ابن العربي: ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوفِ ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه، وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعًا، أو قالوا لأصحابهم: أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يُعطُوا عنه ثمنًا، وأن ما أخذوا فيه ربح كله.

 قلت: قوله: وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوفِ ثمنه بالقيمة يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزًا، وليس كذلك، فدل على صحة ما قاله السدي وغيره؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفسٍ لا يجوز بيعها".

وأن معنى قوله: {بَخْسٍ} [يوسف: 20] حرام، {شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، يعني حرامًا، لكن قوله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، يدل على أن البخس القليل.

"فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه.

وقال عكرمة والشعبي: قليل. وقال ابن حبان: زيف. وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهمًا أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة، وقاله قتادة والسدي. وقال أبو العالية ومقاتل: اثنين وعشرين درهمًا، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين، وقاله مجاهد. وقال عكرمة: أربعين درهمًا، وما روي عن الصحابة أولى. و{بَخْسٍ} [يوسف: 20] من نعت {بِثَمَنٍ} [يوسف: 20]. {دَراهِمَ} [يوسف: 20] على البدل والتفسير له. ويقال: دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسمًا للجمع عند سيبويه، ويكون أيضًا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياءً".

إشباع، يكون إشباعًا، دراهم ودراهيم، إشباع للكسرة حتى نشأت منها الياء.

"وليس هذا مثل مد المقصور؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره. وأنشد النحويون:

تنفي يداها الحصى في كل هاجرة

 

نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

{مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] نعت، وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدًّا لا وزنًا بوزن.

وقيل: هو عبارة عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهمًا.

الثانية: قال القاضي ابن العربي: وأصل النقدين الوزن، قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة إلا وزنًا بوزن، من زاد أو ازداد فقد أربى»".

إذا بيعت بمثلها فلا بد أن تكون وزنًا بوزن، أما إذا بيعت بغير جنسها فيكفي العد، ويكفي الجزاف أيضًا؛ لأنه لا تشترط مماثلة، أما إذا بيعت بمثلها، بيعت الربويات بمثلها، لا بد من أن تستوفى بما اعتُبر شرعًا، إن كانت موزونة بالوزن، وإن كانت مكيلة فبالكيل.

"والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار، فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد تخفيفًا عن الخلق؛ لكثرة المعاملة، فيشق الوزن، حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدًّا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان".

إذا كانت مستوية الوزن في الأصل، ضُرب دراهم ودنانير متساوية، وزن أصلها، ما يلزم أن تستبدل وتصرف بالميزان، يكفي العد بناءً على الضرب الأصلي، لكن لو كانت متفاوتة لا يجوز بيعها إلا وزنًا بوزن.

"فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن، ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم".

تقدم في إيش؟ في سورة هود، هود قريبًا.

"الثالثة: واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك: فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة. وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكَرْخِي، وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا: لا تتعين فإذا قال: بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير".

الكرخي هذا من أئمة الحنفية، كنيته؟

طالب: ..........

لا، ما هو معروف، هذاك العابد غيره.

طالب: ..........

لا.

طالب: ..........

لا، لا. أبو الحسن، أبو الحسن الكرخي، يشتبه به كثيرًا ويُغلط به: أبو بكر الكرجي من أئمة الشافعية، ويوجد منسوبًا إليه بعض الأقوال، ويقال: مذهب الحنفية، والمراد به الشافعي.

"وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا: لا تتعين فإذا قال: بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها، ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.

الرابعة: روي عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أنه قضى في اللقيط أنه حر، وقرأ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]، وقد مضى القول فيه".

وقرأ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]، متى يكون في الآية دليل على ما ذهب إليه؟ إذا كان معنى {بَخْسٍ} [يوسف: 20] حرام.

"الخامسة: قوله -تعالى-: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] قيل: المراد إخوته. وقيل: السيارة. وقيل: الواردة، وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطًا، لا عند الإخوة؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة: إنه عبد أبق منا- والزهد قلة الرغبة-".

لأن السيارة؛ لأنه وُصف بالإباق، وهذا وصف يجعلهم يزهدون فيه، ولا يرغبون فيه الرغبة التامة؛ لأنه لو تملكه شخص لا يأمن أن يأبق بعد ذلك.

"ولا عند الواردة؛ لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى.

السادسة: في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازمًا، ولهذا قال مالك: لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم، ثم قال: لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع، ولم يلتفت إلى قوله.

وقيل: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] أي في حسنه؛ لأن الله -تعالى- وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكرامًا له.

وقيل: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]".

لأنه لا يلتفت إلى جمال الرجال إلا من كانت عنده طوية خبث، فصرف عنهم دواعي النفوس إكرامًا له وإجلالًا له.

يقول: في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازمًا، هذا على القول بعدم اعتبار خيار الغبن، وأن أمور الدنيا لو بيعت بأبخس الأثمان ما صار هناك غبن، وإنما التغابن متى؟ {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]، الدنيا كلها ما تساوي الغبن، كلها ما فيها غبن، لو باع ما يستحق ألفًا بريال ما غُبن؛ لأن الدنيا كلها ما تستحق شيئًا، ما تعدل جناح بعوضة، كل الدنيا، فكيف يكون فيها غبن والجمهور على إثبات خيار الغبن، وقدره أكثره بالثلث فما زاد، والثلث كثير.

" وقيل: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، لم يعلموا منزلته عند الله -تعالى-. وحكى سيبويه والكسائي: زهِدتُ وزهَدتُ بكسر الهاء وفتحها.

قوله -تعالى-: {وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ} [يوسف: 21] قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال، إذ لم يكن ذلك عقدًا، مثل: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} [البقرة: 16].

وقيل: إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن. قال الضحاك: هذا الذي اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز. وقال السهيلي: واسمه قطفير. وقال ابن إسحاق: إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل، ذكره الماوردي. وقيل: كان اسمها زليخاء، وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله، ذكره القشيري. وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد. وقيل: الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة. وقيل: هو فرعون موسى، لقول موسى: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ} [غافر: 34]، وأنه عاش أربعمائة سنة.

وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في غافر بيانه.

وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك، واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارًا، وزاده حلة ونعلين. وقيل: اشتراه من أهل الرفقة. وقيل: تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكًا وعنبرًا وحريرًا وورقًا وذهبًا ولآلي وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن، قاله وهب بن منبه.

وقال وهب أيضًا وغيره: ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابًا: هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكًا لهم بعشرين درهمًا، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدًا مسلسلًا، وأعطاهم على ذلك عهد الله. قال: فودعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول: حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحمكم الله وإن لم ترحموني، قالوا: فألقت الأغنام ما في بطونها دمًا عبيطًا لشدة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيدًا مكبلًا مسلسلًا، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه -وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود-، فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول: يا أماه! ارفعي رأسك ترى ولدك مكبلًا مقيدًا مسلسلًا مغلولًا، فرَّقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو بياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربًا وجيعًا، فقال له: لا تفعل! والله ما هربت ولا أبقت، وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون، فقال الأسود: والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى! فهلا كان هذا عند مواليك، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني، فضجت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له: يا يوسف! غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء! أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها؟ قال: تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل، فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وارتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضًا، فقال رئيس القافلة: من أحدث منكم حدثًا؟ -فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا-، فقال الأسود: أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا، فقال له: ما أردت إلا هلاكنا! ايتنا به، فأتاه به، فقال له: يا غلام! لقد لطمك فجاءنا ما رأيت، فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظن بك، قال: قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني، فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها، وأذهب الله عنه كآبة السفر، ورد عليه جماله، ودخل به البلد نهارًا فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك، قاله ابن عباس على ما تقدم".

هذا الكلام بطوله كله مما أُثر عن بني إسرائيل، ومثله لا يصدق ولا يكذب، وإن كان في بعض ألفاظه ما يُنكر، لكن هذا من أخبار بني إسرائيل، وجاء في الحديث الصحيح: «إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»، في رواية: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، في رواية عند البزار وغيره: «فإن فيهم الأعاجيب»، لكن إذا كان في شرعنا ما يرد هذه الأخبار رددناها، وإن كان فيه ما يؤيدها قبلناها، وإلا توقفنا.

طالب: ..........

ماذا فيها؟

طالب: ..........

فيها الخبر الموقوف الذي يقتضي المنع، لكن لا بأس، لا بأس، {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وَجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107]، ما فيه شيء، ما فيه ما يمنع.

"وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض، فملك بعده قابوس وكان كافرًا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى.

{أَكْرِمِي مَثْواهُ} [يوسف: 21] أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن، وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به، وقد تقدم في آل عمران وغيره.

{عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} [يوسف: 21] أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] قال ابن عباس: كان حصورًا لا يُولد له، وكذا قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له. فإن قيل: كيف قال: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] وهو ملكه، والولدية مع العبدية تناقض؟ قيل له: يعتقه ثم يتخذه ولدًا بالتبني، وكان التبني في الأمم معلومًا عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في الأحزاب -إن شاء الله تعالى-.

وقال عبد الله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة، العزيز حين تفرس في يوسف فقال: {عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21]، وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، وأبو بكر حين استخلف عمر. قال ابن العربي: عجبًا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر! والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة الحجر وليس كذلك فيما نقلوه؛ لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة، وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في القصص. وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة؛ لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة. والله أعلم".

لأن الفراسة إنما تكون إذا رأى الشخص من أول وهلة يتفرس ويتوقع أن يحصل منه كذا، أما إذا عاشره وخالطه وعرف طباعه وما جُبل عليه، فليست هذه فراسة، إنما هي مبنية على مقدمات، نتائج مبنية على مقدمات سابقة، فليست من الفراسة.

طالب: ..........

هذا كله، هذا كله منكر هذا.

"قوله -تعالى-: {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 21] الكاف في موضع نصب، أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له، أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه.

{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} [يوسف: 21] أي فعلنا ذلك تصديقًا لقول يعقوب: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ}  [يوسف: 6].

وقيل: المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام.

{وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] الهاء راجعة إلى الله -تعالى-، أي لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له: كن فيكون. وقيل: ترجع إلى يوسف، أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد.

{وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] أي لا يطلعون على غيبه. وقيل: المراد بالأكثر الجميع؛ لأن أحدًا لا يعلم الغيب. وقيل: هو مجرى على ظاهره، إذ قد يُطْلِع من يريد على بعض غيبه.

وقيل: المعنى {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر.

وقالت الحكماء في هذه الآية: {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] حيث أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكًا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال: {يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} [يوسف: 84]، ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قومًا صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم: {إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ} [يوسف: 97]، ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18]، ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز: {اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} [يوسف: 29]، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبث يوسف في السجن بضع سنين.

قوله -تعالى-: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [يوسف: 22]، {أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] عند سيبويه جمع واحده شدةٌ.

وقال الكسائي: واحده شدٌّ، كما قال الشاعر:

عهدي به شد النهار كأنما

 

خضب اللبان ورأسه بالعظلم

وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب، ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد.

وقال مجاهد وقتادة: الأشد ثلاث وثلاثون سنة".

هي قوة الشبان ثلاث وثلاثون سنة، هي مكتمل القوة، ولذا يقول ابن القيم في وصف أهل الجنة:

هذا وسنهم ثلاث مع ثلا

 

ثين التي هي قوة الشبان

سن أهل الجنة ثلاث وثلاثين، لكن هو يستمر على هذا الأشد إلى أن يصل إلى الأربعين، ثم يبدأ في النزول.

"وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد بلوغ الحلم، وقد مضى ما للعلماء في هذا في سورة النساء والأنعام مستوفى.

{آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] قيل: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك، أي وآتيناه علمًا بالحكم. وقال مجاهد: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم والنبوة، والعلم علم الدين، وقيل: علم الرؤيا، ومن قال: أوتي النبوة صبيًّا قال: لما بلغ أشده زدناه فهمًا وعلمًا.

{وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22] يعني المؤمنين. وقيل: الصابرين على النوائب كما صبر يوسف، قاله الضحاك".

الاستدلال على إيتاء النبوة في الصبا ما تقدم من قوله -تعالى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا} [يوسف: 15]، لما أُلقي في الجب وهو صغير.

"وقال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهرًا على كل محسن، فالمراد به محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -تعالى-: كما فعلتُ هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيتُه ما أعطيتُه، كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض".

بارك الله فيك.

 اللهم صل على محمدٍ.

"