مقارنة بين شروح كتب السنة الستة (5)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سنن أبي داود مختصراته وشروحه:

فنبدأ بسنن أبي داود وشروحه، فسنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة خمسٍ وسبعين ومائتين أحد الكتب الأصول الستة اتفاقاً، اعتنى به العلماء وأشادوا به، يقول ابن القيم -رحمه الله- في مقدمة تهذيبه: "ولما كان كتاب السنن لأبي داود -رحمه الله- من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء".

ويقول المنذري: "فإنه يعني -سنن أبي داود- أحد الكتب المشهورة في الأقطار، وحفظ مصنفه وإتقانه وتقدمه محفوظ عند حفاظ الأمصار، وثناء الأئمة عليه وعلى مصنفه مأثور عن رواة الآثار" والكتاب بالمحل المعروف عند أهل الحديث، وهو ثالث الكتب عند جماهير العلماء، وإن قدم بعضهم سنن النسائي عليه؛ لكن المعتمد عند أهل العلم أن سنن أبي داود يقدم على سنن النسائي، فإنه أنظف أسانيد.

وذكرنا أن ابن سيد الناس زعم أن سنن أبي داود بمنزلة أو ينبغي أن يكون بمنزلة أو قريب من صحيح مسلم، وهذا ذكرناه سابقاً، لا شك أن ابن سيد الناس لم يوافق على ذلك؛ لأن أبا داود لم يكلف نفسه انتقاء الرواة والروايات مثل الإمام مسلم.

يقول أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: "كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف، لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من الناس كافةً، فقد صار حكماً بين فرق العلماء، وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وعليه معول أهل العراق، وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من أقطار الأرض" يقول: "وأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بصحيحي البخاري ومسلم، ومن نحى نحوهم في جمع الصحيح على شرطهما إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفاً، وأكثر فقهاً".

وهو أقرب –حقيقةً- فائدة لمن أراد أن يتناولها بدون عناء من صحيح البخاري، صحيح البخاري فيه شيء من المشقة للطالب المبتدئ، أما سنن أبي داود فالفائدة منه متيسرة؛ لكن دون هذه الفائدة النظر في ثبوت الحديث بخلاف ما في الصحيحين من أحاديث فإنه لا يحتاج إلى أن ينظر فيهما.

ويقول ابن رسلان في مقدمة شرحه: "ينبغي للمشتغل بالفقه وبغيره الاعتناء بسنن أبي داود، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه واعتنائه بتهذيبه" ولا شك أن سنن أبي داود مظنة للأحاديث الصحيحة والحسنة وفيها الضعيف، خفيف الضعف، وفيه شديد الضعف، إلا أن ما كان ضعفه شديداً فقد التزم الإمام أبو داود بيانه، كما في رسالته إلى أهل مكة، قال:

ومن مظنة للحسنِ
فإنه قال جمعت فيهْ
 وما به ضعف شديد قلتهُ

 

 

جمع أبي داود أي في السننِ
ما صح أو قارب أو يحكيهْ
وحيث لا فصالح خرجتهُ

 

المقصود أن الكلام على سنن أبي داود يطول، كذلكم بقية السنن، ولأهمية هذا الكتب حظي من العلماء قديماً وحديثاً بالشروح والتعليقات والمختصرات، فشرحه جماعة من الأئمة واختصره آخرون، فممن شرحه أبو سليمان الخطابي في كتابه الشهير: (معالم السنن)، شرحه أيضاً النووي لكن شرحه لم يتم، وشرحه مسعود بن أحمد الحارثي، وهو أيضاً لم يكمل، وممن شرحه مغلطاي وهو أيضاً لم يكمل، وممن شرحه أحمد بن محمد بن هلال المقدسي، وشرحه أيضاً الإمام أبو زرعة أحمد بن الحافظ العراقي -رحمهم الله-، ولكنه أيضاً لم يكمل، وممن شرحه أحمد بن رسلان الرملي الشافعي، وهذا شرحه كامل وموجود، وممن شرحه أيضاً بدر الدين العيني، كتابه أيضاً طبع أخيراً وهو ناقص، وشرحه أيضاً باختصارٍ شديد السيوطي في (مرقاة الصعود) وهناك حاشية لأبي الحسن السندي اسمها: (فتح الودود)، وهناك أيضاً شرح لم يكمل أيضاً لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي اسمه: (غاية المقصود)، وأيضاً هناك (عون المعبود) على خلافٍ في مؤلفه؛ لكن الأكثر على أنه لصاحب (غاية المقصود)، وهناك كتاب اسمه: (بذل المجهود) لخليل بن أحمد السهارنفوري.

ومن المتأخرين ممن شرحه الشيخ محمود خطابي السبكي في كتابه (المنهل العذب المورود) ونقتصر على الكلام على بعضها، خمسة أو ستة منها فقط.

(معالم السنن) للخطابي:

فمن ذلكم (معالم السنن) مؤلفه تقدم ذكره في أعلام الحديث أو أعلام السنن أبو سليمان حَمْد بن محمد الخطابي البستي المتوفى سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائة، ألفه الخطابي إجابةً لمن سأله ذلك، جاء في مقدمته:

"أما بعد: فقد فهمت مسائلتكم -إخواني أكرمكم الله- وما طلبتموه من تفسير كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث، وإيضاح ما يشكل من متون ألفاظه، وشرح ما يستغلق من مبانيه، وبيان وجوه أحكامه، والدلالة على مواضع الانتزاع والاستنباط من أحاديثه، والكشف عن معاني الفقه المنطوية في ضمنها؛ لتستفيدوا إلى ظاهر الرواية لها، باطن العلم والدراية بها"، يقول: "وقد رأيت الذي ندبتموني له، وسألتموني من ذلك أمراً لا يسعني تركه، كما أنه لا يسعكم جهله، ولا يجوز لي كتمانه، كما أنه لا يجوز لكم إغفاله وإهماله، فقد عاد الدين غريباً كما بدأ، وعاد هذا الشأن دَارِسَةً أعلامه، خاوية أطلاله، وأصبحت رباه مهجورةً، ومسالك طرقه مجهولة".

ثم قسم من ينتسب إلى العلم في زمانه إلى قسمين: أهل الحديث وأثر، وأصحاب فقهٍ ونظر، نظر في من ينتسب إلى العلم في زمنه في القرن الرابع فوجدهم ينقسموا إلى قسمين: أهل حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، مع أن كلاً من الفقه والأثر والحديث والنظر لا يتميز كل منهما عن الآخر؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو كالفرع، وكل بناءٍ لم يوضع له أساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء فهو قفر وخراب، يقول: "ووجدت هذين الفريقين إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين" ثم بيّن وجه التقصير من كل فريق، وجه تقصير من ينتسب إلى الحديث، ووجه التقصير عند من ينتسب إلى الفقه، يقول: "أهل الحديث مبلغ حاجتهم، وجل قصدهم جمع الروايات والطرق، وطلب الغريب والشاذ، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، وربما عابوا الفقهاء بمخالفة السنن، وأما أهل الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، وقد اصطلحوا فيما بينهم على قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبتٍ فيه فكان ذلك ظلةً من الرأي، وغبناً فيه"، يقول: "وهؤلاء -يعني من ينتسب إلى الفقه من أتباع الأئمة- يقول: وهؤلاء -وفقنا الله وإياهم- لو حكي لهم عن واحدٍ من رؤسائهم أو من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهادٍ من قبل نفسه طلبوا فيه الثقة، واستبرؤوا له العهدة"، ثم ذكر الثقاة من أصحاب الأئمة الذين يعول عليهم في نقل المذاهب.. إلى آخر كلامه -رحمه الله-، وهو كلام نفيس جداً.

لا شك أن من ينتسب إلى الحديث بحاجة إلى الدرب على الاستنباط، ومعرفة معاني الأحاديث، وما يستفاد منها، وما يخدمها من علوم اللغة، وأصول الحديث وأصول الفقه وقواعد التفسير، المقصود أن النصوص بحاجة إلى من يخدمها، فعلى طالب الحديث أن يعتني بما يسمى علوم الآلة، فيعرف من علوم الحديث ما يستطيع بواسطته أن يصحح ويضعف، ويعرف من علوم القرآن وقواعد التفسير ما يستطيع أن يتعامل به مع الآيات على طريقٍ سديد، على سنة من سلف؛ لأنه إن اقتصر على مجرد النصوص لا يعرف حينئذٍ العام من الخاص، المنطوق، المفهوم، المطلق، المقيد، الناسخ، المنسوخ، والنصوص كلها مشتملة على هذا كله.

ثم أشاد بسنن أبي داود بكلامٍ نقلنا جله، ثم ذكر أقسام الحديث عند أهله، وأنه ثلاثة أقسام، صحيح وحسن وسقيم، وعرف الأقسام الثلاثة، تقسيمه للحديث وحصره الأقسام في الثلاثة حقيقةً لم يسبق إليه، يعني أول من قسم الحديث إلى ثلاثة أقسام هو الخطابي في مقدمة المعالم، نعم الأقسام الثلاثة موجودة في كلام الأئمة، وجد عندهم ذكر الصحيح، ووجد ذكر الحسن ووجد ذكر الضعيف؛ لكن من غير حصرٍ في الأقسام الثلاثة، ولذا انتقد الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حصر الأقسام في الثلاثة، وقال: "إن كان هذا التقسيم يرجع إلى ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح أو كذب ولا ثالث لهما، وإن كان راجع إلى استعمالهم فالأقسام عندهم أكثر من ذلك؛ لكن الجواب أن هذا التقسيم بالنسبة إلى استعمال أهل العلم، وما عدا الأقسام الثلاثة داخل فيها، كما هو معلوم، وكتاب أبي سليمان الخطابي على اختصاره من أنفس الشروح لإمامة مؤلفه، ورسوخ قدمه، ومن الإمامة في الدين، وإن كان منهجه في الاعتقاد على ما سمعنا سابقاً في كتابه (أعلام السنن) وما نقلناه عن شيخ الإسلام عن كتاب الغنية له.

ولعله رجع عما في كتبه هذه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتابه المعالم هذا أجود من الأعلام، أعلام السنن أو أعلام الحديث الذي سبق ذكره في شروح البخاري؛ لأن هذا الكتاب ألفه أصالةً للسنن، لشرح السنن وخدمتها، أما أعلام السنن أو أعلام الحديث ألفه يريده كالتكملة لهذا الكتاب، ومذهب الخطابي الفقهي والعقدي في هذا الكتاب موافق لما في ذلك الكتاب فلا حاجة لإعادته، والكتاب مطبوع، طبعه الشيخ محمد راغب الطباخ في أربعة أجزاء على انفراد، وهي طبعة جيدة، معتنىً بها، مقابلة على نسخ خطية، في أربعة أجزاء صغيرة، طبع أيضاً مع مختصر المنذري وتهذيب ابن القيم في ثمانية أجزاء بعناية الشيخ أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، وهي أيضاً طبعة نفيسة وجيدة.

شرح ابن رسلان على سنن أبي داود:

بعد هذا شرح ابن رسلان، مؤلفه أحمد بن حسين بن علي بن يوسف بن علي بن أرسلان، قال السخاوي: "بالهمزة كما بخطه، وقد تحذف في الأكثر، بل هو الذي على الألسن"، أبو العباس الرملي الشافعي المشهور بابن رسلان المتوفى سنة أربعٍ وأربعين وثمانمائة، ابن رسلان حقيقةً في شرحه فيه شيء من التوسع، فيُعنى ببيان اختلاف النسخ والروايات، سنن أبي داود له روايات، كما أن للصحيحين روايات، رواية اللؤلؤي، رواية ابن داسة، رواية ابن العبد، وغيرها من الروايات، خمس أو ست روايات، فيعنى ببيان اختلاف النسخ المتداولة، والروايات المعروفة المشهورة، وينقل عمن تقدمه ومن عاصره، سواء كانت أقوالهم مدونة، أو ينقلها مشافهةً عنهم، وهو أيضاً ينقد ويمحص ما ينقله ويتتبع، يخرج الأحاديث المشروحة من الكتب المشهورة، يبين درجات الأحاديث من صحة أو حسن أو ضعف باجتهاده أيضاً وبتقليد غيره كثيراً، يعنى بالصناعة الحديثية إلا أن قدمه في الحديث ليست في الرسوخ مثل قدمه في الفقه، فهو من فقهاء الشافعية، لكن هو في الحديث أقل من ذلك، يعرف الرجال ويبين أحوالهم، يُعنى بفقه الحديث والاستنباط، ولعل هذا هو جلّ قصد المؤلف، لتمكّن المؤلف من علم الفقه، وطبيعة الكتاب المشروح، الكتاب المشروح أقرب ما يكون إلى الأدلة، أدلة الفقهاء، يهتم أيضاً بالمباحث اللغوية، فيشرح الألفاظ والعبارات التي تحتاج إلى بيانٍ وإيضاح معتمداً في ذلك على كتب اللغة وغريب الحديث.

أيضاً ابن رسلان يضبط الكلمات التي تحتاج إلى ضبط، وقد يشير إلى الخلاف في الضبط، وهو أيضاً يهتم بالجوانب الصرفية للكلمات، ويعرب ما يحتاج إلى إعراب، وقد يذكر الخلاف في إعراب الكلمة واشتقاقها، يُعنى بالجوانب البلاغية، عرفنا أن ابن رسلان هذا شافعي المذهب، يرجح في الغالب مذهب الشافعية.

وأما بالنسبة لمعتقده ومنهجه الذي سار عليه في هذا الكتاب في العقيدة فهو كغيره من غالب الشراح؛ جرى على طريقة الأشاعرة في تأويل الصفات، من ذلكم أنه أول صفة الحياء بعدم الامتناع من بيان الحق، يقول: "فيطلق الحياء على الامتناع إطلاق الاسم الملزوم على اللازم مجازاً" وقال عن حديث النزول: "بأنه يوهم التشبيه، إذ ذكر الرب بما لا يليق به من الانتقال والحركة فيجب تأويله على الوجه الذي يليق بصفاته، وهو أن يراد به إقباله على أهل الأرض بالرحمة والاستعطاف" الكلام في حديث النزول طويل جداً لأهل العلم، حتى الكلام عند من يثبت حديث النزول ويقول بموجبه بالنزول الإلهي، سواء كان في آخر الليل أو يوم عرفة، أو غيرهما من المواضع التي ثبت فيها النزول، من جهة هل النزول يستلزم الحركة والانتقال؟ وهل يخلو العرش من الرب -سبحانه وتعالى- عند نزوله أو لا يخلو؟ كلام طويل حرره وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.

أيضاً ابن رسلان في مقابل يعني ما ذكر من عقيدته يتصدى للمعتزلة بالرد؛ لأنه معروف أن بدعة الأشاعرة في كثيرٍ من أبواب الدين أخف من بدعة المعتزلة، فهو يتصدى للمعتزلة بالرد فنقل عن الزمخشري نفيه رؤية الله -سبحانه وتعالى- في الآخرة، ثم رد عليه، وبيّن أن هذا مذهب المعتزلة، وأن مذهب أهل السنة في هذا أن الله -سبحانه وتعالى- يرى يوم القيامة.

والكتاب نفيس ومفيد لقلة الشروح الكاملة بالنسبة للسنن، وإن كان صاحبه غير متميّز في الصناعة الحديثية، لكن جمعه للأقوال الفقهية واستدلاله للمذاهب جمع طيب جداً، يخدم الكتاب ويفيد الطالب، والكتاب محقق؛ لكنه لم ينشر بعد في بضع رسائل دكتوراة.

شرح العيني على سنن أبي داود:

بعد هذا شرح العيني على سنن أبي داود، العيني تقدم التعريف به، وهو أيضاً شرح ناقص، وصل فيه مؤلفه إلى باب الشح، وهو آخر أبواب الزكاة، منهج العيني في شرحه يشرح الترجمة شرحاً موجزاً في الغالب، يترجم لرواة الحديث، ويذكر ما قيل في الراوي؛ لكنه لا يرجح ويوازن بين أقوال الأئمة في الراوي، وهذا أمر مهم جداً؛ لأن مجرد النقل لأقوال الأئمة لا يعجز عنه أحد، المهم الخروج بالنتيجة الدقيقة الصائبة من أقوال أهل العلم في الراوي، تأخذ دراسة الأسانيد القسط الأكبر من الشرح، يبين معاني ألفاظ الحديث، ويستدل لما يميل إليه من معنى بالمرويات الأخرى، أو بالروايات الأخرى، يذكر ما يستفاد من الحديث، ويتعرض لكلام العلماء، وانحيازه لمذهبه الحنفي ظاهر، يعني مثل صنيعه في عمدة القاري، يذكر من أخرج الحديث مقتصراً في الغالب على الكتب الستة والموطأ والمسند ومصنف بن أبي شيبة، لا يهتم بالجوانب البلاغية من المعاني والبيان والبديع، كما فعل في أوائل شرح البخاري، وهذا يصدِق مقالة ابن حجر أنه اعتمد في أوائل شرحه على البخاري شرح الركن القريمي الذي اعتنى بهذه الجوانب، أنه لما انتهى شرح القريمي انتهت عناية العيني بهذه الأشياء، وعلى كلٍ شرح العيني طبع أخيراً يعني القطعة الموجودة منه طبعت، وفيه أيضاً خرم يسير في أوله.

(عون المعبود):

بعد هذا عون المعبود، عون المعبود اشتهر بين الناس بأن مؤلفه محمد شمس الحق العظيم أبادي؛ لكن جاء في مقدمته بعد البسملة والحمدلة، "أما بعد: فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى أبو عبد الرحمن شرف الحق الشهير بمحمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر الصديقي العظيم أبادي، يقول غفر الله له: أن هذه الفوائد المتفرقة والحواشي النافعة على أحاديث سنن أبي داود جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن" هذا كلام من؟ أبو عبد الرحمن شرف الحق الشهير بمحمد أشرف الصديقي، يقول: "جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن -رحمهم الله تعالى- العجيب أنه في طرة الكتاب مكتوب: عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي، وهو غير هذا الذي في المقدمة، يأتي ذكر محمد شمس الحق- جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن -رحمهم الله تعالى- مقتصراً على حلّ بعض المطالب العالية، وكشف بعض اللغات المغلقة، وتراكيب بعض العبارات مجتنباً عن الإطالة والتطويل إلا ما شاء الله تعالى، وسميتها بعون المعبود على سنن أبي داود، تقبل الله مني" يقول بعد ذلك : "وأما الجامع لهذه المهمات المذكورة من الترجيح والتحقيق وبيان أدلة المذاهب والتحقيقات الشريفة، وغير ذلك من الفوائد الحديثية في المتون والأسانيد وعللها"، هو .... أخونا العلامة الأعظم الأكرم أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي، يقول: "والباعث على تأليف هذه الحاشية -أولاً محمد شمس الحق له شرح مطول على سنن أبي داود اسمه: (غاية المقصود)، وذكر هنا يقول: "الباعث على تأليف هذه الحاشية المباركة أن أخانا الأعظم الأمجد أبا الطيب شارح السنن ذكر غير مرةٍ في مجلس العلم والذكر أن شرحي غاية المقصود يطول شرحه إلى غير نهاية، لا أدري كم تطول المدة في إتمامه والله يعينني، والآن لا نرضى بالاختصار، لكن الحبيب المكرم .." الخ، المقصود أنه كلام يطول، إنما قد يميّز ما في الكتاب مما ألفه شمس الحق بأن شرف الحق له يقول: له حلّ الألفاظ الغامضة والمباحث اللغوية وبيان التراكيب، هذا لشرف الحق، أما أبو الطيب له من الكتاب الفوائد الحديثية والكلام على المتون والأسانيد والعلل وبيان أدلة المذاهب والتحقيقات الشريفة.

فعلى هذا يكون قد اشترك في تأليف الكتاب اثنان، جاء في آخر الجزء الثامن من مقتصر شرح تهذيب سنن أبي داود لمحققه محمد حامد الفقهي خاتمة لا بد منها يقول: "وقد كان من أهم ما اعتمدت عليه في عملي في طبع مختصر السنن والتهذيب والمعالم عون المعبود؛ لأنه أجمع شرحٍ لسنن أبي داود، بل لعله أنفع شرحٍ للأحاديث مطبوع، وأوسعها إذا استثنينا فتح الباري"، لكن واقع الكتاب بخلاف هذا، الكتاب مختصر، سماه مؤلفه حاشية، وليس بشرحٍ مستوعب ومستقص، هذا شرح مختصر، يشرح الحديث الواحد في صفحة أو صفحتين، فكيف يقال: أن هذا أوسع شرح للأحاديث مطبوع؟ لا، يعني باستثناء فتح الباري، يعني تجاهل الشروح الكبيرة لصحيح البخاري، يعني لا نسبة بينها وبين شرح العيني، شرح العيني أطول؛ لكن هذا الكتاب على كل حال الذي هو عون المعبود شرح لسنن أبي داود نافع، له مزايا يشرح الأحاديث بطريق المزج، يمزج كلمات المتن في الشرح، فيميز المهمل من الرواة، ويسمي المنسوب والمكنى، ويضبط ما يحتاج إلى ضبط، ثم يشرح الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى شرح، ثم يتكلم على فقه الحديث كل هذا باختصار، ثم يخرج الحديث معتمداً في تخريجه على كلام المنذري في المختصر.

ومع هذا فهو شرح مختصر لا يستوعب جميع الكلمات، ولا يعلق على رجال الحديث كلهم، إنما يكتفي بضبط بعض الأسماء أو تسمية بعض المكنين أو المنسوبين، يعنى ببيان صحة الحديث وضعفه؛ لكن لا عن اجتهاد إنما يعتمد في ذلك على غيره، وقد وصفه مؤلفه بأنه حاشية اجتنب فيها الإطالة، وقصد بيان معنى أحاديث السنن دون بحثٍ في ترجيح الأحاديث بعضها على بعض إلا على سبيل الاختصار، من غير ذكر أدلة المذاهب على وجه الاستيعاب إلا في المواضع التي دعت إليها الحاجة، يتميز الكتاب بأنه شرح كامل للسنن كلها من أولها إلى آخرها، يظهر فيه أيضاً إتباع المؤلف للنصوص، وليس فيه تعصب لأي مذهب من المذاهب، إنما يرجح على ما يقتضيه الحديث، وهو في هذا متأثر تأثرا كبيرا بالشوكاني، أيضاً هو في المعتمد على طريقة أهل السنة والجماعة، يمر نصوص الصفات ويثبتها على ما يليق بجلال الله وعظمته، وهو أيضاً يرد على معظمي القبور ممن فتن بها، ويقرر السنة في كيفية وضع القبر، وكيفية الزيارة، كما في الجزء التاسع صفحة (36 و37) ينكر بعض البدع المنتشرة في الرابع عشر صفحة (141) قال: "المصافحة والمعانقة بعد صلاة العيدين من البدع المذمومة المخالفة للشرع"، ورد على النووي والعز بن عبد السلام بعض ذلك، وفي الحادي عشر صفحة (464 إلى 468) في حوالي خمس صفحات، قال: "ومن المصائب العظمى والبلايا الكبرى على الإسلام أن رجلاً من الملحدين الدجالين الكذابين خرج من البنجاب من إقليم الهند" في كلامٍ طويل جداً يرد به على القادياني، ويحذر من بعض أتباعه، فعلى كل حال الكتاب مشهور ومتداول، وهو جيد ونفيس لمن يقنع بالشرح المختصر.

(بذل المجهود في حلّ سنن أبي داود):

بعد هذا (بذل المجهود في حلّ سنن أبي داود) ألفه الشيخ خليل بن أحمد السهارنفوري المتوفى سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف، منهج المؤلف اهتم المؤلف اعتنى عنايةً كبيرة بأقوال أبي داود صاحب الكتاب وكلامه على الرواة، وعني بتصحيح نسخ السنن المختلفة المنتشرة، خرّج التعليقات، ووصلها من المصادر الأخرى، يذكر مناسبة الحديث للترجمة، ويذكر الفائدة من تكرار الحديث إن تكرر، يستطرد في الاستنباط وذكر المذاهب؛ لكنه كثيراً ما يتعصب للمذهب الحنفي، ويحاول ترجيحه، معتمداً في ذلك على ما تقرر عند الحنفية من أصول، يُعنى ببيان ألفاظ الأحاديث على طريق المزج، ويبين أصولها واشتقاقها، يعتمد في شرح الأحاديث غالباً كما قال في المقدمة على مرقاة المفاتيح للملا علي القاري، وفتح الباري لابن حجر، عمدة القاري للعيني، بدائع الصنائع للكاساني، تقريب التهذيب لابن حجر، تهذيب التهذيب له، الإصابة له أيضاً، الأنساب للسمعاني، مجمع بحار الأنوار، كتاب للفتني في غريب الحديث، وأيضاً القاموس المحيط، ولسان العرب.

يقول: "ولم آخذ من كلام الشارحين صاحب (غاية المقصود) و(عون المعبود) إلا ما نقلاه عن أحدٍ من المتقدمين، لم آخذه مقلداً لمجرد قولهما دون أن أجده في كلام المتقدمين" أما ما يتعلق بتعصبه وتقريره للمذهب الحنفي فهو ظاهر في الكتاب، وقد أشار إليه في المقدمة صفحة (44) من الجزء الأول، يقول: "ومنها أني أذكر مذهب السادة الحنفية تحت حديثٍ يتعلق بمسألة فقهية، فإن كان الحديث موافقاً لهم فبها، وإلا ذكرت مستدلهم، والجواب عن الحديث وتوجيهه" يعني يجعل كلام الحنفية هو الأصل ثم يجيب عن الحديث، وعلى كل حال هو شرح مبسوط يستفاد منه في الكلام على الرواة، وبيان أحكام الأحاديث لا بأس به، وذكر المذاهب الفقهية؛ لكن الترجيح يمكن أن يستفاد من غيره.

(المنهل العذب المورود):

بعد هذا كتاب المنهل العذب المورود، ألفه الشيخ محمود محمد خطاب السبكي، معاصر توفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف، وشرح من أطول الشروح المتداولة، وأمتعها وأجمعها لمسائل الحديث وفوائده، لكنه لم يكمل، بل وصل إلى باب في الهدي في عشرة أجزاء، ثم قام ابنه أمين محمود خطاب بمواصلة شرحه إلى آخر كتاب النكاح، المنهج في شرح هذا الكتاب مشابه إلى حدٍ ما لطريقة العيني في عمدة القاري، يشرح الترجمة، يترجم لرجال الحديث، يشرح الكلمات، يشرح الترجمة بكلامٍ طيب وجيد، ويترجم لرجال الحديث ويطيل في التراجم، يشرح الكلمات، ويتوسع في شرحها، يذكر فقه الحديث ومذاهب الأئمة والفقهاء وأدلتهم، يهتم كثيراً بوصل ما علقه أبو داود، يُعنى بذكر لطائف الإسناد، يخرج الأحاديث تخريجاً لا بأس به في الجملة من الكتب المشهورة، منهج الابن مقارب لمنهج الأب، إلا أن الأب أطول نفساً في الشرح، والكتاب مطبوع ومشهور ومتداول.

من أنفس ما كتب على السنن –سنن أبي داود- المختصر للمنذري، والتهذيب لابن القيم، وهذان الكتابان لا يكاد يستغني عنهما طالب علم، تهذيب السنن لابن القيم أشبه ما يكون بكتب العلل، مؤلفه كما هو معروف شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر بن القيم الجوزية الإمام المحقق المحدث الفقيه المشهور المتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، جاء في مقدمته من كلام ابن القيم -رحمه الله-: "وكان الإمام العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري -رحمه الله تعالى- قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزو أحاديثه، وإيضاح علله وتقريبه، فأحسن حتى لما يدع للإحسان موضعاً، وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً"، يقول: "لذلك جعلت كتابه من أفضل الزاد، واتخذته ذخيرةً ليوم المعاد، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على عللٍ سكت عنها، أو لم يكملها، والتعرض على تصحيح أحاديث لم يصححها، والكلام على متون مشكلة لم يفتح مقفلها، وزيادة في أحاديث صالحة في الباب لم يشر إليها"، يقول: "وبسطت الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتابٍ سواه"، إلى أن قال: "فأنا أبرأ إلى الله من التعصب والحمية، وجعل سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تابعةً لآراء الرجال، منزلةً عليها مسوقةً إليها"، الكتاب أشبه مثلما ذكرت أن يكون كتاب علل، يعلل الأحاديث ويستطرد ويطيل في ذلك، فهو إمام في هذا الباب، وأيضاً له تعليقات نفيسة في بعض المسائل الفقهية، وله أيضاً نفس طويل في بعض المسائل مثل طلاق الحائض، وطلاق الثلاث، وغير ذلك من المسائل بحثها في عشرات الصفحات، فهو مرجع في مثل هذه المسائل، لا يستغني عنه طالب علم، إضافةً إلى إمامة مؤلفه ورسوخ قدمه، وشدة اتباعه للنصوص، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.