شرح العقيدة الواسطية (11)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}[الكهف:39] وقوله: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة:253] وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد}[المائدة:1] وقوله:{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}[الأنعام:125] وقوله: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}[البقرة:195] وقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}[الحجرات:9]  وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين}[التوبة:7]  وقوله: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}[البقرة:222] وقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}[آل عمران:31] وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:54] وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوص}[الصف:4]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في سياق الآيات الدالة على الأسماء والصفات؛ لأنه لما ذكر القاعدة عند أهل السنة والجماعة في هذا الباب وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات على ما يليق بجلاله وعظمته، ثم أخذ يسرد الأدلة من القرآن الدالة على ذلك، ثم إذا انتهت -انتهى ما يريده من الآيات- أردف ذلك بالأحاديث فأورد سورة الإخلاص وأورد آية الكرسي، ثم بعد ذلك أورد الآيات الدالة على صفة العلم، ثم بعد ذلك المشيئة والإرادة والمحبة وغيرها من الصفات، وفي صفة الإرادة والمشيئة يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: وقوله {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}[الكهف:39] وقوله: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة:253] ولولا هذا حرف تحضيض بمعنى هلّا، وحث هلّا إذ دخلت حينما دخلت جنتك قلت: ما شاء الله لا قوّة إلا بالله في محاورة هذا الرجل الصالح لصاحبه -صاحب الجنتين- يرشده إلى ما يقوله، إلى ما يقوله إذا رأى نعمة الله عليه في مِلك هذين الجنتين، ماذا يقول إذا دخل الجنة {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ}[الكهف:39]، وهما جنتان كما دلت على ذلك الآية التي قبلها، هما جنتان، وهنا يقول: ولولا إذ دخلت جنتك، فإما أن يقال: إن الجنة مفرد مضاف، والمفرد المضاف يفيد العموم عند أهل العلم فيشمل الجنة والجنتين والثلاث والجنان، وإما أن يقال: إن الجنتين وما زاد عليهما في حساب هذا القائل الرجل الصالح كلا شيء؛ وإنما تنزّل معه هما جنة على سبيل التنزّل جنّة، والجنة البستان، والسبب في تسميتها جنة أنها تجن الداخل فيها يستتر فيها بالأشجار، وكل ما ستر فهو جَنَّة وجُنَّة والدرع يسمى جُنَّة، والمِجَنّ ما يلبس يتقى به السهام في الحرب المِجن والصوم جُنّة؛ لأنه يقي صاحبه من عذاب الله -جلَّ وعلا- كالدرع الذي يقي من السهام.

{وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}[الكهف:39] ما هذه إما أن تكون موصولة ويكون شاء الله صلتها وخبرها كان، ما شاء الله كان، وقد شاء الله -جلَّ وعلا- أن توجد هذه الجنة فكانت، ما شاء الله في هذا إثبات للمشيئة لله -جلَّ وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، لا قوة إلا بالله، والمريد من المخلوقات فيه شيء من القوة التي تناسبه {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}[الروم:54] فالإنسان فيه قوة، لكن هذه القوة مصدرها من الله -جلَّ وعلا-، فلا يستقل بما يريد، وكذلك المشيئة، الإنسان له إرادة وله مشيئة، لكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته فله إرادة، وله مشيئة، وله قوة، وكل هذه الأوصاف بالنسبة للمخلوق مستمدة من الخالق {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ}[الإنسان:30] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}[الأنفال:17] فأثبت له الفعل، والرمي يحتاج إلى شيء من القوة {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}[الأنفال:17] فيه نفي للرمي وفيه إثبات له في آن واحد، فالمنفي الرمي على جهة الاستقلال، وأنه يستقل بهذا الرمي دون إعانة الله -جلَّ وعلا- له عليه، والمثبت هو الرمي المستمد من إعانة الله -جلَّ وعلا- لهذا المخلوق، ويكون التقدير حينئذٍ: وما أصبت إذ حذفت يعني رميت ولكن الله أصاب، فالإصابة من الله -جلَّ وعلا- والفعل من المخلوق لكنه لا يستقل بهذا الفعل، لو أراد الله -جلَّ وعلا- ألا يفعل فإنه لا يفعل، فللمخلوق مشيئة لكنها تابعة لمشيئة الله -جلَّ وعلا-، والله -جلَّ وعلا- موصوف بالمشيئة فالله يشاء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا قوة إلا بالله فلا حول فلا تحول من حال إلى حال بالنسبة للمخلوق ولا قوة له إلا بالله -جلَّ وعلا- إلا بإعانته على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله إظهار للعجز من قبل المخلوق وافتقار تام لله -جلَّ وعلا-؛ ولذا صارت هذه الجملة لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، فإذا كان ترابها الذي تدوسه الأقدام المسك الأذفر، فكيف بكنزها؟ وفي هذه الجملة من إظهار الضعف والافتقار إلى الله -جلَّ وعلا- ما فيه، مما جعلها بهذه المثابة وكثير من الناس يقولها من غير استحضار لمعناها، تجده يلهج لا حول ولا قوة إلا بالله ويقولها لمناسبة ولغير مناسبة، لكنه لا يستحضر معناها، فهل يحصل له ما رُتب عليها أنها كنز من كنوز الجنة وإن لم يستحضر معناها؟

طالب: ...........

نعم، يعني النص يرتب الثواب على القول في كثير من الأذكار؛ ولذا من يذكر الله وهو غافل يقول يعني تحقق منه الشرط، فيتحقق له الجزاء، وهذا قول جمع من أهل العلم ويرجحه ابن حجر، تأتي بالأذكار التي رُتِّب عليها الثواب ورتب عليها الحفظ والاحتراز من الشيطان يحصل لك ما رتب عليه، يحصل لك جزاؤه ولو لم تستحضر، ومن أهل العلم من يقول: إن مجرد حركة اللسان بهذه الكلمات لا قيمة له والعبرة بالقلب، فإذا استحضر القلب؛ ولذا تجدون الانتفاع بهذه الأذكار إنما يحصل لمن تدبر ولمن عقل المعنى، أما من يقولها على طرف لسانه وهو لا يعرف معناها أو لا يستحضر معناها فمثل هذا لا أثر له على سلوك الإنسان؛ ولذا تجد كثير من المسلمين في بعض الأقطار يقولون: لا إله إلا الله، ومع ذلك يشرك، وهي كلمة التوحيد دليل على أنه لم يفهم معناها ولم يعمل بمقتضاها فلم تؤثر أثرها، وقل مثل هذا في العبادات كلها؛ الصلاة يعني يصلي الرجل إلى جوار أخيه وبين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض، هل نقول: إن صلاة هذا لا أثر لها؟ الواقع يشهد بذلك، الأصل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لكن ما الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ونرى كثيرًا من المسلمين يصلي ويحافظ على الصلاة لكنه يزاول المنكرات، هذا صلاته لم تنهه عن الفحشاء والمنكر، دليل على أنه لم يأت بها على الوجه المطلوب، وليس له من أجرها إلا إسقاط الواجب بحيث لا يؤمر بإعادتها وإلا الأثر المترتب عليها والأجور العظيمة المرتبة عظيمة، نصيبه منها قليل؛ العشر كما جاء في الحديث السبع، الخمس، الربع، النصف، بعض الناس يستحضر، وبعض الناس يستحضر أكثر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما ربك بظلام للعبيد، تجد هذا الذي لم يحصل من أجر صلاته إلا العشر، تجد هو السبب هو الذي شغل نفسه بأمور الدنيا وغفل عن صلاته والإقبال على ربه، وتجد الآخر الذي ينصرف من صلاته بأجرها أو بأكثر من أجرها تجد منه سبب تفرغ لها، وأقبل على ربه وتفرغ من أمور الدنيا، فحصل له الأثر المترتب عليها.

فالأذكار التي تقال بطرف اللسان ولا يعقلها القلب لا يقال: إنها لا تنفع، تنفع، لكن ليس لها من الأثر والثواب مثل ما للأذكار التي يتوافر عليها اللسان مع القلب.

لا قوة إلا بالله هاهنا إثبات المشيئة لله -جلَّ وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة:253] الله -جلَّ وعلا- له المشيئة التامة وله الإرادة والقدرة، فكونهم اقتتلوا، كون الكفار يقاتلون المسلمين والعكس ويحصل القتال والاقتتال كل هذا بمشيئة الله -جلَّ وعلا- وإرادته، بمشيئته وإرادته، فقتال الكفار للمسلمين مشيئة وإرادة كونية، وقتال المسلمين للكفار شرعية؛ لأنه مطلوب {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة:253]، وفي هذا إثبات المشيئة لله -جلَّ وعلا- بقسميها، وكذلك الإرادة {وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة:253] يفعل ما يريده كونًا ويقع لا محالة وفيما يريده كونًا ما يحبه وما لا يحبه، وأما ما يريده شرعًا فإنه قد يقع وقد لا يقع، لكنه محبوب لله -جلَّ وعلا- وهنا الإرادة الكونية والشرعية تتفقان في إيمان المؤمن وطاعة المطيع، وتختلفان في كفر الكافر ومعصية العاصي، فالله يريد كفر الكافر ومعصية العاصي كونًا وقدرًا، لكنه لا يحب ذلك، فالله يريد ذلك لكنه لا يحبه، فالمحبة مع الإرادة الشرعية وتحقق الوقوع مع الإرادة الكونية، والمكلف مطالب بأن يدور مع الإرادة الشرعية ولا يلتفت إلى الإرادة الكونية، إيش معنى هذا الكلام؟

نحن مطالبون بتكاليف شرعية لا بد من تحقيقها، وقد جاء الخبر عن الله -جلَّ وعلا- وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- عن أمور لا بد من وقوعها، فهل نستسلم ونقول: مادام لا بد من وقوعها ليس لنا أن ندافع؟ لا، نحن مطالبون بالإرادة الشرعية التي يحبها الله -جلَّ وعلا-، فالإرادة الشرعية تمنع من سفر المرأة من دون محرم، والإرادة الكونية الأدلة دلت على أن المرأة تسافر من أين إلى أين من صنعاء إلى حضرموت، يعني صنعاء الشام، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن المدينة إلى صنعاء كما جاء في بعض النصوص، المقصود أن هذا سوف يقع كونًا وإن كان السفر بغير محرم محرَّم شرعًا، فالإرادة الشرعية تمنع من هذا، والإرادة الكونية تدل على أنه لا بد من وجوده، فهل معنى هذا أننا نستسلم ونقول: تسافر المرأة بدون محرم؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر عن هذا؟ لا، نحن علاقتنا بالإرادة الشرعية، نحن مسيرون من قبل الشرع وإن كان لنا إرادة واختيار ولا جبر {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد}[فصلت:46]، وإلا لو طردنا الدوران مع الإرادة الكونية لما منع شيء في الوجود، كل من طلب منه شيء يستسلم وما يدريه أن الله أراد له ذلك، إذا أراد أن يقتله لا يدافع الله -جلَّ وعلا- أراد أن يموت بهذه الوسيلة، لكن عليه أن يدافع وعلى خصمه أن يكف؛ دورانًا مع الإرادة الشرعية، المشركون احتجوا بالإرادة الكونية {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:148] نعم الله -جلَّ وعلا- شاء وأراد أن يشركوا إرادة كونية من باب الابتلاء لهم، مع أن الله -جلَّ وعلا- هداهم إلى السبيل، هداهم النجدين، وهداهم إلى الطريق، هداية دلالة وإرشاد، ومع ذلك {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت:17] فهم الذين جنوا على أنفسهم، ولا يتم امتحان المكلفين واختبارهم المطيع منهم والعاصي إلا بهذه الطريقة، ولا يظلم ربك أحدًا، ولا يُسأل عما يفعل؛ لأن النظر إلى مثل هذه الأفعال من قبل الله -جلَّ وعلا- زلت به أقدام وظلت به أفهام؛ فالجبرية تمسكوا بنصوص، والقدرية الغلاة تمسكوا بنصوص، وغفل كل فريق عمّا استدل به الفريق الآخر، ووفق الله -جلَّ وعلا- أهل السنة أن نظروا إلى أدلة الفريقين ووفقوا وتوسطوا في المسألة، فلم يقولوا: إن العبد مجبور؛ لأنه لو كان مجبورًا لكان فيه ظلم له، يعني ليست لديه حرية ولا اختيار، له حرية واختيار، يعني ما الذي يمنع الإنسان إذا سمع الأذان يتوضأ ويخرج إلى الصلاة؟ فيه أحد يمنعه؟ هو غير قادر على هذا؟ فيه قدرة، وقد دُلَّ على أن هذا هو الصراط المستقيم، ومع ذلك خالف {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ}[البقرة:253] مثل هذا يقال إذا حدث الأمر، إذا حدث الأمر مثلاً وقع أمر وفرغ منه نقول: هذه إرادة الله -جلَّ وعلا- على أن يكون هذا الأمر من المصائب لا من المعائب، ما يزني الزاني أو يشرب الشارب، ويقول: هذه إرادة الله وهذه مشيئته، لا، لكن إذا وقع ما يكرهه الإنسان من المصائب، نعم، يقول: هذه إرادة الله وهذه مشيئته وهذا قدره، كما في حديث محاجة آدم وموسى لما انتهى أثر المعصية وبقي أثر المصيبة، احتج آدم بالقدر فحج آدم موسى، لكن يحتج المسلم بما يحتج به المشركون {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:148] هذا ضلال. نسأل السلامة والعافية أنه يفعل ما يشاء ويقول: لو شاء الله ما فعلت، هذه إرادة الله، نقول: لا يا أخي، الله -جلَّ وعلا- بين لك وجعل فيك من الحرية والاختيار والقدرة ما تستطيع أن تختار به أحد السبيلين {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة:253] قد يقول قائل: نرى تسليط الأعداء على المسلمين في كل مكان، الأعداء تسلطوا على المسلمين، والمسلمون وهم كثرة كاثرة وجودهم شبيه بالعدم، لا يملكون من الأمر شيئًا، فهل معنى هذا أن الكفار الذين سلطوا منزلتهم عند الله -جلَّ وعلا- أعلى من منزلة المسلمين الذي سُلط عليهم؟ ليس هذا لهذا، أبدًا الكفار كفار، والله -جلَّ وعلا- لا يغفر أن يشرك به، فهم خالدون مخلدون في النار إن ماتوا على كفرهم، والمسلمون مسلمون منهم المؤمن، ومنهم المسلم العاصي، ومنهم المطيع، لكن إذا ظهرت المعاصي وضعف إنكارها، وأعلن بها بعض الناس من غير أن يوجد من يردع له، احتاجوا إلى ما يردهم إلى حظيرة التدين والالتزا،م فيُسلط عليهم العدو وذلك بما كسبت أيديهم، {وَيَعْفُو عَن كَثِير}[الشورى:30]، وهذه الأمور التي حصلت للمسلمين من الحروب والإذلال من قبل الكفار ليس بشر محض، في بعض البلدان التي تنتسب إلى الإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا الاسم فقط، في بعضها من يوجد من يقول: لا إله إلا الله، لكنهم عزلوا عن الدين مددا طويلة متطاولة، توالت عليهم الحكام من غير المسلمين، فعزلوهم عن دينهم، ووجد في بعض البلدان من يسخر من المصلي؛ لأنه لا يعرف ما هذه الشعيرة ولم ير أحدا يصلي طول عمره، ووجد في هذه الأقطار التي أشرنا إليها كبار سن في السبعين والستين يبيعون البضائع، وهذه وقائع حادثة يعني ما هي افتراضية، شيخ كبير يردد كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله ويبيع السمك وعنده مصحف من القطع الكبير يسمونه جوامعي، فإذا باع سمكة قطع ورقة ولفها فيه، هذا يعرف من الإسلام شيئًا، سُلط عليهم العدو فغزاهم وقتل من قتل وسبى من سبى وأذلهم، ثم بعد ذلك شوف النتيجة، النتائج -ولله الحمد- رجع الناس إلى الدين، صارت المساجد تمتلئ بالمصلين، ووجدت عندهم، ووجد أيضًا العلم والتعليم، ونساؤهم الآن يتحجبن الحجاب الكامل، فليس هذا بشر محض لكنهم لما عصوا احتاجوا إلى قارعة تردهم إلى حظيرة الدين، وما يصيب الإنسان من مصيبة إلا بما كسبت يداه، وهذا على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمة، وهذا موجود ولله الحمد يعني الآثار المترتبة، نحن لا نرضى بهذه الحروب ولا نرضى بأن يستذل المسلمون، ولا نرضى أيضًا بأن تنتهك أعراض المسلمين ولا أن يقتل المسلمون، لكن مع ذلك إذا وقع وليس لنا دور في هذا كله ننظر إلى العواقب ونرضى ونسلم باعتبار أنهم هم السبب، وإذا انعقدت الأسباب وانتفت الموانع حق كلمة العذاب، ولم يستثن على مر العصور وعلى الأمم كلها إلا قوم يونس، وإلا إذا انعقدت الأسباب وتظافرت وانتفت الموانع فالسنن الإلهية جارية، ولا راد لما قضى الله -جلَّ وعلا- ومع ذلك {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا}[البقرة:216]، وليس معنى هذا أننا تنشرح صدورنا لما يقع من ظلم على المسلمين من قبل أعدائهم، لا، على الإنسان أن يهتم لأمور المسلمين، وأن يعتصر قلبه الألم والأسى والحزن حينما يرى إخوانه يقتلون ولا يستطيع أن يقدم لهم شيئًا، لا شك أن مثل هذا مطلوب شرعًا لكن الآثار المرجوة والأمل بالله -جلَّ وعلا- أن تكون حميدة -إن شاء الله تعالى-. {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ}[البقرة:253] يعني هل هذا القتال والظلم الحاصل على المسلمين بغير مشيئة الله وإرادته؟ لا، هو بمشيئته {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ}[البقرة:253] وليس معنى هذا أن الله -جلَّ وعلا- أراد وشاء هذا الأمر أن وجوده مثل عدمه عندنا، لا، المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، لا شك أنه يأسى على إخوانه ويأسف ويندم، لكنه مع ذلك يرجو من الله -جلَّ وعلا- أن تكون العواقب حميدة ولكن الله يفعل ما يريد.

طالب: ................

هي مثل الإرادة. وقوله:  {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد}[المائدة:1] فلا حكم إلا لله ولا حكم يخرج عن إرادة الله الشرعية، وقد يُحكم بما لا يريده الله -جلَّ وعلا- تبعًا لإرادته الكونية، وقوله –تعالى-: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}[الأنعام:125] قد يقول قائل من الجبرية: مادام أن الله -جلَّ وعلا- أراد لهذا الهداية وشرح صدره للإسلام، وأراد للآخر الضلال، وجعل صدره ضيقًا حرجًا كيف يعاقبه؟ وكيف يحاسبه؟ هناك شيء يقال له: عدل، وشيء يقال له: فضل، هناك عدل الله -جلَّ وعلا- بين للجميع على حد سواء بين لجميع خلقه على حد سواء، ثم بعد ذلك تفضل على بعضهم بما تفضل به من قبول وإذعان وانشراح صدر، وخلى بين الآخر وبين نفسه وحريته وإرادته، لو أن شخصًا على سبيل المثال، لو أن شخصا شيخ من الشيوخ مدح كتابًا للطلاب، مدحه لهم على مستوى واحد، وكلهم يسمعون هذا الكلام الكتاب الفلاني وبين محاسنه ومساويه، ووازن بينه وبين غيره، وحثهم على اقتنائه كلهم على حد سواء، يعني ما خص بعضهم بشيء دون شيء، ثم بعد ذلك لما انتهى من ذلك قال: أنت يا فلان وأنت يا فلان عندي لكم نسخ من هذا الكتاب، وقال لقوم آخرين: الكتاب موجود في المكتبة الفلانية، بينما بقية الطلاب ذهبوا إلى المكتبات من مكتبة إلى مكتبة يبحثون عنه، يعني هل ظلم هؤلاء؟ ما ظلمهم، بيَّن لهم، لكنه تفضل على قوم آخرين بأن بعضهم نسخ وبعضهم دلهم على المكان، لكنه على حد سواء، هداهم ودلّهم على قيمة هذا الكتاب، وهذا مثال تقريبي؛ لأن المسألة شائكة وفي محلها -إن شاء الله تعالى- تفصّل بإذن الله تعالى.

{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}[الأنعام:125] مجموعة من الناس في مكان واحد كلهم سمعوا الأذان على حد سواء، وهم يعرفون ما ورد في وجوب الصلاة، وأنها ركن من أركان الإسلام، ويعرفون ما جاء في صلاة الجماعة وكلهم يعرفون النصوص الواردة في المبادرة إلى الصلاة والصف الأول وتكبيرة الإحرام، كلهم يعرفون هذا، ثم لما سمعوا الأذان بمجرد سماعه قام جماعة من هؤلاء، وبعضهم في أثناء مدة ما بين الأذان والإقامة، وبعضهم لما سمع الإقامة، وبعضهم لما صلى الإمام ركعة أو ركعتين، هل يستوون؟ هل يمكن أن يقول من فاتته الصلاة: أنا والله ما أراد الله لي أن أدرك الصلاة؟ هل له حجة في هذا؟ ليس له حجة في هذا، لكن الأول شرح الله صدره للإسلام فبادر، والناس يتفاوتون في مزاولة أعمالهم الدينية، منهم يتلذذ ومنهم من يأتي العبادة وهي عليه شاقة، ومنهم من يتثاقل، ومنهم من لا يقوم الصلاة إلا وهو كسلان، وهذا وصف المنافقين {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى}[النساء:142] فلا شك أن الله -جلَّ وعلا- يشرح صدور بعض الناس للإسلام ولشرائع الإسلام، وبعضهم يضيق بها ذرعًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد}[فصلت:46] البيان حصل للجميع، وإلا فيه أحد يقول: والله أردت القيام للصلاة وعجزت ما حملتني رجلاي، رجلاه ما تحملانه إلى المسجد، نقول: أنت معذور، لا تصلِّ قائمًا، اركب أو صلِّ في مكانك، أنت معذور، لكن هل يعذر عن الصلاة وهو قادر عليها؟ يقول: والله أنا ما قدرت أروح أصلي؟

فالقدرة على الفعل والاستطاعة موجودة والبيان حاصل، المقصود أن مثل هذا ليس فيه حجة لمن يرى الجبر في قوله -جلَّ وعلا-:{وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى}[النساء:142] في وصف المنافقين، فهل معنى هذا أن كل من اتصف بهذا الوصف منافق؟

طالب: ...............

{وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا}[النساء:142].

طالب: ...............

هل نقول: إنه من يجد من نفسه الكسل حتى على مستوى طلاب العلم يسمعون الأذان ويثاقلون، وقد يكون بعضهم في فراشه ولا ينهض إلى الصلاة إلا في وقت متأخر، وبعضهم لا تجود نفسه بالذهاب إلى الصلاة إلا إذا سمع الإقامة؟ هل معنى هذا أنه منافق؟ وما الفرق بين مثل هذا وبين المنافق؟ هو دأبه الكسل حتى طالب العلم هذا دأبه الكسل، ومع الأسف أن فيه شيء من الانفصام بين العلم وبين العمل في العصور المتأخرة، قبل ذلك في العصور المتقدمة لا تجد عالمًا إلا يقرن علمه بالعمل، الآن العلم لما كان وسيلة للكسب تخلف عنه العمل في بعض الأحوال؛ لأنه يحصل به المقصود من الوظيفة والباقي أمره إليه، هذا الذي يقوم إلى الصلاة وهو كسلان وقل مثله في الوصف الثاني لا يذكر الله إلا قليلاً غفلة، هل نقول: إنه منافق؟ وما الفرق بين هذا وبين المنافق؟ الثقل، لا بد أن يزاول شيئًا من الكره مادامت الصلاة ثقيلة على النفس، وبكثير من العبادات هي في أول الأمر فيها ثقل لماذا؟ لأن الجنة حفت بالمكاره، فلا بد فيها شيء من الثقل، والنار حفت بالشهوات، لكن ما الفرق بين هذا الشخص الذي لا يقوم للصلاة وهو كسلان وبين المنافق؟

طالب: ............

نعم، الفرق بينهما أن المسلم ليس في ذهنه ولا خطر على باله أنه لا يصلي، المسلم مصلّ مصلّ، سواء كان في أول الوقت أو في آخره، أو مع الجماعة أو بعده، لا بد أن يصلي، هذا الذي في قرارة نفسه، والمنافق لا يصلي إلا رياء، يراؤون الناس، والمسلم قد يتخلف عن صلاة الجماعة وقد يفوته بعض الركعات؛ لثقل عنده تجاه هذه العبادة، لكنه ليس في ذهنه ولا خطر على باله أن الوقت يخرج بدون صلاة، ولو كانت ثقيلة عليه، فالفرق بينهما من هذه الحيثية، أولئك يراؤون الناس، فلو لم يكن عنده أحد ما صلى، وهذا يصلي ولو لم يوجد عنده أحد، والعبادات في أول الأمر تحتاج إلى جهاد، وتحتاج إلى مكابدة، ولسان حال كثير من الناس يقول: أرحنا من الصلاة، بينما الرسول -عليه الصلاة والسلام- القدوة يقول: أرحنا بالصلاة، وسلف هذه الأمة، أُثر عن جمع منهم، أنهم كابدوا في أول الأمر ثم تلذذوا، كابدوا قيام الليل كابدوا صيام الهواجر، ومع ذلك بعد أن تجاوزوا مرحلة الامتحان والابتلاء، بعد أن تجاوزوا هذه المرحلة تلذذوا بها، أمور وأعمال شاقة، النهار يبلغ خمس عشرة ساعة في شدة الحر وهو يتلذذ بهذا، والليل يطول مع شدة البرد ويتلذذ بالقيام، يتلذذ بطول القيام، ويتلذذ أيضًا بالعبادات والأعمال الشاقة على النفس، لا شك أن هذا وصل إلى مرتبة من الاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- مرتبة عالية جدًا، فلا بد من تجاوز مرحلة الامتحان، وهذا موجود في سائر العبادات يعني في أول الأمر تكون شاقة على النفس ثم لا يلبث أن يتلذذ بها، تصور في أيام الصيف والليل قصير جدًا والناس ابتلوا بالسهر، فما يبقى على أذان الفجر إلا ساعة، يوتر قبل أن ينام ثم ينام هذه الساعة، وقد اعتاد أن يجلس بعد صلاة الصبح ساعتين، ثلاث، عادي لماذا؟ لأنه عود نفسه على هذا العمل بحيث لو حاول أن ينام قبل هذا الوقت ما استطاع وهو يتلذذ بهذا العمل، بينما لو اضطر لوجود ضيف أو نحوه وخرج معه قبل وقت خروجه تجده يتحسر على هذه المدة التي خرجها قبل عادته، فالمسألة مسألة تحتاج إلى أن يعتاد الإنسان على مثل هذا العمل، ثم إذا علم الله منه صدق النية أعانه على ما هو بصدده، وإلا الليل الطويل في الليالي الشاتية في شدة البرد سلف هذه الأمة يقسمون الليل أثلاث، يوجد فيهم من يقسم الليل أثلاث، ينام ثلث ويتعلم ويقرأ العلم ويدارس العلم ويحفظ ما يحتاج إلى حفظ، ويكتب ما يحتاج إلى كتابة ثلث، ثم يصلي الثلث الأخير، وهذا ديدنه، ومن شيوخنا من كان ديدنه النهوض إلى قيام الليل في الثانية عشرة صيفًا وشتاء، الثانية عشرة في الشتاء، كم يبقى على الأذان؟ يبقى خمس ساعات على أذان الصبح فيصلي خمس ساعات، وفي الصيف ثلاث ساعات، المقصود أن المسألة تعود تلذذ بعضهم إذا رأى الصبح اعتصر قلبه الألم، ومنهم من إذا سمع الأذان أذان المغرب وقد صام النهار الطويل ندم على ذلك؛ لأن المسألة مسألة عبادة والعبادة تجري أجورها على صاحبها، وهو يرى أنه انقطع عنه هذا العمل ولو لفترة يسيرة ثم يعود إليه، لكن الصلة بالمحبوب وشواهد الأحوال من أمور الدنيا مع أنه لا نسبة بين المحبوب الذي جبلت محبته على الأكدار، وبين المحبوب الذي محبته عين السعادة في الدنيا والآخرة، الآن لو واحد من زملائك بينك وبينه ود، تنتظر الساعة -ساعة اللقاء- على أحر من الجمر، تنتظر ساعة اللقاء، وتنظر في الساعة في كل لحظة، قبل حضوره تريد أن تستعجل الزمن وبعد حضوره تريد أن تستبطئ الزمن، والعلماء والعباد مع محبوبهم وهو الله -جلَّ وعلا- وأنسهم بالله، وانكسارهم وانطراحهم بين يديه يتلذذون بهذا بشيء لا يخطر على البال، ومن قرأ في سير العلماء والصالحين عرف شيئًا من هذا، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه على التلذذ بالعبادة ولذة المناجاة إذا أدركها الإنسان لا يعدلها لذة، والأنس بالله -جلَّ وعلا- لا يعدله أنس بأي شيء كائنا من كان.

طالب: ................

لأنه يرى أن هذا الضيف..، هذا فيه خلل لكنه يصلي مع وجود الضيف وعدمه، لا شك أن مثل هذا نقص، صفة نقص لكن لا أثر له على أصل العمل مادام يصلي دائمًا بحضور الضيف وبعدمه، لكنه مع حضور الضيف نشط، لا شك أن هذا أقل منزلة ممن لا يتأثر بوجود الغير فوجوده مثل عدمه، وهو أيضًا أقل منزلة ممن يستخفي بعمله عن الغير، وفي قصص سلف هذه الأمة يوجد عندهم الضيوف ويقومون كل الليل يصلون ويعتبرون ويتذكرون ويذاكرون العلم، ثم بعد ذلك الضيف لا يشعر بهم وإخفاء العبادة لا شك أنه أقرب إلى الإخلاص، لكن قد يترتب على إظهار العبادة من الفوائد أكثر مما يترتب على الإخفاء؛ ولذا جاء مدح الإنفاق سرًا وعلانية، وأيضًا مثل هذا إذا كان ممن يقتدى به وينظر إليه باعتباره قدوة للناس لو أظهر عمله بهذه النية كان أفضل له.

طالب: لو تعود على العبادة.. تصبح العبادة عادة ..

لا بد أن يستحضر ويستشعر هذه العبادة، وأنه ساعٍ فيما يرضي الله -جلَّ وعلا- أما كونه يروح ويجيء من غير نية هذا ما متصور أجره ضعيف، لكن قد يقول قائل: إن الإنسان من عادته التأخير ولا يخرج إلى الصلاة إلا مع الإقامة، ولا يريد أن يراه الناس يقضي ركعة فاتت أو في طرف الصف، أو يُنظر إليه أنه اعتاد هذا الأمر فتجده يحث الخطى من أجل أن يدرك هذه الركعة؛ لئلا يراه الناس يقضي ما فاته، لا شك أن هذا فيه خدش في الإخلاص؛ لأنه راءى الناس بهذ العمل، وكونه مقبل على هذا العمل بحيث يجزم على فعله ولا يتردد فيه سواء رآه الناس أو لم يروه فعمله لله -جلَّ وعلا-، لكن قد يخدش فيه ما يلحظه من رؤية الناس إليه وازدرائهم له.

طالب: .................

معروف المذاهب في المشيئة والإرادة تأتي -إن شاء الله- المشيئة والإرادة تحتاج إلى دروس.

طالب: ...................

من هذه الحيثية الشبه موجود، لكن الفرق في كون هذا لا بد أن يصلي عازم على الصلاة، وهذا إن رآه أحد صلى وإن لم يره أحد لم يصل، فبينهما فرق.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"

هذا يقول: وأنت تتحدث عن التلذذ بالعبادة قلت: إن الصائم عندما يؤذن لصلاة المغرب يحزن وذلك لانقطاع العبادة، ألا يوجد تعارض مع حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «للصائم فرحتان منها فرحة عند فطره»؟

لا يستبعد ولا يستحيل أن ينتاب الإنسان الفرح من وجه والحزن من وجه، فمادام في العبادة وصلته بالله -جلَّ وعلا- أقوى فانقطاع هذه العبادة الذي وُفق للتلذذ بها لا شك أن انقطاعه عن هذه العبادة يحزن، وكونه أتم هذه العبادة التي وُفق للقيام بها يفرح لهذ التوفيق الذي وفق إليه، وقد يفرح من جهة أخرى فرحًا جبليًّا؛ لأنه بحاجة إلى الأكل يجد أن بدنه بحاجة إلى الأكل، لكن مع ذلك يحزن لانقضاء الزمن الذي تلذذ فيه بقوة صلته وقربه من الله -جلَّ وعلا- لتقربه إليه: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت ..» إلى آخر الحديث، المقصود أنه لا يمتنع أن توجد اللذة والإشفاق من انتهاء وقت هذه اللذة، وأن توجد المحبة للأكل مثلاً؛ لأن جسده يحتاج إلى ذلك، وأيضًا الفرحة التي تغمره حينما وُفق لصيام هذا اليوم بكماله ويحمد الله -جلَّ وعلا- ويفرح بنعمته {فبذلك فليفرحوا} يفرح بنعمة الله وهي توفيقه إلى هذه الطاعة وهذه العبادة التي حرم منها كثير من الناس، فلا مانع من أن يجتمع الإشفاق من خروج الوقت من هذه الجهة، وأيضًا الفرح بنعمة الله -جلَّ وعلا- الذي وفقه لهذه العبادة.

هذا يقول: عندي إشكال في قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) يظهر من الآية أن الله لا يعلم المجاهدين والصابرين إلا بعد ما يبتليهم، فهل هذا الفهم صحيح؟

ليس بصحيح الله -جلَّ وعلا- يعلم ما كان وما يكون ما كان في الماضي وما يكون في المستقبل وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يعزب عنه مثقال ذرة، يعلم السر وأخفى، فكيف لا يعلم المجاهد من غيره ولا يعلم الصابر من غير الصابر، هو يعلم، لكن المراد بالعلم هنا حتى نعلم المجاهدين منكم، علم الظهور، في علم الله -جلَّ وعلا- لا يخفى عليه خافية، لكن علم الظهور بأن يوجد في المشاهدة ويبرز هذا المعلوم إلى عالم الشهود فيعرف من نفسه ما حصل المجاهد، يعلم من نفسه ما حصل وغيره يعلم منه ما حصل، وأما بالنسبة لعلم الله -جلَّ وعلا- فهو عالم بما كان وما لم يكن، ولذا وُجد الميزان يعني في الامتحانات يوجد اختبارات وتصحيح لاكتشاف منازل الطلاب ومقدار تحصيلهم، لماذا؟ لأنه يخفى على الأساتذة ويخفى على الجهة مستويات الطلاب، لا يعلمون مستوياتهم إلا بهذه الموازين التي وضعوها، وأيضًا يوجد موازين حسية لتوزن السلع؛ لأن أوزانها تختلف على الباعة وعلى المشترين، هذا ماشي في المخلوق لكن بالنسبة لله -جلَّ وعلا-: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) توزن الأعمال وقد يوزن صاحب العمل ويؤتى بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة ويؤتى.. إلى آخره، فتوزن الأعمال هل هذا لأن الله -جلَّ وعلا- لا يعرف النتائج، لا يعرف طاعة المطيع ولا معصية العاصي، ولا كم لهذا من حسنة ولا كم لهذا من سيئة؟ لا، إنما يريد أن يظهر هذا في عالم الشهود ليقتنع العبد نفسه؛ لأنه لولا هذه الموازين التي يراها بعينيه يراها المحاسَب بعينه، ويرى أن هذه الكفة رجحت وهذه الكفة خفت، يمكن أن يحتج {لئلا يكون للناس على الله حجة} وإلا يعلم بعد إذا طردنا هذا القول نقول: ما الداعي إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب؟
والله -جلَّ وعلا- يعلم ما الخلق عاملون، يعلم أن فلان يبي يولد ويبي يموت في كذا، وله من الحسنات كذا ومن السيئات كذا قبل أن يولد، وكتب عليه نصيبه من السعادة والشقاوة قبل أن يولد، وكتب له رزقه، ولو قلنا بهذا القول لعارضنا القدر، لكن {لكي لا يكون للناس على الله حجة} أوجد الموازين وطلب الأعمال، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، كل هذا من أجل أن تظهر هذه الأمور لعالم الشهود، ولا أثر لذلك في علم الله -جلَّ وعلا-.
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) مَن شرطية، ويُرد فعل الشرط مجزوم، وجوابه يشرح مجزوم أيضًا، يشرح صدره للإسلام يجعل صدره منشرح للإسلام ولشرائع الإسلام، يفرح إذا جاء وقت الصلاة، يفرح إذا جاء رمضان، بعض الناس قبل رمضان بشهرين يفرحون بمقدم رمضان وثلاثة أشهر، وبعض الناس قبل ثلاثة أشهر في هَمّ وغم من قرب شهر رمضان؛ لأنه يمنعهم من ملاذهم، هم في قرارة أنفسهم أنهم يصومون مع الناس، لكن مع ذلك الصيام سوف يحرمهم من كثير من ملذاتهم، فهم تجد صدورهم ضيقة من هذه الشريعة من شرائع الإسلام، وشواهد الأحوال واضحة، {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا}، يضيق صدره؛ إذا سمع المؤذن أصيب بثقل وخمول وعلى ما يقولون كتمة في الصدر وسوء في الخلق، {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا}، لكن إن وجد مع هذا الضيق امتثال اختلف حكمه عن حكم من إذا وجد من نفسه هذا الضيق وهذا الحرج عدم امتثال وعدم فعل بالكلية، فهذا ضال -نسأل الله السلامة والعافية-.
{يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصَّعَّدُ} والتشديد يدل على الثقل كأنما يصَّعَّد في السماء، والخبراء ومن عنده علم بالأمور الظاهرة من الحياة الدنيا يقررون أن كلما ارتفع عن مستوى سطح الأرض يقل الأوكسجين على ما يقولون ويوجد الضيق في النفس، كلما ارتفع عن سطح الأرض؛ ولذا لا يوصى مريض القلب بأن يسكن الأماكن المرتفعة، لا يوصى بهذا، بينما يوصى أن يسكن في الأماكن المنخفضة، ومثل هذا صاحب الربو وما أشبهه مما يزيده الارتفاع وقلة الأكسجين ضيقًا وحرجًا، والتجارب مثبتة لهذا، {كأنما يصعد في السماء} تصور شخص طالع كلكم يدرك أن الطلوع شاق والنزول سهل، {كأنما يصعد} لا شك أن هذا الشاق يوجد هذا الحرج في النفس والضيق، وهذا مدرك يعني صعود الجبل مثلاً هذا من أشق الأمور على النفس، لا سيما من لم يتعود صعود الجبال، لكن من تعود صعود الجبال يخف عليه، ومع ذلك يبقى أن النزول أسهل منه وأيسر، وفي هذا إثبات الإرادة لله -جلَّ وعلا- {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} هذه إرادة كونية وأيضًا شرعية ففيها الإرادتان، {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا} هذه الإرادة الكونية.
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مزيد بسط لصفتي الإرادة والمشيئة والفرق بينهما والصفات الأخرى تبعًا لذلك على الولاء -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم.