شرح العقيدة الواسطية (08)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يقول المؤلف -رحمه الله- تعالى: وقد دخل في هذه الجملة الإشارة إلى جملة تقدمت والاحتمال قائم أن تكون هذه الجملة ما بدأ به الشيخ -رحمه الله- الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ ولذا الشيخ -رحمه الله تعالى- لن يخرج في هذا الكتاب عن هذين الأصلين يحتمل أن تكون هذه هي الجملة، ويحتمل أيضًا أن يكون مقصوده في هذه الجملة أن أهل السنة والجماعة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذا تقدم في قوله: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية الذين هم أهل السنة والجماعة، يصفون الله -جلّ وعلا- بما وصف به نفسه من غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله -جلّ وعلا- ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفون، وجميع ما تقدم هذا تفريع عليه، والذي معنا هذه الجملة تفريع على ما تقدم، وقد تطلق الجملة ويراد بها الجمل، كما أنها تطلق الكلمة ويراد بها الكلام، وكِلمة بها كلام قد يؤم، فهذه الجملة قد يراد بها جنس الجمل المتقدمة وهي جمل وليست بجملة، وقد يراد بها جملة بعينها تتفرع عن هذا الكلام، والاحتمال قائم ولا ضير، وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه، عرفنا أن القاعدة عند أهل السنة والجماعة ألا يتعدى القرآن والحديث، بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله -عليه الصلاة والسلام-، من ذلك ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن؛ سورة الإخلاص هي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد}[الإخلاص:1-4] هذه سورة الإخلاص، وإذا ضم إليها الكافرون قيل: يقرأ في ركعتي الطواف مثلاً بسورتي الإخلاص، فهذه سورة الإخلاص سميت بذلك؛ لأنها أخلصت التوحيد لله -جلّ وعلا- ومن اعتقدها، حمله اعتقاده هذا على إخلاص جميع أقواله وأفعاله لله -جلّ وعلا-، التي تعدل ثلث القرآن، وقد جاء في هذا أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» ثلث القرآن عشرة أجزاء، قد يعجز الإنسان أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة، فبيّن أن قراءة سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ من قرأها مرة أو مرتين أو ثلاث فكأنما قرأ القرآن، إذا قرأها ثلاثًا فكأنما قرأ القرآن، وهذا تشبيه، والتعديل في مثل هذا قد يكون من وجه لا من جميع الوجوه؛ ولذا يقول أهل العلم: إنها تعدل ثلث القرآن في الجزاء لا في الإجزاء، إذا قلنا: إنها تعدل ثلث القرآن وقرأناها ثلاث مرات في ركعة كأنما قرأنا القرآن مثلاً كاملاً بما فيه سورة الفاتحة التي هي ركن الصلاة، هل تجزئ قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات عن سورة الفاتحة؟ لا تجزئ، أما في الجزاء والثواب فهي تجزئ، وكونها تعدل ثلث القرآن في الثواب الإجمالي لا أنها تعدل ثواب ثلث القرآن في الثواب التفصيلي، يعني من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، فالذي يقرأ عشرة أجزاء ثلث القرآن يستحق مليون حسنة، والذي يقرأ {قل هو الله أحد}[الإخلاص:1]، هل نقول: إن له مليون حسنة باعتبار أن هذه تعادل ثلث القرآن هناك، وجوه للتشبيه، فإذا شبه شيء بآخر لا يلزم من ذلك التشبيه من كل وجه، من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... إلى آخره، مائة مرة، كان كمن أعتق عشرة من ولد إسماعيل، عشرة، ومن قالها عشر مرات فكأنما أعتق أربعة، هذا وجه للتشبيه، وجه من وجوه التشبيه، ولا يقتضي التشبيه من كل وجه لماذا؟ لأنه لو اقتضى التشبيه من كل وجه لقلنا: الحديثان مختلفان، لكان مقتضى قولها مائة مرة أن تعدل أربعين، ما هو عشرة، على أنه يعتري من يقول هذه مائة مرة، ومن يقولها عشر مرات ما يعتريه يعني نظير ما جاء في سبق الفقراء للأغنياء في دخول الجنة، أربعين، مائة وعشرين، خمسمائة عام، يعني إيش معنى هذا الكلام؟

ذلكم لأن الفقراء يتفاوتون في شدة الحاجة وخفتها، والأغنياء أيضًا يتفاوتون في الغنى وضده، فالمسألة مفترضة في أغنى الناس وأفقر الناس بينهما خمسمائة عام، من دون هذا الغني ومن دون هذا الفقير في الفقر، قل مائة وعشرين عامًا، من دون الفقير الثاني، الغني الثاني، ودون الفقير الثاني، في الحاجة بينهما أربعون عامًا، وكل أمر من أمور التقديرات في الشرع على هذه الكيفية التقديرات المختلفة تحمل على مثل هذا، وإلا فيقال في النصوص اضطراب، لماذا لا نقول مائة: لا إله إلا الله؛ لنحصل على أجر أربعين، ما هو عشرة؟ إذًا التعديل هنا من باب التشبيه، والتشبيه لا يقتضي المشابهة من كل وجه، وجاء في النصوص مثلاً العامل في آخر الزمان عند فساد الزمان، وعند اضطراب الأحوال، وعند اشتداد الفتن، وتراكم المحن، العامل وهو القابض على دينه، له أجر خمسين من الصحابة لا من أقرانه وقرنائه أجر خمسين من الصحابة، هل يعني هذا أن هذا العامل القابض يعدل أدنى واحد من الصحابة؟ لا، في هذا العمل نعم له أجر خمسين، لكن في غيره من الأعمال، «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه»، شرف الصحبة لا يدركه أحد ممن هو دون الصحابة، مهما بلغت به أعماله، فالتفضيل من هذه الحيثية لا يقتضي التفضيل من كل وجه، ويقول حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد}[الإخلاص:1-4] شيخ الإسلام له تفسير لسورة الإخلاص، تفسير نفيس، وله أيضًا كتاب في هذه المسألة "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن" من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وجه التعديل مثلاً، وهذا يوضح لنا التشبيه من أي وجه، القرآن يشتمل على ثلاثة أجزاء؛ منها ما يتعلق بالله -جلّ وعلا-، ومنها ما يتعلق بأفعال المكلفين من الأحكام، الأوامر والنواهي، ومنها ما يتعلق بغيره من الأمم السابقة في القصص وغيرها، وسورة الإخلاص تحقق القسم الأول، فهي من هذه الحيثية تعدل ثلث القرآن؛ لأن القرآن، على ثلاثة أجزاء، وجاء في صحيح مسلم ما يدل على ذلك.

شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى يقول: .. سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية -رضي الله عنه- عما ورد قل هو الله أحد، أنها تعدل ثلث القرآن، وكذلك ورد في سورة الزلزلة، وقل يا أيها الكافرون، والفاتحة، هل ما ورد في هذه المعادلة ثابت في المجموع أم في البعض؟ ومن روى ذلك، وما ثبت في ذلك، وما معنى هذه المعادلة؟ وكلام الله واحد بالنسبة إليه عز وجل، وهل هذه المفاضلة بتقدير ثبوتها متعدية إلى الأسماء والصفات أم لا؟ الصفات القديمة والأسماء القديمة هل يجوز المفاضلة بينها مع أنها قديمة، ومن القائل بذلك؟ وفي أي كتبه قال ذلك؟ ووجه الترجيح في ذلك، بما يمكن من دليل عقلي ونقلي؟

 فأجاب -رحمه الله-: الحمد لله، أما الذي أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم فأخرجوا فضل {قل هو الله أحد}[الإخلاص:1]، وروي عن الدارقطني أنه قال: لم يصح في فضل سورة أكثر مما صح في فضلها، وكذلك أخرجوا فضل فاتحة الكتاب، قال -صلى الله عليه وسلم- فيها: «إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها»، لم يذكر فيها أنها تعدل جزءًا من القرآن كما قال في {قل هو الله أحد}[الإخلاص:1] أنها تعدل ثلث القرآن، في صحيح البخاري عن الضحاك عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟ قال: فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن»، وهذا يراد به التعبير عن السورة، وليس هذا لفظها الله الواحد الصمد ثلث القرآن، يعني السورة التي يثبت فيها الآحدية لله -جلّ وعلا- والصمدية تعدل ثلث القرآن، قال: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وروى مسلم وفي صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» وروى مسلم أيضًا عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزء من أجزاء القرآن» وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن أبي سعيد أن رجلاً سمع يقرأ {قل هو الله أحد}[الإخلاص:1] يرددها فلما أصبح.. إلى آخره، هذه تعدل ثلث القرآن.

وسبق أن قلنا: إن التعديل في الجزاء لا في الإجزاء؛ ولذا لو اعتمر أحد في رمضان هل تجزئه هذه العمرة عن حجة الإسلام، هل يقول بهذا أحد؟ لم يقل به أحد، قد ثبت في الصحيح أنها تعدل حجة، وفي رواية حجة مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، فمثل هذه الأمور إنما تذكر للترغيب فيما ورد فيه النص، ولا يعني أن المشابهة تكون من كل وجه، عن أبي سعيد أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»، وأخرج عن أبي سعيد قال: أخبرني أخي قتادة بن النعمان أن رجلاً قام على زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ من السحر {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] لا يزيد عليها الحديث بنحوه، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «احشدوا -يعني اجتمعوا- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن» قال: فحشد من حشد، يعني اجتمع من اجتمع، ثم خرج نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1]، ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أُرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن»، وفي لفظ له قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أقرأ عليكم ثلث القرآن، فقال: {قل هو الله أحد الله الصمد} حتى ختمها» وأما حديث الزلزلة وقل يا أيها الكافرون، فروى الترمذي عن أنس بن مالك.. إلى آخره، فصل وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة مع الاشتراك في كون الجميع كلام الله فهذا السؤال يتضمن شيئين أحدهما أن كلام الله هل بعضه أفضل من بعض أم لا؟ أما باعتبار القائل والمتكلم وهو الله -جلّ وعلا- فكلامه واحد، وأما باعتبار الموضوع الذي يعالجه هذا الكلام فلا شك أنه متفاوت ومتفاضل، وأعظم سورة في القرآن الفاتحة، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي، وهذا أفعل تفضيل، يدل على التفاضل والتفاوت، فالتفاضل والتفاوت موجو، وقرره علماء الإسلام، ولو نظرنا إلى سورة الإخلاص والسورة التي قبلها، هذا بات ليلة يكرر قل هو الله أحد، وجاء في فعله ما جاء من النص في الصحيح، لكن لو كرر في ليلة {تبت يدا أبي لهب وتب} [المسد:1] يحصل له مثل هذا الأجر؟ يعني بات ليلة يكرر: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}[يوسف:86] يعني، من كرر هذه الآية، {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله}[البقرة:281] يعني تكرير هذه الآية وتدبر هذه الآية، مثل آية {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}[البقرة:222] مثلاً، وبات شخص يكررها ليلة كاملة، وسُمِع فأدخل في كتب المغفلين، وإن كانت كلام الله، وباعتبار القائل لا تنقص شيئًا عن {قل هو الله أحد}[الإخلاص:1] باعتبار القائل، لكن موضوعها يعني موضوع سورة المسد مثلاً جاءت في ذم أبي لهب، وهذه جاءت في أعظم موضوع، الذي هو توحيد وإفراده بالعبودية إفراد الله -جلّ وعلا- بالخلق والرَّزق والتدبير والعبودية وإخلاص الأسماء والصفات له، مثل {تبت يدا أبي لهب وتب} [المسد:1] هذا ما قرره شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، والثاني ما معنى قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وما سبب ذلك؟

فنقول: أما الأول فهو مسألة كبيرة والناس متنازعون فيها نزاعا منتشرًا فطوائف يقولون: بعض كلام الله أفضل من بعض كما نطقت به النصوص النبوية حيث أخبر عن الفاتحة أنه لم ينزل في الكتب الثلاثة مثلها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنها تعدل ثلث القرآن وعدلها لثلث يمنع مساواتها لمقدارها من الحروف، وجعل آية الكرسي أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح أيضًا، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لأبي بن كعب: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعظم. قال: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟ قال: فقلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم؟ قال: فضرب في صدري، وقال: لِيَهْنِك العلم أبا المنذر»، فأقره على هذا وأفعل التفضيل تقتضي وجود فاضل ومفضول، ونظير هذا الرسل جاء النهي عن التفضيل بينهم، النهي عن التفضيل بين الأنبياء ثابت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجاء بخصوص التفضيل تفضيل النبي -عليه الصلاة والسلام-: «خير ولد آدم على يونس بن متى، لا تفضلوني على يونس بن متى» جاء التعميم: «لا تفضلوا بين الأنبياء»، يعني في قصة اليهودي مع المسلم حينما ضربه المسلم، وقال: والذي فضل موسى على البشر ضربه المسلم؛ لأنه يرى أن محمدًا عليه الصلاة والسلام أفضل من موسى، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا تفضلوا بين الأنبياء»، وجاء أيضًا على سبيل الخصوص: «لا تفضلوني على يونس بن متَّى»، متى يمنع التفضيل؟ والله -جلّ وعلا- يقول: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة:253] يعني قصة المسلم مع اليهودي في حال مشاجرة ومشادة، وفي مثل هذا الظرف، لا بد وأن يتنقص المفضل عليه، الآن لو أنت جالس في مجلس، ثم يحصل تفضيل بين مشايخ فلان أعلم من فلان، ثم يطول النزاع والجدال لا بد أن ينال من الشيخين؛ لأن كل واحد يريد أن ينتصر لرأيه ويرفع قدر صاحبه، قل مثل هذا فيما حصل بين اليهودي والمسلم لا شك أن اليهودي يبي يتنقص محمد، ثم بعد ذلك قد تحمله الغيرة هذا المسلم على أن يتنقص موسى، فحسم الموضوع النبي -عليه الصلاة والسلام- حسم المادة وسد الذريعة الموصلة إلى هذا بمنع التفضيل: «لا تفضلونا على يونس» يونس حصل منه ما حصل مما قصه الله -جلّ وعلا- في كتابه مما قد يجعل بعض الناس ينتقصونه، فإذا كان لا يجوز تفضيل النبي -عليه الصلاة والسلام- عليه فمن باب أولى أنه لا يجوز تنقصه من باب أولى، قطعًا مثل هذا لا بد من منعه، وأما في قوله -جلّ وعلا-: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}[البقرة:253] فهذا هو القاعدة المحكمة، لا شك أن محمد خير ولد آدم ولا ينازع في هذا أحد، وأنه أفضل البشر، أفضل المخلوقات على الإطلاق، وأولوا العزم من الرسل أفضل من غيرهم، وهكذا ففضلنا بعضهم على بعض، يدل على أن بعضهم أفضل من بعض، لكن هذا ليس للبشر ينتقصوا الأنبياء وتتطاول ألسنتهم عليهم، فمن هذه الحيثية يمنع التفضيل.

لو قال: لو أن شخصًا قال سورة قل هو الله أحد أفضل من تَبَّت، ثم أخذ يتنقص هذه السورة..، حتى وجد من الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام من لا يجيز قراءة هذه السورة -نسأل الله السلامة والعافية- هذا إلحاد، كما أنه وجد -نسأل الله العافية- من يقول: تحذف قل ..، قل هو الله أحد، وإيش الفائدة من قل؟ قال: وانتهى ومات، الله أحد، يقول هذا الكلام، والقرآن مصون محفوظ من الزيادة والنقصان، فمن أنكر حرفًا منه كفر، كما أن من زاد فيه حرفًا كفر، مصون يقول: وقد قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة:106] فأخبر أنه يأت بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخرى، فدل ذلك على أن الآية تتماثل تارة وتتفاضل أخرى، وأيضًا فالتوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام الله، مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب الثلاثة، وهذه مسألة مفترضة في توراة وإنجيل غير محرفة، أما المحرف لا قيمة له، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}[المائدة:48] وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}[الحجر:9]  قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88] وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}[الزمر:23] فأخبر أنه أحسن الحديث، فدل على أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله وغير المنزلة، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم}[الحجر:87]  سواء كان المراد بذلك الفاتحة أو القرآن كله، فإنه يدل على أن القرآن العظيم له اختصاص بهذا الوصف على ما ليس كذلك، وقد سمى الله القرآن كله مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدى الخلق أن يأتوا بمثله..، إلى آخره، والقول إلى أن قال .. وتفضيل أحد الكلامين بأحكام توجب تشريفه يدل على أنه أفضل في نفسه وإن كان ذلك ترجيحًا لأحد المتماثلين بلا مرجح، وإلا -لأنه كاتب وإن- وهذا خلاف ما علم من سنة الرب تبارك وتعالى في شرعه بل وفي خلقه، ثم قال: والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة، مثل ما سيأتي عن ابن سريج..، إلى آخره، أعظم سورة في كتاب الله -كما في حديث أبي سعيد بن المعلى في البخاري-: الفاتحة، لكن لو قرأها ثلاث مرات الإنسان تعدل القرآن هي بهذا الحديث أعظم من سورة الإخلاص، وسورة الإخلاص في كونها تعدل ثلث القرآن فمن هذه الحيثية، تلك أعظم قدرًا، وهذه أكثر أجرًا، على كل حال، ثبوت التضعيف في الأجر، لا يعني التفضيل المطلق، يعني الذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران، لكن هل مقتضى أنه أفضل من الذي ليست هذه صفته، له أجر على القراءة وأجر على المشقة، لكن الذي ليست عنده مشقة، هذا الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، وما جاء في الصحابيين الذين أدركتهم الصلاة فتيمما وصليا، فلما وجدا الماء توضأ أحدهما وأعاد الصلاة، والثاني لم يعد الصلاة، الذي أعاد الصلاة له أجران، والثاني أصاب السنة أيهما أفضل؟ الذي أصاب السنة، المقصود أن وجوه هذه التفضيلات ينبغي أن تنزل منازلها، وتوقع مواقعها، ولا يضرب الكلام بعضه ببعض.

استطرد الشيخ -رحمه الله- في كلام نفيس جدًا، ينبغي أن يقرأ هذا الكتاب يحرص عليه فيه قواعد وفوائد، لا توجد في غيره، الشيخ -رحمه الله- صاحب استطرادات، وإذا انساق وراء مسألة أطال فيها وسال واديه -رحمة الله عليه- حتى يملأ الخوابي ويبلغ الروابي، ومن هذا إجابة هذا السؤال في مجلد وطلب منه إجابة على مسألة الفتوى الكيلانية صاحبها مستوفز يريدها، فكتب -رحمه الله- أكثر من مائتي صفحة، هذا كله في هذه المسألة، ما وجدنا شق السؤال الثاني إلى الآن ما جاء، ولا يشكل صنيع شيخ الإسلام في الاستطراد الذي يُحتاج إليه وهو من معين الكتاب والسنة ما هو كلام إنشاء! يجلس الإنسان يقرر مسألة في مجلد، ثم يمكن اختصارها في صفحة، هذا لا يمكن أن تستغني عن شيء منه؛ لأنه من معين الكتاب والسنة، وإلا فمثل هذا يشكل على كلام الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- الذي يقول: من أزرى بعالم لقلة كلامه وفضل عليه غيره لكثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة وأئمتها؛ لأن كلام السلف قليل جدًا يقول: وسنبين -إن شاء الله تعالى- أنه إذا كانت قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن لم يلزم من ذلك أنها أفضل من الفاتحة، ولا أنها يُكتفى بتلاوتها ثلاث مرات عن تلاوة القرآن، بل قد كره السلف أن تقرأ إذا قرئ القرآن كله إلا مرة واحدة كما كتبت في المصحف، فإن القرآن يقرأ كما كتب في المصحف لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه على كل حال.

نحيلكم على هذا الكتاب وطالب العلم الحريص على مثل هذه المسائل يعض على مثل هذا الكتاب بالنواجذ، اسم الكتاب "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن"، وله أيضًا تفسير لسورة الإخلاص تفسير لهذه السورة، حيث يقول: قل هو الله أحد، قل يا محمد لمن طلب منك من المشركين أن تنسب له ربك أو أن تصف له ربك، أجبه بهذا الجواب قل هو الله أحد؛ لأنه ذكر في سبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي -عليه الصلاة والسلام-: صف لنا ربك، بعض الأسئلة: انسب لنا ربك، فقال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}[الإخلاص:1] هو الضمير يعود على ما ورد في السؤال؛ لأن السؤال كالمعاد في الجواب مثلما نقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هو الطَّهور ماؤه الحل ميتته» الضمير يعود على إيش؟ على البحر المسؤول عنه، قل هو الله أحد هو مبتدأ وخبره لفظ الجلالة، وأحد وصف أو مبتدأ أول ومبتدأ ثاني، وخبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول، والله العَلَم على الذات المقدسة، الذي سبق الحديث عنه، وفي قول جمع من أهل العلم أنه هو الاسم الأعظم، أحد الواحد الأحد المتفرد من جميع الوجوه، واحد في ذاته، في أسمائه في صفاته، في أفعاله، أحد وهو من الأسماء المشتركة، سئل ثعلب -إمام من أئمة التحقيق في اللغة وعلى منهج السلف الصالح، ثعلب- سُئل: هل الآحاد جمع أحد، هل الآحاد جمع أحد؟؟ قال: حاشا أن يكون للأحد جمع، فهو بجوابه نزع إلى أن المسؤول عنه الاسم من أسماء الله -جلّ وعلا- الوارد في هذه السورة، ومادام الله -جلّ وعلا- واحدًا أحدًا فردًا صمدًا لا يجمع؛ ولذا لا تقول: الرحمانون ولا الرحيمون، لكن تقول: الراحمون، تقول: الراحمون يرحمهم الرحمن، ما تقول: الرحمانون.

فالاسم من أسماء الله -جلّ وعلا- لا يجمع ولا يثنى؛ لأنه واحد لا نظير له {هل تعلم له سميًا}[مريم:65] فلا يجمع، وهو بهذا ينزع إلى هذا الاسم من أسماء الله -جلّ وعلا-، وإلا هل ينكر ثعلب أو غير ثعلب من أئمة اللغة أن في الشهر أربعة آحاد؟ جمع أحد المسبوق بالسبت والمتلو بالاثنين من أيام الأسبوع، ينكر أو ما ينكر؟ ما يمكن أن ينكر لا هو ولا غيره: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد}[الإخلاص:1-2] الذي تصمد إليه الخلائق وتحتاج إليه ولا تستغني عنه بحال، فتصمد إليه الخلائق كلها في حوائجها، هذا قول الأكثر، ومنهم من يقول: إن الصمد الذي لا جوف له، وإذا كان هذا وصفه فهو بمعنى المستغني عن كل أحد، كيف يستغني عن كل أحد؛ لأنه صمد لا جوف له؟ لأن الحاجة إلى ملء الجوف أقوى الحاجات فإذا ارتفعت هذه الحاجة ارتفع غيرها من باب أولى وهذا وارد عن السلف، لكن الأكثر على أنه الذي تصمد إليه الخلائق في طلب حوائجها لم يلد سبق الحديث الإثبات وأنه مفصل، هو الله أحد الله الصمد وجاءت الأسماء مفصلة والأسماء مفصلة إثباتًا، وأما النفي فهو على سبيل الإجمال، وهنا فصل لم يلد ولم يولد، لماذا؟ لأن إثبات هذا المنفي جاء بعينه فينبغي أن ينفى بعينه؛ لأنه وجد من يثبت الولد لله -جلّ وعلا- فجاء النفي لرد هذه الشبهة، ومع ذلك هل قيل بأن الله -جلّ وعلا- له والد؟ قيل: له ولد، لكن هل قيل: له والد؟ من باب اللازم أن من وَلَد فقد وُلِد، ومن زعم أن له ولد لا يستبعد أن يزعم أن له والد، وهذا الصفة لا شك أنها بالنسبة للمخلوق الولادة صفة كمال الذي يولد له أكمل من الذي لا يولد له، لكن بالنسبة للخالق صفة نقص؛ لأن الارتباط بين الوالد والولد صفة تكامل؛ لأن كل واحد يحتاج إلى الثاني؛ الولد محتاج إلى الوالد في الإنفاق عليه في حال الضعف، في رعاية مصالحه، في تربيته، في تدريبه، والوالد محتاج إلى ولده في إعانته على أعماله لا سيما إذا احتاج إلى الولد.

لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، لم يكن له كفؤ، لم يكن له مثيل ولا نظير ولا مقارب ولا شبيه أبدًا، أحد من الآحاد، وهذا فيه تقديم وتأخير، وأسلوب التقديم والتأخير معروف في لغة العرب وفي النصوص، والأصل: ولم يكن له أحد كفوًا وأحد، هذه تأتي يعني في غير اسمه -جلّ وعلا- أحد الذي سبق الحديث عنه الذي يأتي في الإثبات، وهذه تأتي في النفي، فينفى أن يكون أحد له كفوًا أو يكون أحد له شبيهًا أو نظيرًا أو سميًا.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"

هذا سائل يقول: قلتم سابقًا: إن قول شيخ الإسلام مما تبرأ به الذمة عند الحديث عن الذات، ألا ترون -حفظكم الله- أن في ذلك مدخلاً لأهل البدع في تقديس علمائهم وأئمتهم؟

الذي ينظر في المسائل العلمية ويقرر القول الراجح بدليله إذا لم يتمكن من النظر التام في مسألة بعينها، بجمع جميع ما يحف بها من أدلة إذا لم يتمكن من ذلك، فلا مانع من أن يقلد في هذه المسألة بعينها التي لم يستطع إدراك جميع ما ورد فيها، فإذا ضاق الوقت في مثل الدرس نقول: نبقى في هذه المسألة نقلد شيخ الإسلام حتى نقف على ما يؤيده أو يخالفه بالدليل، ولا ضير في ذلك، وأما الاجتهاد المطلق في كل مسألة بعينها فهذا قد يستحيل، أنا لا أمنع الاجتهاد ولا أقول بانقطاع الاجتهاد، لكن الإحاطة بجميع مسائل العلم وبجميع فروع الدين وأصوله دونه خرط القتاد، لا سيما مع الظروف التي نعيشها مع وجود كثير مما يسَّرَ العلم وسَهَّله، ومع ذلك وجدت العوائق، وجدت السبل الميسرة لتحصيل العلم، لكن مع ذلكم وجدت العوائق، والعلم -وهذه سنة إلهية- أنه كلما تيسرت أسبابه صعب مناله؛ لأنه لا يستطاع براحة الجسم، وهذه الأمور الميسرة وأنت على سرير نومك تضغط زر وتصل إلى ما تريد من معلومات، هذه لا شك أنها ليست من مصلحة طالب الذي يريد أن يؤسس ويؤصل نفسه على الجادة المعروفة عند أهل العلم، أقول في مثل هذه المسألة: ليست من تقديس أهل العلم، وليست من تقديس العلماء، وشيخ الإسلام استدل بأدلة ما جاء كلامه من فراغ، يعني ما نظرنا في قوله من غير نظر في دليله، التقليد المذموم بالنسبة للقادر على الاجتهاد عند أهل العلم أخذ قول الغير من غير نظر في دليله، وقد نظرنا في أدلة شيخ الإسلام وبسطناها فيما سبق وليس هذا من باب التقليد، وإنما هو من باب الاتباع، وشيخ الإسلام إمام متبع تبرأ الذمة بتقليده لا سيما في هذه الأبواب، ليس هذا من تقديس أهل العلم، ومن لزم الدروس في كثير من المسائل العلمية التي يقررها شيخ الإسلام ونحن عالة على شيخ الإسلام، ومن قبل شيخ الإسلام، ومن بعد شيخ الإسلام، نتصدى لبيان الراجح والمرجوح فيها وقد نرجح فيها غير قول شيخ الإسلام في مسائل كثيرة جدًا يمكن إحصاؤها يصعب على مر الدروس في كافة فروع العلم والمعرفة، وليس هذا من تقديس أهل العلم، وخالفناه في مسائل كثيرة جدًا، لكن إذا ضاق الوقت وعجز الإنسان من أن يصل إلى القول الفصل في المسألة لا مانع أن يقلد أو أن ينظر في أدلة هذا الإمام الذي هو على الجادة فيما نحسب والله حسيب الجميع، فليس هذا من تقديس أهل العلم أبدًا.