شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 20

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلاً بكم إلى حلقةٍ جديدة في برنامجكم: شرح كتاب ((الصوم)) من كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نُرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.

المقدم: على مدى الحلقات الماضية، لازال الحديث مُستمرًّا في حديث أبي جحيفة- رضي الله عنه- في قصة سلمان وأبي الدرداء- رضي الله عنهما- بقي معنا مجموعة من الأحكام في هذا الحديث، يا شيخ أحسنَ الله إليك.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فقد تقدَّم ذكر بعض الأحكام المُستنبطة من هذا الحديث، من أحكامه، كما قال أهل العلم:

   فيه: جواز النهي عن المُستحبات، الأصل أن المستحبات مأمور بها. قالوا: فيه جواز النهي عن المُستحبات إذا خُشيَ أن ذلك قد يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة، الراجح فعلها على فعل المُستحَب المذكور؛ لأن مسألة المُفاضلة، يعني قد تتزاحم هذه المُستحبات، فالمُفاضلة لا شك أن تحصيل أعلى المصالح أمر مُقرر في الشرع. وإذا كان الأمران في كل منهما مصلحة وتزاحمتا، فيُحصَّل الأعلى مصلحة، كما أنه إذا كان في الأمرين في كلٍّ منهما مفسدة، فتُرتَكَب المفسدة الدنيا من أجل..

المقدم: زوال مفسدة أعظم.

يقولون: وفيه جواز النهي عن المُستحبات إذا خُشيَ أن ذلك قد يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة، الراجح فعلها على فعل المُستحَب المذكور. ومسألة التفاضل والمُفاضلة بين هذه المُستحبات، يعني حقيقةً في بعض المسائل، يعني في بعض القضايا تحتاج إلى فقه نفس؛ لأن الإنسان أحيانًا ترد عليه أكثر من قضية في آنٍ واحد، فلا يستطيع أن يُحقق الأعلى منها. فمثلاً: دخل المسجد، كالمسجد الحرام مثلاً، وقد أُقيمت الصلاة، فأراد أن يُدرِك الركعة الأولى لكن هذا الإدراك على حساب القُرب من الإمام، فما المُقدَّم؟

المقدم: لا شك إدراك الركعة مُقدَّم.

قد يُقال: إن القُرب من الإمام في بعض الأحوال يُقدَّم، وإتمام الصفوف يُقدَّم، لاسيما وأن الجماعة مُدركة في بقية الركعات. لكن إذا احتف بإدراك الركعة، كون الصلاة تقع خلف إمام، بمعنى أنه لو فاتته الركعة في هذا المكان المُزدحم، وقضاها بعد سلام الإمام تعرضت هذه الركعة لتشويش الناس المارة بين يديه، فكونه يُحافظ على هذه الركعة مع إهداره التقدُّم والقُرب من الإمام، إضافةً إلى أنه بإدراك الركعة يُدرك الصلاة على الجنازة مثلاً، وإذا فاته شيءٌ من صلاته قد لا يُدرِك.

المقصود أن مثل هذه الأمور تحتاج في وقتها إلى فقه نفس، فطالب العلم ينبغي أن يكون على يقظة من هذه الأمور؛ لئلا تفوته المصالح العظمى. وأذكر أني دخلت أنا وشخص لصلاة المغرب في المسجد وقد فاتتنا الركعة الأولى، أنا وإياه، لما سَلَّم الإمام أتيت بهذه الركعة، يعني بواجباتها وأركانها، يعني ركعة مُجزئة من حيث النظر الفقهي ولا فيها إشكال مع الطمأنينة، صاحبي الذي بجواري وقد فاته معي ركعة، أدى هذه الركعة بخمس دقائق، وفاتته صلاة الجنازة ومرَّ الناس بين يديه. فمثل هذه الأمور تحتاج- مثل ما ذكرت- إلى فقه نفس؛ لأن بعض الناس يُحافظ على بعض الأمور ويرد عليه أمور أخرى، فالموازنة في هذه الأمور لابد منها. ويحصل اضطراب عند كثير من طلاب العلم في هذه المسائل؛ لأنه لا يستحضر ما يحتف بهذه المسائل أو ما يوافقها ويُعارضها.

قد يقول قائل: إن هذا النهي من سلمان والأمر والحث من الشرع، الحث على الصيام من الشرع والنهي من سلمان. لكن نهي أُقِر، قُرر من الشارع، فسَمِع النبي- عليه الصلاة والسلام- وأقر وقال: «صدق سلمان»، فاكتسب..

المقدم: حُكم الرفع.

نعم، اكتسب المشروعية من هذه الحيثية.

قالوا: وإنما الوعيد الوارد على من نهى مُصليًا عن الصلاة، أبو الدرداء ذهب ليقوم وقال سلمان: نَم، وصام وقال له: أفطِر. ما جاء في قول الله- جلَّ وعلا-: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (*) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [سورة العلق 9-10] يتعارض معنا؟

قالوا: وإنما الوعيد الوارد على من نهى مُصليًا عن الصلاة مخصوصٌ بمَن نهاه ظلمًا وعدوانًا، يعني منعه من الصلاة، لا لعلة ولا لحكمة، إنما مُراده بذلك كفه والحيلولة دون صلاته.

يقول القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [سورة العلق 9] وهو أبو جهل، {عَبْدًا} وهو محمد-  صلى الله عليه وسلم-، فإن أبا جهلٍ قال: إن رأيت محمدًا يُصلي، لأطأن على عنقه، قاله أبو هريرة. فأنزل الله هذه الآيات تعجبًا منه.

وقيل: في الكلام حذفٌ والمعنى: أين هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة؟.

     وفي الحديث، حديث أبي جحيفة، فيه كراهية الحمل على النفس في العبادة، بمعنى أنه لا يأتي بما يشق عليه. وكراهية الغلو في الدين، لكن إذا كان النهي في إطار المشروع، فماذا عما لو كان قد خرج عن حد المشروع؟ يعني من باب أولى.

- وفيه النوم للتقوي على الصيام وعلى القيام، وفيه جواز الفِطر من صوم التطوُّع، كما ترجم له المُصنِّف، وهو قول الجمهور ولم يجعلوا عليه قضاءً، إلا أنه يُستحَبُّ له ذلك، قاله الحافظ.

المقدم: أُخِذ من كلام المُصنِّف في قوله: ولم يرَ عليه قضاءً إذا كان أوفق له؟

نعم، مثل ما تقدَّم في الترجمة.

وقال ابن بطَّال: اختلف العلماء فيمن دخل في صلاةٍ أو صيام تطوُّع، فقطعه عامدًا. فرويَ عن علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر بن عبد الله: أنه لا قضاء عليه، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. هؤلاء يقولون: لا قضاء عليه. واحتجوا بحديث أبي جحيفة، وقالوا: ألا ترى سلمان لما أمر بالفِطر جوَّزه النبي- عليه الصلاة والسلام- وجعله أفقه منه، لما أمر أبا الدرداء بالفِطر، جوَّزه النبي- عليه الصلاة والسلام- وجعله أفقه منه، يعني من أبي الدرداء.

واحتج ابن عباس لذلك، فقال: مثل ذلك كمثل رجلٍ طاف سبعًا ثمَّ قطعه، سَبْعًا أو سُبْعًا؟

المقدم: سُبع؛ لأنه لو طاف سَبعًا ما كان قطعه، كان اكتمل.

ويُقال: سُبع أم أسبوع؟

المقدم: كلاهما.

السُّبع معروف أنه الواحد على سبعة، يعني الشوط الواحد يُقال له: سُبع الطواف المشروع. والأسبوع ما يشتمل على سبعة، كالأسبوع من الأيام.

المقصود أنه مثل رجل طاف ثمَّ قطع الطواف، فلم يوفه فله ما احتسب. يعني لو طاف أربعة أشواط، وهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يُحسَب له أو لا يُحسَب؛ لأن الأربع هذه مشروعة أو غير مشروعة. يعني هو مشروع بالصورة المُتكاملة: السبعة، أما بعضه فليس بمشروع، وليس هذا من العبادات التي تتجزأ. اللهمَّ إلا إذا قطعه لعذر، فله أجر ما فعل.

أو صلى ركعةً ثمَّ انصرف، ولم يُصلِّ أخرى، فله ما احتسب. أو ذهب بمالٍ يتصدَّق به فرجع ولم يتصدَّق، أو تصدَّق ببعضه وأمسك بعضًا، أخذ مبلغًا من المال وأراد أن يتصدَّق به ثمَّ بعد ذلك رجع به كاملاً أو رجع ببعضه، له أجر ما تصدَّق به وما أمسكه فلا إثم عليه فيه.

وينبغي أن يكون هذا في التطوُّع من جهة. الأمر الثاني: أن يكون فيما لم يقترن بعهد، أما إذا اقترن بعهد لابد أن يُنفذ؛ لأنه لو أن شخصًا قال: إذا جاء الراتب أتصدق بألف، مثلاً. جاء الراتب، ما تصدَّق، هذا هو الوارد في المثال عندنا.

لكن لو قال: لله عليه أو عهدٌ عليه، أعاهد الله مثلاً، أن أتصدَّق بمبلغ ألف، إذا جاء الراتب فلابد أن يتصدَّق؛ لأن الله -جلَّ وعلا- يقول: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [سورة التوبة 75] ثمَّ بعد ذلك بخلوا به، والنتيجة: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة 77] هذا زجرٌ ووعيدٌ شديد، فيدلُّ على أن من عاهد الله لابد أن يفي.

فَكَره ابن عُمَر، يقول: أو ذهب بمالٍ يتصدَّق به فرجع ولم يتصدَّق، أو تصدَّق ببعضه وأمسك بعضًا، فكَرِهَ ابن عُمَر- رضي الله عنهما- ذلك، وقال: المُفطِر مُتعمدًا في صوم التطوُّع ذلك اللاعب بدينه.

وكَرِهَ النخعي والحسن البصري ومكحول الفِطر في التطوُّع، وقالوا: يقضيه.

وذكر ابن القصَّار عن مالك أنه من أفطر في التطوُّع لغير عذرٍ، فعليه القضاء. وإن أفطر لعذرٍ، فلا قضاء عليه، هذا رأي مالك.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه القضاء وإن أفطر لعذر.

أبو حنيفة: عليه القضاء مُطلقًا.

مالك: يُفرِّق بين المعذور وغير المعذور.

والشافعي وأحمد: يرون أنه لا قضاء.

احتج مالكٌ لمذهبه بما رواه في (الموطأ) عن ابن شهاب: أن عائشة وحفصة، زوجي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصبحتا صائمتين مُتطوعتين، فأُهديَ لهما طعام، فأفطرتا عليه، فدخل عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرتاه بذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقضيا مكانه يومًا آخر». فكان معنى هذا الحديث عند مالك أنهما أفطرتا بغير عذرٍ؛ فلذلك أمرهما بالقضاء.

لكن الحديث ليس بنصٍّ على أنه ليس بعذر، قد يكون الفِطر لحاجةٍ للأكل، فيكون عذرًا.

فكان معنى هذا الحديث عند مالك أنهما أفطرتا بغير عذرٍ؛ فلذلك أمرهما بالقضاء.

ومن حُجته أيضًا: قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 33]، ومن أفطر مُتعمدًا بعد دخوله في الصوم، فقد أبطل عمله.

وقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [سورة البقرة 196]. وأجمع المسلمون على أن المُفسِد لحجه التطوُّع وعُمرته، أن عليه القضاء.

فالقياس على هذا الإجماع يوجِب القضاء على مُفسِد صومه عامدًا.

فإن قيل: فقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اقضيا إن شئتما يومًا مكانه» قيل: لا يصح، ولو صحَّ لكان معناه أنهما أفطرتا لعذرٍ، فقال لهما: «اقضيا إن شئتما». وأفطرتا في حالٍ أخرى لغير عذرٍ، فأمرهما بالقضاء؛ حتى لا تتنافى الأحاديث، عن ابن القصَّار.

لكن للشافعية والحنابلة أن يقولوا: أن الأمر هنا للاستحباب، لا على سبيل الإلزام، بمعنى أن إبطال العمل في الجملة منهيٌ عنه وسيأتي التحقيق في هذه المسألة- إن شاء الله تعالى- بعد نهاية الكلام. فيُقضى على سبيل الاستحباب؛ لأن مَن أبطل واجبًا لزمه أن يقضيه، ومَن أبطل مُستحبًّا اسْتُحِب له أن يقضيه. فيكون الأمر هنا على سبيل الاستحباب.

المقدم: هذا يعني ترجيح تختارونه أو توجيه؟

هذا توجيه.

المقدم: توجيه للرأي؟

نعم.

ومن حُجة أبي حنيفة: ظاهر حديث مالك أن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال لعائشة وحفصة: «اقضيا يومًا مكانه» ولم يشترط ذلك لعذرٍ ولا لغيره، وهو مُحْتَمِل أنهما أفطرتا لعذر، ومُحتمِل أيضًا أنهما أفطرتا لغير عذرٍ، ولم يشترط ذلك لعذرٍ ولا غيره، فدلَّ أنه موجبٌ للقضاء في جميع الأحوال.

قال الطحاوي، وهو من أئمة الحنفية: والنظر في ذلك أنا رأينا أشياء تجب على العباد بإيجابهم لها على أنفسهم، منها الصلاة والصدقة والحج والعُمرة والصيام. فكان من أوجب شيئًا من ذلك على نفسه، فقال: لله عليَّ كذا، وجب الوفاء عليه بذلك. وكان من دخل في حجٍّ أو عُمرةٍ تطوعًا ثمَّ أراد الخروج منهما، لم يكن له ذلك. وكان بدخوله فيهما في حُكم من قال: لله عليَّ حجٌّ أو عُمرة، فعليه الوفاء بهما وإن خرج منهما بعذرٍ أو بغير عذر، فعليه قضاؤهما. والصلاة والصيام في النظر كذلك.

يعني هذا يؤيد مذهب الحنفية، والصلاة والصيام في النظر كذلك. هم يتفقون، الأئمة يتفقون بالنسبة للحج والعُمرة، لما جاء فيهما بخصوصهما من الأمر بالإتمام، لكن يختلفون في سائر العبادات.

قال المُهلَّب: وفي حديث أبي جحيفة حُجةٌ لمالك أن من أفطر لعذرٍ أنه لا قضاء عليه؛ لأن فِطر أبي الدرداء إنما كان لوجهٍ من أوجه الاجتهاد في السُّنَّة وسلوك السبيل الوسطى ولم يكن إفطاره مُنتهكًا ولا متهاونًا فيجب عليه القضاء. يعني واضح من حال أبي الدرداء أنه خلاف رغبته الفِطر، فلا يكون بذلك مُنتهكًا أو متهاونًا. والقضاء عندهم إنما هو في المُنتهك المتهاون الذي لا عذر له.

وإنما يجب القضاء على من أفطر متهاونًا بحرمة الصيام لغير عذرٍ، ولا وجه من أوجه الصواب. ألا ترى أن ابن عُمَر- رضي الله عنهما- لم يجد ما يصفه به إلا أن قال: ذلك المُتلاعب بدينه؟ فإذا لم يكن مُتلاعبًا وكان لإفطاره وجهٌ، لم يكن عليه قضاء. يعني هذا تقرير مذهب المالكية.

القرطبي في تفسيره في تفسير قول الله- جلَّ وعلا-: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 33]، أي: حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن، وقال الزهري: بالكبائر، وقال ابن جريج: بالرياء والسمعة، وقال مقاتل: بالمنِّ، وهو خطابٌ لمن كان يمنُّ على النبي- صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، وكله متقارب وقول الحسن يجمعه، أي: حسناتكم بالمعاصي، يجمعه.

وفيه إشارة إلى أن الكبائر تُحْبِط الطاعات والمعاصي تُخرِج عن الإيمان، بمعنى أن الإيمان ينقص قليلاً قليلاً حتى لا يبقى منه شيء بالمعاصي. وكون الكبائر تُحبِط، لا شك أن الحسنات يُذهبن السيئات، وعند الخوارج والمُعتزلة: الإحباط ظاهر في أن من ارتكب كبيرة حبط عمله. لكن عند أهل السُّنَّة هل الكبائر تُحبِط الطاعات؟ لا تُحبِط الطاعات، ما يحبطها إلا الوعيدية؛ الخوارج والمُعتزلة.

لكن ابن القيم يُشير إلى دقيقة، يقول: إن الناس لما عرفوا مذهب الخوارج والمُعتزلة في مسألة الإحباط، هابوا أن يُقال مثل هذا الكلام. لكن ماذا لو عمَّا عند المقاصة والمحاسبة، أتت كبائره على جميع حسناته، رجحت بها، أحبطتها. لكن لما كان المذهب هذا معروف عن فئة، يبقى أن الإطلاق أن الكبائر تُحبِط هو مذهب الخوارج والمُعتزلة. وأما إذا أتت عليها في المُقاصة ورجحت عليها في الميزان، لا شك أنها الحكم لها.

المقدم: لكن ما يُقال إن ذاك الإحباط المُراد به إحباط الأصل؛ لأن عندهم الإحباط يعني خروج تام، إما منزلة بين المنزلتين أو كفر وخلود في النار. بينما الإحباط المُراد عند ابن القيم أو أمثاله هو إحباط التكافؤ وإلا فأصل إيمانه موجود، ولذلك ما يُخلَّد في النار على مذهب أهل السُّنَّة المعروف.

هذا إذا بقي معه شيءٌ من الإيمان، لكن إذا تضاءل بحيث لم يبقَ معه شيء، خرج من الإيمان بالكلية.

المقدم: إذا خرج، يا شيخ، ما تكون فيه مُقاصة، ما فيه مجال للمُقاصة أصلاً.

هو الحساب لابد منه.

المقدم: نعم، لكن ما فيه مجال لأن تكون هذه الكبائر هي سبب الإحباط؟

لا، هي سبب خروجه من الإيمان، صارت سببًا لخروجه من الإيمان؛ لأن الإنسان قد يقول كلمة لا يُلقي لها بالاً، مثل رفع الصوت، {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات 2]، فهو من هذه الحيثية.

وعلى كل حال، إطلاق القول بأن الكبائر تُحبِط هو قول الوعيدية من الخوارج والمُعتزلة.

يقول القرطبي: واحتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوُّع صلاةً كان أو صومًا بعد التلبُّس به لا يجوز؛ لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك، وهو الإمام الشافعي وغيره: المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنُهي الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلاً، فلا؛ لأنه ليس واجبًا عليه. فإن زعموا أن اللفظ عام، فالعام يجوز تخصيصه. اللفظ {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 33] يشمل الفرض والنفل، فهو يقول: إن زعموا أن اللفظ عامٌّ، فالعام يجوز تخصيصه، يجوز بالفرض. وعندي أنه باقٍ على عمومه، فالإبطال منهيٌ عنه بهذه الآية.

 لكن هل النهي للتحريم أو للكراهة أو خلاف الأولى؟ فإذا كان العمل واجبًا، فلا شك أنه إن أبطله بغير عذر، فالنهي للتحريم باقٍ على أصله. وإن كان العمل مندوبًا، فله حكم ما يُضاده.

المقدم: الكراهية؟

نعم.

فإن زعموا أن اللفظ عامٌّ، فالعام يجوز تخصيصه. ووجه التخصيص أن النفل تطوُّع، والتطوُّع يقتضي تخييرًا.

وعن أبي العالية: كانوا يرون أن لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية، فخافوا الكبائر أن تُحبِط الأعمال.

وقال مقاتل: يقول الله تعالى: إذا عصيتم الرسول، فقد أبطلتم أعمالكم. انتهى كلام القرطبي في تفسيره.

المقدم: نعم، نقف عند كلام القرطبي على أن نستكمل- بإذن الله- بقية الموضوع في حلقةٍ قادمة.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب ((التجريد الصريح في أحاديث الجامع الصحيح)).

لنا بكم لقاء– بإذن الله تعالى- في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.

شكرًا لطيب متابعتكم.

والسلام عليكم ورحمة وبركاته.