التعليق على الموافقات (1431) - 01

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

أحسن الله إليك، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

 فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "المسألة الثالثة: الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، والدليل على ذلك من وجوه: أحدها: أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره، لكنها أدلةٌ باتفاق العقلاء، فدلَّ على أنها جارية على قضايا العقول، وبيان ذلك: أن الأدلة إنما نُصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف، ولو نافتها لم تتلقها فضلاً عن أن تعمل بها بمقتضاها، وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة، ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالمسألة الثالثة يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: الأدلة الشرعية التي جاء بها الشرع من كتابٍ وسنة وما تفرَّع عن ذلك من أدلة معمول بها عند أهل العلم لا تنافي قضايا العقول. المجزوم به، المقطوع به أن الشرع لا يأتي بما يناقض العقول، قد تحتار العقول في بعض القضايا الشرعية؛ لقصورها أو تقصيرها، لكن كون هذه العقول أو هذه الأدلة تتنافى، وتناقض ما جُبل عليه الإنسان من عقل، وما رُكِّب فيه من مناط للتكليف، فإن هذا لا يمكن أن يكون أبدًا.

 وشيخ الإسلام -رحمه الله- ألف كتابًا عظيمًا في هذا الباب اسمه: موافقة صريح المنقول لصحيح المعقول. أو صحيح المنقول لصريح المعقول. المقصود أن هناك توافقًا بين العقل الصريح مع النقل الصحيح، ولا يمكن أن يتناقض هذا مع هذا، وطُبِع بأسماء كثيرة، المقصود أن منها موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول أو درء تعارض العقل والنقل، يعني المنع لتعارض العقل والنقل، وشيخ الإسلام -رحمة الله عليه- أجاد في هذا الكتاب وأفاد، وأنه لا يمكن أن يأتي الشرع بشيءٍ يناقض العقل.

هناك أشياء يمكن أن يُفهم منها شيءٌ بخلاف ذلك مثل قول علي -رضي الله عنه-: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أو كان أسفل الخف أعلى بالمسح من أعلاه، على كل حال أمور يسيرة طفيفة قد تخفى من باب الامتحان للمكلفين، وامتثال طاعتهم لله -جلّ وعلا- هذا قد يحار فيه العقل، لكنه لا يناقض العقل. ما يمكن أن يأتي بمتناقض، يقول: امسح ولا تمسح في آن واحد، ما يمكن، ما يمكن أن يأتي بمناقض للعقل من رفع للنقيضين أو وجود للنقيضين ألبتة، لكن قد يأتي بأحدهما مما لا تناقض فيه، ولا تنافر فيه، إلا أن العقل قد لا يدرك الحكمة. هذا سهل، وهذا موجود في الشرع.

قال: والدليل على ذلك من وجوه: الوجه الأول: أنها لو نافتها لم تكن أدلة، لو نافت العقول ما كانت أدلة، لماذا؟ لأن الأدلة إنما نُصِبَتْ من قِبل الشارع من أجل أن يفهمها ويتصورها؛ ليعمل بها، وما ينافي العقل لا يمكن فهمه ولا تصوره، إذًا هل يمكن العمل به؟ يعني لو ناقضت ما صارت أدلة، كما قال المؤلف؛ لأن الأدلة إنما وُجِدت من أجل أن تُفهَم قبل كل شيء، ثم تُطبق ويُعمَل بها، وما يناقض العقل لا يمكن فهمه، لا يمكن فهمه؛ لأنه يناقض العقل.

قد يقول قائل: إن بعض ما يناقض العقل يمكن فهمه، فالعقل يدرك أن صيانة النفس والدم هو عين الحكمة والعقل، وإهدار الدماء من غير قيد ولا شرط لا يليق بالعقلاء، وإنما قد يليق بالمجانين الذين لا عقول لهم، لكن الإنسان يفهم، لو أُمِر بإراقة الدماء هل نقول: إن هذا الأمر لا يفهمه العقل، إذًا لا يأتي به الشرع؟ أو لم يأت به الشرع، فناقض العقل من هذه الحيثية؟

طالب: الثاني.

الثاني بلا شك، قال في نهاية الكلام: ويستوي في ذلك الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية والمراد بذلك الأحكام الوضعية، الأحكام الوضعية، وعلى الأحكام التكليفية، يستوي في ذلك الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية.

"والثاني: أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفًا بما لا يطلق، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره، بل يتصور خلافه ويصدقه، فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ضرورة، وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق، وهو معنى تكليف ما لا يطاق، وهو باطل حسب ما هو مذكور في الأصول".

يعني لو قيل للإنسان، لو أُمِر الناس أن يصلوا بلا نية، أن يصلوا بلا نية، الواجب أن تصلي الواجب والشرط تصلي بنية؟ لو جاء الشرع بأن شرط أن تصلي بلا نية، ثم تتوضأ وتذهب إلى المسجد وتصف مع الناس تصلي وأنت ما استحضرت نية، ممكن أم غير ممكن؟ ما يمكن؛ لأن هذا لا يأتي به شرع، ولا يأتي به عقل، ولا يمكن تصوره ولا هضمه، ما يمكن أن تذهب إلى إلى طريق وأنت تعرف قصده، وتعرف ماذا تريد من هذا الطريق وأنت لا تقصده، ولذلك قال: إنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفًا بما لا يطاق.

نعم، لو قيل للإنسان: توضأ بلا نية، أو اغتسل بلا نية، أو صل بلا نية لكان هذا من التكليف بما لا يطاق؛ لأنه لا يمكن أن يتصور هذه الصلاة مع عقله إياها وشعوره بها وامتثال النصوص الواردة بالأمر بها إلا مع النية، ولذا لم يرد الشرع بهذه الأعمال إلا بالنية، قد يقول قائل: إن النية لو لم تكن مشروعة في الأصل لتصورنا صلاة بغير نية، نقول: قد نتصور بوضوء بلا نية، لكنه ليس بشرعي، يعني الإنسان تعود أنه إذا دخل الخلاء وخرج منه بعد الاستنجاء وعمد إلى الميضأة وغسل يديه أو غسل يديه بعد الطعام بعض الناس يكمل الوضوء، بلا شعور؛ لأنه تعود هذا، هذا هذا الوضوء يجزئه للصلاة أم ما يجزئه؟

طالب: لا يجزئه.

ما يجزئه، إذًا يتصور وضوء بلا نية هذا الوضوء وضوء عادة، وليس بوضوء عبادة، ولا يتصور وضوء عبادة بلا نية إذ التكليف بهذا النوع من العبادة تكليف بمحال، لا يتصوره عقل، إذًا لا يأتي الشرع بمثله.

طالب:...

اشترطوها؛ لأنها لو لم تُشتَرط لتُصُوِّرت، الأمر الثاني أنها مع اشتراطها قد يُتصور الوضوء بلا نية، تصور صلاة بلا نية، معتاد أنه كل ما توضأ صلى ركعتين؛ لأن العمل العادي والروتيني هذا يقضي على النية في الغالب، ولذلك يرى بعض أهل العلم أنه لا يغاير بين ألفاظ التكبير، لأجل ماذا؟ أن تستحضر النية، لأنها لو غُوير بين ألفاظها، تكبير يُمَدّ وتكبير يُقصَر صارت صلاتهم عادية يتبعون الإمام تبعًا لألفاظه، ظاهر أم لا؟ مع ذلك نقول: إن الذي يعين على تصحيح عبادات الناس هو النية حصلت، حصلت بوقوفه بين يدي الله جل وعلا، وامتثاله لأمره، وصفه خلف الإمام، تمت النية وتم الامتثال ويشترط أيضًا استصحاب الحكم بألا ينوي نقض هذه النية، وإن لم يشترط استصحاب الذكر؛ لأنها لو عزبت عن قلبه بعض الشيء ما ضرّ، هذه هي النية، إذا غايرنا بين الألفاظ وجعلنا تكبيرة الجلوس غير تكبيرة القيام، تكبيرة الركوع غير تكبيرة السجود، هذه صحيح أنها تجعل الإنسان يعمل عملًا روتينيًّا، يتابع هذه الألفاظ، وقد تعزب نيته، لكن أليس في هذا مما يعين على تصحيح صلاة المأموم لا سيّما إذا كان بمنأى عن المأمومين، أو لا يسمع أو لا يبصر، يعني إذا كان لا يبصر الناس، ما يبصرهم، ولا يدري هم ركعوا أم سجدوا، وغايرنا بين الألفاظ من أجل أنه يسجد مثلاً أو يجلس هذا إعانة له على إتمام صلاته، والنية حصلت في أول الأمر.

"الثالث: أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعًا بالاستقراء التام حتى إذا فُقد ارتفع التكليف رأسًا، وعُدَّ فاقده كالبهيمة المهملة، وهذا واضحٌ في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف، فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشدَّ من لزومه على المعتوه والصبي والنائم؛ إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، ولما كان التكليف ساقطًا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطًا عن العقلاء أيضًا، وذلك منافٍ لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلاً".

يعني لو تُصُوِّر التكليف بما لا يقبله العقل، بل يرفضه العقل لكان الصبيان والمجانين ومن في حكمهم أولى بالتكليف من العقلاء، لماذا؟ لأن غير المكلف من صبي ومجنون يرد عليه شيء ليس عنده من العقل ما يناقضه، ليس عنده من العقل ما يناقضه، والمكلف عنده عقلٌ يناقض ما ورد عليه، فالذي ليس عنده من العقل ما يناقضه أولى بالتكليف ممن عنده شيءٌ يناقضه. يعني لو وردت مسألة حكم شرعي، حكم شرعي على اثنين، واحد ذهنه خالٍ بالكلية عن هذا الحكم الشرعي، والثاني يعرف أن هذا الحكم غير صحيح؛ لأن عنده دليلًا يرد هذا الحكم، من الذي يقبل هذا الحكم؟

الأول، الذي ليس عنده من الأدلة لا ما يوافق ولا ما يخالف، ولذا كان العوام في الغالب أقبل للحق من كثير من من أنصاف المتعلمين؛ لأنهم ليس عندهم ما يناقض ما ألقي إليهم، الحكم صادف قلبًا خاليًا فقُبِل، لكن نصف المتعلم هذا يرد الحكم إما لكونه عنده ما ينقضه، ولو لم يكن صريحًا، أو لكونه ما عُرض معه دليله الذي التزم بقبوله مع دليله، وأما الخالي من كل شيء فهذا يقبل.

"والرابع: أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من ردَّ الشريعة، أول من ردَّ الشريعة به؛ لأنهم كانوا في غاية الحرص على ردِّ ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى كانوا يفترون عليه وعليها، فتارةً يقولون: ساحر، وتارةً: مجنون، وتارةً يكذبونه كما يقولون في القرآن سحر وشعر وافتراء، وإنما يعلمه بشر، وأساطير الأولين، بل كان أولى ما يقولون: إن هذا لا يُعقَل أو هو مخالف للعقول أو ما أشبه ذلك".

يعني لو أن الشريعة جاءت بهذا النوع، وهو ما لا يقبله عقل، يعني كما يوجد في الديانات الأخرى، عندهم أشياء لا يقبلها عقل، والمذاهب الغالية من المبتدعة عندهم أشياء لا يقبلها عقل، ولذلك يسهل إبطالها، لو أن هذا النوع موجود في الدين الصحيح الذي جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- فيسمعه الكفار المشركون المعاندون مثل أبي جهل مثلاً، ويتصور أن أبا بكر أجاب دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- ألا يأتي أبو جهل لأبي بكر ويقول: اسمع ما يقول صاحبك، اسمع ما يقول صاحبك، هذا كلام هذا؟ لو كان شيئًا لا يقبله عقل، لو وُجد هذا النوع فيما جاء به هذا الدين لكان أولى ما يستدل به المخالف من المشركين به، ما يقولون ساحر، وهم يعرفون أنه ليس بساحر، ولا يقولون: كذاب وما جُرِّب عليه كذب، يرمونه بأشياء بعيد كل البعد عنها، لرموه بما هو متصفٌ به، يعني جاء بشيء لا يقبله العقل، لو جاء مثلاً بأكل الجمر مثلاً، فهذا لا يقبله عقل، ما يقول المجالس: ما رأيت صاحبك ماذا يقول؟ ما يحتاج أن يقول: ساحر، ولا يقول: كاهن، ولا كذاب، ولا شاعر؛ لأن كل هذه بعيدة كل البعد، إنما لا بد أن يقولوا شيئًا من أجل أن يردوه. يقول صاحبك: كلوا الجمر مثلاً، أو كلوا مثلاً كذا، مما لا يليق بالإنسان، هذا غير مقبول، فلو كان هذا النوع موجودًا فيما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- لكان أولى ما يستدل به الكفار مما استدلوا به في الواقع.

طالب:...

نعم.

مبادرة إلى ارتكاب مثل هذا النوع؛ لأنه شيء لا يُقبل في عقولهم، لكن لما برهن النبي -عليه الصلاة والسلام- على صحته وصدقه، وأبو بكر مؤمن مطمئن الإيمان، وأن هذا قد لا تقبله العقول السذج، لكنه ليس بمستحيل، على ما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- من شيء مما رآه أبو بكر في معجزاته وآياته، ولذلك استغلوها استغلالاً مثل ما أورد المؤلف هنا.

طالب: الكلام ينسحب على المحسوسات دون الغيبيات؟

الغيبيات يعني كون النبي -عليه الصلاة والسلام- يخبر بما وراء ما يدركه الإنسان كالملكوت الأعلى مثلاً وما يحدث في آخر الزمان؟

طالب: نعم.

هذه فرضها التصديق.

طالب: هي لا تنافي العقل من جهة.

لا تنافي، نعم.

طالب: وإن كان لا يتصورها العقل.

مثل ما قلنا سابقًا: إنها لا تأتي بما يناقض العقول، قد تأتي بما يحتار فيه العقل، لكن ما يناقض، لا.

"فلما لم يكن من ذلك شيء دلَّ على أنهم عقلوا ما فيه، وعرفوا جريانه على مقتضى العقول، إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أُخَر حتى كان من أمرهم ما كان، ولم يعترضه أحد بهذا المدَّعى، فكان قاطعًا في نفيه عنه، والخامس: أن الاستقراء دلَّ على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها طائعة أو كارهة، ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام، وهو المعنى بكونها جاريةً على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها ولا مُحَسِّنة فيها، ولا مُقَبِّحَة، وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع وفي وضع الشريعة للإفهام، فإن قيل".

العقول تدرك الحسن وتدرك القبيح، والمراد بها العقول الباقية على الفطرة، لا العقول التي اجتالتها الشياطين وحرفتها عن فطرتها، وليست العقول المدركة قائدة بل مقودة، ومزمومة بزمام الشرع، فهي تابعة للنصّ، وليس النصُّ تابعًا لها كما يقول المعتزلة، وليست ملغاة بالكلية، كما يقوله الأشعرية.

"فإن قيل: هذه دعوى عريضة يصدّ عن القول بها غير ما وجه، أحدها: أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلاً كفواتح السور فإن الناس قالوا إن في القرآن ما يعرفه الجمهور، وفيه ما لا يعرفه إلا العرب، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة، وفيه ما لا يعلمه إلا الله، فأين جريان هذا القسم على مقتضى العقول؟".

نقول: كل هذا مما لا يكلف المسلم به، عمليًّا، أما أن يعتقد أنه من عند الله ويرضى ويسلم فهذا فرض، لكن ليس مما يتضمن الحكم العملي الذي يجب العمل به، ولو تضمن حكمًا عمليًّا لوجب بيانه.

"والثاني: أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، أو لا يعلمها إلا الله تعالى، كالمتشابهات الفروعية وكالمتشابهات الأصولية، ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول، فلا تفهمها أصلاً، أو لا يفهمها إلا القليل، والمعظم مصدودون عن فهمها، فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول؟".

نقول: هذا التشابه أيضًا نسبي، قد يكون متشابهًا بالنسبة لبعض الناس دون بعض، نعم قد يكون متشابهًا لعموم الناس أو لجُلِّ الناس وغالب الناس، لكن لا بد من أن يعرفه الراسخون في العلم، ولو قُدِّر أنه من النوع الذي لا يعرفه إلا الله فإن هذا لا يلزم المكلف به أكثر من الإيمان به؛ لأن الراسخين يقولون: آمنا به كلٌّ من عند ربنا، ما نفهمه وما لا نفهمه، فمن الشرع من الأدلة الشرعية ما ينزل ما هو واضح مبين مُفسَّر العمل به، وهذا يدركه كل أحد، ومنها ما هو مما يحتاج إلى بيان، ويُبيَّن في موضع آخر، كذلك يجب العمل به، ويلزم بيانه في الموضع الآخر، ومنها ما يستمر تشابهه على بعض الناس فمثل هذا عليهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا وأن يسلموا.

"والثالث: أن فيها أشياءً اختلفت على العقل حتى تفرق الناس بها فرقًا، وتحزبوا أحزابًا، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، فقالوا فيها أقوالاً كلٌّ على مقدار عقله ودينه، فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث قول الله تعالى: فعلنا".

فعلنا؛ لأن هذا ضمير جمع، وأقل الجمع ثلاثة، فعلنا، قضينا خلقنا، إنا أنزلناه، أقل الجمع ثلاثة، فقالوا بالتثليث، وهذا القول لا شك أنه باطل؛ لأن ضمير الجمع كما يأتي للجمع يأتي للواحد المعظم فعله أو للواحد المؤكد لفعله، في صحيح البخاري: والعربُ تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع، والعرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع، وذكره البخاري في تفسير إنا أنزلناه.

"فعلنا وقضينا وخلقنا، ثم من بعدهم من أهل الانتماء للإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف، ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزل به العقل كما هو الواقع، فلو كانت الأدلة جارية على تعلقات العقول لما وقع في الاعتياد هذا الاختلاف، فلما وقع فُهم أنه من جهة ما له من جهة ما له خروجٌ عن المعقول ولو بوجهٍ ما، فالجواب عن الأول وأن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال بناءً على أنه مما يعلمه العلماء".

ولذلك ذُكر لها أكثر من تأويل مع أن الراجح فيها أن يقال: الله أعلم بمراده بها؛ لأن هذه التأويلات لا يسندها دليل، لا يسندها دليل، فتحتاج إلى نصٍّ ملزم وإلا تبقى على اشتباهها.

"وإن قلنا: إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة، فليس مما يتعلق به تكليفٌ على حال، فإذا خرج عن ذلك خرج عن كونه دليلاً على شيء من الأعمال فليس مما نحن فيه، وإن سُلِّم فالقسم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر، والنادر لا حكم له، ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضًا؛ لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه، وليس كلامنا فيه، إنما الكلام على ما يؤدي مفهومًا، لكن على خلاف المعقول، وفواتح السور خارجةٌ عن ذلك؛ لأنا نقطع أنها لو بينت لنا أو بُينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول، وهو المطلوب.

 وعن الثاني: أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول، وإن توهم بعض الناس فيها ذلك؛ لأن من توهم فيها ذلك فبناءً على اتباع هواه، كما نصت عليه الآية قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[آل عمران:7] لا أنه بناء على أمر صحيح، فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف، وإن فُرِض أنها مما لا يعلمها أحدٌ إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي لا لمخالفته لها، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة، فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعانٍ كثيرة، ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف، وكذلك الأعجمي الطبع، الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهلٌ به، ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول، وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع، فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا، فإن القرآن والسنة لمّا كانا عربيين لم يكن ليَنظَر فيهما إلا عربي، كما أن من لم يعرف مقاصدهما".

لم ينظر فيهما إلا عربي، يعني بالأصل أو بالتعلم تعلم العربية، لئلا يقال: إن أكثر من ألّف وصنّف وبرع في العربية من غير العرب، هؤلاء تعلموا العربية وأدركوا منها ما أدركه العرب، بل فاق كثيرٌ منهم كثيرًا من العرب.

"كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له نظرٌ حتى يكون عالمًا بهما فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة، ولذلك مثالٌ يتبين به المقصود، وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافات:27]، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]".

في الآية الأولى نفى التساؤل، وفي الثانية أثبت.

"{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23] فقد كتموا في هذه الآية، وقال: {السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}[النازعات27 :28].

فسواها.

وقال: {السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}[النازعات27 :28] إلى قوله:"مكرر هنا يا شيخ.

لا لا، {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}[النازعات:30].

طالب: بناها رفع سمكها رفع سمكها، خطأ.

نعم، غلط.

"إلى قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}[النازعات:30]، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9] إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[فصلت:11] الآية، فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء، وقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفتح:14]، {عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:19]}، {سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:134] فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس".

يعني استعمالاً للفعل الماضي على أصله، استعمالاً للفعل الماضي على أصله، ومرّ بنا مرارًا أن الماضي يستعمل على أصله فيما مضى من الزمان، ويستعمل في المستقبل بمعنى إرادة الفعل، ويستعمل بمعنى الشروع فيه.

"فقال ابن عباس: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101]، في النفخة الأولى ينفخ في الصور، فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة  {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافات:27]، وأما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]، "{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون تعالوا نقول: ما كنا مشركين، فختم على أفواههم فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عُرِف أن الله لا يُكتم حديثًا، وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض أي أخرج الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين، فخُلِقَت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخُلِقَت السماوات في يومين، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفتح:14] سمى نفسه وذلك قوله: أني لم أزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئًا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلاًّ من عند الله. هذا تمام ما قال في الجواب، وهو يبين أن جميع ذلك معقول، إذا نزل منزلة".

نُزِّلَ.

"إذا نُزِّلَ منزلته، وأُتي من بابه، وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون، وما أشكل على الطالبين، وما وقف فيه الراسخون، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كافٍ، والحمد لله، وقد ألّف الناس في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسُّنَّة كثيرًا، فمن تشوف إلى البسط ومد الباع وشفاء الغليل طلبه في مظانه".

فماذا بالنسبة لما يتعلق بمسائل نافع بن الأزرق وابن عباس في الآيات المُشكِلة، وأُلِّف في مشكل القرآن مؤلفات كثيرة، وفي مشكل السُّنَّة أيضًا مؤلفات في مشكل الحديث فيه كتب مختلف الحديث واختلاف الحديث، وتأويل مختلف الحديث، كل هذا فيما يظن فيه التعارض، وكان إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة من أعرف الناس في التوفيق بين النصوص، حتى قال: إني لا أعرف حديثين صحيحين متناقضين، ومن كان عنده شيء من ذلك فليأتني لأؤلف بينهما، كافٍ.