شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1425 هـ) - 07

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، وبالتحديد في كتاب الصوم، يسرنا مع بداية حلقتنا أن نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لا زلنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في باب الريان للصائمين، كنا في الحلقة الماضية توقفنا عند قوله -رضي الله عنه- في سياق الحديث: ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، أعني: أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، قال: فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نعم، وأرجو أن تكون منهم».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبق الحديث عن توجيه أهل العلم لقول أبي بكر: ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، وسؤال أبي بكر: فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ انتهينا من هذا، فجاء الجواب النبوي من النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «نعم»، يعني أن من هذه الأمة من يُدعى من الأبواب كلها.

المقدم: لكنه يدخل من باب واحد، يختاره؟

يختار، لكن دعاءه من الأبواب كلها إنما هو على سبيل الإكرام، يعني كون الشخص يُرحب به ويدعى وينادى من كل وجه، ليس مثل الشخص الذي لا ينادى إلا من وجه واحد؟

المقدم: لكن اختياره -أحسن الله إليك- للباب في الغالب يكون أيضًا من باب التكريم أنه ما يختار إلا ما يكون الأنسب له يوم القيامة إذا دعي من هذه الأبواب؟

هو إذا خُيِّر واختار ما يشاء منها، هذا تكريم بلا شك.

قال: «نعم».

قال الكرماني: معناه أنه يُدعى من كل باب، إكرامًا وتخييرًا له في الدخول من أيها شاء، أو من أيها أراد؛ لاستحالة الدخول من الكل معًا، ونقله عن ابن بطال، ثم قال: أقول: ويحتمل أن تكون الجنة كالقلعة التي لها أسوار محيطة بها، أو محيط بعضها ببعض، وعلى كل سور باب، فمنهم من يدعى من الباب الأول فقط، ومنهم من يتجاوز عنه إلى الباب الثاني، وهلم جرا.

تشبيه وتمثيل، تقريب يعني، تقريب.

المقدم: بحيث إن الباب الأخير هو أفضل الأبواب على هذا التقدير؟

إنه ما يلزم.

المقدم: يعني لن يدخله إلا الأفضل؛ لأنه فيه ناس يقفون دون الباب الثاني، وناس دون الباب الثالث، على مفهومه إذا كان.

لا، لا، قد لا ينادى من الباب الأول، ولا ينادى من الباب الثاني، يُنادى من الباب الثالث.

المقدم: كيف سيدخل يا شيخ؟

شخص يدخل مع الباب الذي يُنادى منه.

المقدم: لكن هو شبهها بالقلعة التي أبوابها متفاوتة، يعني بعضها وراء بعض، فإذا دخل من الباب الأول، ما ينادى من الباب الثاني، فيقف في هذا الجزء، يكون إكرامه بالجنة في هذا الجزء.

نعم، لكن هل تتصور أن الأبواب داخل بعضها في بعض أو أنها على السور؟

المقدم: هو كذا كلامه، ما دام شبهها بالقلعة، فإنها أسوار وراء بعض، ويبدو تشبيهها بهذه الصورة يا شيخ.

أنا ما يظهر لي هذا، لكن على كل حال؛ هذا مجرد تشبيه، وحقيقة يعني تشبيه أمور الآخرة التي جاء تعظيمها بالنصوص بالأمور المحسوسة يهوِّن من شأنها، يهون من شأنها، ولذا أحيانًا تجد بعض الناس يأتي بلوحات توضيحية أو رسوم أو وسائل إيضاح يرسم فيها الجنة والنار والصراط والميزان، وبعض الناس يأتي برسوم ولوحات توضيحية يوضح فيها الأمور الغيبية التي جاء تهويلها في النصوص.

المقدم: مثل مشاهد القيامة مثلًا؟

نعم، يرسم مشاهد القيامة.

المقدم: الميزان؟

نعم، والصراط، والقنطرة.

المقدم: وتطاير الكتب؟

نعم، هذا لا شك أنه خطأ؛ لأن هذا يهون من شأنها، يهون من شأنها، وسياقها في نصوص الكتاب والسنة في غاية الهيبة، قد يستدلون بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- خط خطوطًا، وجعل خطًّا يمينًا وخطًّا يسارًا.

المقدم: للتوضيح.

لكن هذا غير، هذا يختلف؛ لأن هذه أمور محسوسة.

المقدم: الذين ألفوا في المسيح الدجال مثلًا تجد غلاف كتب أغلب من ألف صورة شخص بشع الوجه وأعور، عينه طافية، فيصورونه هكذا في الغلاف أيضًا.

أنا عندي هذا أسهل، عندي هذا أسهل، مع أن تصوير ذوات الأرواح محرم، لكن الأمور الغيبية التي جاء تعظيم شأنها في النصوص لا ينبغي أن يُتعرض لها؛ لأن المسيح الدجال متصوَّر وأنه يعني رجل، لكن أمور القيامة لا يمكن تصورها؛ كما قال ابن عباس: ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء.

مداخلة: بالنسبة للمسلسلات والأفلام -بغض النظر عن قضية تحريم التمثيل- الذي يمثلون الصحابة، ويمثلون واحدً يقوم من هؤلاء الفساق، يمثل دور أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- مثلًا، يمثل دور عمر.

المقدم: يسأل عن تمثيل يعني أدوار الصحابة -رضي الله عنهم-، وتطور الأمر إلى تمثيل الأنبياء، يعني خروج أفلام عن عيسى -عليه السلام-.

لا، هذا أفتى أهل العلم، أفتى أهل العلم بتحريمه؛ لأن هذا امتهان، امتهان، فضلًا عن كونه تصوير ذوات أرواح، لكن يزيد على ذلك أنه امتهان.

نقل القسطلاني عن شرح المشكاة قوله: لما خُص كل باب بمن أكثر نوعًا من العبادة، سمع الصديق -رضي الله تعالى عنه- ذلك، فرغب في أن يُدعى من كل باب، وقال: ليس على من دعي من تلك الأبواب ضرر، بل شرف وإكرام، ثم سأل فقال: فهل يدعى أحد من تلك الأبواب؟ يختص بهذه الكرامة كلها، قال -عليه الصلاة والسلام-: «نعم» يُدعى منها كلها على سبيل التخيير في الدخول من أيها شاء، «وأرجو أن تكون منهم»، الرجاء منه -عليه الصلاة والسلام- واجب، ففيه أن الصديق من أهل هذه الأعمال كلها. قاله القسطلاني.

وفي عمدة القاري: فيه أن أعمال البر لا تُفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها -يعني غالبًا، يعني لو فتح على حسب ما يراه الناس أن هذا باذل عابد في النفع العام والخاص، في الصلاة والصيام والزكاة، وضارب بجميع أبواب البر والإحسان، لكن لا بد أن تجد عليه شيئًا هو أغلب من غيره وأظهر، يعني كما قيل مثلًا في ابن المبارك، يعني إمام في العلم، إمام في العبادة والزهد، إمام في البذل والإحسان، إمام في الجهاد، يعني ضارب من أبواب الخير بأسهم وافرة في كل باب، لكن في الأغلب مثلًا- يقول: فيه أن أعمال البر لا تُفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وهذا مدرك في حياة الناس، تجد إنسانًا عنده ميل إلى الصلاة، وتجد إنسانًا ميله إلى التلاوة، وإنسانًا ميله إلى الصيام، وآخر ميله إلى البذل، وأن من فُتح له في شيء منها حُرم غيرها في الأغلب.

المقدم: في الأغلب؟

في الأغلب، نعم، وأنه قد يفتح في جميعها للقليل من الناس، وأن الصديق -رضي الله تعالى عنه- منهم.

قال النووي: فيه جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يُخَف عليه فتنة بإعجاب وغيره؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام-

المقدم: أثنى على أبي بكر.

أثنى على أبي بكر.

المقدم: «أرجو أن تكون منهم».

لأنه قال: «أرجو أن تكون منهم»، فهذا ثناء في الوجه، وأبو بكر لا يُخشى عليه الإعجاب، وجاء في النصوص ما يدل على هذا، فحصل الثناء على بعض الصحابة في الوجه، وجاء أيضًا النهي عن ذلك، فالنهي محمول على من يتأثر بالثناء والمدح، فيغتر بعمله أو يصاب بشيء من العجب أو الكبر أو ازدراء الناس، لكن من لا يتأثر بذلك فلا مانع، وقد جاءت به النصوص.

الحديث خرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع:

الأول: هنا في كتاب الصيام، باب الريان للصائمين.

يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني معن قال: حدثني مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة» الحديث.

سبق ذكر المناسبة.

والثاني: في كتاب الجهاد، في باب فضل النفقة في سبيل الله.

قال: حدثني سعد بن حفص قال: حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة أنه سمع أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب، أي فل هلم» مختصرًا: «أي فل»، أي، أي أداة نداء مثل يا، وفلُ أو فلَ: منادى، منادى أيش؟

المقدم: فلان.

منادى ماذا يسمونه إذا حُذف آخره؟ ترخيم، مرخم.

ترخيمًا احذف آخِرَ المنادى

 

كيا سعا فيمن دعا سعادا

 وفلُ أو فلَ؟

المقدم: فلَ، فلان يعني.

هناك لغة يقولون: لغة من ينتظر، ولغة من لا ينتظر، إذا قيل: فلُ، هذه لغة إيش؟

المقدم: من لا ينتظر.

من لا ينتظر، جعله اسمًا كاملاً وبناه على الضم وانتهى، كأنه ما فيه شيء محذوف، لغة من لا ينتظر.

لكن لغة من ينتظر الحرف المحذوف أو الحرفين، الحروف المحذوفة، يبقيه كما هو، مثل: يا عائش، يا عائشة، أصلها: يا عائشة، يا عائشةُ، هذا الأصل، لما حذف آخرها قيل: يا عائشُ على لغة من لا ينتظر، ولو قيل: يا عائشَ، لغة من ينتظر.

«هلم»، يعني تعال، والمناسبة ظاهرة على حمل سبيل الله على الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، والكتاب كتاب..

المقدم: الجهاد.

الجهاد، «من أنفق زوجين في سبيل الله» يعني في الجهاد، ومثل هذا ما تقدم من حديث: «من صام يومًا في سبيل الله»، أدخله البخاري في الجهاد، فدل على أنه يحمل «سبيل الله» على الجهاد.

والثالث: في كتاب بدء الخلق، في باب ذكر الملائكة.

قال: حدثنا آدم قال: حدثنا شيبان قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة أي فل هلم» الحديث مختصرًا بلفظ ما سبق -الموضع الثاني-.

المناسبة.

المقدم: دعته خزنة الجنة.

خزنة جهنم، والخزنة من؟

المقدم: خزنة الجنة.

خزنة الجنة، نعم، خزنة الجنة ممن؟

المقدم: من الملائكة.

من الملائكة؛ لأن الباب باب ذكر الملائكة.

والموضع الرابع: في كتاب فضائل الصحابة.

المقدم: والكتاب للباب واضح، بدء الخلق للملائكة؟

بلا شك، نعم؛ لأنهم نوع من الخلق.

والموضع الرابع: في كتاب فضائل الصحابة، في باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذًا خليلًا» قاله أبو سعيد.

يقول: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب -يعني الجنة-» الحديث، وذكر قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي بكر: «وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر».

الترجمة باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذًا خليلًا»، وهو مرادف لباب فضل أبي بكر الصديق، فضل أبي بكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو من باب فضائل أبي بكر؛ لأن من فضائله قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر»، فهذا من فضائله، والحديث فيه: «أرجو أن تكون منهم»، فهي أيضًا من مناقب أبي بكر وفضائله.

والحديث مخرج في صحيح مسلم، فهو متفق عليه.

المقدم: شيخ -أحسن الله إليكم- ربما يرد الآن يعني البخاري -رحمه الله - يخرج بعض الأحاديث في مواضع كثيرة جدًّا، هنا نلحظ أنه ما خرجها إلا في الأربعة مواضع، ربما يتساءل البعض يعني لماذا لم يخرجها مثلًا في أبواب أخرى مثل باب الصدقة، ما جاء في الصدقات، وباب صفة الجنة مثلًا، مع أن علاقتها وثيقة بخلاف بعض الأحاديث التي تجد علاقتها بالباب أو بالكتاب ضعيفة جدًّا؟

البخاري -رحمه الله تعالى- دقيق المآخذ، فتجده أحيانًا يترك الشيء الواضح، الشيء الواضح يتركه، يتركه؛ لأن السامع يفهم على أن هذا فيه دليل على فضل الصدقة، بينما الأمور الدقيقة التي لا يدركها أوساط الناس، ينبه عليها ويترجم ويستنبط من الأحاديث هذه الدقائق ويترجم بها عليها، ومر بنا أمور، أمور مذهلة.

المقدم: قال المصنف -رحمه الله-: وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة»، وفي رواية عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب السماء، وغُلِّقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين».

راوي هذا الحديث هو أيضًا أبو هريرة، راوي الحديث السابق، ولذا جرى المختصر على الجادة في الكناية عنه بضميره، طريقة المختصرين: وعنه.

الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب هل يقال رمضان؟ هل يقال، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعًا.

يعني الأمر فيه سعة، إن قلت: رمضان أو شهر رمضان، الأمر فيه سعة، لكن جاء به البخاري على سبيل الاستفهام، هل يقال: رمضان أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان»، وقال: «لا تقدَّموا رمضان».

أشار البخاري بهذه الترجمة، باب هل يقال رمضان؟ -كما قال الحافظ ابن حجر- إلى حديث ضعيف رواه أبو معشر نجيح المدني عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا: «لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان»، أخرجه ابن عدي في الكامل، وضعَّفه بأبي معشر.

وتعقَّبه العيني بقوله: من أين أن البخاري اطلع على هذا الحديث أو وقف عليه حتى يرده بهذه الترجمة؟ من أين أن البخاري اطلع على هذا الحديث أو وقف عليه حتى يرده بهذه الترجمة؟

فأقول أنا إجابة عنه، أقول: سعة اطلاع الإمام البخاري لا يماري فيها أحد، ولولا ذلك لما كان لهذه الترجمة كبير فائدة، يعني حينما يترجم البخاري -رحمه الله تعالى- بباب قول الرجل: ما صلينا، نحتاج إلى أن يترجم لنا البخاري بباب ما صلينا؟ ويأتي بحديث مخرج في كتابه على شرطه، وفيه قول عمر: ما صليت العصر، قال: وأنا والله ما صليتها؟

المقدم: أكيد يرد أنه على أحد.

يرد على قوم يكرهون هذا الكلام، ويوجد من أهل العلم من يكره من يقول: رمضان، والعيني يقول: من أين أن البخاري اطلع على هذا الحديث أو وقف عليه حتى يرده بهذه الترجمة؟

والجواب عنه: لا يوجد في، لا في كتاب ابن حجر انتقاض الاعتراض، ولا في المبتكرات، لكن أقول: سعة اطلاع الإمام البخاري لا يماري فيها أحد، اطلع على هذا الحديث، الذي يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ويحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يخفى عليه مثل هذا؟ لا يماري فيه أحد، ولولا ذلك لما كان لهذه الترجمة كبير فائدة، وعلى كل حال؛ نحن نرد من يستدل بالحديث الضعيف بكلام البخاري، ولو لم يستدل البخاري نفسه، ولذلك أحيانًا تجد قول بعض أهل العلم، وما يختار حكم كذا كذا، ثم تبحث عنه لا يذكر دليله هو، أنت تستدل له إذا وجدت دليلًا، نقول: الإمام اختار هذا القول؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- كذا، ما المانع؟ ولا يلزم أن يكون الإمام اطلع على هذا الحديث أو اطلع على غيره.

قال البيهقي: قد رُوي عن أبي معشر عن محمد بن كعب، وهو أشبه، عن محمد بن كعب القرظي، وهو يروي الإسرائيليات، ولعل هذا منها.

المقدم: يعني قصده أنه موقوف؟

موقوف عليه، ولعله متلقى من أهل الكتاب.

وهو أشبه، ورُوي عن مجاهد والحسن من طريقين ضعيفين، وقد احتج البخاري لجواز ذلك بعدة أحاديث «من صام رمضان»، «لا تقدموا رمضان»، «إذا جاء رمضان»، استدل بها على الجواز-، وقد ترجم النسائي لذلك أيضًا، فقال: باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان، ثم أورد حديث أبي بكر مرفوعًا: «لا يقولن أحدكم صمت رمضان ولا قمته كله»، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «عمرة في رمضان تعدل حجة»، وقد يُتمسك للتقييد بالشهر بورود القرآن به، حيث قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]، مع احتمال أن يكون حذف لفظ شهر من الأحاديث -يعني التي استدل بها البخاري-.

المقدم: من تصرف الرواة.

احتمال أن يكون من تصرف الرواة؛ لأن الرواية بالمعنى جائزة، وكأن هذا هو السر في عدم جزم المصنف بالحكم؛ لأن البخاري قال: باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعًا، لم يجزم؛ لأن هذه النصوص التي أوردها محتجًّا بها احتمال أن تكون من تصرف الرواة.

ونُقل عن أصحاب مالك الكراهية، ونقل عن ابن الباقلاني منهم وكثير من الشافعية: إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يكره، والجمهور على الجواز، الجمهور على الجواز.

وفي شرح ابن بطال: قال ابن النحاس: كان عطاء ومجاهد يكرهان أن يقال: رمضان، قال: وإنما نقول ما قال الله -تعالى-: { شَهْرُ رَمَضَانَ } [البقرة: 185]، فإنه؛ لأنا لا ندري لعل رمضان اسم من أسماء الله، قال: وهذا قول ضعيف؛ لأنا وجدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: رمضان، بغير شهر...

وفي شرح ابن بطال: قال ابن النحاس: وكان عطاء ومجاهد يكرهان أن يقال: رمضان، قالا: وإنما نقول ما قال الله -تعالى-: { شَهْرُ رَمَضَانَ } [البقرة: 185]؛ لأنا لا ندري لعل رمضان اسم من أسماء الله، قال: وهذا قول ضعيف؛ لأنا وجدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: رمضان، بغير شهر، فقال: «من صام رمضان»، و«تقدم رمضان»، والأحاديث كثيرة في ذلك.

قوله: «إذا جاء رمضان».

ذكره البخاري قبل ذلك مختصرًا بلفظ: «إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة»، «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة»، دون بقيته.

قال ابن حجر: والظاهر -يعني اقتصر على الجملة الأولى في السياق الأول-، والظاهر أن البخاري جمع المتن بإسنادين -يعني إسناد الأول: حدثنا قتيبة: حدثنا إسماعيل، والإسناد الثاني: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثني الليث عن عقيل-، والظاهر أن البخاري جمع المتن بإسنادين، وذكر موضع المغايرة، وهو «أبواب الجنة، فتحت أبواب الجنة»، والموضع الثاني: «فتحت أبواب السماء»، وفي رواية إسماعيل بن جعفر: «أبواب السماء».

«فُتِّحت» أو «فُتِحت».

يقول العيني: بتشديد التاء وتخفيفها، والمراد من فتح أبواب الجنة حقيقة الفتح، وذهب بعضهم إلى أن المراد بفتح أبواب الجنة كثرة الطاعات في شهر رمضان، فإنها موصلة إلى الجنة، فكني بها عن ذلك، ويقال: المراد به ما فتح الله على العباد فيه من الأعمال المستوجبة بها إلى الجنة من الصيام والصلاة والتلاوة، وأن الطريق إلى الجنة في رمضان سهل، والأعمال فيه أسرع إلى القبول.

وفي شرح ابن بطال: وأبواب السماء في هذا الحديث يراد بها أبواب الجنة، بدليل قوله في الحديث: «وغلقت أبواب جهنم» يعني من باب تمام المقابلة بين الجنة والنار، يقول: وهذا حجة في أن الجنة في السماء، وتأول العلماء في قوله: «فتحت أبواب الجنة، وسلسلت الشياطين» معنيين، أحدهما: أنهم يسلسلون على الحقيقة، فيقل أذاهم ووسوستهم، ولا يكون ذلك منهم كما هو في غير رمضان، وفتح أبواب الجنة على ظاهر الحديث، والثاني: على المجاز، ويكون المعنى في فتح أبواب الجنة فتح الله على العباد فيه من الأعمال المستوجَب بها الجنة من الصلاة والصيام وتلاوة القرآن، وأن الطريق إلى الجنة في رمضان أسهل، والأعمال فيه أسرع إلى القبول.

يعني يكون الفتح حقيقيًّا على التأويل الأول، ويكون معنويًّا على التأويل الثاني أنه مجازي.

المقدم: سواء كان الجنة أو السماء؟ أو هذا مختص بالجنة؟

كيف؟

المقدم: أبواب الجنة وأبواب السماء نفسها؟

كلها، حتى سلسلة الشياطين.

المقدم: وتغليق أبواب جهنم؟

نعم.

يقول: وكذلك أبواب النار تغلق بما قطع عنهم من المعاصي وترك الأعمال المستوجَب بها النار، ولقلة ما يؤاخذ الله العباد بأعمالهم السيئة، يستنقذ منها ببركة الشهر أقوامًا، ويهب المسيء للمحسن، ويتجاوز عن السيئات، فهذا معنى الغلق -وهذا على أساس أن الغلق معنوي-، وكذلك قوله: «سلسلت الشياطين» يعني أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب عن المعاصي والميل إلى وسوسة الشياطين وغرورهم، ذكره الداودي والمهلب، واحتج المهلب لقول من جعل المعنى على الحقيقة، فقال: ويدل على ذلك ما يذكر من تغليل الشياطين ومردتهم بدخول أهل المعاصي كلها في رمضان في طاعة الله، والتعفف عما كانوا عليه من الشهوات، وذلك دليل بيِّن.

هذا يستدل به على أن السلسلة حقيقية، بمعنى أنهم لا يصلون إلى ما كانوا عليه؛ بسبب هذه القيود وهذه الأغلال وهذه السلاسل.

المقدم: أحسن الله إليك، هناك بعض المسائل فضيلة الدكتور إن أذنت لنا فيما يتعلق بهذه القضايا التي تفضلتم بها، مسألة تفتيح أبواب السماء وأبواب الجنة، وإغلاق أبواب جهنم، وسلسلة الشياطين، وأيضًا صُفدت الشياطين في بعض الألفاظ، يعني مسائل كثيرة، أستأذنك فضيلة الدكتور في أن نعد المستمع الكريم- بإذن الله تعالى- أن نناقشها في الحلقة القادمة، وأيضًا بعض المسائل المتعلقة بهذا الحديث من باب أن يتابعنا المستمع الكريم -بإذن الله-.

 أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، من برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، كان معنا فضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، نستكمل -بإذن الله تعالى- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وما فيه من مسائل في حلقة قادمة، وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.