التعليق على الموافقات (1428) - 03

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة الخامسة: تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره، لكنه شاقٌّ عليه، فهذا موضعه، فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق؛ ولذلك ثبت في الشرائع الأُول التكليف بالمشاق، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يُطاق.

وأيضًا فإن التكليف بما لا يُطاق قد منعه جماعةٌ عقلاء، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أصل التكليف إلزام ما فيه كُلفة ومشقة، هذا الأصل فيه، والجنة حُفت بالمكاره، والمكاره لا شك أن إتيانها يشق على النفوس، ومن ذلكم «إسباع الوضوء على المكاره» الغُسل والخروج إلى الصلاة في الليالي الشاتية لا شك أنه مما يشق على النفس، صيام الهواجر يشق على النفس.

فالإلزام بما فيه مشقة حاصل، لكن الإلزام بما لا يُطاق، وما لا يدخل تحت مقدور المكلف فهذا لا يُكلف به، فلا يُطلب من المُقعد أن يُصلي قائمًا؛ ولذا جاء في الحديث الصحيح: «صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا»، فالتكاليف كلها مشروطة بالاستطاعة.

 أما إلزام ما فيه كلفة ومشقة فهذا حاصل {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7].

الصيام في أيام الصيف لا شك أنه في غاية المشقة، لكن مع ذلك التكليف به حاصل، والأجور على قدر هذه المشقة إذا تطلبتها العبادة، «أجركِ على قدر نصبكِ»، لكن لا تُطلب المشقة إلا من أجل تحصيل العبادة؛ ولذا لا يقول إنسان: أنا أذهب إلى المسجد الأبعد؛ لأنه أكثر مشقة؛ ليكون أعظم الأجر، لا، المشقة لا تُطلب لذاتها، لكن إذا جاءت تبعًا لعبادة فإنه يُؤجر عليها.

"التكليف بما لا يُطاق منعه جماعة" هو الأصل أنه ممنوع "بما لا يُطاق" لا يُقدر عليه.

لله أن يُكلف خلقه بما شاء، لكن رحمته وعدله لم يحصل شيءٌ من ذلك، يقول: أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم على منعه، وأما المعتزلة....

"وأما المعتزلة، فذلك أصلهم، بخلاف التكليف بما يشق".

"فذلك أصلهم" لأنهم من مذهبهم وجوب رعاية الأصلح على الله –جلَّ وعلا-، فضلاً عن أن يُكلفهم بما لا يُطيقون، من لازم مذهبهم إيجاب الأصلح على الله –جلَّ وعلا تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا- ألا يُكلِّف بما لا يُطاق، نعم قد يُكلف حتى عند المعتزلة بالمشاق، ويكون هذا هو الأصلح للمكلف؛ ولذلك كلَّف الله به على مذهبهم؛ لأن من مذهبهم وجوب رعاية الأصلح على الله –جلَّ وعلا-، وهذا لا يقول به غيرهم، والله –جلَّ وعلا- ألزم نفسه، وجعل عليه حقوقًا { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} [الروم:47].

وأيضًا حرَّم الظلم على نفسه، كل هذا من فضله –جلَّ وعلا-، ورحمته بعباده؛ لا لأن أحدًا ألزمه بشيءٍ من ذلك.

"فإذا كان كذلك، فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة.

ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى (المشقة)، وهي في أصل اللغة من قولك: شق علي الشيء يشقُّ شقًّا ومشقة إذا أتعبك، ومنه قوله تعالى: {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]".

والمشقة نسبية قد يشق على زيد ما لا يشق على عمرو، والعكس، وتجد بعض الناس يترك بعض العبادات -يعني غير الواجبة-؛ لأن فيها نوع كلفة ومشقة عليه، ويرتاح لعباداتٍ أخرى؛ لأن نفسه تميل إليها، يشق عليه أن يقوم فيؤدي ركعتين، يُصلي ركعتين نافلة، لكن عنده استعداد أن يصوم، عنده استعداد أن يُنفق، عنده استعداد أن يقرأ الساعات من كتاب الله– جلَّ وعلا- فإذا جاءته سجدة التلاوة شقَّت عليه.

هذا موجود في واقع الناس، ويوجد العكس، من الناس من فُتح له باب في الصلاة، وسهُلت عليه، وشق عليه غيرها.

فإذا نظرت إلى حال الناس تجد التفاوت والبون الشاسع بينهم كبيرًا، شخص يحج حجًّا لا مشقة فيه بالنسبة لعادي الناس تجده يحج وهو مرتاح، ومع ذلك يتصور المشقة فلا يحج، يعني تهيأ له جميع الأسباب فلا يحج؛ لأن أصل الحج فيه مشقة، ويتوقع في أي يوم من الأيام أن يرد عليه شيء من هذه المشقة.

وبعض الناس يخدم الحجيج من خمسة عشر ذي القعدة إلى مثله من شهر ذي الحجة شهرًا كاملًا يخدم الحجيج، ويحملهم في سيارته، ويحمل أمتعتهم في هذا الزحام، وفي النهاية يحصل على خمسة آلاف مثلاً.

والآخر تجده يذهب إلى الدعوة مثلاً، ويُعطى أضعاف ما يأخذه هذا، ومُكرَّم في مكانٍ بارد وعلى كرسيٍّ وثير، وإذا ألقى له كلمة أو كلمتين في اليوم هذا خلاص، هذا يقول: هذا شاق، وذاك يقول: ليس بشاق {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].

يعني ركبنا مع صاحب سيارة يقول: أنا مدة شهر أخدم الحجيج، أنقلهم من مشعر إلى مشعر، وأجلس في الطلب الواحد خمس ساعات، ست ساعات، أحيانًا عشر ساعات، وسيارته بدون مُكيف المسكين، ثم في النهاية يصدم بالسيارة، وكل ما جمعه يُصلح به السيارة.

وبعض الناس تقول له: تذهب تنفع الناس هناك مُكرَّم مُعزز مُحترم، ولا عليك كَلفة ولا مشقة، وكل شيءٍ مُهيئ، يقول: والله الحج متعب.

فضلاً عما يتذرع به بعض الناس من تأخير حج الفريضة؛ من أجل أن تسليم البحث مثلاً في أول الدراسة بعد الحج، الحج يجب على الفور ركن من أركان الإسلام، وواحد يقول: لا والله السنة ربيع، خليه بسنةٍ ثانية.

أمور تعتري الناس في طريقهم إلى الله –جلَّ علا- أمور بعض الأشياء لا اعتبار لها ولا قيمة لها، فيتذرع بمثل هذه الأمور، ومفارقة مثل هذه الأمور من أشق الأشياء على نفسه.

فالمشقات أمور نسبية، بعض الناس إذا قيل له: احمل كذا، حمله وهو يضحك، وإذا قيل له: ارفع هذا الكتاب، أثقل عليه من جبل.

فلا شك أن هذه أمور نسبية بعض الناس يشق عليهم الصلاة، وبعضهم يشق عليه الصيام، وبعضهم يشق عليه الجلوس في المسجد الرباط «فذلكم الرباط» وهكذا.

لكن على كل حال شريعتنا مبنيةٌ على اليسر والسهولة.

لكنها مع ذلك شريعة تكليف، ليس معنى هذا أن الإنسان يتنصل من الواجبات، ويقول: الدِّين يُسر، لا ليس بصحيح، الدِّين دِين تكاليف، دِين واجبات، وأطر عن محرَّمات، ومع ذلك لا يأتي بما لا يُطيقه الإنسان.

"والشق هو الاسم من المشقة، وهذا المعنى إذا أُخذ مطلقًا من غير نظرٍ إلى الوضع العربي، اقتضى أربعة أوجهٍ اصطلاحية:

أحدها: أن يكون عامًا في المقدور عليه وغيره، فتكليف ما لا يُطاق يُسمى مشقة، من حيث كان تطلُب الإنسان نفسه بحمله مُوقع في عناء وتعب لا يجدي".

يعني مثل من كُلِّف بحمل صخرة زنتها طن مثلاً، وهو لا يقدر على عُشرها أو نصف العُشر، هذا لا شك أنها مشقة شديدة عليه؛ لأنه بين أمرين:

إما أن يعصي هذا الأمر أو يتكلف ما لا يُطيق ويموت دونه.

لا شك أن هذه مشقة، ومثله المُقعَد إذا قيل له: صلِّ قائمًا، لكن المُقعَد حقيقةً، ليس من يدعي أنه مُقعد، فإذا جاء وقت لزومه قام ومشى بارتياح.

عرفنا ناسًا يُصلون في بيوتهم أحيانًا أو في المسجد، لكن من قعود، وإذا قيل له، قال: والله مريض، ثم إذا تعشى بعد صلاة العشاء ذهب يتمشى في الحي لمدة ساعة.

وشخص يقولون: من عشرين سنة ما قام، يُصلي جالسًا، ويوم العيد جاءت العارضة وساعتين يعارض مع الناس، مشكلة هذه، يعني إنسان يتصور مشقة، وهي ليست بصحيحة، ليست مشقة، فهذه المسألة دِين، هذه أمانة، أمانة عجزت عنها السموات والأرض حُمِلتها أنت، لابد أن تقوم بها، فلابد من أن تُقدَّر بقدرها، والإنسان يتعبد لله –جلَّ وعلا-، لا يتعبد للمخلوق.

"كالمعقد إذا تكلف القيام، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء، وما أشبه ذلك".

معلومٌ أنه إذا تكلف الطيران في الهواء فإنه إن كان من محلٍّ مرتفع وشاهق، فإنه لا شك مآله إلى أن يسقط فيموت، كما حصل لمن ادعى اختراع الطيران، حصل أيضًا للجوهري، عباس بن فرناس يقول: إنه طار، لكن ما يُدرى عن حقيقة هذا، لكنه في النهاية سقط.

الجوهري صاحب (الصحاح) صعد إلى السطح، ووضع جناحين وأراد أن يطير فمات، سقط ومات، لكن لا شك أن مثل هذا إنما ينشأ عن خللٍ في العقل، ينشأ عن خلل لا يفعل مثل هذا الفعل رجلٌ سوي يعرف أنه يُريد الطيران، ولا يستطيع، إنما هذا ناتجٌ عن خلل.

"فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تُحمِل في نفسه المشقة، سُمي العمل شاقًّا والتعب في تكلف حمله مشقة.

والثاني: أن يكون خاصًّا بالمقدور عليه، إلا أنه خارجٌ عن المعتاد في الأعمال العادية، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها، ويُقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة.

إلا أن هذا الوجه على ضربين:

أحدهما: أن تكون المشقة مختصةً بأعيان الأفعال المكلف بها، بحيث لو وقعت مرةً واحدةً لوجدت فيها، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء: كالصوم في المرض والسفر، والإتمام في السفر، وما أشبه ذلك".

يعني لو تكلَّف هذه المشقة وفعلها أجزأته؛ لأنها إنما شُرِعت تخفيفًا عنه، فإذا عدل من الرخصة إلى العزيمة صح فعله إلا أنه عدل عن رخصة الله التي يُحب أن تؤتى.

طالب: يعني هذا العدول من الرخصة إلى العزيمة يا شيخ؟

نعم.

"والثاني: أن لا تكون مختصة، ولكن إذا نُظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها، صارت شاقة، ولحقت المشقة العامل بها ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجهٍ ما، إلا أنه في الدوام يُتعبه، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرةً واحدةً في الضرب الأول، وهذا هو الموضع الذي شُرِع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللاً".

نعم جاء في الحديث: «عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا»، وصحَّ عن النبي –عليه الصلاة السلام- أنه قام حتى تفطرت قدماه، وعلل ذلك «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» لكن لا يُتصور أن النبي –عليه الصلاة والسلام- يمل من مناجاة ربه، والاتصال به كما يُتصور من غيره، فغيره لا يُمكن أن يستمر على هذه الحالة، فمآله إلى الانقطاع، والانقطاع مذموم، بعد اعتياد العبادة مذموم، ورد عن الإمام أحمد أنه يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة ويُداوم على ذلك، والحافظ عبد الغني المقدسي أيضًا له نصيبٌ كبير من هذا وغيره من أهل العلم، لكنهم فُتِحت لهم هذه الأبواب، فولجوا معها، واستمروا عليها، وأُعينوا عليها.

ولا شك أن التعبد في أول الأمر شاق، يحتاج إلى جهاد، ثم بعد ذلك يكون أُنسًا، بحيث لو فقده تكدر بقية يومه -والله المستعان-.

"حسبما نبَّه عليه نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن الوصال، وعن التنطع والتكلف، وقال: «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا».

وقوله: «الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغوا».

والأخبار هنا كثيرة، وللتنبيه عليها موضعٌ آخر، فهذه مشقةٌ ناشئةٌ عن أمرٍ كلي، وفي الضرب الأول ناشئةٌ عن أمر جزئي.

والوجه الثالث: أن يكون خاصًّا بالمقدور عليه، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروجٌ عن المعتاد في الأعمال العادية، ولكن نفس التكليف به زيادةٌ على ما جرت به العادات قبل التكليف شاقٌ على النفس؛ ولذلك أُطلق عليه لفظ (التكليف)، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة؛ لأن العرب تقول: كلفته تكليفًا، إذا حمَّلته أمرًا يشق عليه وأمرته به، (وتكلفت الشيء) إذا تحملته على مشقة، (وحملتُ الشيء) تكلفتَه إذا لم تُطقه إلا تكلفًا".

تكلفتُه أنت ما جئت بـ(إذا).

طالب: وحملتُ؟

حملتُ الشيء تكلفتُه.

طالب: حملتَ.

حملتُ الشي تكلفتُه، يعني تقول: كذا، وإذا قلت: إذا تكلفتَه، (إذا) هذه تقلب من التكلم إلى الخطاب إذا هذه، ولو جاء بأي استمر الخطاب.

طالب: يعني هنا العطف ما هو على (إذا)؟

"حملت الشيء" جديد هذا استئناف، يعني، وتقول: حملتُ الشيء.

"وحملت الشيء تكلفتُه إذا لم تُطقه إلا تكلفًا، فمثل هذا يُسمى مشقةً بهذا الاعتبار؛ لأنه إلقاءٌ بالمقاليد، ودخولٌ في أعمالٍ زائدةٍ على ما اقتضته الحياة الدنيا.

والرابع: أن يكون خاصًّا بما يلزم عما قبله، فإن التكليف إخراجٌ للمكلف عن هوى نفسه، ومخالفة الهوى شاقةٌ على صاحب الهوى مطلقًا، ويلحق الإنسان بسببها تعبٌ وعناء، وذلك معلومٌ في العادات الجارية في الخلق.

فهذه خمسة أوجهٍ من حيث النظر إلى المشقة في نفسها، انتظمت في أربعة".

معلومٌ أن المشقة لذاتها ليست من مقاصد الشرع، لكن إذا جاءت تبعًا للعباد أُجِر عليها، والمراد بالعبادة: التي يتحقق فيه الشرطان:

الإخلاص، والمتابعة.

لأنه لا تُسمى عبادة إلا بهذا؛ ولذا نجد في كثير من الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع عدم اتباعهم للنبي –عليه الصلاة والسلام- يلحقهم من التعب، والعناء، والمشقة، ويتلذذون بذلك الشيء الذي لا يخطر على بال، ومع ذلك هم صابرون {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، فلابد من توافر الشرطين؛ لتكون هذه المشقة عبادة؛ لأنها ناتجة عن عبادة.

"فأما الأول، فقد تخلص في الأصول، وتقدم ما يتعلق به.

وأما الثاني: وهي: المسألة السادسة: فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور".

لم يقصد التكاليف.

طالب: فإن الشارع؟

لم يقصد.

طالب: "إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه".

الإعنات، لم يقصد الإعنات فيه، نعم.

"والدليل على ذلك أمور:

أحدها: النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الْأَعْرَافِ:157].

وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] الآية.

وفي الحديث: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْتُ».

وجاء: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ:286].

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ:78].

{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ:28].

{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] الآية.

وفي الحديث: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ».

وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يكن إثمًا".

نسمع من يتصدى لتوجيه الناس وإرشادهم وافتائهم، والإجابة عن مشاكلهم، مَن يستدل بهذه النصوص على مُطلق التيسير، وأن الدِّين يُسر، هذا الكلام صحيح، وأن النبي –عليه الصلاة والسلام- مَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يكن إثمًا، وهذا في وقت التشريع، يعني لم يستقر الحكم بعد، أما بعد استقرار الحكم فلا خيرة لأحد، لا خيرة لأحد، لا يُمكن أن يُقال: الإمام مالك يقول: واجب، وأبو حنيفة يقول: سُنَّة، وأنت بالخيار، لا، ما يُمكن أن يُقال مثل هذا، وليس هذا هو التيسير الذي جاءت به الشريعة، هذا تتبع الرُّخص، يقول الإمام أحمد: حرام، ويقول الشافعي: مكروه، إذًا ما عليك إثم، هذا الكلام ليس بصحيح، وإن تردد على ألسنة البعض ممن يتصدر المجالس والوسائل يقولون بهذا، ولا شك أن من يقتضي بمثل هذا يخرج من الدِّين وهو لا يشعر؛ لأنه ما من مسألة إلا وفيها أكثر من قول، فيها الشديد، وفيها السهل، فإذا اعتمدنا السهل من كل الأقوال خرجنا من الدِّين ونحن لا نشعر.

وهذا الذي يقول عنه أهل العلم: من تتبع الرُّخص فقد تزندق، يعني: ينتهي بأن يخرج من الدِّين.

ذكرت هذه المسألة واجبة عند أحمد، ومُستحبة عند الشافعي، يأخذ قول الشافعي والمستحب لا إثم في تركه، إذًا يتركه، هذه المسألة فيها قول لمالك بالتحريم، ولأبي حنيفة بالكراهة، ولأحمد بالإباحة مثلاً يأخذ بالإباحة وينتهي.

كل مسألةٍ من هذه المسائل لا شك أن فيها قولاً سهلاً، فإذا اعتُمد هذا القول السهل، فمآل الإنسان بعد هذا كله أن يخرج من الدِّين ومن التكاليف، وليس هو هذا المراد من قولهم: مَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يكن إثمًا، هذا قبل استقرار التشريع، إذا اختار صار الشرع، هذا قبل أن يثبت الحكم، وإلا ما يُمكن أن يثبت القول بالتحريم، ثم يختار القول الآخر هذه مخالفة هذه أو العكس.

يعني من الأمثلة الواضحة في مثل هذا ما ضربه بعض طلاب العلم، وفي مسألة التيسير في الحج قال: التيسير الشرعي في طواف الوداع، يعني نحن بين أمرين:

الرسول -عليه الصلاة والسلام- أوجب طواف الوداع، وأمر أن يكون آخر العهد بالبيت الطواف كما جاء في بعض الروايات بالطواف يعني، خُفف عن الحائض هذا تيسير، يبقى من عداها مُشدد عليه أنه لا بد أن يطوف، لكن لو قلت: إن مالك يرى أن طواف الوداع سُنَّة، ولا إثم عليك في تركه، هذا تيسير هذا؟! هذا تضييع هذا، هذا تضييع بخلاف خُفف عن الحائض، هذا تيسير شرعي، فهذا يدل على التشديد في غير الحائض؛ لأنه خُفف إذًا في غير الحائض شُدد عليه، ولا يُقال: إن التيسير النظر في المذاهب، فيُنظر أسهل هذه المذاهب، أبدًا، هذا مآله إلى التضييع.

طالب:.........

هذا عند تكافؤ الأدلة للمجتهد في وقتها أن ينظر، عند تكافؤ الأدلة، أما مع الرجحان لا كلام لأحد.

طالب:.........

 ما ينفع أحد.

طالب:.........

نعم؛ لأنه قيل، لا، ما يصلح هذا، العبرة بما يؤيده الدليل، نحن أمة متعبدون بنصوص، وعلى كل إنسان أن يعمل بما يعتقد ويدين الله به.

طالب:.........

لا، لا، الكلام في الخلاف الذي له أصل الذي يسنده الدليل، الاختلاف المعتبر، لاسيما فيمن يُقلِد الإمام المخالف، يعني لو قال لك –مثلاً- حنفي يقول: والله أنا إمامي يقول: كذا، وأنا أُقلده في كل شيء، نقول: أنت تبرأ ذمتك بتقليد هذا الإمام فاصنع ما شئت، لكن تأخذ رأيي أنا لا، تأخذ رأي إمامك، إمامك إمام تبرأ الذمة بتقليده ما نُلزمك.

مثل هذه المفتي وما يدين الله به، فعليه أن يسعى لخلاص نفسه قبل أن يسعى لخلاص غيره.

"وإنما قال: مَا لَمْ يكن إثمًا؛ لأن ترك الإثم لا مشقة فيه، من حيث كان مجرد ترك، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى، ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدًا للحرج والعسر، وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمرٌ مقطوعٌ به، ومما عُلم من دين الأمة ضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمطٌ يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف، لما كان ثَم ترخيصٌ ولا تخفيف.

والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفيٌّ عنها؛ فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة -وقد ثبت أنها موضوعةٌ على قصد الرفق والتيسير- كان الجمع بينهما تناقضًا واختلافًا، وهي منزهةٌ عن ذلك".

فدل على أن التكاليف الشرعية وإن كان فيها شيء مما لا تميل إليه النفس إلا أنه رفق وتيسير، ومن مصلحة المكلَّف، وإذا نظرنا في أمور الدنيا الأعمال الدنيوية من زراعة وصناعة وتجارة كلها فيها كَلفة، لكنها يرتاح إليها الإنسان؛ لمردودها، لما ينتج عنها من مقابل، يعني هل المزارع مرتاح، أم أن الزراعة فيها مشقة؟

فيها مشقة، لكنه يُزاولها بارتياح؛ نظرًا لما ينتج عنها من أجر، فالمكلف يعمل هذه العبادات وإن كانت على خلاف هواه، إلا أنه يُزاولها بارتياح إذا كان ممن مَنَّ الله عليه بحُسن الاقتداء والائتساء؛ لِما يترقبه من الأجر العظيم والثواب الكبير عليها، فهي من حيث ارتباطها بالبدن فيها مشقة، ومن حيث ارتباط جزائها بالقلب والتَّشوف إلى هذا الجزاء لا شك أنها من نِعم الله جلَّ وعلا.

وأما الثالث، وهي: المسألة السابعة".

 

يكفي يكفي، طويلة المسألة السابعة.