شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (001)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفيه من خلقه، وخيرته من بريته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فإن سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- عند عموم الأمة هي ثاني مصادر التشريع الإسلامي المعتبرة عند أهل العلم، ولم ينازع في ذلك إلا من أعمى الله قلبه من المبتدعة الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، كما جاء وصفهم في الحديث الصحيح، وقد قرن الله سبحانه وتعالى طاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام- بطاعته -عز وجل-، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء 59]، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران 32] وقال عز من قائل: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران 132] وقال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب 71] وقال جل من قائل: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [سورة الأحزاب 36].

يقول الشاطبي في الموافقات في قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ} [سورة المائدة 92] قال: وسائرُ ما قرن الله فيه طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بطاعته فهو دالٌّ على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله.

وقال جل وعلا: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [سورة النساء 65] يقول العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتفِ في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضائه وحكمه، ولم يكتفِ منهم أيضًا منهم بذلك حتى يسلِّموا تسليمًا، وينقادوا انقيادًا.

الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة يقول: هذه الآية يعني قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء 65] هذه الآية نزلت فيما بلغنا -والله أعلم- في رجلٍ خاصم الزبير في أرضٍ، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بها للزبير، وهذا القضاء سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا حكم منصوص في القرآن، والقرآن يدل والله أعلم على ما وصفت؛ لأنه لو كان قضاء بالقرآن لكان حكمًا منصوصًا في كتاب الله، وأشبه أن يكونوا إذا لم يسلموا لحكم كتاب الله نصًّا غير مشكل الأمر أنهم ليسوا بمؤمنين إذ ردوا حكم التنزيل فلم يسلموا.

المقدم: فضيلة الدكتور كأنكم تشيرون أيضًا من خلال هذه النقول إلى وجود فرق بين القبول والرضا أيضًا بالنسبة للسنة، فلا يعني فقط مجرد القبول بحكم السنة الإيمان، لا بد مع القبول بالرضا، لو وجد من قبل السنة ولكنه لم يرض بها فلا يحكم له بهذا الأمر.

أولاً: التحكيم، التحاكم إلى السنة، ثم القبول والرضا، القبول والرضا بما حكم به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ثم بعد ذلكم التسليم والانقياد لما حكم به -عليه الصلاة والسلام-، لكن قد يقول قائل أن الإنسان قد يجد في نفسه شيئا من الحكم إذا كان ضد مصالحه، كما يوجد من كثيرٍ من يحكم عليهم عند القضاة إذا كان الحكم ليس في صالحهم فإنهم يجدون في أنفسهم ولا بد، المقصود ألا يتحدث بما في نفسه، ولا يحمله هذا على أن يقدح في الحكم الشرعي.

أما وجود ذلك في نفسه فهذا أمرٌ جِبِلِّي، كل إنسان يود أن يكون الحكم لصالحه، ومن ذلكم ما يثار كثيرًا من قضايا تعدد الزوجات مثلاً، كثير من النسوة تعرف أن هذا شرع الله، وهذا حكم الله، لكن لا ترضى أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة، وهي التي تقدِّر مصلحتها، لكن لا بد من الرضا والانقياد لحكم الله وحكم رسوله، ولنعلم أن هذا شرع من الله سبحانه وتعالى، فلا بد من الرضا به سواء كان في كتابه أو جاء على لسان رسوله -عليه الصلاة والسلام- لا فرق.

المقدم: فضيلة الدكتور: في قولكم في المقدمة بأنها هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، هذا الترتيب فقط من أهل العلم بحيث جعلوا مصدرًا أولا ومصدرًا ثانيًا ومصدرًا ثالثًا.

نعم، باعتبار أن المتكلِّم في كتاب الله سبحانه وتعالى هو الله -عز وجل-، فالقرآن يختلف عن السنة من وجوه منها: أنه متعبَّد بتلاوته، والسنة وإن كان يجب تحكيمها، ويجب الإيمان بها، ويجب العمل بمقتضاها، إلا أنه لا يتعبد بتلاوتها.

المقدم: لكن حجيتها كحجية...

حجيتها مثل القرآن تمامًا.

المقدم: لكن التقسيم إنما مراد الفقهاء بالتقسيم لذات التقسيم.

لذات التقسيم باعتبار القائل، وإلا فالسنة وحيٌ كما جاء عن الله -عز وجل-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم 3-4] يقوله في حق نبيه -عليه الصلاة والسلام-. ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «عليكم بسنتي» وقال -عليه الصلاة والسلام-: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتب الله اتبعناه» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع.

وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي نابٍ من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها» الحديث مخرج في السنن، سنن أبي داود والترمذي والحاكم عن المقدام بن معدي كرب.

على كل حال السنة بالنسبة للاحتجاج مثل القرآن سواءً بسواء، لا تختلف عنه، فما ثبت بالسنة يجب العمل به سواء قلنا: أنه مثل القرآن في القطعية في الثبوت أو دونه.

المقدم: اخترتم كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، ما المراد بالجامع الصحيح هنا؟

الجامع الصحيح المراد به ما اشتهر عند الناس واستفاض لديهم صحيح البخاري الذي سماه مؤلفه الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه.

المقدم: لعلكم تتحدثون إذًا عن البخاري وعن صحيحه ما دام هذا الكتاب باختصار.

البخاري رحمه الله تعالى هو أمير المؤمنين في الحديث: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري، ولد رحمه الله تعالى (194هـ) ببخارى، ومات أبوه وهو صغير، فكفلته أمه وأحسنت تربيته، وقد ظهر نبوغه من صغره وهو في الكتاب، فرزقه الله سبحانه وتعالى قلبًا واعيًا وحافظة قوية، وذهنًا حادًّا، ووُفِّق لحفظ الحديث فأخذ منه بحظٍّ كبير، ولما يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يختلف إلى علماء عصره وأئمة بلده فأخذ الحديث والعلم عنهم، وصار يراجعهم في بعض ما سمع منهم، وقد بلغ عدد شيوخه فيما روي عنه ثمانين وألف نفس ليس فيهم إلا صاحب حديث، وقد بلغت محفوظاته رحمه الله أنه يحفظ من الحديث الصحيح مائة ألف، ويحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يحفظ هذا الكم الهائل من السنة، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعة.

وقد أثنى عليه جمعٌ من الحفاظ من أقرانه، فقد قال أبو حاتم الرازي: لم تخرج خرسان قط أحفظ منه، ولا قدم إلى العراق أعلم منه، وكذلك أثنى عليه الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن فقال: رأيتُ علماء الحرمين والحجاز والشام والعراق، فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل وروى الحاكم بسنده أن مسلمًا الإمام صاحب الصحيح جاء إلى البخاري فقبَّله بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.

وأما ثناء من جاء بعده فيكفي في ذلك قول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مقدمة الفتح، يقول: لو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذلك بحرٌ لا ساحل له.

وعلى كل حال ترجمة الإمام البخاري مدونة ومسطرة ومفردة ومع غيره من الأئمة، صنفت في ترجمته المصنفات التي منها المجلد، ومنها المجلدان، ومنها ما يبلغ المئات من الصفحات في ثنايا الكتب، وألف عن كتابه الصحيح العشرات من المؤلفات والرسائل العلمية، كلٌّ يتناوله من جهة، ولا يزال الصحيح بحاجة إلى خدمة، وإن كان مشروحًا من أكثر من ثمانين شرحًا فيما عده صاحب كشف الظنون، والشروح أضعاف هذا العدد الذي ذكره مما لم يطلع عليه وممن تأخر عنده.

الإمام البخاري له مصنفات غير الجامع الصحيح، التواريخ الثلاثة (الكبير والأوسط والصغير) له التفسير الكبير، وله الأدب المفرد، وله القراءة خلف الإمام، ورفع اليدين، وله غيرها من الكتب.

توفي رحمه الله ليلة عيد الفطر سنة (256هـ) عن اثنتين وستين عامًا، بقرية يقال لها خِرْتَنْك على فرسخين من سَمَرْقَنْد.

المقدم: كانوا يتكلمون العربية، فضيلة الدكتور، في بخارى قبل أن يتعلمها هو؟

نعلم أن الأعاجم لما دخلوا في الإسلام عنوا بلغة الإسلام، بلغة القرآن، فتعلموها وأتقنوها وضبطوها وحفظوها حتى برز أكثرهم وصنف فيها، بل أكثر المؤلفين والمصنفين في علوم العربية بفروعها العشرة منهم، ويكفينا من ذلكم سيبويه صاحب الكتاب، ليس بعربي، وهو أشهر كتابٍ في العربية على الإطلاق، على كل حال معرفة الأعاجم للعربية أمرٌ مستفيض وظاهر ومعروف، ومؤلفاتهم كثيرة جدًّا تغني عن الإفاضة في هذا الموضوع.

صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أول كتاب صنف في الصحيح المجرد من غيره، فقد كان الأئمة قبل الإمام البخاري لا يقصرون مؤلفاتهم على الأحاديث الصحيحة، بل كانوا يجمعون بين الصحيح والحسن الضعيف، تاركين التمييز بينها إلى معرفة القارئين والطالبين إلى معرفة هؤلاء بالرجال، ومقدرتهم على التمييز بين المقبول والمردود، وقد كانوا لا يهتمون للتمييز فيما تقدم من الأزمان؛ لأنهم عندهم أن من ذكر الإسناد فقد برئ من العهدة، والمطَّلع على هذه الأسانيد يستطيع أن يميز، لكن لما دخلت العلوم، وكثر الداخلون في الإسلام، وقلَّت العناية بعلوم الشرع، احتاج الناس إلى من يميز لهم الصحيح من غيره، فجاء الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فصنف كتابه الصحيح، فرأى أن يخص الصحيح بالجمع فألَّف كتابه المذكور، وفي هذا يقول الحافظ العراقي رحمه الله تعالى:

أول من صنف في الصحيحِ
ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ

 

 

محمدٌ وخص بالترجيحِ
أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ
 

الإمام الشافعي رحمه الله تعالى روي عنه أنه قال: ما على ظهر الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك وهذا كان قبل وجود الصحيحين، وإلا لو رأى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هذين الكتابين أعني صحيح البخاري وصحيح مسلم لما قال هذه المقالة، وشواهد الأحوال وواقع هذه الكتب يشهد بما ذكرنا ولذا فإن صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى عند جماهير العلماء، وذهب بعض المغاربة إلى تفضيل صحيح مسلم، كما أشار الحافظ العراقي رحمه الله:

ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ

 

 

أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ

 

ولعل مرد التفضيل وسببه أن صحيح مسلم ليس فيه بعد الخطبة إلا حديث سرد، فقد جرده الإمام مسلم رحمه الله من الموقوفات، وفتاوى الصحابة والتابعين، كما نقل ذلك القاسم التجيبي عن ابن حزم، وهذا غير راجع إلى الأصحية، نعم إذا نظرنا إلى الصحيحين من هذه الحيثية وجدنا صحيح الإمام مسلم مجرد، ليس فيه إلا الحديث بعد الخطبة، حتى التراجم الإمام مسلم ما ترجم كتابه، بخلاف البخاري الذي يشتمل على آلاف التراجم، ويشتمل أيضًا على آلاف الموقوفات من أقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم.

المقصود بالتراجم الأبواب، باب ما جاء في كذا، باب حكم كذا، باب.. إلى آخره، هذه هي التراجم، الإمام مسلم جرد كتابه منها، وكون الإمام مسلم جرد كتابه من الموقوفات والمقطوعات من أقوال الصحابة والتابعين هذا غالبًا، وإلا يوجد فيه عدد يسير جدًا من الموقوفات، وفيه أيضًا بعض المعلقات، وإن كانت يسيرة جدًا.

من الموقوفات التي في صحيح مسلم، قول يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم، هذا الموقوف أدخله الإمام مسلم رحمه الله بين أحاديث مواقيت الصلاة، وأشكل على جمع من الشراح مناسبة لهذا الخبر وهذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير بين أحاديث مرفوعة في مواقيت الصلاة، ولعل الإمام مسلم رحمه الله تعالى أعجبه سياق المتون والأسانيد، وأراد أن يُلْمِح أن مثل هذا الضبط وهذا الإتقان لا يأتي براحة، لا يأتي مع الراحة، ولا يأتي مع الاسترخاء، بل لا بد من إتعاب الجسم، ولذا قال رحمه الله تعالى: لا يستطاع العلم براحة الجسم، أو لا ينال العلم براحة الجسم، هذا الذي ذكروه وما نُقل عن بعض المغاربة أن سبب التفضيل تجريد الإمام مسلم لكتابه من الموقوفات وأقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم، هذا غير راجع إلى الأصحية، المفاضلة بين الصحيحين في الأحاديث الأصول المرفوعة التي هي العمدة في الكتاب. ممن فضَّل مسلم على البخاري أبو علي النيسابوري، وأشار إليه الحافظ العراقي فيما تقدم، روي عنه أنه قال: ما تحت أديم السماء كتابٌ أصح من كتاب مسلم وكلامه كما أشار ابن حجر محتملٌ للمدَّعى أنه أصح من كتاب البخاري، وهو محتملٌ أيضًا لنفي الأصحية خاصة دون المساواة، كونه لا يوجد أصح منه لا ينفي أن يوجد مساوي له، كون صحيح مسلم لا يوجد كتاب على وجه الأرض أصح منه لا ينفي أن يوجد كتاب مساوٍ له في الأصحية، ويتأيد ذلك بحكاية التساوي قولاً ثالثًا في المسألة، فأبو علي إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم، ولم ينفِ المساوي، هذا ما قرره ابن حجر وتبعه عليه الحافظ السخاوي.

لكن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة النساء 125] يقول: فإن قيل: الآية نصٌّ في نفي دينٍ أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين له أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ الآية نصٌّ في نفي دينٍ أحسن من دين الإسلام، لكن من أين لهذا المسلم أن يدعي أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ أجاب رحمه الله تعالى على هذا الإشكال من وجوه: والوجه الأول هو الذي يعنينا هنا، فقال: أحدها: أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيرًا ما يُضمَر بعرف الخطاب يُفضَّل المذكور المجرور بمِن مفضَّلاً عليه في الإثبات، فإنك إذا قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلاً عليه، والأول مفضلاً، فإذا قلت: لا أحسن من هذا أو مَن أحسن مِن هذا إذا قلت لا أحسن مِن هذا أو مَن أحسن مِن هذا أو ليس فيهم أفضل مِن هذا، أو ما عندي أعلم مِن زيد، أو ما في القوم أصدق مِن عمرو، أو ما فيهم خيرٌ منه، فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم، بل قد صارت حقيقة عرفية، يعني هذه العبارة صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل، وتفضيل المجرور على الباقين، وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم، وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل من هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا، ثم ذكر رحمه الله بقية الوجوه.

مفاد كلام الشيخ رحمه الله تعالى أن قولنا: لا يوجد أفضل من فلان أو ما على وجه الأرض أفضل من فلان أن الحقيقة العرفية تدل على تفضيل هذا المذكور على جميع مَن على وجه الأرض، فصار حقيقةً عرفية، وإن كان في الأصل اللغوي أنها تنفي الأفضل، ولا تنفي وجود المُساوي، هذا كلام الشيخ رحمه الله تعالى، يقول: فإن هذا التأليف يدل على أنه الأفضل والأعلم والخير.

شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حينما ذكر هذا الكلام وهو كلامٌ جميل ونفيس، يرد عليه ما ذكره ابن القطاع في شرح ديوان المتنبي قال: ذهب من لا يعرف معاني الكلام إلى أن مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر» مقتضاه أن يكون أبو ذر أصدق العالَم أجمع، «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر» فمقتضاه أن يكون أبو ذر أصدق العالَم أجمع، قال: وليس المعنى كذلك، وإنما نفى أن يكون أحدٌ أعلى رتبةً في الصدق منه، ولم ينفِ أن يكون في الناس مثله في الصدق، ولو أراد ما ذهبوا إليه لقال: أبو ذرٍّ أصدق من كل من أقلت والحديث مُخرَّج في المسند والترمذي وابن ماجه، والحديث بمجموع طرقه حسن، حسَّنه الترمذي والسيوطي والألباني، وقال الحافظ: إسناده جيد.

المقدم: كأني فهمت أن شيخ الإسلام رحمه الله لا يؤيد أن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري ولا حتى مساويًا له، وإنما يقول: أن هذه العبارة خاطئة، هل هكذا فهمي صحيح؟

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لا يعرض للصحيحين، كلامه ليس له علاقة بالصحيحين في الآية، كلامه يوضح لنا كلام أبي علي النيسابوري، وأن أبا علي النيسابوري يرى أن صحيح مسلم أفضل بهذه العبارة، ولا يعني أنه ينفي الأفضل بل يثبت المساوي لا، لا يعني هذا.

المقدم: فهم الآية حتى أن من قال أنه أقر بأن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري لم ينفِ أن يكونا متساويين، لكن من فهم الآية ينفي أن يكونا متساويين.

نعم، إذا قلنا: الحقيقة العرفية لمثل هذا التركيب يجعل المذكور أفضل من غيره مطلقًا، نأتي إلى الحديث حديث: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء» لا يوجد على ظهر الأرض أصدق لهجةً من أبي ذر.

المقدم: مثل {وَمَنْ أَحْسَنُ}؟

مثل الآية ومثل قول أبي علي، مفهوم على مقتضى كلام شيخ الإسلام أن يكون أبو ذر أصدق العالَم أجمع، جميع من وطئ على وجه الأرض أبو ذر أصدق منه، لكن هذا غير مراد بلا شك إذ الأنبياء أصدق، الصديق أصدق، التي أثبتها النبي -عليه الصلاة والسلام- أثبت له الصدق، وسمي الصديق، واستحق هذا الوصف الذي هو وصف المبالغة لما اتصف به من هذا الوصف، لكن لعل الحديث جرى مجرى المبالغة في إثبات صدق أبي ذر، ولم تقصد حقيقة هذه المبالغة.