التعليق على تفسير القرطبي - سورة القارعة

بسم الله الرحمن الرحيم، تفسير سورة القارعة، وهي مكية بإجماع، وهي عشر، آيات بسم الله الرحمن الرحيم، قوله تعالى:{ ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٣ } القارعة: ١ - ٣  قوله تعالى:{ ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ } القارعة: ١ - ٢  أي القيامة والساعة، كذا قال عامة المفسرين، وذلك أنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها. "

نعم تقرع القلوب بأهوالها وتفزعهم بما يحصل فيها ويحدث فيها.

"وأهل اللغة يقولون: تقول العرب: قرعتهم القارعة وفقرتهم الفاقرة إذا وقع بهم أمر فظيع، قال ابن أحمر:

وقارعة من الأيام لولا

 

سبيلهم لزاحت عنك حينا

وقال آخر:

متى تقرع بمرتكم تسؤكم

 

ولم ...................."

أو نسؤكم؟

نسؤكم.

"متى تقرع بمروتكم نسؤكم

 

ولم توقع لنا في القدر نار

وقال تعالى: { وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } الرعد:31  وهي الشديدة من شدائد الدهر. قوله تعالى: مَا ٱلۡقَارِعَةُ } القارعة: ٢  استفهام أي شيء هي القارعة، وكذا { وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ }  القارعة:3  كلمة استفهام على وجه التعظيم والتفخيم لشأنها."

يعني التكرار لهذه العلة للتفخيم، تفخيم أمرها وتشديده.

" كما قال: { ٱلۡحَآقَّةُ ١ مَا ٱلۡحَآقَّةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ ٣ } الحاقة: ١ - ٣  على ما تقدم. قوله تعالى: { يَوۡمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ } القارعة:4  يوم منصوب على الظرف تقديره تكون القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة. وقاله أبو عبيد، وقال الفراء: إنه الهمج الطائر من بعوض وغيره ومنه الجراد، ويقال هو أطيش من فراشة، وقال:

طويّش من نفر أطياش

 

أطيش من طائرة الفراش

وقال آخر:

وقد كان أقوام رددت قلوبهم

 

إليهم وكانوا كالفراش من الجهل

وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحُجَزِكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي»، وفي الباب عن أبي هريرة. والمبثوث. "

في الرواية الأخرى: تقحمون فيها يعني تقتحمونها.

" وفي الباب عن أبي هريرة. والمبثوث المتفرق، وقال في موضع آخر:{ كَأَنَّهُمۡ جَرَادٞ مُّنتَشِرٞ }  القمر:7  فأول حالهم كالفراش لا وجه له يتحير في كل وجه، ثم يكونون كالجراد؛ لأن لها وجهًا تقصده، والمبثوث المتفرق المنتشر، وإنما ذكّر على اللفظ، كقوله تعالى: { أَعۡجَازُ نَخۡلٖ مُّنقَعِرٖ } القمر:20  ولو قال: المبثوثة فهو كقوله تعالى: { أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِيَةٖ }  الحاقة:7  وقال ابن عباس والفراء: { كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ }  القارعة:4  كغوغاء الجراد يركب بعضها بعضًا، كذلك الناس يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا. "

يعني من شدة الهول، كأنهم ليس لهم غاية يموجون، يموج بعضهم في بعض، وكأنهم ليس لهم غاية، وهذا من شدة الهول، وانظر حين يحصل شيء مفاجئ إما حريق وإما سيل جارف أو غير ذلك من الأمور التي يُخاف منها، تجد الناس يتخبطون ما يدرون أين يروحون، ومثله الجراد في الجو تشوف واحدة ذاهبة لليمين وأخرى لليسار، وهي واحدة ما لها هدف تموج موجانًا.

طالب: ...................

نعم.

" قوله تعالى: { وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ ٱلۡمَنفُوشِ }  القارعة:5  أي الصوف الذي ينفش باليد أي تصير هباءً وتزول كما قال- جل ثناؤه- في موضع آخر: { هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا }  الواقعة:6 ، وأهل اللغة يقولون: العهن الصوف المصبوغ، وقد مضى في سورة { سَأَلَ سَآئِلُۢ } المعارج:1. قوله تعالى: { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٦ فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ ٧ وَأَمَّا مَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٨ فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ ٩ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا هِيَهۡ ١٠ نَارٌ حَامِيَةُۢ ١١ } القارعة: ٦ - ١١  قد تقدم القول في الميزان في الأعراف والكهف والأنبياء، وأن له كفة ولسانًا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات، ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل، يزن أعمال بني آدم، فعبّر عنه بلفظ الجمع وقيل: موازين. "

ونضع الموازين في قوله- جل وعلا-: { وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ } الأنبياء:47  هذه حجة من يقول إنها موازين، وكل إنسان له ميزانه، وأما كونه محسوسًا وما يوضع فيه من الأعمال الأصل فيه أنه معنوي، لكن الله جلت قدرته، قدرته صالحة لأن تقلب هذه المعاني إلى محسوسات فتوزن، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة، أما المعتزلة فإنهم ينكرون الميزان، وينكرون كثيرًا، ينكرون الصراط وغير ذلك مما يوجد في القيامة اعتمادًا على عقولهم، وجعلاً للنصوص وراء ظهورهم، اعتمدوا على ظهورهم فتاهوا وضاعوا.

"وقيل: موازين كما قال:

......................

 

فلكل حادثة لها ميزان

وقد ذكرناه فيما تقدم وذكرناه أيضًا في كتاب التذكرة، وقيل: إن الموازين الحجج والدلائل، قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر:

قد كنت قبل لقائكم ذا مِرة

 

عندي لكل مخاصم ميزانه"

هذ مِرة يعني ذي قوة أستطيع أن أواجه كل شخص مخاصم.

" ومعنى عيشة راضية أي عيش مرضٍ يرضاه صاحبه، وقيل. "

راضية يعني مرضية، يطلق اسم الفاعل والمراد اسم المفعول، كما أنه يرد اسم المفعول ويراد به اسم الفاعل،{ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا }  الإسراء:45  يعني ساترًا، وهنا راضية يعني مرضية، فيرد هذا في مكان هذا، والعكس.

" وقيل: عيشة راضية أي فاعلة للرِّضى وهو اللين والانقياد لأهلها، فالفعل للعيشة؛ لأنها أعطت الرضى من نفسها وهو اللين والانقياد، فالعيشة كلها تجمع النعم التي في الجنة، فهي فاعلة للرضى كالفرش المرفوعة، وارتفاعها مقدار مائة عام، فإذا دنا منها ولي الله اتضعت حتى يستوي عليها، ثم ترتفع كهيئتها، ومثل الشجرة فَرعها كذلك أيضًا في الارتفاع، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها تدلت إليه حتى يتناولها ولي الله قاعدًا وقائمًا، وذلك قوله تعالى:{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٞ }  الحاقة:23  وحيث ما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان جرى معه نهر حيث شاء علوًا وسفلاً، وذلك قوله تعالى: { يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا }  الإنسان:6  فيروى في الخبر: إنه يشير بقضيبه فيجري من غير أخدود حيث شاء من قصوره، وفي مجالسه فهذه الأشياء كلها عيشة.. "

أنهار الجنة كلها من غير أخدود تجري على أرض الجنة من غير أخاديد، ولا تفيض لا يمين ولا شمال.

............................

 

سبحان ممسكها عن الفيضان

كما قال ابن القيم:

أنهارها من غير أخدود جرت

 

سبحان ممسكها عن الفيضان

تجري من تحتهم، ومع ذلك أنهار الجنة.. ماذا تريد منها؟ تقول تلوث ثيابهم أو تلوث أثاثهم أو شيء؟ هي أنهار الجنة، وتجري من تحتهم من غير أخاديد، لا إله إلا الله، وهذا كله لو عقلناه وفقهناه ما ركنا إلى هذه الدنيا الدنيّة.

" فهذه الأشياء كلها عيشة قد أعطت الرضى من نفسها، فهي فاعلة للرضى، وهي انذلت وانقادت بذلاً وسماحة ومعنى. { فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ }  القارعة:9 . "

يعني ما تستعصي على طالبها، بخلاف متاع الدنيا قد تُضطر إليه ولا يتيسر لك، وقد تبذل جميع الأسباب للحصول عليه ولا تناله.

{ فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ }  القارعة:9  يعني جهنم وسماها أمًّا؛ لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، قاله ابن زيد، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

فالأرض معقلنا وكانت أمنا
 

 

فيها مقابِرنا وفيها نولد
 

وسميت النار هاوية؛ لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها، ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار، وقال قتادة: معنى { فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ } القارعة:9  فمصيره إلى النار. قال عكرمة: لأنه يهوي فيها على أم رأسه. وقال الأخفش: أمه مستقره، والمعنى متقارب. "

كما جاء في الحديث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفًا»، نسأل الله العافية، يهوي فهي هاوية وهو يهوي فيها.

" وقال الشاعر:

يا عمرو لو نالتك أرماحنا
 

 

كنت كمن تهوي به الهاوية
 

والهاوية: الْمَهْوَاةُ، وتقول: هوت أمه فهي هاوية، أي ثاكلة، قال كعب بن سعد الغَنوي:

هوت أمه ما يبعث الصبح غاديًا
 

 

وما يؤدي الليل حين يؤوب
 

وَالْمَهْوَى وَالْمَهْوَاةُ: ما بين الجبلين ونحو ذلك، وتهاوى القوم في المهواة إذا سقط بعضهم في إثر بعض.{ مَآ أَدۡرَىٰكَ مَاهِيَهۡ } القارعة:10  الأصل ما هي، فدخلت الهاء للسكت، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وابن محيصن: ما هيَ نارٌ بغير هاء في الوصل، ووقفوا بها، وقد مضى في سورة الحاقة بيانه. { نَارٌ حَامِيَةُۢ }  القارعة:11  أي شديدة الحرارة، وفي صحيح مسلم. "

إلحاق ما هيه من أجل مراعاة رؤوس الآي، وإلا فالأصل ما هي، وهاء السكت لا شك أنها مستعملة في لغة العرب، وكونها هنا موجودة لمراعاة رؤوس الآي، وإذا ثبت رسمها ثبت لفظها سواء كان في الوقف أو في الدرج.

" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءًا من حر جهنم»، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: «فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلها مثل حرها»، وروي عن أبي بكر- رضي الله عنه- أنه قال: إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه؛ لأنه وضع فيه الحق، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خف ميزان من خف ميزانه؛ لأنه وضع فيه الباطل، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفًا، وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله فيقول: ذلك مات قبلي، أما مر بكم فيقولون: لا والله، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ذُهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربية، وقد ذكرناه بكماله في كتاب التذكرة، والحمد لله. "

خرّجه؟

طالب: ...................

اللهم صل على محمد...

"