تعليق على تفسير سورة الأنفال من أضواء البيان (03)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى-:

"مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة: المسألة الأولى: اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: {غَنِمْتُمْ} [الأنفال:41]، فهو يدل على أنها غنيمة لهم، فلما قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11]، أي: ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعًا، فكذلك قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، أي: وللغانمين ما بقي، وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء، وممن حكى إجماع المسلمين عليه ابن المنذر، وابن عبد البر، والداودي، والمازري، والقاضي عياض، وابن العربي، والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري- رحمه الله- أيضًا".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قول جمهور أهل العلم أو جماهيرهم أن الخمس لله ورسوله وأربعة الأخماس للغانمين، ولا يجوز للإمام أن يتصرف في أربعة الأخماس، ولا يجتهد فيها، بل تقسَم على مستحقيها، خالف بعض أهل العلم مستدلين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قسم غنائم حنين على حسب ما تقتضيه المصلحة، مصلحة الدعوة والتأليف، وأعطى بعض الحاضرين العطايا العظيمة، وحرم بعض المشاركين بالغزوة، وكذلك ما جاء في غزوة الفتح، وأن مكة فتحت عنوة، فإذا فتحت عنوة فغنيمتها لمن يغنمها للغانمين الحاضرين والغزاة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- منَّ على أهل مكة فلم يقسم أموالهم، ولم يسبِ نساءهم، مما يدل على أن الإمام يجتهد، فالمرجَّح قول الجمهور أن هذه قضايا يحتفّ بها ما يجعل القول الثاني مرجّحًا لهذه الأمور، والمؤلف -رحمه الله- سوف يتعرض لشيء من هذا، ويبيّن رأيه في المسألة.

 وعلى كل حال القول الأول نُقِل عليه الإجماع، صحيح أنه وُجِد من يخالف ولا إجماع مع الخلاف، ولكن دعوى الإجماع مع وجود المخالف تجعل طالب العلم يهاب الإجماع، ولا يحكم بغير مقتضاه إلا بشيء قوي جدًّا مقاوم، وأما قول الشوكاني -رحمه الله- ودعاوى الإجماع التي يدعيها من يدعيها من أهل العلم تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع.

طالب: ...............

تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع، نقول: كلمة الإجماع لها هيبتها مهما كثُر ناقضوها ومعارضوها، أقل الأحوال أن تكون قول جمهور قول الجمهور أو الأكثر.

 على كل حال على طالب العلم أن يتريث حينما يسمع كلمة الإجماع؛ لأن الأمة بمجموعها معصومة أن تقول بغير حق، وهذه المسألة طويلة الذيول كثيرة، تحتاج إلى وقوف طويل وتحرير، ولكن خلاصة القول أن الإجماع له هيبته، وينقل هو نفسه ينقل الشوكاني يعني تعارض الإجماعات، هذا يدل على تساهل شديد يدل على تساهل شديد، كيف يخفى الخلاف في مسألة ذُكِر فيها الإجماع؟

لكن الإشكال من مثل النووي -رحمه الله- وابن قدامة وجمع من أهل العلم يتساهلون في نقل الإجماع، دائمًا النووي ينقل الإجماع، وينقل الخلاف في المسألة نفسها وعند عرضه لها يذكر الإجماع وينقل المخالف، لكن لا يورد عليه مثل خلاف داود الظاهري؛ لأنه لا يرى، لا يعتد، لا يعتد بقول داود، يعني وجوده مثل عدمه فلم يعتد به، لكن نقل الإجماع معناه الإجماع قول الكل، قول جميع المجتهدين، بخلاف رأي ابن جرير الطبري الذي يرى أن الإجماع قول الأكثر، يعني إذا نقل الطبري الإجماع عرفنا أنه قول الجمهور؛ لأنه هو ينقل الخلاف نفسه، يذكر الاختلاف في قراءة أو في حكم فيقدِّم قول الأكثر، ثم يذكر القول المخالف والصواب في ذلك عندنا كذا؛ لإجماع القرأة على ذلك، وقد ذكر ابن قرة من يخالف لكنه يعتد بقول الجمهور، ويعتبره إجماعًا على طريقته. 

"أيضًا قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين. واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] الآية، قالوا: الأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة، واحتجوا لذلك أيضًا بما وقع في فتح مكة وقصة حنين، قالوا: إنه -صلى الله عليه وسلم- فتح مكة عنوة بعشرة آلاف مقاتل، ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة، ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قَسْمُ الأخماس الأربعة على الجيش واجبًا لفعله -صلى الله عليه وسلم- لما فتح مكة، قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جدًّا، ولم يعطِ الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين الغازين معه -صلى الله عليه وسلم-".

هؤلاء الذين أعطاهم النبي -عليه الصلاة والسلام- من باب التأليف لهم مكانتهم عند قومهم، والإيمان لم يتمكن من قلوبهم، فيخشى عليهم أن يرتدوا، وأما الأنصار فوكلهم إلى إيمانهم وما وقر في قلوبهم، وطمأنهم وبرّد قلوبهم بما ذكره لهم، ترضون؟ «ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟» هذه هذه الكلمة تعدل الدنيا كلها، نعم.

"وقد أشار لعطاياه من غنائم هوازن في وقعة حنين الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة حنين بقوله:

أعطى عطايا شهدت بالكرم

 

 

 

يومئذ له ولم تجمجم
    

أعطى عطايا أخجلت دلح الديم
 

 

إذ ملأت رحب الغضا من النعم
   

زهاء ألفي ناقة منها وما

 

 

 

ملأ بين جبلين غنما
    

لرجل وبله ما لحلقه

 

 

 

منها ومن رقيقه وورقه

 

 

إلى آخره، قالوا: لو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها، لما أعطى -صلى الله عليه وسلم- ألفي ناقة من غنائم هوازن لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري، حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي، وقال في ذلك شعره المشهور:

أتجعل نهبي ونهب العبيدين
    

 

بين عيينة والأقرع"

 

 

طالب: ...............

ماذا؟

طالب: ...............

لا، بين عيينة والأقرع أو تجعل نهب نهبي ونهب العبيدين عيينة؟ الاثنين عبيدين أو نهبي أو نهب العبيد بين عيينة.

طالب: ...............

نعم، فما كان حصن ولا حابس.

"فما كان حصن ولا حابس
    

 

يفوقان مرداس في مجمع

 

 

وما كنت دون امرئ منهما
    

 

ومن تضع اليوم لا يرفع

 

 

وقد كنت في الحرب ذا تدرئٍ

 

 

 

فلم أعط شيئًا ولم أمنع

 

 

إلا أباعيرُ أعطيتُها
  

 

عديدٌ قوائمه الأربع

 

 

وكانت نهابا تلافيتها
 

 

بكرِّي على المُهر في الأجرع

 

 

وإيقاظي القوم إن يرقدوا
    

 

إذا هجع الناس لم أهجع

 

 

قالوا: فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش الغانمين واجبًا، لما فضل الأقرع وعيينة في العطاء من الغنيمة على العباس بن مرداس في أول الأمر قبل أن يقول شعره المذكور، وأجيب من جهة الجمهور عن هذه الاحتجاجات: فالجواب عن آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1] هو ما قدمنا من أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:41] الآية، ونسبه القرطبي لجمهور العلماء، والجواب عما وقع في فتح مكة من أوجه:

الأول: أن بعض العلماء زعموا أن مكة لم تفتح عنوة، ولكن أهلها أخذوا الأمان منه -صلى الله عليه وسلم-، وممن قال بهذا الشافعي -رحمه الله-. واستدل قائلو هذا القول بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، وهو ثابت في الصحيح، وهذا الخلاف في مكة هل أخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- عنوة؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان، والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: في غزوة الفتح يعني مكة:

واختلفوا فيها فقيل أمنت
 

 

وقيل عنوة وكرهًا أخذت

 

 

والحق أنها فتحت عنوة كما سيأتي تحقيقه، إن شاء الله".

فتحت عنوة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- دخلها وعلى رأسه المغفر، وأحلت له ساعة، خالد بن الوليد دخلها بالجنود بالسلاح.

طالب: ...............

 وحصل قتال، وقتل، المقصود أن المرجح أنها فُتحت عنوة، ولكن كيف يجاب عن قول الجمهور بما يتعلق بالتخميس على الغانمين؟ إعطاء أربعة الأخماس لهم وليس للإمام أن يتصرف فيه، فيما ذكره الشيخ كفاية.

"ومن أظهر الأجوبة عما وقع في فتح مكة، أن مكة ليست كغيرها من البلاد؛ لأنها حرام بحرمة الله من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، وإنما أحلت له -صلى الله عليه وسلم- ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده، وما كان بهذه المثابة فليس كغيره من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة العظيمة. وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة؛ ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لما سمع أن بعض الأنصار قال: يمنعنا، ويعطي قريشًا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، جمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحُسن، ومن جملته أنه قال لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟»، إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا: رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًا، وهذا ثابت في الصحيح، ونوه الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بحسن هذا الكلام الذي خاطبهم به -صلى الله عليه وسلم- بقوله: في غزوة حنين: ووكّل الأنصار".

ووكَل.

"ووكل الأنصار خيرُ".

خير، ووكل.

"ووكل الأنصار خير العالمين
    

 

لدينهم إذ ألف المؤلفين

 

 

فوجدوا عليه أن منعهم
 

 

فأرسل النبي من جمعهم

 

 

وقال قولاً كالفريد المؤنق

 

 

 

عن نظمه ضعف سلك منطقي

 

 

فالحاصل أن أربعة أخماس الغنيمة التي أوجف الجيش عليها الخيل والركاب للغزاة الغانمين على التحقيق، الذي لا شك فيه، وهو قول الجمهور. وقد علمتَ الجواب عن حجج المخالفين في ذلك".

نعم، خاص خاص، لو حصل- لا سمح الله- واستولى عليها الكفار، وحررت منهم؟

طالب: ...............

هذا قصدك؟

طالب: ...............

 على كل حال وضع مكة يختلف، وضع مكة يختلف عن غيرها، ومنَّ على أهلها لما لهم من المنزلة.

"ومن العلماء من يقول: لا يجوز للإمام أن ينفِّلَ أحدًا شيئًا من هذه الأخماس الأربعة؛ لأنها ملك للغانمين، وهو قول مالك. وذهب بعض العلماء إلى أن للإمام أن ينفل منها بعض الشيء باجتهاده، وهو أظهر دليلاً، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى.

 المسألة الثانية: هي تحقيق المقام في مصارف الخمس الذي يؤخذ من الغنيمة قبل القسمة، فظاهر الآية الكريمة أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله -جل وعلا-، ونصيب للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل".

والذين قالوا بإفراد نصيب الله عن نصيب رسوله، عن نصيب الرسول قالوا: إن نصيب الله يصرف للكعبة، ونصيب الرسول معروف، والذين قالوا بأن لله خمسه، وللرسول نصيب واحد هذا واحد يكون خمسة فيكون الخمس خمسة ويكون ذكر الله -جل وعلا- من باب التبرك والابتداء به لعظمته.

"وبهذا قال بعض أهل العلم: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية الرياحي، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس منها لمن شهدها، ثم يؤخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-".

وسهم؟

"فيكون سهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وعلى هذا القول فنصيب الله -جل وعلا- يُجعَل للكعبة، ولا يخفى ضعف هذا القول؛ لعدم الدليل عليه. وقال بعض من قال بهذا القول: إن نصيب الله -جل وعلا- يرد على ذوي الحاجة. والتحقيق أن نصيب الله -جل وعلا-، ونصيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- واحد، وذُكِر".

وذِكْرُ

"وذِكْر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم، وممن قال بهذا القول ابن عباس، كما نقله عنه الضحاك. وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن محمد بن الحنفية، والحسن البصري، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، ومغيرة وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير. والدليل على صحة هذا القول ما رواه البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرسًا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال: «لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش»، قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: «لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم»، وهذا دليل واضح على ما ذكرنا".

جهالة الرجل أبو وائل الذي يروي عنه عبد الله بن شقيق الرجل لم يسم وجهالته لا تضر؛ لأنه صحابي؛ لأنه صحابي.

"ويؤيده أيضًا ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكِندِي، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكِندِي -رضي الله عنهم-، فتذاكروا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة: يا عبادة كلمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلَّم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتناول وبْرة بين أُنملتيه، فقال: «إن هذي من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا، فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم، ينجي الله به من الهم والغم».

 قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أحمد هذا عن عبادة بن الصامت: هذا حديث حسن عظيم، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه، ولكن روى الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوه في قصة الخمس، والنهي عن الغلول".

وجاهدوا في الله.

"وعن عمرو بن عبسة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلّى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير، ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» رواه أبو داود، والنسائي، فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقسم خمسة أسهم؛ لأن اسم الله ذكر للتعظيم وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له -جل وعلا-، فاعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصرف نصيبه، الذي هو خمس الخمس، في مصالح المسلمين. بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا: «والخمس مردود عليكم»، وهو الحق، ويدل له ما ثبت في الصحيح: من أنه كان يأخذ قوت سنته من فيء بني النضير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما بعد وفاته، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى -صلوات الله وسلامه عليه- فإن بعض العلماء يقول بسقوط نصيبه بوفاته. وممن قال بذلك: أبو حنيفة -رحمه الله-، واختاره ابن جرير. وزاد أبو حنيفة سقوط سهم ذوي القربى أيضًا بوفاته -صلى الله عليه وسلم-، والصحيح أن نصيبه -صلى الله عليه وسلم- باقٍ، وأن إمام المسلمين يصرفه فيما كان يصرفه فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مصالح المسلمين.

وقال بعض العلماء: يكون نصيبه -صلى الله عليه وسلم- لمن يلي الأمر بعده، ورُوي عن أبي بكر، وعلي، وقتادة، وجماعة، قال ابن كثير: وجاء فيه حديث مرفوع.

 قال مُقيِّدُه -عفا الله عنه-: والظاهر أن هذا القول راجعٌ في المعنى إلى ما ذكرنا أنه الصحيح، وأن معنى كونه لمن يلي الأمر بعده، أنه يصرفه فيما كان يصرفه فيه -صلى الله عليه وسلم-، والنبي قال: «الخمس مردود عليكم»، وهو واضح كما ترى".

يعني في المصالح العامة، لا في مصالحه الخاصة إلا بقدر حاجته فالإمام الأصل فيه أنه متفرغ لهذا الأمر، وأنه لا يلي أعمالاً يكسب من ورائها، المتفرغ لهذا الأمر فمصالحه الخاصة تكون من هذا، الخمس، والأصل أنه لا يشارك الناس في معايشهم فتضيق عليهم الأمور بسبب قوته؛ بسبب ما أُعطي من سلطان، فإذا مُنِع من التكسب فلا بد من أن تقضى حاجته، وفي ترجمة أبي بكر أنه لما تولى الخلافة ضربوا له نصف شاة في كل يوم، هذه نفقة الخليفة. والنبي- عليه الصلاة والسلام- كان يأخذ قوت سنته.

"ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته راجعة إلى شيء واحد، وهو صرفه في مصالح المسلمين. وقد كان الخلفاء الراشدون المهديون -رضي الله عنهم- يصرفونه فيما كان يصرفه فيه -صلى الله عليه وسلم-، وكان أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهما- يصرفانه في الكُراع والسلاح. وجمهور العلماء على أن نصيب ذوي القربى باقٍ، ولم يسقط بموته -صلى الله عليه وسلم-. واختلف العلماء فيه من ثلاث جهات: الأولى: هل يسقط بوفاته أو لا؟ وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط، خلافًا لأبي حنيفة. الثانية: في المراد بذي القربى".

ذوو القربي على ما يأتي بنو هاشم وبنو المطلب هذا أرجح الأقوال، وهم كغيرهم من الناس يحتاجون لهم حاجاتهم الأصلية والضرورية والحاجية والكمالية كغيرهم، وهم ممنوعون من الصدقة، من الزكاة، فإذا حُرموا من الفيء، من الخمس وهم محرومون من الزكاة فكيف يعيشون؟ فلا بد أن يصرف لهم من هذا الخمس ما يكفي، وبعض العلماء يرى أنهم إذا حُرِموا من الخمس أو لم يكن هناك خمس في بيت المال أنهم يأخذون الزكاة ضرورة، ولكن إذا وُجِد في بيت المال ما يصرف عليهم منه فلا يجوز أن يأخذوا الصدقة من الزكاة.

"الثالثة: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم أو لا؟ أما ذوو القربى: فهم بنو هاشم، وبنو المطلب، على أظهر الأقوال دليلاً، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم بن خالد. قال البخاري في صحيحه، في كتاب فرض الخمس: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن عَقيل".

عُقيل عُقيل.

"عن عُقيل عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جبير بن مُطعِم، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد». قال الليث: حدثني يونس وزاد قال جبير: ولم يقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل. انتهى. وقال البخاري أيضًا في المغازي: حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مُطعِم أخبره، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال: «إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد»".

الأربعة من جهة النسب متساوون.

"فقال: «إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد». قال جبير: لم يقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- لبني عبد شمس، وبني نوفل شيئًا انتهى. وإيضاح كونهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة واحدة: أن جبير بن مُطعِم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف. فأولاد عبد مناف بن قُصي أربعة: هاشم، والمطلب، وعبد شمس. وهم أشقاء، أمهم عاتكة بنت مرة بن هلال السلمية، إحدى عواتك سليم اللاتي هن جدات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهن ثلاث: هذه التي ذكرنا. والثانية: عمتها وهي عاتكة بنت هلال التي هي أم عبد مناف. والثالثة: بنت أخي الأولى، وهي عاتكة بنت الأوقص بن مُرة بن هلال، وهي أم وهب، والد آمنة، أم النبي -صلى الله عليه وسلم-. ورابع أولاد عبد مناف: نوفل بن عبد مناف، وأمه: واقدة بنت أبي عدي، واسمه نوفل بن عبادة بن مازن بن صعصعة. قال الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب:

عبد مناف قمر البطحاء

 

 

 

أربعة بنوه هؤلاء

 

 

مطلب، وهاشم، ونوفل

 

 

 

وعبد شمس، هاشم لا يجهل

 

 

وقال في بيان عواتك سليم".

طالب: ...............

ماذا؟

طالب: ...............

اسمه نوفل بن عبادة بن مازن، كنيته، هذا ظاهر السياق.

"وقال في بيان عواتك سليم اللاتي هن جدات له -صلى الله عليه وسلم-:

عواتك النبي: أم وهب

 

 

 

وأم هاشم، وأم الندب

 

 

عبد مناف، وذه الأخيره

 

 

 

عمة عمه الأولى الصغيره

 

 

وهن بالترتيب ذا لذي الرجال

 

 

 

الأوقص بن مرة بن هلال

 

 

 فبهذا الذي بينا يتضح أن الصحيح أن المراد بذي القربى في الآية: بنو هاشم، وبنو المطلب دون بني عبد شمس، وبني نوفل. ووجهه أن بني عبد شمس، وبني نوفل عادوا الهاشميين، وظاهروا عليهم قريشًا، فصاروا كالأباعد منهم؛ للعداوة، وعدم النصرة".

لأن القرب يتقضي النصرة، لا العداوة، فلما عادوهم صاروا بمنزلة الأباعد.

ولذا قال فيهم أبو طالب في لاميته المشهورة:

جزى الله عنا عبد شمس، ونوفلاً

 

 

 

عقوبة شر، عاجل، غير آجل

 

 

بميزان قسط لا يخيس شعيرة

 

 

 

له شاهد من نفسه، غير عائل

 

 

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا

 

 

 

بني خلف قيضًا بنا، والغياطل".

 

 

طالب: ...............

ماذا؟

طالب: بني خُلف. بني خلفٍ قيضًا بنا، والعياطل.

عندنا غين والغياطل.

"بني خلف قيضًا بنا، والغياطل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم

وآل قصي في الخطوب الأوائل

بهذا الحديث الصحيح الذي ذكرنا: يتضح عدم صحة قول من قال: بأنهم بنو هاشم فقط، وقول من قال: إنهم قريش كلهم. وممن قال بأنهم بنو هاشم فقط: عمر بن عبد العزيز، وزيد بن أرقم، ومالك، والثوري، ومجاهد، وعلي بن الحسين، والأوزاعي، وغيرهم. وقد أخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن ابن عباس: أن نجدة الحروري كتب إليه يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه: إنا كنا نرى أنّا هُم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. وزيادة قوله: وقالوا: قريش كلها تفرد بها أبو معشر، وفيه ضعف".

أبو معشر السندي ضعيف نعم.

"وما قدّمنا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفعله الثابت في الصحيح يُعيّن أنهم بنو هاشم، والمطلب، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل، وكثير من أهل العلم.

 فإذا عرفت أنه -صلى الله عليه وسلم- قضى بخمس الخمس من غنائم خيبر لبني هاشم والمطلب، وأنهم ذوو القربى المذكورون في الآية. فاعلم أن العلماء اختلفوا: هل يفضّل ذكرهم على أنثاهم؟".

هذه هي المسألة الثالثة، ونقف عليها.