شرح جوامع الأخبار (07)

الشيخ/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طالب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

قال المؤلف العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي -عليه رحمة الله تعالى-:

الحديث الخامس والأربعون: عن أسمر بن مضرس‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏((‏من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له‏))‏ [رواه أبو داود]‏.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نعم هذا الحديث فيه الدلالة على أن من تقدم غيره إلى شيءٍ مباح مشاع بين الناس كلهم فهو أحق به، ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له)) يعني هو أحق به من غيره، جئت إلى المسجد ما فيه أحد تجلس في أي مكان تريد، وليس لأحدٍ كائناً من كان أن يأمرك بأن تقوم من هذا المكان أبداً، إذ أنك سبقت في الأمور العامة المشاعة إلى ما لم يسبق إليه، وقل مثل هذا في المباحات، في البراري مثلاً، سبقت إلى الكلأ، سبقت إلى الماء، سبقت إلى الأمور العامة، فإذا كان هذا في المباحات فمن باب أولى في مواطن العبادة، ولذا قال الله -جل وعلا- في بيته الحرام {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [(25) سورة الحـج] العاكف المقيم الملازم للمسجد، المجاور يستوي هو والبادي صاحب البادية الذي يأتي ليؤدي فرض واحد ويرجع، ما في فرق، ثم قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [(25) سورة الحـج] يعني كونك تعتدي على شخصٍ جالس في أي مكان من المسجد الحرام أو غيره من المساجد؛ لكن الأمر فيه أشد لأنه سماه إلحاد تعتدي عليه وتأمره بأن يقوم من مكانه لا هذا إلحاد، فليحذر الإخوة الذين يحجزون أماكن ويضيقون على الناس، وجد بعض التصرفات في أقدس البقاع مشينة، وصل فيها إلى حد الضرب، يعني في آخر لحظة من رمضان بقي على أذان المغرب خمس دقائق، آخر لحظة من رمضان في آخر يوم مضاربة في صحن الحرم، هذا أبعد هذا مكاني، على أي أساس؟ سبقت خلاص هذا مكانك، ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له)).

كذلك في الأراضي البور البيضاء، سبق إليها فلان وأحياها هو أحق بها، المشاعر سبق إلى مكان في منى أحق به، سبق إلى مكان في عرفة أحق به، مواطن العبادة الناس فيها سواء، لا يجوز الاحتجار والتضييق على الناس البتة، أما التعدي عليهم هذا ظلم لهم، بعض الناس يستأجر الأجراء ليحجزوا له الأماكن، هذا موجود في المواسم تجد مثلاً أجراء يحجزون أماكن لمن يتخلفون، ويأتي الناس قبلهم، لا من تقدم أولى به، ولا تجوز الأجرة في مثل هذه الأماكن، في كثير ٍمن المساجد أو في كثير من بلدان المسلمين تعارف الناس على موضع الإمام وموضع المؤذن، مسألة عرفية؛ لكن لو جاء شخص وجلس في موضع المؤذن وأصر أن يبقى فيه، وقد دخل المسجد قبل المؤذن له ذلك، شيخ يعلم الناس العلم وله عمود واضح بيّن جاء ووجد فيه شخص جالس الأصل أن هذا الشخص سبقه؛ لكن أهل العلم يستثنون مثل هذا للمصلحة الراجحة.

الحديث السادس والأربعون: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏ألحَقوا الفرائض بأهلها‏،‏ فما بقى فهو لأوْلى رجل ذكر‏))‏ [متفق عليه]‏.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في حديث ابن عباس المتفق عليه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) الفرائض: الأنصبة المقدرة المحددة شرعاً التي تولى الله -جل وعلا- قسمتها بين أصحابها ومستحقيها من قرابة الميت التي لم يترك فيها اجتهاداً لأحد، ولذا صار الخلاف في مسائل الفرائض وهو الأقل من بين سائر أبواب الدين، فالخلاف في الفرائض لا يكاد يذكر في مسائل يسيرة جداً تولى الله -جل وعلا- قسمة هذه الحقوق، لم يتركها لاجتهاد أحد، وبيّن أصحاب الفرائض، بين حقوقهم، وجاء الأمر بتطبيق ما جاء في كتاب الله -جل وعلا- من هذه الفرائض والحقوق، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) طبقوا ما جاء في كتاب الله -جل وعلا-، وأعطوا كل ذي حقٍ حقه، ومعلوم أن الإرث متعلق بتركة الميت، وقبل الإرث هناك حقوق تتعلق بالتركة منها: ما يتعلق بحق الميت نفسه ومؤونة تجهيزه، وهذا هو المقدم على كل حق، ومنها الديون المتعلقة بعين التركة، الديون التي فيها رهن لشيءٍ من الموروث، ثم الديون المطلقة التي لا تتعلق بعين التركة من حقوق الله وحقوق عباده، ثم بعد ذلك الوصايا، ثم الإرث، يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) مقتضى ذلك أن يقدم أصحاب الفروض المقدر على غيرهم، فيقدم صاحب الفرض فإذا استوفى صاحب الفرض حقه وبقي من التركة شيء يكون حينئذٍ لأولى رجلٍ ذكر، فإذا مات الميت عن زوجة وأم وأخت وعمّ مثلاً تعطى الزوجة النصيب كامل لعدم الحاجب، تعطى الربع، والأم كم؟

لماذا الثلث؟ لعدم وجود الفرع الوارث وجمع من الأخوة، والأخت؟ النصف، لماذا؟ لعدم الفرع الوارث وعدم المعصب، وعدم الأصل من الذكور الوارثة، كم يبقى للعم؟ يبقى للعم شيء؟ يبقى له شيء وإلا ما يبقى؟ فما بقي، ما له إلا ما يبقى، والآن ما يبقى شيء، فالمسألة تعول، لو قدر أنه ليس هناك أخت، زوجة وأم وعمّ أو أخ؟ للزوجة الربع، وللأم الثلث، وللعم الباقي، ((فما بقي فلأولى رجلٍ ذكر)) والأصل في التعصيب أنه للذكور، لهذا الحديث ولغيره، هم العصبات في الأصل، هم المتعصبون بأنفسهم، هناك عصبة للغير ومع الغير، ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) والفرائض فيها النصف، ونصفه ونصف نصفه، النصف والربع والثمن، وفيها الثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، الثلثان والثلث والسدس، هذه الفروض المقدرة، وأصحابها معروفون بينوا بالنصوص ولم تترك لاجتهاد أحد، ((فما باقي فلأولى رجلٍ ذكر)) أولى: هذه أفعل تفضيل والأولوية هذه تكون بأحد أمور ثلاثة، بالجهة، بالقرب، بالقوة.

فبالجهة التقديم ثم بقربه

 

وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا 

هذه منظومة إيش؟

طالب: الجعبري.

الجعبري صحيح؛ لأن الإخوان ما يعرفون جلهم إلا الرحبية، والرحبية من الرجز، ومنظومة الجعبري على زنة إيش؟ الشاطبية؟ ما يطلع علينا واحد يقول: هذا البيت من الشاطبية ما يمكن، والفرائض له كتبه ومؤلفاته وهو علم مستقل يدرس على جهة الاستقلال، كما أنه فرع من فروع علم الفقه، والاهتمام به والعناية بِشأنه أمر لا بد منه، لا بد من ذلك؛ لأن الناس يتعرضون لهذه المسائل، ما فيه بيت يخلو من مسألة من مسائل الفرائض، ما في بيت يخلو من ميت، فعلى طلاب العلم أن يعنوا به، الحديث الذي يليه حديث أبي أمامة.

الحديث السابع والأربعون: عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏((‏إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقَّه، فلا وصية لوارث‏))‏ [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه].‏

حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي -رضي الله عنه- يقول: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقه، فلا وصية لوارث)) هذا الحديث مخرج في السنن، وفيه كلام لأهل العلم؛ لكنه متلقىً بالقبول، إيش معنى تلقي بالقبول؟ يعني عمل به الأئمة، وأهل الحديث يرون أن تلقي الحديث بالقبول أقوى من مجرد نظافة الأسانيد وكثرة الطرق، تلقي الأمة للخبر بالقبول أقوى من مجرد نظافة الأسانيد وتعدد الطرق، فتلقي الأمة بالقبول يدل على أن الخبر محكم، واتفاقهم على العمل به يعطيه قوة، هناك مسائل يبحثها أهل الحديث في عمل العالم بالحديث، أو فتواه على مقتضى حديث، أو مخالفة العالم لحديث، هل له أثر في حكم الحديث؟ فتواه على مقتضى الحديث، أو عمله بالحديث، هل يدل على ثبوته وصحته؟

طالب:.......

لا يلزم؛ لأنه قد يكون معه أحاديث أخرى، قد يكون عمل العالم بمقتضى هذا الحديث لما يؤيده من قواعد، كما أن مخالفة العالم للحديث لا تدل على ضعفه لاحتمال أن يكون عمله بمعارضٍ يراه أرجح، الأمة تلقت هذا الخبر بالقبول ((فلا وصية لوارث)) لقوله -جل وعلا-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] لمن الوصية؟ للوالدين، والوالدان من الوارثين، وهنا يقول: ((لا وصية لوارث)) في القرآن إثبات الوصية للوالدين وهما من الورثة؟ وهنا يقول: ((لا وصية لوارث)) هل نقول: أن الآية منسوخة بهذا الحديث؟ يجرؤ أحد أن يقول: أن الآية منسوخة بهذا الحديث؟

طالب:........

نعم، تخصيص؟ لا هو رفع كلي للحكم، بالنسبة للوصية للوارث منسوخة؛ لكن هل نسختها آيات المواريث كما يقول أهل العلم؟ ولا يدخلون هذا فيها؛ لأن الجمهور عندهم أن الآحاد لا ينسخ المتواتر، على كل حال: ((لا وصية لوارث)) هو الأمر الذي تقرر عليه العمل، وهو الذي عليه عامة أهل العلم.

((إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقه)) بين حق الوالدين في كتابه، حق الزوجات مبين، حق الأزواج مبين، حق الأولاد، كل شيء مبين، ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه)) تولى إعطاءه -جل وعلا- بنفسه، ولم يترك في ذلك المجال لأحد، وحينئذٍ لا وصية لوارث؛ لأنه لا جمع بين الإرث والوصية، الوصية معروف أنها لا تنفذ إلا بعد موت الموصي، فإذا أوصى الموصي لوارث فبان عند الموت غير وارث، شخص له أخ لو مات ورثه فأوصى له بثلث ماله، نقول: هذه وصية؟ وصية لكنها لوارث باطلة، افترض أن هذا الأخ ولد لأخيه قبل وفاته بيوم ولد، تنفذ الوصية وإلا ما تنفذ؟ فبان عند الموت غير وارث، يعني إن كانت الوصية في حال عدم الحاجب، والموصي على علمٍ بذلك، الموصي عنده خبر، وأنه لا وصية لوارث، ومع ذلك يوصي له لأنه وارث، فالوصية من أصلها باطلة؛ لكن لو كان هذا الأخ أوصى له أخوه في آخر عمره، وبعد أن ظهرت النتائج وأن الزوجة حامل، فعرف أنه محجوب بهذا الحمل، ثم مات هذا الحمل قبيل الوفاة، أثناء الوصية هو غير وارث لوجود الحمل؛ لأن الحمل يحجب، لا سيما إذا كان ذكراً، هو يتوقع أنه ذكر فأوصى له لئلا يحرم من الأخ، ثم مات هذا الحمل، أو ظهر هذا الحمل أنثى، تستحق نصف المال والأخ له الباقي، ماذا يكون؟ تنفذ الوصية وإلا ما تنفذ؟ يعني هل العبرة بالحال أو بالمآل؟ العبرة بالحال وإلا بالمآل؟ أو نقول: أن الوارث وصف مؤثر فإن كان وارثاً بالفعل لا تصح الوصية، وإن كان غير وارث بالفعل تصح الوصية؟ مع أنهم يلاحظون المقاصد؛ لأنه إذا قصد الوصية لوارث ظلم بقية الورثة، وحينئذٍ يعامل بنقيض قصده عندهم، طيب أوصى لوارث بالوصف لا بالقرب، يعني عنده أولاد، واحد من هؤلاء الأولاد يطلب العلم، فقال: ثلث مالي لمن يطلب العلم لولده، وهو يعرف ولده ما في إلا واحد، فكونه يوصي بالوصف يختلف عن كونه يوصي بالتعيين من الورثة، وفي هذه الوصية، ومثل هذه الوصية حث على تعلم العلم، وما قصد التمييز وارث من وارث، هو قصد حث هؤلاء الورثة على الاهتمام بشأن العلم، ولذا يصححها أهل العلم، وإن كان وارثاً؛ لأنه ليس مقصوداً لذاته؛ لكن لو قال: ثلث مالي لابني فلان، لولدي فلان لأنه يطلب العلم قلنا: لا، أنت أوصيت لولدك، فإذا قال: لمن يطلب العلم من ولدي، قلنا: ما شاء الله صيغة صحيحة، فالأمور بمقاصدها، الفروع كثيرة جداً، وتحتاج إلى شيءٍ من البسط؛ لكن الالتزام بتكميل الكتاب يعوق عن ذلك.

الحديث الثامن والأربعون: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏ثلاثةٌ حقٌّ على الله عَوْنُهم‏:‏ المُكاتب يريد الأداء، والمتزوج يريد العَفاف، والمجاهد في سبيل الله‏))[رواه أهل السنن إلا النسائي]‏.‏

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذا الحديث الذي يرويه من طريق أبي هريرة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة حق على الله عونهم)) لما يترتب على هذه الحمالات التي تحملوها من نفعٍ عظيم، وأثرٍ بالغ، ((ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب يريد الأداء)) المكاتَب يريد الأداء، يعني ينوي الأداء، فإذا كانت هذه نيته، وكاتبه سيده بطلبٍ منه يريد الحرية ليتعبد من غير تقييد فالله -جل وعلا- يعينه، فإذا أراد العبد أن يتحرر بالكتابة من قيود الرقّ ليعبد الله -جل وعلا- ولينفع نفسه وغيره، وهو مع ذلك يريد أداء نجوم هذه الكتابة فإن الله -جل وعلا- يعينه، ومثله من تحمل بعض الديون لحوائجه الأصلية وهو يريد أداءها، بخلاف من أخذ أموال الناس تكثراً، ومع الأسف الشديد لا يحسب أي حساب للدين، فتجده يتخبط ويضطر إلى أن يستدين، ويرهق نفسه بالديون ونيته -والله أعلم- بها عاد كونه يريد الأداء أو لا يريد، هو تسبب في إغراق نفسه بالديون، نعم يختلف الأمر فيما إذا كان يريد الوفاء أو لا يريد الوفاء، يريد إتلافها أتلفه الله؛ لكن إذا لم يكن هناك سبب لتحمل هذه الديون فالدين خطر، شغل الذمة خطر، فإذا كانت الشهادة وهي القتل في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين، فالدين شأنه عظيم، وقد امتنع النبي -عليه الصلاة والسلام- من الصلاة على المدين حتى ضمن الدين، وعلى هذا من تحمل الدين لحاجة مع نية الوفاء حكمه حكم هذا المكاتب، ومثل ذلك المتزوج يريد العفاف، وذلك لما في الزواج من مصالح دينية ودنيوية، وهو من سنن المرسلين، وأوجبه بعض أهل العلم مطلقاً، وإن كان حكمه تنتابه الأحكام الخمسة عند جمعٍ من أهل العلم، وعلى كل حال فمن رغب عنه فقد رغب عن السنة، ولو قال: ليتفرغ للعلم، ولو قال: ليتفرغ للجهاد، ليتفرغ للعبادة هذا عبادة، ((وفي بضع أحدكم صدقة)) وهو أيضاً تعاون على البر والتقوى، وهو أيضاً إبقاء للنوع الإنساني، وهو أيضاً تحقيق لأمره -عليه الصلاة والسلام- بالتكاثر، وقد أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالزواج، ولا يتحقق هذا الأمر بمجرد العقد، ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) هذا أمر، ويختلف العلماء في حقيقة الزواج وحقيقة النكاح، هل هي العقد أو الوطء أو هما معاً أو حقيقة أحدهما مجاز في الآخر؟ الخلاف طويل؛ لكن الذي قرره شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أن امتثال الأمر لا يتحقق إلا باجتماع الأمرين، ((فليتزوج)) لو قال شاب: نعم النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) أنا عقدت، حققت الأمر وخرجت من عهدة هذا الأمر إذاً أطلق قبل الدخول، نقول: لا يا أخي، لا بد من تحقق الأمرين، وهذا في النكاح المأمور به كما يقول شيخ الإسلام لا بد من الأمرين معاً، أما النكاح المنهي عنه فالنهي ينصرف إلى العقد وحده، وإلى الوطء وحده، وإلى الأمرين من باب أولى، فمثلاً   {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [(22) سورة النساء] قد يقول: المراد به العقد؛ لأن حقيقة النكاح العقد، إذاً العقد هل يتصور أن الشرع يحرم العقد ويبيح الوطء؟ أو يقول مثلاً: المراد حقيقة النكاح الوطء إذاً أعقد، لا بد من اجتناب الأمرين معاً، وتيمور لما أعلن الدخول في الإسلام، وهو ظالم باغي معتدي أعلن الإسلام وتحته نساء أبيه، فقال علماء الإسلام: لا يجوز أن تبقى نساء أبيه في عصمته بعد إسلامه، فخشوا من سطوته وردته -إن كان أسلم حقيقة والله يتولى السرائر- وبطشه وانتقامه من المسلمين، فقام واحد من أهل العلم قال: نجد له مخرج لأن الضرر متحقق، وهو أن نقول: أن عقد أبيه على هؤلاء النسوة باطل، كانوا كفار، فعقد أبيه على هؤلاء النسوة باطل؛ لكن هل يسوغ له أن يطأ هؤلاء النسوة اللاتي وطأهن أبوه ولو بعقدٍ باطل؟ لا يجوز هذا بحال، هذا رأى من المصلحة العامة للأمة أنه يترك، مفسدة خاصة به وبنسائه أسهل من مصلحة عامة جائحة بالأمة، وبعض أهل العلم يصير عندهم من الجرأة مثل هذا، ويتفاوتون في تقرير المصالح والمفاسد؛ لكن لا شك أن مثل هذه الفتوى إن لم يكن الضرر متحققاً والبلى متعدياً على الأمة وإلا فهي فتوى باطلة، وإن قال بعضهم أنها عين الفقه.

المقصود أن النكاح المنهي عنه يقع على العقد وحده، ويقع على الوطء وحده، ويقع عليهما من باب أولى معاً كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية، على كل حال ((المتزوج يريد العفاف)) الممتثل للأوامر الشرعية، لا بد من أن يجمع بين الأمرين ما يقول: أنا والله عقدت إذاً تزوجت؛ لأن الزواج والنكاح حقيقته العقد، يعني على قول ما يلزم أن يطأ، ويطلق قبل الدخول ليسترد نصف المهر، نقول: لا أخي أنت ما حققت الأمر الشرعي، وإذا كان هذا هدفك من الأصل فالله -جل وعلا- لن يعينك على هذا؛ لأنك ما امتثلت الأمر، ونظراً لعظم المصالح في الزواج والنكاح جاءت الأوامر به، وجاء الوعد بعون هذا المتزوج؛ لكن في حياة الناس اليوم ما هو بعيد كل البعد من الهدي النبوي في النكاح والزواج، فهل من يخسر في ليلةٍ واحدة خمسمائة ألف مثل هذا يدخل في الحديث؟ قاعة وإلا فندق تستأجر بخمسمائة ألف ليلة واحدة؟ مثل هذا هل هو يرجو لمثل هذا العون من الله -جل وعلا-؟ المقصود أنه المتزوج المحقق للهدف الشرعي من الأمر بالزواج الممتثل للتوجيهات الشرعية، والوصايا النبوية في الزواج، أما شخص عنده مخالفات عظيمة في الزواج، ويريد العون من الله -جل وعلا-، ومن المبذرين {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [(27) سورة الإسراء] فأخو الشيطان لا يستحق العون، ((المتزوج يريد العفاف)) لهذه النية، يريد أن يعف نفسه، ويعف زوجته، ويحصل بينهم من الأولاد من يدعو لهم بعد وفاتهم.

((والمجاهد في سبيل الله)) المجاهد في سبيل الله الذي يتحمل ما يعينه على الجهاد، فهذا الذي يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، لصد العدوان على عباد الله، مثل هذا الله -جل وعلا- يعينه في تسديد ما تحمله من أجل الجهاد، والله المستعان.

الحديث التاسع والأربعون: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏يحرُم من الرَّضاعة ما يحرم من الولادة‏))‏ [رواه البخاري ومسلم‏].

يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، المحرمات في النكاح إما أن تكون بالنسب، أو بالمصاهرة، أو بالرضاع، فالمحرمات بالنسب مفصلة في سورة النساء {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [(23) سورة النساء].. إلى آخره، فيحرم من الرضاع ما حرم في هذه الآية من المحرمات بالنسب، أيضاً حرم بسبب المصاهرة، وهي غير النسب، فهل يحرم من الرضاعة مثل ما حرم من المصاهرة؟ أخت الزوجة من الرضاعة مثلاً، زوجة الابن من الرضاعة، بنت الزوجة من الرضاعة، بنت الزوجة من الرضاعة بنت، بنت الزوجة من الرضاعة ربيبة؛ لكن زوجة الابن من الرضاعة تحرم وإلا ما تحرم؟ {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [(23) سورة النساء] هل مثل هذا يخرج زوجة الحفيد لأنه ليس ولد صلب إنما هو ابن ابن؟ يخرج وإلا ما يخرج؟ لا يخرج زوجة الحفيد؛ لأن ابن الابن ابن، زوجة الابن من الرضاعة تخرج بقوله: {مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [(23) سورة النساء] المسألة خلافية بين أهل العلم، ولولا قوله: {مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} لدخلت في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)) لكن هذا القيد {مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} قيد اعتبره بعض العلماء، ومنهم من قال: تحرم بهذا الحديث، والقيد {مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} يخرج الولد بالتبني فقط، أما ولد الرضاعة فهو ولد، طيب يمكن الاحتياط في مثل هذا الباب وإلا ما يمكن؟ ((هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي منه يا سودة)) فالاحتياط لمثل هذا الباب أن لا يتزوج زوجة ابنه من الرضاعة، كما أن الاحتياط في مثل هذا الباب أن لا تكشف له زوجة ابنه من الرضاعة، هذا احتياط، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((هو لك يا عبد بن زمعة)) هذا حق شرعي؛ لكن لما رأى الشبه البيّن بعتبة قال: ((احتجبي يا سودة)) وإلا فالأصل أنه أخوه، الاحتياط في مثل هذا وارد؛ لكن من ترجّح عنده شيء بدليله ويدين الله -جل وعلا- بهذا القول الراجح لا يلام في فعله؛ لكن يبقى أن الاحتياط مطلوب.

((يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)) الأم من الرضاعة حرام، الأخت من الرضاعة حرام، البنت من الرضاعة حرام، ويختلفون في ما كان من الرضاعة له نظير مما حرم بالمصاهرة، يختلفون في مثل هذا والاحتياط أيضاً أن الحكم واحد، حتى من المصاهرة، أخت الزوجة من الرضاعة الاحتياط منعه، والله المستعان.

{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [(23) سورة النساء] عموم هذا اللفظ، {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} مثلاً يتناول الأخوة من النسب بأن تكون أخت شقيقة أو لأم أو لأب، وكذلك من الرضاع، فهذا العموم، هذا النص بعمومه يتناول الأخت من الرضاعة، وهو الأحوط، وهو قول جمهور العلماء.

الحديث الخمسون: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏لا يَفْرِك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر‏))‏ [رواه مسلم‏].‏

هذا الحديث فيه مقياس ونبراس للتعامل بين الزوجين، فالمؤمن لا يستعجل في أموره؛ لأنه قد يرى من أخلاق زوجته ما يسوءه فيقلاها ويبغضها بسبب هذا ثم يتركها، تكون النهاية الترك، وهذا مع الأسف الشديد واقع كثير من الزوجات في العصور المتأخرة، ونسب الطلاق مرتفعة جداً في الأيام الأولى من الزواج، والسبب أن هذا الزوج متوقع شيء بهذه الزوجة، ولديه أحلام يتوقع أن هذه الزوجة تفي بجميع ما يريد، ثم يفاجئ من أول يوم أن لديها خلق لا يرضاه، التوجيه النبوي لا يتعجل، وإذا وقف منها على خلقٍ ذميم فلينظر إلى الأخلاق الأخرى، إن كره منها خلقاً رضي آخر، وهل يتصور أن المرأة مبرأة من كل عيبٍ ونقص؟ مشتملة على كل فضل؟ ما هو صحيح، لو كان في نساء الدنيا من هذه صفتها ما صار للجنة مزية، ونساء الجنة مزية، بل لا بد من العيب والنقص، وليس هذا خاص بالنساء، أيضاً الرجال كذلك، امرأة أقدمت على قبول زوج لما تسمع عنه، تسمع عنه أنه صاحب علم، صاحب فضل، صاحب خلق، صاحب كرم، صاحب كذا، ثم تقبل، تفاجئ أول يوم أن المسألة أقل مما توقعت، فتنشز أيضاً هي مطالبة بأن لا تستعجل، إن كرهت منه خلق ترضى منه آخر؛ لكن يخاطب الأزواج في مثل هذا لأن الأمر بأيديهم، هم أهل القرار في مثل هذه الأمور، وإلا فالمرأة أيضاً مطالبة ومخاطبة بهذا، لا تستعجل، نعم هناك أخلاق لا يمكن الصبر عليها، هناك أمور ومعايب يرتكبها بعض الرجال ليس للمرأة أن تصبر عليها، وهناك أيضاً معايب في بعض الناس لا يمكن للرجال الصبر عليها، لكن هناك أمور محتملة، تمشي بالتدريج، مثل هذه هي التي جاء التوجيه بالصبر عليها، وغض البصر عنها، غض الطرف عنها، والنظر إلى الصفات الحميدة في هذه المرأة، وفي هذا الرجل، كم من امرأة أقدمت على شخص بسبب انتشار سمعته؛ لكن هي ما تعرف إلا الظاهر، تسمع السمعة ولا تدري عن شيء من معاملته في بيته، قد يكون من أسوأ الناس خلقاً؛ لكن الناس تعاملوا معه على الظاهر، فالإقدام لا بد أن يكون على بينة، ولذا لا بد من التحقق والتأكد من الطرفين في شأن الآخر، ولذا أمر الرجل في أن ينظر إلى المرأة، أذن له أن ينظر، ((اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) لئلا يفاجئ بما لا يتوقعه ثم يحصل نتيجة الفراق، فإذا حصل النظر، وركن إليها وركنت إليه فإنهم في الغالب لا يحصل بينهم شيء إلا عادة في الأخلاق الخفية، والإذن بالرؤية، الإذن برؤية المخطوبة دليل على أن الأصل هو المنع، يعني في حديث جابر لما أذن له أن ينظر إليها فكان يختبأ لينظر إليها، هل معنى هذا أنها تخرج إلى الأسواق سافرة كاشفة عن وجهها؟ أو كانت تتغطى وتتحجب؟ يعني لو كانت تخرج إلى الأسواق كاشفة عن وجهها ما احتاج إلى أن يختبأ إليها، ولا يحتاج إلى أن يقال له: انظر إليها، هو ينظر إليها باستمرار، هذا من أدلة الحجاب عند أهل العلم، والأدلة كثيرة متضافرة متظاهرة، وفي حديث قصة الإفك تقول: "كان يعرفني قبل الحجاب" لو رآها ما احتاجت إلى مثل هذا الكلام، وفي حديث عائشة أيضاً في الحج: "فإذا دنا الرجال سدلت إحدانا جلبابها" المقصود أن الأدلة كثيرة جداً متضافرة ولا يطالب بنزع الحجاب، لا يطالب بنزع الحجاب إلا من أتبع بآية الأمر بالحجاب، في آخر سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [(59) سورة الأحزاب] الذي أتبع به، شوف العلاقة وثيقة بين الآيتين، {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [(60) سورة الأحزاب] فليحذر الذين يطالبون بنزع الحجاب، نعم قد يوجد أهل علم وأهل فضل بحثوا المسائل وترجح عندهم شيء، هذا شيء آخر؛ لكن يبقى أن كثير ممن ينبش في مثل هذه المسائل في قلبه شيء، فليحذر المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة، مثل هؤلاء يحذرون، إن كان الناس على خير وفضل وستر كيف يأتي من يطالب بنزع حجاب الوجه مثلاً؟ في بلد الفتوى على هذا، والأمة توارثت هذا، وتواطأت عليه، وفيه نصوص شرعية صحيحة صريحة، ومن يأتي من ينادي بنزع هذا الحجاب، هذا على خطر عظيم، ومن أوائل المعاصي التي زاولها إبليس، سوّل لآدم وأملى له أن يأكل من الشجرة، لماذا؟ ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، فهذه وظيفة إبليس وأتباعه، نسأل الله السلامة والعافية.

على كل حال المؤمن هل يدخل في هذا الوصف؟ ((لا يفرك مؤمن مؤمنة)) الخطاب لمن؟ للمؤمنين، وجد منها خلق لا يحتمله، تساهل في عرض مثلاً، نقول: هذه من الأصل ما دخلت؛ لأن الوصف بالإيمان له شأنه، وكذلك لو وقفت منه على أمرٍ رديء، دياثة ونحوها، مثل هذا لا قرار معه، ولا صبر معه، ((إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)) لا بد أن تشتمل على آداب ومحاسن وأمور وأخلاق قد يظهر بعضها بالأيام الأولى، وقد لا تتكشف كثير منها إلا بعد حين.

الحديث الحادي والخمسون: عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكِّلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها‏،‏ وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فائْتِ الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك‏))‏ [رواه البخاري ومسلم‏].

حديث عبد الرحمن بن سمرة قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يا عبد الرحمن بن سمرة)) وخطابه -عليه الصلاة والسلام- للواحد من أمته هو خطاب للجميع، فكل واحد منا يتجه له هذا الخطاب، ((يا عبد الرحمن ابن سمرة لا تسأل الإمارة)) وفي حكم الإمارة جميع الوظائف، وكان الأمر في صدر الأمة لا تحتاج الأمة إلا إلى أمير، والأمير وهو القاضي، وهو المنفذ، وهو الحاكم، وهو المفتي، وكل شيء، وكان يسمى عامل، الإمام الأعظم يعين في كل بلد عامل، نعم هم عمال؛ لأن عملهم لمصلحة الأمة، لا لمصالحهم الخاصة، ((يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة)) لماذا؟ لأنها مزلة قدم، وسؤالك للإمارة مع ما تتطلبه من شروط وكمالات تزكية للنفس، يعني إذا سألت ولاية وإلا إمارة وإلا قضاء وإلا وظيفة كأنك تقول لمن تسأله: أنا كفؤ لهذا العمل فهذا تزكية للنفس من جهة، الأمر الثاني: أن في خطر عظيم تدخل على أمرٍ تظنه سهل ثم بعد ذلك تتورط بأمور لا تحسب لها حساب، ولذا لما زار ابن عمر عبد الله بن عامر في مرضه وطلب منه أن يدعو له، وأن يوصيه قال: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقةً من غلول، وكنت على البصرة" يعني ابن عمر ما يشهد عليه بشيء، بشيء بين وواضح، لا، لكن مجرد كونك على البصرة لا بد أن يدخل عليك شيء؛ لأن الإنسان إذا خلي بينه وبين ما تشتهيه نفسه، ويميل إليه طبعه وليس عليه حسيب ولا رقيب ولا شيء لا بد أن يتساهل في بعض الأمور، "وكنت على البصرة" يعني اعد حساباتك، "ولا صدقةً من غلول"، والذي يؤخذ من بيت المال بغير حق غلول، لا تسأل الأمور لأنها مزلة قدم وعليها آثار، ويتضمن الطلب والسؤال أيضاً تزكية النفس، وأنه أهل وكفؤ لهذا العمل، فإنك إن أوتيت عن مسألةٍ وكلت إليها، يعني إذا سألت وكانت ثقتك بنفسك توصلك إلى هذا الحد أن تسأل هذه الولاية وهذه الإمارة وهذه الوظيفة توكل إلى نفسك؛ لأنك جئت من قوة لهذا العمل، وثقة تامة بالنفس، بخلاف إن أوتيتها من غير مسألة، إذا أعطي وولي على عملٍ من غير مسألة فلا شك أنه سوف يعان عليها، لا سيما إذا لم يستشرف لهذا العمل، ولم يوافق على مثل هذا العمل إلا بإلحاح مثل هذا لا شك أن الإعانة والتوفيق يكون حليفه بإذن الله تعالى، وإن أوتيتها عن غير مسألةٍ أعنت عليها، وأي مسلم يستغني عن إعانة الله -جل وعلا-؟ وعن توفيق الله تعالى؟ الإنسان إذا وكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز، أمر مدرك، يدركه كل إنسان من نفسه.

المسألة الثانية مما اشتمل عليها، الحديث اشتمل على مسألتين: مسألة سؤال الإمارة، والثانية: اليمين، ((إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك)) حصل نزاع بينك وبين فلان من الناس وأقسمت أن لا تدخل بيته، أو لا تكلمه، ثم رأيت من المصلحة أنك تكلم فلان وتدخل بيته، فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك، في بعض الروايات تقديم الكفارة: ((كفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير)) أولاً: الكفارة سببها انعقاد اليمين، ووقتها الحنث، والقاعدة: أن العبادة إذا كان لها سبب وجوب ووقت وجوب فإنه لا يجوز تقديمها على السبب اتفاقاً، ويجزئ تأخيرها عن الوقت اتفاقاً، والخلاف بينهما، فمثلاً اليمين أو الكفارة، كفارة اليمين سببها الانعقاد، انعقاد اليمين؛ لكن هل تجب عليه بها لمجرد السبب؟ لا، لا تجب، الاحتمال أنه ما يحنث ولا يجب عليه كفارة، لكن وقت الوجوب وتعين الوجوب إذا حنث في يمينه، فإذا قال: هذا إطعام عشرة مساكين، خمسة عشر صاع كم؟ نصف صاع، كل واحد له نصف صاع، خمسة آصع، يعني خمسة عشر كيلو، خمسة عشر كيلو رز، خذ يا أخي الفقير، أنا احتمال أني أحلف يمين فيما بعد، ثم لا أجد كفارة، نقول: ما يجزئ قبل اليمين، قبل انعقاد السبب لا يجزئ، حلف وانعقدت يمينه، جاء إلى بيت فيه مساكين وقال: هذا خمسة عشر كيلو كفارة يمين لأني حلفت ولا أدري بعد حنث وإلا ما حنث هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، أما قبل انعقاد اليمين لا، ما في خلاف أنها لا تجزئ، وبعد الحنث تجزئ اتفاقاً، وهنا يقول: ((فائت الذي هو خير)) يعني احنث في يمينك ((وكفر عن يمينك)) لكن لو قدم الكفارة قبل الحنث يجوز؛ لأنه في بعض الروايات: ((كفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير)) وأما كفارة الظهار فلا بد أن تكون قبل المسيس، تكون قبل المسيس، دم المتعة والقران سببها الإحرام بالعمرة في أشهر الحج بالنسبة للمتمتع وسببها الجمع بين النسكين بالنسبة للقارن، قبل الإحرام بالعمرة ما تجزئ، ما يجزئ الدم؛ لكن لما أحرم بالعمرة أو أحرم قارن ودخل مكة وطاف طواف العمرة وسعى وتحلل قال: الآن وقت سعة والناس بحاجة إلى لحم أنا أذبح الدم الآن قبل الحج، وقل مثل هذا في القارن، طاف طواف القدوم، وسعى سعي الحج، وقال: الناس الآن بحاجة إلى لحم ليش أنتظر إلى يوم العيد ويوم العيد الناس ما هم بحاجة؟ فيه الخلاف المذكور؛ لكن جمهور أهل العلم على أنها لا تجزئ إلا في يوم العيد، القاعدة هذه ذكرها ابن رجب في قواعده، وذكر لها أمثلة كثيرة فليرجع إليه.

((إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك)) حلفت: والله ما أدخل بيت فلان مثلاً، فرأيت أنك تدخل لا سيما إذا كان من أهل القرابة، تكفر عن يمينك وأنت مرتاح، حلفت على فلان أن يأكل عندك مثلاً، أو حلفت بعد تقديم الطعام أن يبدأ أو لا تأكل معه إكراماً له يكفر وإلا ما يكفر؟ يعني اليمين التي مقتضاها الإكرام، حديث أبي بكر في الصحيح إيش مضمونه؟ إيش مقتضاه؟ حلفوا أن لا يأكلوا، وحلف أن لا يأكل، فأكلوا ثم أكل، وهل أمروا بكفارة؟ وهل أمر أبو بكر بكفارة، ما في أمر بكفارة، فاستدل بعض أهل العلم على أن اليمين التي يراد منها الإكرام، إكرام الضيف أنها لا يلزمه فيها الكفارة، يجري مجرى اليمين عند بعضهم ما يقصد منه، ما يقصد من اليمين من الحث على فعلٍ أو المنع منه، ولذا لو طلق زوجته إن خرجت أو دخلت أو زارت أهل فلان أو كذا فمقتضى اليمين عند شيخ الإسلام ومن يقول بقوله أنه يكفر كفارة يمين، ولا شيء عليه، المقصود أن الفروع المترتبة على الحديث كثيرة جداً.

((يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة)) من المسائل أحياناً قد يرى الإنسان من نفسه أن هذا العمل متعيّن عليه، متعيّن عليه بحيث لو أسند على غيره ضاع، فهل له أن يسأل؟ هل له أن يسأل؟ نعم، له أن يسأل، بدليل {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} [(55) سورة يوسف] لماذا؟ لتوافر الشرط المطلوب، فإذا توافرت الشروط المطلوبة لولايةٍ من الولايات، وتعيّن عليه بحيث لا يوجد غيره يقوم مقامه حينئذٍ يسوغ له أن يسأل، ولو سأل بطريق غير مباشر، لا ينبغي أن يسأل سؤال مباشر، إنما لو كان بغير مباشر كان حصل له الإعانة وحصل له المقصود.

الحديث الثاني والخمسون: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه)‏)‏[رواه البخاري‏].

((من نذر أن يطيع الله)) يتعبد لله -جل وعلا- بطاعةٍ يحبها لزمه الوفاء، إلا إذا عجز، والطاعات إما أن تكون واجبات أو مستحبات، وهي مطلوبة بأصل الشارع، وتتأكد إذا قارنها عهد أو ميثاق أو نذر، عهد أو ميثاق أو نذر، يعني فرق بين أن يقول الإنسان في نفسه: إذا جاء الراتب أتصدق بمائة ريال، في نفسه، وبين أن يتحدث في المجالس أنه إذا جاء الراتب يتصدق بمائة ريال، وبين أن يقرن ذلك بالعهد والميثاق، إن كان في مجرد نفسه فهو مخير، ينظر في المصلحة، إذا تحدث في المجالس وحفظ عنه الناس ذلك فالوفاء متأكد، إذا قرن ذلك بالعهد والميثاق فالأمر أشد، لا بد من الوفاء، فإن لم يفِ؟ {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [(75-77) سورة التوبة] فمن نذر أن يتصدق بمبلغ كذا يلزمه الوفاء، والوفاء بالنذر واجب، لا سيما إذا كان فيه طاعة، ومثله لو نذر شيئاً مباحاً ويستطيع الوفاء به؛ لكن الكلام في لزوم الوفاء بنذر الطاعة، من نذر أن يطيع الله فليطعه، بخلاف من نذر أن يعصي، إذا نذر أن يعصي لا يجوز له الوفاء بهذا النذر بحال؛ لأن المعصية في الأصل ممنوعة شرعاً، والذي ينذر المعصية آثم، نذر أن يصوم صوم داود، وسواء كان هذا النذر مقرون بسبب أو غير مقرون بسبب، إن شفاه الله يصوم صوم داود، إن ردّ الله غائبه، إن شفى الله مريضه يصوم صيام داود، أو يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أو يصوم الاثنين والخميس أو غير ذلك من الأيام التي يستحب صيامها، هذا يلزمه الوفاء إلا إذا عجز يكفر؛ لكن إذا نذر صياماً مستمراً، والصيام له بدل بالنسبة للعاجز وهو الإطعام، هل نقول: له كفر كفارة يمين لعجزك عن النذر كله، تخرج من العهدة، أو نقول: الصيام له بدل فإذا عجزت تطعم عن كل يوم مسكين إلى الأبد، كما أنك نذرت أن تصوم إلى الأبد تطعم عن كل يوم إلى الأبد، فيكون مثل ما وجب بأصل الشرع، أو يكفر كفارة واحدة وينتهي الإشكال، يكفر كفارة يمين ويخرج من عهدة النذر، كفارة يمين واحدة وإلا عن كل يوم مسكين؟ نعرف أن من أفطر في الصيام الواجب يطعم عن كل يوم مسكين، وهذا صيام واجب، أوجبه على نفسه، فهل نقول: أن ما أوجبه على نفسه مثلما وجب في أصل الشرع، فإذا عجز عن صوم يوم أطعم، إذا نشط استطاع ما يطعم، ويستمر هذا الحكم مثل ما أوجبه الشارع، أو نقول: ثبت العجز في حقه فيكفر كفارة يمين عن النذر كله، والمسألة لا تسلم من خلاف، أيهما أقوى؟ هو نذر أن يصوم صوم داود بقية عمره، فأوجب هذا على نفسه، والصيام له بدل، كفارة صيام يعني كل يوم كفارة؟ يعني لو نذر صوم يوم واحد، وعجز عن صوم هذا اليوم مثلما ما لو نذر أن يصوم بقية عمره صيام داود؟ فيها فرق؟ أولاً: لا شك أن هناك فرق كبير بين صيام أوجبه الإنسان على نفسه، وصيام هو في الحقيقة ركن من أركان الإسلام، لا بد من  التفريق بين هذا وهذا، الأمر الثاني: أن النذر يقرر أهل العلم أنه باب غريب من أبواب العلم، باب من غرائب أبواب الدين، الأصل أن الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد، فإذا كانت الغاية واجبة كالوفاء بالنذر فوسيلته الأصل أن تكون واجبة؛ لكن هنا الوسيلة ممنوعة، مكروهة، جاء النهي عن النذر، وذم النذر وأنه لا يأتي بخير، ويستخرج به من البخيل، والغاية واجبة، وهنا الوسيلة ليس لها حكم الغاية، ولذا قرر أهل العلم أنه باب غريب من أبواب العلم، بخلاف أبواب الدين الأخرى فوسائلها لها أحكام الغايات.

((من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) نذر أن يقطع رحمه، يعق والديه، نذر أن يعتدي على جاره، يسرق كذا، لا يجوز له أن يعصي، فلا يتعارض ما أوجبه على نفسه ما حرمه الله ورسوله، ما يتعارض هذا، وإلا كان هذا معاندة ومشاقة لله -جل وعلا-.

الحديث الثالث والخمسون: عن علي -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم‏،‏ ويرد عليهم أقصاهم،‏ وهم يَدٌ على من سواهم‏،‏ ولا يقتل ذو عَهْدٍ في عهده‏)‏ [رواه أبو داود والنسائي‏.‏ ورواه ابن ماجه عن ابن عباس‏].

يقول -رحمه الله تعالى-: عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم)) المسلمون من اتصف بهذا الوصف فهو كغيره ممن اتصف به، المسلم مثله، ((تتكافأ دماؤهم)) فإذا قتل المسلم مسلماً قيد به، بخلاف ما لو قتل المسلم كافراً كما في قوله: ((لا يقتل مسلم بكافر)) ومثله أيضاً: الحر بالرقيق، كما هو مقرر عند أهل العلم، ((المسلمون تتكافأ دماؤهم)) فالكفاءة إنما تكون بالإسلام، بغض النظر عن الأصل والحسب والنسب واللون، إذا وجد هذا الوصف فهو كفؤ لأخيه المسلم، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض ولا لكذا إلا بالتقوى، هنا يتفاضل الناس، فإذا تحقق الشرط وهو الإسلام تكافأت الذمة، فيقتل المسلم بالمسلم، فالكفاءة لا يطلب لها غير الإسلام، الكفاءة لا يطلب لها غير الإسلام، وقل مثل هذا في الكفاءة في النكاح، مسلم كفؤ للمسلمة، قد ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب الأكفاء في الدين، فالكفاءة في الدين، والأنساب والألوان والبلدان لا قيمة لها إذا تحقق الشرط، باب الأكفاء في الدين وأورد حديث ضباعة بنت الزبير حين قال لها النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((حجي واشترطي، فإن لك على ربك ما استثنيت)) وكانت تحت المقداد، المقداد مولى، وهي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ابنة عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، فدل على أن الكفاءة في الدين فقط، من غير نظرٍ إلى أمور أخرى ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)) يعني أن المسلم إذا أعطى العهد والميثاق لأحد لزم جميع الأمة الوفاء بالعهد والميثاق، ولو كان أدناهم وأقلهم شأناً، ((ويرد عليهم أقصاهم)) يعني في هذا العهد والميثاق، أو استجابة الطلب من أقصى بلاد المسلمين إلى أقصاها، بحيث إذا استنصر المسلم في أقصى بلاد المسلمين على المسلم في أقصاها أن يرد هذا الطلب، يرده بالرفض وإلا بالقبول؟   {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [(72) سورة الأنفال] ((ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم)) كل هذه المعاني تدل على أن المسلمين يد واحدة، فلا أصول ولا أعراض، ولا تربة، ولا بلاد، ولا شيء، ولا حدود تفرق بين المسلمين، هذا الأصل، أنهم كلهم يد على من سواهم {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} [(72) سورة الأنفال] إيش معنى هذا الكلام؟ أن المسلم إذا ظلم يجب نصره، يجب على المسلمين نصره، ويقول ابن العربي: "ولو لم يبق في المسلمين عين تطرف" هذه مبالغة؛ لكن يجب نصر المظلوم من المسلمين وجاء الأمر به: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) فإذا كان ظالماً تكفه عن الظلم، وهو نصر له، وإذا كان مظلوماً تسعى جاهداً برفع الظلم عنه لكن الأمور والأحوال والظروف لها ما يحتف بها، إذا كنت عاجز عن نصره فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ لكن يبقى إذا كنت قادر على نصره تعين عليك نصره.

((وهم يد على من سواهم)) ((ألا لا يقتل مسلم بكافر)) لا يقتل مسلم بكافر، مسلم قتل كافراً لا يقاد به، وإن كان كما في الحديث ((ويسعى بذمتهم أدناهم)) لا يقتل مسلم بكافر، ((ولا ذو عهدٍ في عهده)) يعني لا يخفر ذو عهدٍ في عهده؛ لأن الجملة السابقة ((لا يقتل مسلم بكافر)) قد يفهم منها بعض الجهال من المسلمين أن في هذا إتاحة لقتل الكافر، وترخيص وإباحة، لا، يعني لو حصل أن مسلماً قتل كافراً لأمورٍ حصلت بينهما لا يقاد به؛ لكن يبقى أنه لا يجوز بحال أن يخفر ذو عهدٍ في عهده؛ لأن هذه الجملة الأولى قد يفهم منها بعض الجهال أن للمسلم أن يقتله، لا، ليس له ذلك، ولا يجوز بحالٍ أن يخفر ذو عهدٍ في عهده، بل لا بد من الوفاء بالعهود والعقود، لا بد من الوفاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [(1) سورة المائدة] و((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)) ((من آذى ذمياً فقد آذاني)) إلى آخر ذلك من النصوص الثابتة الصحيحة الصريحة التي تحرم قتل النفس إلا بحقها، النفس بالنفس، الثيب الزاني، المرتد، الحربي، كل هؤلاء يستحقون القتل، أيضاً ليس للأفراد تنفيذ الحقوق أبداً، شخص ثبت عليه أنه ما يصلي، الجمهور على أنه يقتل إما مرتد عند من يكفره بترك الصلاة، أو حد عند الآخرين؛ لكن هل لإنسان أنه يقتل شخص لأنه ما يصلي؟ أو رأى ثيباً زاني له أن يرجمه؟ نقول: لا، ليس له ذلك؛ لأن هذا من حقوق ولي الأمر، وذلك افتيات عليه، والحدود إليه، ولذا جاء في الحديث الصحيح: الرجل يجد عند امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ قال: نعم، وإلا لو ترك هذا المجال ما بقي أحد، ما بقي أمن، كل اثنين يصير بينهما مشاحة ومشاحنة يستدرجه ويدخله في بيته فيقتله، يقول: وجده عند امرأته، فهذه الأمور ليست للأفراد، ليست لأفراد الناس، ولو ثبت عنده ما يوجب قتله، نعم عليك أن ترفع بشأنه إلى ولي الأمر ليطبق الحد، وتطهر المجتمعات من المفسدين والمجرمين؛ لكن هذه الأمور منوطة بولي الأمر، والله المستعان.

الحديث الرابع والخمسون: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ (‏(‏من تطبَّب ولم يُعلم منه طِبٌّ فهو ضامن‏))‏ [رواه أبو داود والنسائي]‏.

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، لنخرج قليلاً عن المتون إلى هذا الإسناد وهذه السلسلة التي روي بواسطتها أحاديث كثيرة صحيفة كبيرة تروى بهذه السلسلة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والخلاف فيها مشهور بين أهل العلم، منهم من يصحح، ومنهم من يضعف، ومنهم من يتوسط، مسألة خلافية بين أهل العلم، وسبب الخلاف عود الضمير في قوله: "عن جده" عندنا عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عمرو بن شعيب هذا الراوي الأول، عن أبيه من؟ شعيب، يختلف في عود الضمير إلى شعيب؟ لا، عن جده؟ جده من؟ محمد وإلا عبد الله بن عمرو؟ يعني إذا قلنا: عن أبيه عن أبي عمروٍ وهو شعيب عن جده عن جد عمرو يكون محمد، محمد تابعي إذاً الخبر مرسل، وإذا قلنا: عن أبيه عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده جد الأب؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور الأب، جد الأب من هو؟ عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء التصريح به في مواضع، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، ويبقى النظر في سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، والمسألة خلافية، ولوجود هذا الخلاف مع الاختلاف في الضمير ضعف بعض أهل العلم ما روي بهذه السلسلة، ومنهم من صحح؛ لأن الجد يصرح به وعند هؤلاء ثبت سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو وانتفى الإشكال؛ لكن بوجود مثل هذا الخلاف حكم جمع من الحفاظ على أن ما روي بهذه السلسلة لا يصل إلى درجة أعلى الصحيح، ولا ينزل عن درجة القبول فهو حسن شريطة أن يصح السند إلى عمرو.

هناك سلسلة نظير هذه السلسلة وهي بهز بن حكيم عن أبيه عن حكيم، بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، هل في خلاف في عود الضمائر؟ بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، يعني الخلاف في عود الضمير هنا يرد هناك؟ لا يرد، لماذا؟ لأنهم بثلاثة، بهز وحكيم ومعاوية، حيدة هذا ما هو راوي؛ لأنه قبل الإسلام، إذاً ما في خلاف ما في عود الضمير، بهز عن حكيم عن معاوية، ما في خلاف في عود الضمائر؛ لكن الخلاف في بهز نفسه هل يصل إلى درجة الاحتجاج أو لا يصل؟ مسألة خلافية، وحكموا أيضاً عليها كما حكموا هنا على هذه السلسلة بالحسن، ويبقى المفاضلة بين السلسلتين أيهما أقوى فيما لو حصل تعارض بين حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مع حديث من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، المسألة أيضاً فيها خلاف بين أهل العلم؛ لأن هذه السلسلة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحح لها البخاري في غير الصحيح، سأل الترمذي عن حديث لعمرو بن شعيب عن أبيه قال: صحيح، بل قال: أصح ما في الباب، وخرج لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده تعليقاً، فمنهم من يقول: أن هذه السلسلة أقوى؛ لأن البخاري صحح لها، ومنهم من يقول: بهز بن حكيم أقوى؛ لأن البخاري خرج، وإن كان معلقاً، ولم يخرج بهذه السلسلة، المقصود أن هذه المسألة معروفة في علوم الحديث، وأكثر الإخوان يعرفها لكن من باب التذكير.

أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن، زاول الطب وهو جاهل، جاء شخص في يده جرح وقال هذا المتطبب: هذا تخشى منه السراية، لا بد نبتر اليد يضمن، فعلى هذا الطبيب المشهود له بالخبرة والمعرفة إذا اجتهد وأخطأ، عالج مريض ومات، يضمن وإلا ما يضمن؟ لا ما يضمن، لكن إذا لم يعرف بطب عالج مريض ومات يضمن وإلا ما يضمن؟ يضمن، فهو ضامن، سواء كان في النفس أو في الطرف، يضمن، وقل مثل هذا في جميع العلوم، لو جاء مهندس وادعى خبير بالهندسة، وسوى مخطط للعمارة وطاحت العمارة، ثم تبين أنه ليس بمهندس هذا دعي، يضمن وإلا ما يضمن؟ يضمن؛ لكن لو شهد له بالخبرة والمعرفة وأخطأ ما يضمن البناية بالجص الآجر، وهذا معروف الجص الذي هو الآجر كيفية البناء به وخلطه يؤخذ بالتدريج شيء يسير ثم شيء يسير لأنه يموت بسرعة، ييبس بسرعة هائلة، فادعى شخص أنه معلم بناء فتعامل مع الجص الآجر هذا مثل الطين، وضعه في حوض وصب عليه الماء، وأخذ يخلط برجليه ثم بعد ذلك يبس عليه الجص وعجز عن الحركة، هذا يضمن القيمة وإلا ما يضمن؟ يضمن؛ لأنه جاهل أفسده على صاحبه، والآن في مجتمعات المسلمين على كافة المستويات من يخالف هذا الحديث بدءً ممن يدعي العلم ويضمن الناس كفارات، ويضمنهم عقوبات وجزاءات وهو ليس من أهل العلم، هذا يضمن هذا، جاء شخص لجاهل وقال: ارتكبت كذا، قال: اذبح شاة، ليش شاة يا أخي ما سويت شيء؟ يضمن؛ لأنه ليس عنده من العلم ما يدل على مثل هذه الفتوى؛ لكن لو اجتهد عالم ومشهود له بالعلم والخبرة وأخطأ وقال: اذبح شاة ما يضمن، كما هو معروف، تدخل ورشة سيارات السيارة فيها أمر يسير جداً ما تحتمل شيئاً يقوم يفك المكينة ويخرب يضمن لك، هذا ما يفهم، اذكر مرة احنا في طريق من بلد إلى بلد السيارة صار فيها رجة، وأدخلناها ورشة، أول ما بدأ قال: المكينة ومحرك المكينة قلت: لا، لا، عرفت أن ما عنده سالفة قلت: لا، لا تعمل، المكينة ما وراها رجة، إما صفاية وإلا شيء يمكن، ثم نطلع لثاني ادعى عمل ثاني، وندخل ورشة ثالثة قال: شوف الكفر ألين من هذا غير وبس، غيرنا الكفر وما شاء الله، كل مهنة لها أطباؤها، لكن بعض الناس يفسد، يدخل بغير معرفة ولا ورع، ثم بعد ذلك يفسد لا بد أن يضمن، ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) فإذا تسبب في تلف في النفس أو في الطرف يضمن بلا شك، وقل مثل هذا في جميع الصنائع، بدءً من ادعاء العلم -وما أكثر من يدعي- ونزولاً إلى حوائج الناس، وما يحتاجونه في أبدانهم.

الحديث الخامس والخمسون: وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم‏-:‏ (‏(‏ادْرَءُوا الحُدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة‏)) [رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً]‏.‏

نعم أيضاً يشهد له حديث: ((ادرءوا الحدود بالشبهات)) وله طرق؛ لكن لا يسلم من مقال لأهل العلم، وكذلك الحديث الذي معنا لا يسلم أيضاً، لكن كثير من أهل العلم يعمل بهذا، والسبب أن الخطأ في العفو هذا أمر مقرر يعني؛ لأن الله -جل وعلا- حث على العفو، {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [(237) سورة البقرة] ورحمة الله -جل وعلا- سبقت غضبه؛ لكن يبقى أن الحدود لا يجوز تعطيلها بحال، وإنما شرعت لتنفذ، شرعت لتترتب عليها آثارها، تطهير المجتمعات، لا يفهم من مثل هذا الحديث -نعم إذا وقع إنسان في هفوة وإلا زلة وأمكن أن يدرء له، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لقن ماعز وصرف عنه مراراً، وقالت الغامدية: "أتريد أن ترددني كما فعلت بماعز؟" المقصود أن مثل هذا إذا كانت الجرائم قليلة وخفيفة نعم الناس على الاستقامة والالتزام وحصل هفوات يسيرة نعم هذا منهج شرعي؛ لكن إذا كثر الخبث فلا بد من أطر الناس على الحق، ولا بد من تنفيذ شرع الله عليهم، ولا بد من تطهير مجتمعات المسلمين من هذه القاذورات، وإلا وجد الآن من ينادي بالستر المطلق، خلاص، هذا عاصي استر عليه، من ستر مسلماً ستره الله، يا أخي هذه توطئة إلى الإباحية، وتعطيل لحدود الله، نعم من حصلت منه هفوة وزلة هذا الأصل من ستر مسلماً ستره الله؛ لكن يصل الأمر إلى أن تعطل الحدود؟ ومجرد الشفاعة في الحد حرام، وغضب النبي -عليه الصلاة والسلام- على أسامة: ((أتشفع في حدٍ من حدود الله؟)) ويسعى بعض الناس بتعطيل الحدود بهذه الطريقة، لا شك أن الدعوة إلى الستر المطلق إيش معنى هذا؟ يا أخي أتركه لا تقبض عليه، اقبض عليه ثم استر عليه إيش الفائدة؟ هذه دعوة إلى الإباحية، توطئة إلى الإباحية، وعلينا أن نتوسط في أمورنا، شخص حصلت منه هفوة وإلا زلة وإلا شيء من ستر مسلماً ستره الله، أما أصحاب الجرائم وأرباب السوابق هؤلاء لا بد أن يؤطروا على الحق، لا بد من تطهير المجتمعات منهم، وإذا كان بعض أهل العلم يرى مضاعفة العقوبات حتى تطهر المجتمعات، ولذا جاء في حديث قتل الشارب في الرابعة: ((إذا شرب في الرابعة فاقتلوه)) الجمهور على أن هذا الخبر منسوخ، ونعرف أن عمر -رضي الله عنه- كان الحد أربعين فزاده إلى ثمانين؛ لأن الناس زادوا في الشرب ولم يردعهم الحد الأول زاد، مسألة القتل قتل الشارب في المرة الرابعة، الجمهور من أهل العلم على أنه منسوخ، ولذا يقول الترمذي: ليس في كتابي مما أجمع أهل العلم على ترك العمل به إلا حديثين، هذا الحديث حديث معاوية في قتل الشارب، وحديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير سفرٍ ولا مطرٍ أو من غير خوفٍ ولا مطر، يقول: ما عدا ذلك جمع أحاديث اتفق الأئمة على عدم العمل بها، وهذا الاتفاق في كثيرٍ منها منقوض، نأتي إلى حديث معاوية في قتل المدمن، في قتل الشارب، مراراً ما ردعه الحد، منهم من تبنى هذا الحكم، قال: يقتل في الرابعة إيش المانع؟ ونصره ابن حزم، وانتصر له، وانتصر لهذا القول السيوطي والشيخ أحمد شاكر، وألف فيه رسالة؛ لكن رأي شيخ الإسلام وابن القيم أنه يقتل تعزيراً، يعني قتله في الرابعة ليس بحد؛ لكن للإمام إذا رأى أن الناس لا يرتدعون بإقامة الحد أن يقتل تعزيراً حتى يكف الناس عن هذه الجريمة، عن أم الخبائث، والإمام له أن يعزر بما شاء، حتى قال بعض أهل العلم له إلى القتل في التعزير، ما يمكن أن يكف أهل الجرائم والمعصية إلا بأطرهم عن الحق، وهذا من أوجب الواجبات على ولي الأمر حفظ الأمن، إقامة الصلاة، إقامة الحج، إقامة الجهاد، إقامة الشعائر، تطهير المجتمعات من الفساد والمفسدين، هذه من واجبات ولي الأمر، وكلها بالدليل، المقصود أن مثل هذا لا يفهم منه تعطيل الحدود. ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم)) بلا شك أنه إذا كان الأمر محتمل هذا وهذا أنه يرجح العفو، والستر هو الأصل، فإن كان له مخرج فخلو سبيله، وقد أعرض النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ماعز مراراً، حتى رأى أنه لا مندوحة من إقامة الحد، ((فإن الإمام أن يخطئ في العفو..)) الآن على قتل شارب الخمر المدمن صدرت فتوى بقتل المروج، مروج المخدرات التي ضررها في البلدان لا يقدر قدره إلا من سمع بعض الأخبار، ما هو كل الأخبار، وما تفعله بأصحابها وأربابها من متعاطيها وأهليهم وذويهم الذين يعانون منهم شيء لا يخطر على البال، ولذا صدرت الفتوى بقتل المروج، ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم وإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)) وهذه المسألة إذا كانت تحتمل الخطأ، أما إذا كانت لا تحتمل الخطأ يعني وجدت مقدماتها كلها الشرعية فلتوجد نتائجها، يعني هذا الإمام وصله ما يوجب الحد، الإمام بين أمرين، والاحتمال قائم أن تطبيقه لهذا الحد خطأ، يخطئ في ترك العقوبة أفضل أن يخطئ في تنفيذ العقوبة؛ لكن إذا كان لا يتطرق الخطأ إلى الوسيلة التي بواسطتها عرف، لا يجوز له أن يعفو بحال، ولا يجوز لأحدٍ أن يشفع عنده، ليس معنى هذا يخطئ في العفو، يخطئ في العقوبة، أنه ثبتت عنده الجريمة ثم يعفو يقول: لأن أخطئ....؟ لا، لا، إذا ثبتت لا بد من تنفيذها، وإذا بلغت الحدود السلطان فإن عفا فلا عفا الله عنه كما في الخبر، ولا يجوز لأحدٍ أن يشفع عنده ليعطل الحد، لكن المسألة إذا احتملت الخطأ، إذا كان احتمال الخطأ وارداً، فليكن خطؤه في العفو أفضل من خطئه وخير له من أن يخطئ في العقوبة، والله المستعان، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"