التعليق على كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة (01)

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

سمّ.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام ابن رجبٍ –رحمه الله تعالى- في كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة: "بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، وحيد عصره وفريد دهره سيدنا وشيخنا أبو الفرج عبد الرحمن ابن سيدنا وشيخنا الإمام شهاب الدين أحمد بن رجبٍ الحنبلي فسَّح الله في مدته، ونفع به.

الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا".

هذا كُتِب في حياته؛ لأنه يقول: "فسَّح الله في مدته" من أحد طلابه الذين نسخوا الكتاب في حياته.

"الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله عَلَى سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.     

خرَّج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ومن حديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا»".

ما تيجيء.

طالب: إذًا متن الحديث فيه إشكال.

نعم. كأنه الأصل إن الإسلام بدأ غريبًا.

طالب:........

في مسلم «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» وتقدم.

طالب: هذا حديث أبي هريرة، وحديث ابن عمر أيضًا في مسلم، يُراجع إن شاء الله.

يُراجع لفظه.

"وخرَّجه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ بزيادةٍ في آخره: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ:«النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ»".

طالب: ما المقصود؟

أفراد من القبائل يتمسكون بالدين فتبدو غربته بين قبائلهم.

طالب: هذا دليل على قلتهم.

نعم قلتهم.

"وخرَّجه أبو بكر الآجري، وعنده قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»".

يُصلحون ما أفسد الناس أو يَصلحون إذا فسد الناس.

طالب: إذًا هنا يُصلحون؟

يَصلحون.

"وخرَّجه غيره، وعنده قال: «الذين يفرون بدينهم من الفتن»".

وهذا معنى الذين يتمسكون بدينهم ويخشون عليه فيفرون به.

طالب: ما المقصود بالفرار يا شيخ، الفرار من المعاصي، وأماكن الريبة؟

مثل ما جاء في الحديث «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ اَلْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتبع بِهاِ شعف اَلْجِبَالِ» يفر بدينه من الفتن.

طالب: يعني ينتقل من مكان إلى مكان؟

نعم ينتقل {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} [مريم:48] هذه التي يُسمونها العُزلة، هذه العزلة.

"وخرَّجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي»".

يعني لا يكفي أن يكن صالحًا في نفسه، بل يسعى في إصلاح غيره.

طالب: لكن اللفظ الآخر أحسن الله إليك.

«يَصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» فهذا أوسع.

طالب: وكلاهما مقصود؟

مراتب، هي مراتب أحيانًا يستطيع أن يُصلح، وأحيانًا لا يستطيع أن يُصلح، فيكفي أن يَصلُح. 

"وخرَّجه الطبراني من حديث جابرٍ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حديثه قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ حِينَ فَسَدَ النَّاسُ»".

طالب: هل يُقال: يَصلحون.

مثل ذيك مثل رواية الآجري.

طالب: مثل رواية الآجري التي فيها «يَصْلِحُونَ».

نعم «إِذَا فَسَدَ النَّاسُ».

"وخرَّجه أيضًا من حديث سهل بن سعد بنحوه.

وخرَّجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاصٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حديثه: «فَطُوبَى يَوْمَئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ، إِذَا فَسَدَ النَّاسُ».

وخرَّج الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمروٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قُلْنَا: وَمَا الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ».

وروي عن عبد الله بن عمروٍ مرفوعًا وموقوفًا في هذا الحديث: قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ, يَبْعَثُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ».

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ضلالةٍ عامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عياض بن حمارٍ الَّذِي خرَّجه مسلم «إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ».

فلما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا إِلَى الإسلام لم يستجيب في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيله".

الواحدُ.

"إلا الواحدُ من بعد الواحد من كل قبيله، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، ويُنال منه وهو صابر عَلَى ذلك في الله –عزَّ وجلَّ-وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، يُطردون ويشردون كل مشرد، ويهربون بدينهم إِلَى البلاد النائية، كما هاجروا إِلَى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إِلَى المدينة، وكان منهم من يُعذب في الله، وفيهم من قُتِل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذٍ غرباء.

ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إِلَى المدينة وعز، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأظهر الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة".

طالب: أحسن الله إليكم هم هاجروا –الصحابة- خوفًا من قومهم يعني هربوا من الأذى، لكن هل المقصود في الفرار بالدين الفرار من الأذى أو الفرار من الفتن؟

الفتن أذى، أشد الأذى أن يؤذى في دينه، والأذية ما يلزم أن تكون أثرها على البدن ما يلزم.

طالب:........

الفتنة أشد من القتل، الفتنة في الدين أشد من القتل.

طالب: وأشد الفتنة هي الأذى؟

هناك أذى على البدن، وأذى الإنسان في دينه، قد يكون الأذى في عرضه، قد يكون الأذى في ماله، لكن أشدها في الدين التي هي تستحق أن تُسمى فتنة.

طالب:........

يتأثر بما يرى من كفر فما دونه.

"وتُوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- والأمر عَلَى ذلك، وأهل الإسلام عَلَى غايةٍ من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا عَلَى ذلك في زمن أبي بكرٍ وعمر -رضي الله عنهما- ثم أعمل الشيطان مكائده عَلَى المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا، حتى استحكمت مكيدة الشيطان".

مكيدةُ.

"حتى استحكمت مكيدةُ الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوعه.

فأما فتنة الشبهات، فقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- من غير وجهٍ أن أمته ستفترق عَلَى أزيد من سبعين فرقة عَلَى خلاف الروايات".

اختلاف، لو قال: اختلاف كما في النسخة الثانية لكان أوضح.

"عَلَى اختلاف الروايات في عدد الزائد عَلَى السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقةً واحدة، وهي من كان عَلَى ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم.

وأما فتنة الشهوات، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر".

ابن عمروٍ.

"عن عبد الله بن عمروٍ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كَيفَ أَنتُمْ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ، أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ، قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ».

وفي صحيح البخاري عن عمرو بن عوف، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»".

وهذا هو الحاصل ابتُلي الناس بالفقر والجوع، والشدة وشظف العيش، فحافظوا على أديانهم وعلى أعراضهم وكل ما يملكون مما يُوصلهم إلا الله –جلَّ وعلا- استقاموا عليه وحافظوا عليه، ولا أثرت فيهم هذه الفتنة فتنة الفقر، لكن ابتُلوا بالسراء فتغيرت أحوالهم، فُتِحت عليهم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلهم.

"وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامرٍ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- معناه أيضًا.

ولما فُتحت كنوز كسرى عَلَى عمر -رضي الله عنه- بكى وقال: إِنَّ هذا لم يفتح عَلَى قوم قط إلا جُعِلَ بأسُهُمْ بينهم أو كما قال.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشى عَلَى أمته هاتين الفتنتين، كما في مسند الإمام أحمد عن أبي برزة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتِ الفِتَنِ» وفي رواية «وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى».

طالب: هل يُفهم من هذا أن الإنسان لا يطلب المال؟

مثل ما تقدم في الحديث...شائعان، يطلب المال بقدر ما يوصله إلى هدفه، ويُبلغه مراده، أما القدر الزائد المُشغِل فلا يطلبه وإن جاءه من غير شدة طلب ولا محبة ولا إلهاء وإشغال عمَّا هو أهم منه فيسعى في إنفاقه فيما يوصله إلى الله، ومن جملة الصحابة عبد الرحمن بن عوف وغيره، وعثمان أغنياء، لكن بماذا تصرفوا؟ كيف تصرفوا في هذه الأموال؟ وهل شغلتهم أموالهم عن عباداتهم؟ الذي يُخشى أن تشغل عمَّا أوجب الله عليه أو تحمل على ما حرَّم الله عليه أو ينشغل بها.   

"فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين، بعد أن كانوا إخوانًا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق، فافتتنوا بالدنيا وزهرتها، وصارت غاية قصدهم".

لو نظرت إلى ما يحصل بين الأُسر من قطيعة وتنازع، وشقاق وتنافس وجدته بسبب المال، لو بحثت لوجدت أصله إما وقف، وإما وصيةٍ يختلفون عليها، أو إرث أو ما أشبه ذلك، تجد هذا.

طالب: أو تجارة يتشاركون فيها.

التجارة حتى تشمل القريب والبعيد، لكن هذه الأمور تُشتت الأُسر.

"وصارت غاية مقصدهم لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.

وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تَفَرَّقَ أهل القبلة، وصاروا شيعًا، وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفرقًا وأحزابًا، بعد أن كانوا إخوانًا قلوبهم عَلَى قلب رجلٍ واحد، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»".

طالب: أحسن الله إليك كلٌّ يدعي أنهم هم الفرقة الناجية؟

تُعرض أقوالهم وأفعالهم على كتاب الله، وسُنَّة نبيه –عليه الصلاة والسلام- وما عليه الصحابة –رضوان الله عليهم- جاء تفسيرهم هم من كانوا على ما أنا عليه أو على مثل ما أنا عليه وأصحابي، هذا المقياس.

"وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذين يَصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من السُّنَّة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النُّزَّاع من القبائل؛ لأنهم قلُّوا، فلا يوجد في كل قبيلةٍ منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يكون في بعض القبائل".

وقد لا يُوجد.

"وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد، كما كان الداخلون إِلَى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسَّر الأئمة هذا الحديث".

قد يقول قائل كيف يُصلحون ما أفسد الناس وهم يفرون بدينهم من الفتن؟

طالب:........

لا هي مسألة أحوال ومقامات، بعض الناس يفر بدينه من الفتن، ويُوصل الإصلاح إلى من يحتاجه لاسيما في هذه الأيام عن طريق هذه الأجهزة وغيرها فالأمر سهل، وهي مراحل يعني إن استطاع أن يُصلح ما أفسد الناس، وإلا إذا رأى أنه لا يستطيع التأثير في الناس يفر بدينه من الفتن، تصير مراتب، نعم.  

"قال الأوزاعي في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السُّنَّة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجلٌ واحد".

طالب: هذا في آخر الزمان؟

نعم هذا في آخر الزمان.

"ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرًا مدح السُّنَّة ووصفها بالغُربة، ووصف أهلها بالقِلة، فكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول لأصحابه: يا أهل السُّنَّة، ترفقوا -رحمكم الله- فإنكم من أقل الناس".

طالب: ما الذي يقصد بـ"ترفقوا" أحسن الله إليك؟

يلزم الرفق واللين بحيث لا تثيرون الناس الذين ما لديهم القوة ولديهم كذا بحيث يتسببوا في أذاكم أو القضاء عليكم، كما هو حاصل الآن، إثارة الفتن بهذه الطريقة كم مَن يأتي إلى أسدٍ نائم فيهمزه برجله وليست له قدرة عليه، كما جاء في الخبر «الفتنة نائمة فلعنة الله على من أثارها».

على كل حال المسألة قوة وضعف، إذا أنس الناس منهم القوة والقدرة على إدخال الناس في دين الله ولتعلو كلمة الله فالجهاد، إذا لم يستطيعوا ذلك، فمثل ما جاء في الخبر.

طالب: وجهاد الكلمة؟

جهاد الكلمة مطلوب، لكنه بالحكمة أيضًا. 

"وقال يونس بن عبيدٍ: ليس شيءٌ أغرب من السُّنَّة، وأغرب منها من يعرفها".

نعم السُّنَّة كلٌّ يدعيها، لكن من يعرفها معرفةً حقيقة هم قِلة.

"وروي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرف السُّنَّة فعرفها غريبًا، وأغرب منه من يعرفها.

وعن سفيان الثوري أنه قال: استوصوا بأهل السُّنَّة خيرًا، فإنهم غرباء.

ومراد هؤلاء الأئمة بالسُّنَّة طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان هو وأصحابه عليها، السالمة من الشبهات والشهوات".

طالب: أحسن الله إليك أيهما أشد الشهوات أو الشبهات؟

الغالب أنها الشبهات أشد؛ لأن ضررها في الدين وصاحبها لا يعرف أنه مُخالف الشبهة، لكن الشهوة يعرف أن لها أصل مثل هذا في الغالب يرجع بخلاف صاحب الشبهة إلا إذا كتب الله له أن يرجع.

طالب: أليست الشهوات تؤدي بصاحبها إلى الشبهات يبدأ يبحث عن الأفكار؟

الكلام على هذه بذاتها، وتلك بذاتها، أما مآلاتها فكلها له مآلاتٍ خطيرة؛ ولذلك الأمم التي كفرت وحق عليها العذاب وكذا في النهاية {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61] يعني شهوة ثم أداهم ذلك إلى الكفر في الآخر.   

ولهذا كان الفُضيل بن عياضٍ يقول: أهل السُّنَّة من عرف ما يدخل بطنه من حلال؛ وذلك لأنّ أكل الحلال من أعظم خصال السُّنَّة التي كان عليها -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم".

طالب: يعني الاهتمام بالمطعم –يا شيخ- المقصود؟

نعم لا شك أن المطعم «أطب مطعمك تكون مُستجاب الدعوة» نعم.

"ثم صار في عُرف كثيرٍ من العُلَمَاء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السُّنَّةَ عبارةٌ".

السُّنَّةُ.

"السُّنَّةَ عبارةٌ عمَّا سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصةً في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنَّفوا في هذا العِلم تصانيف سموها كُتب السُّنَّة، وإنما خصوا هذا العِلم باسم السُّنَّة؛ لأن خطره عظيم، والمخالف فيه عَلَى شفا هلكة".

طالب: وما يقصد بالكتب التي أُلِّفت أحسن الله إليك؟

كُتب السُّنَّة التي... السُّنَّة لعبد الله ابن الإمام أحمد، والسُّنَّة للبربهاري، والسُّنَّة لابن جرير الطبري، كُتب في السُّنَّة للمتقدمين ومنها العقائد.

"وأما السُّنَّة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات، كما قال الحسن ويونس بن عبيدٍ، وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وُصِف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وعزتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي قَوْمِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» وفي هذا إشارةٌ إِلَى قِلة عددهم، وقِلة المستجيبين لهم والقابلين منهم، وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم.

ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح التمسك بدينه".

المتمسك.

"مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان، وأنه كالقابض عَلَى الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعوانًا عَلَى الخير".

قالوا: منهم يا رسول الله؟ قال: «بل منكم» أجر خمسين لعدم المُعين، وهذا ذات العمل، أما ما اتصفوا به من الصُّحبة هذا لا يعدله شيء، المتأخر عن الصحابة مهما فعل ومهما بذل لن يصل إلى شرف الصُّحبة؛ لأن أمره فاتهم. 

"وهؤلاء الغرباء قسمان:

أحدهما: من يُصلح نفسه عند فساد الناس.

والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس من السُّنَّة، وهو أعلى القسمين وأفضلها".

طالب: وأفضلهما؟

هذا الأصل "وأفضلهما".

"وهو أعلى القسمين وأفضلهما.

وقد خرَّج الطبراني وغيره  بإسنادٍ فيه نظر من حديث أبي أُمامة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ لِكُلَّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا, وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا, وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ الدِّينِ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَمَى وَالجَهَالَةِ، وَمُخَالَفَةْ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَفْقَهَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لَا يُوجَدُ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَانِ، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قَمْعًا وَقَهْرًا وَاضْطُهِدَا، أَلاَ وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لاَ يُرَى فِيهَا الْفَقِيهُ وَالْفَقِيهَانِ، وَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا فَأمَرَا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَيَا عَنِ الْمُنْكَرِ: قمعا وقهرا وَاضْطُهِدَا، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، لاَ يَجِدَانِ عَلَى ذَلِكَ أَعْوَانًا وَلاَ أَنْصًارًا»".

طالب: أحسن الله إليك النبي –صلى الله عليه وسلم- تكلم عن القبيلة، وهل هذا ينطبق على الأُسر؟

وعلى البلدان.

طالب: نفسه؟

نفسه، لكنه في وقته –عليه الصلاة والسلام- القبائل منحازٌ بعضها إلى بعض، ومجتمعين في مكانٍ واحد هذا الأصل، لكن لما فُتِحت البلدان وتفرق الناس ودخل غير العرب في قبائل العرب انتهت.

"فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسُّنَّة الفقيه في الدين بأنه يكون في آخر الزمان عند فساده مقهورًا ذليلاً، لا يجد أعوانًا ولا أنصارًا.

وخرَّج الطبراني أيضاً بإسنادٍ فيه ضعف، عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثٍ طويل في ذكر أشراط الساعة قال: «وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا أَنْ يَكُون المُؤمن فِي القَبِيلَةِ أَذَلّ مِنَ النَّقْدِ» والنَّقَدُ: هي الغنم الصغار".

طالب: ما المقصود بأذلة...؟

لا يُستفاد منها مثل ما يُستفاد من الكبار من درها، ونسلها، وصوفها، ولحمها، الصغار فائدتها قليلة وتُحتقر.

طالب: عند الشراء؟

الذين يظعنون من مكانٍ إلى آخر ويزيد عليهم من الحمل شيء يُضحون بالذليل الذي ما يُستفاد منه،. 

"وفى مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال لرجل من أصحابه: يوشك إِن طالت بك حياةٌ أن ترى الرجل قد قرأ القرآن عَلَى لسان محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أو عَلَى من قرأه عَلَى لسان محمدٍ فأعاده وأبداه، فأحل حلاله وحرَّم حرامه، ونزل عند منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار الميت".

"لا يجوز" ما يمشي  يعني ما يُقبل ما يمشي.

طالب: يعني كرأس الحمار الميت ما يمشي؟

ما يُريده، يتداولها الناس يجوز بينهم، يمشي بينهم؟ ما يمشي.

عضو هيئة بُحِث له عن زوجة ما وجد لا يُريدونها الناس، حتى قيل له: أنها وظيفةٌ مؤقتة حتي يجد عمل، والله المستعان.  

"ومنه قول ابن مسعودٍ: وسيأتي عَلَى الناس زمانٌ يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَة.

وإنما ذل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه".

ويؤذيه.

"فكلهم يكرهه ويؤذيه؛ لمخالفة طريقه لطريقهم، ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لهم فيما هم عليه.

ولما مات داود الطائي قال ابن السماك:إن داود نظر بقلبه إِلَى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه".

بصر العيون.

"فأغشى بصر قلبه بصر العيون، فكأنه لم ينظر إِلَى ما أنتم إِلَيْهِ تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إِلَى ما إِلَيْهِ ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب، استوحش منكم أنه كان حيًّا وسط موتى".

طالب: رجلٌ صالح يا شيخ؟

هو صاحب عبادة وزهد، لكن العلم ما ذُكِر بعلم لا هو ولا ابن السماك، أظنه من الصوفية.

طالب: فهو يقصد أنه يرى المجتمع الذي حوله؟

يختلفون عنه.

"ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته تقول".

مرةً.

"امرأته مرةً تقول :أراحنا الله منك، فقال: آمين".

لأنه ضيق عليها كانوا في سعة، لما تولى الخلافة ضيق عليها أخذ ما في أيديهم وأودعها في بيت المال، نعم.

"وقد كان السلف قديمًا يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم، كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم".

طالب: يصفون الغربة في وقتهم أو يصفون الغربة التي ستحصل؟

في زمانهم.

طالب: في زمانهم غربة؟

نعم في زمانهم، هي الغربة نسبية، الغربة عندهم أدنى مخالفة غربة، لكن عندنا...الله يستر علينا.

"ومن كلام أحمد بن عاصمٍ الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني-: إني أدركت من الأزمنة زمانًا عاد فيه الإسلام غريبًا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبًا كما بدأ، إِن ترغب فيه إِلَى عالمٍ وجدته مفتونًا بحب الدُّنْيَا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إِلَى عابدٍ وجدته جاهلاً في"

طالب: في عبادته؟

نعم.

"وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعًا، صريع عدوه إبليس، قد صعد به إِلَى أعلى درجة العبادة، وهو جاهلٌ بأدناها، فكيف له بأعلاها؟! وسائر ذلك من الرعاع قبيحٌ أعوج، وذئابٌ مُختلة، وسباعٌ ضارية، وثعالب صائلة، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة أهل العِلْم والقرآن ودعاة الحكمة. خرَّجه أبو نعيمٍ في(الحلية).

فهذا وصف أهل زمانه، فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله، ولم تَدُر في خياله؟!".

طالب: يقصد في وقته يا شيخ؟

لا وقت المتكلم أحمد بن عاصم الأنطاكي، وهو مترجم في (الحلية) والحلية أربعمائة وثلاثين بيت صاحب الحلية.

طالب: يعني هو عاش في القرن الرابع؟

نعم.

"وخرَّج الطبراني من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ»".

حسبك يكفي.

اللهم صلِّ وسلم على محمد.