التعليق على تفسير القرطبي - سورة الشورى (02)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

 قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً"} فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} أَيِ الَّذِي له مقاليد السموات وَالْأَرْضِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا شَرَعَ لِقَوْمِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ، وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَبِيَوْمِ الْجَزَاءِ، وَبِسَائِرِ مَا يَكُونُ الرَّجُلُ بِإِقَامَتِهِ مُسْلِمًا، وَلَمْ يُرِدِ الشَّرَائِعَ الَّتِي هِيَ مَصَالِحُ الْأُمَمِ على حسب أَحْوَالِهَا، فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { لِكُلّ ٍجَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً"} [المائدة: 48]، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ  فِيهِ".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 في قوله –جل وعلا-: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} إلى آخره هذا يدل على أن الشرائع في أصول الدين والرسالات كلها متفقة، وأما بالنسبة لفروعه فلكل منكم شرعة ومنهاج كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام –: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد»، الدين يعني أصله واحد، في العقائد يتفقون التي لا يدخلها النسخ، وأما في الشرائع التي هي فروع الأديان فلكل أمة ما يخصها؛ لأنها تتغير بتغير الأزمان والأوقات، فالذي يناسب الأمم السابقة أو بعض الأمم لا يناسب أمة أخرى؛ لأن الأحوال والظروف تختلف، ولا يعني هذا أن الشريعة الواحدة تخضع للتغير من وقت لآخر، لا يقال: إن الشرائع مادامت تتغير من ديانة إلى أخرى تتغير من قرن إلى آخر فهذا كلام ليس بصحيح، الدين يثبت إلى أن ينسخ بدين آخر، فإذا نسخ بدين آخر، برسالة آخري فالله –جل وعلا- له الأمر كله، ولا يمكن أن يقال بحال من الأحوال أنه إذا كان ما يصلح لبني إسرائيل لا يصلع لأمة محمد من الشرائع الفرعية، تتغير وتنسخ، فنحن مع طول الوقت لاسيما قد مضى على  رسالة محمد -عليه الصلاة والسلام – أربعة عشر قرنًا هذا لا يمكن، هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن الدين باقٍ ومحفوظ إلى قيام الساعة، ولا يدخله تبديل ولا تغيير.

 هناك مسائل اجتهادية، وهناك نوازل لها أحكامها في الشريعة، أما ما نص عليه بالكتاب والسنة وما قيس على ذلك فإنه ثابت لا يتغير، فليس في هذا مستمسك لمن أراد أن يُغير ويتصرف في الأحكام، وأنه مادامت الأحكام تتغير من أمة إلى أخرى فلماذا لا تتغير بحسب المصالح في الأمة الواحدة؟

 نقول: من الذي يقدر هذه المصالح؟ حكيم خبير هو الذي يقدره، وبيده الأمر كله، وقد أثبتها إلى قيام الساعة، هذا بالنسبة للفروع، أما بالنسبة للأصول وما يتعلق بتوحيد الله -جل وعلا- والعقائد فإن هذا تتفق عليه الشرائع كلها. 

"وَمَعْنَى" شَرَعَ" أَيْ نَهَجَ وَأَوْضَحَ وَبَيَّنَ الْمَسَالِكَ، وَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ يَشْرَعُ شَرْعًا أَيْ سَنَّ، وَالشَّارِعُ: الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ".

{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين} سماهم شركاء الذين يشرعون للناس، ويسنون لهم الأنظمة والقوانين المخافة هؤلاء يشرعون هؤلاء شركاء في التشريع –نسأل الله العافية -.

"وَالشَّارِعُ: الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ، وَقَدْ شُرِعَ الْمَنْزِلُ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ، وَشَرَعْتَ الْإِبِلَ إِذَا أَمْكَنْتَهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَشَرَعْتَ الْأَدِيمَ إِذَا سَلَخْتَهُ، وَقَالَ يَعْقُوبُ: إِذَا شَقَقْتَ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ".

يعقوب بن السكيت له كتاب اسمه.. اسمه إيش؟

طالب: .............

نعم إصلاح المنطق.

" قَالَ: وَسَمِعْتُهُ مِنْ أُمِّ الْحُمَارِسِ الْبَكْرِيَّةِ".

إذ إنه في السابق أئمة اللغة المتقدمون يأخذون من أفواه العرب، يتنقلون بين القبائل في البراري والقفار، ويأخذون منهم مباشرة، ولذلك المعول عليهم لبيان المفردات المعول على هؤلاء المتقدمين الذين أخذوا اللغة من أصحابها وأربابها، وأما من جاء بعدهم من جمع مما وجد في كتب المتقدمين مع ما اعتراه ما اعتراه من تغير حسب الاصطلاحات العلمية سواء كانت أصلية أو فرعية فإن هؤلاء  لا ينبغي أن يعول عليهم إلا فيما يتفقون عليه؛ لأنهم يختلفون في المصادر المؤثرة، فإذا اتفقوا عرفنا أن مذاهبهم لم تؤثر عليهم من تأثر بالمذاهب العقدية مثل الزمخشري الآن في الفائق إمام من أئمة اللغة، لكن في مفردات وفي غريب الأحاديث ما يتعلق بالصفات وغيرها لا شك أن مذهبه الاعتزالي أثر عليه شاء أم أبى، وكذلك غيره مثل من تأثر بمذهب الأشاعرة أو غيرهما أو الجهمية وغيرها من المذاهب، لا شك أنها تأثرت، أما بالنسبة للمتقدمين ألذي  يتلقون اللغة عن أصحابها وأربابها من أفواه الرجال مثل يعقوب بن السكيت هنا يقول: وقد أخذته وسمعته من أم الحمارس البكرية.

 طيب نقول: أم الحمارس هذه عامية ما تفقه، ولا تفهم مثل ما يقال: نقلت عن أمي عن جدتي عن كذا يحتج؛ لأن أم الحمارس في الوقت الذي يحتج به في كلام العرب على فنون  اللغة قبل أن يختلطوا بغيرهم وتلوث لغاتهم وتتغير وتتأثر بالأمم الأخرى، قبل ذلك كانوا حججًا، وهم أهل اللغة، وهم العرب الأقحاح الذين أخذ عنهم هذه اللغة المذاهب الفقهية أيضًا أثرت في كتب اللغة في مصطلحاتها، تأثرت، فلا ينبغي أن يعول علي غريب كتب الفقه.

 نعم يوجد كتب نافعة في هذا الباب: المغرب للمطرزى، المصباح المنير، المطلع، تهذيب الأسماء واللغات للنووي هذه تأثرت؛ لأنها تشرح غريب كتب الفقه، ولابد من التأـثر باصطلاح الفقه المذهبي مثل المطرزي تأثر بالفقه الحنفي، النووي تأثر بالفقه الشافعي ومصطلحاته، وكذلك الفيومي صاحب المصباح، وصاحب المطلع وغيره تأثروا بالمذاهب، مثل هذه الكتب يستفاد منها لأنها قريبة وواضحة، لكن يكون طالب العلم على حذر من هذا التأثر فمثلًا إذا قرأ تعريف الخمر وتباينت فيه الاصطلاحات الفقهية بين الحنفية والجمهور مثلاً ما تأخذ هذا الاصطلاح، المعنى الاصطلاحي من كان يتأثر بمذهب الحنفية كالمطرزي أو تأثر بمذهب الجمهور كالمصباح وغيره تأخذ من العرب من الكتب العربية المتقدمة، التي لم تتأثر مثل كتاب يعقوب هذا صاحب المنطق وغيره، وهناك كتب متقدمة مثل التهذيب والعين والصحاح وغيره من الكتب، أما التي جمعت فيما بعد كلسان العرب والقاموس وغيره فيستفيد منها طالب العلم، وهي كتب متخصصة في اللغة، لكن لا يؤمن التأثر فيها؛ لأنها جاءت متأخرة.

 الإنسان يتأثر شعر أو لم يشعر، قد يتأثر وهو لا يشعر، المذاهب لا شك أنها عند أتباعها جذابة.

 يعني تجد الإنسان اهتمامه بالدليل، وعرف بذلك، وعمدته على قال الله، وقال الرسول، ثم بعد ذلك وقد كان تفقه على مذهب من المذاهب في أول عمره تجد مسحة لهذا المذهب على اختياراته وعلى توجيهاته للنصوص، وقد يشعر أو لا يشعر، وهذا واضح، يقول: سمعت من أم الحمارس البكرية، طيب سمع من عجوز أعرابية، نعم هذه العجوز هذه الأعرابية حجة فيما تقول، حجه فيما تنطق به.

 "وَشَرَعْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ شُرُوعًا أَيْ خُضْتُ، {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} أَنْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، عَلَى تَقْدِيرِ وَالَّذِي وَصَّى بِهِ نُوحًا أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَيُوقَفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ".

ويكون خبر الذي مقدرة.

"وَيُوقَفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى" عِيسى "، وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ، أَيْ شَرَعَ لَكُمْ إِقَامَةَ الدِّينِ".

وهذا أوضح منه، النصب أوضح منه الرفع الذي تقدم؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير، وأما الرفع فيحتاج إلى تقدير مبتدأ؛ ليكون أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر هو الخبر، ولو قيل: إنه بدل مما تقدم لكان أيضًا ظاهر.

" وَقِيلَ: هُوَ جَرٌّ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ فِي" بِهِ"، كَأَنَّهُ قَالَ: بِهِ أَقِيمُوا الدِّينَ".

من غير إعادة للجر، من غير إعادة للجار، وهذا يجوز الإبدال من غير إعادة الجر.

" وَلَا يُوقَفُ عَلَى " عِيسى " عَلَى هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " أَنْ" مُفَسِّرَةً، مِثْلَ أَنِ امْشُوا".

أن أمشوا واصبروا نعم هي مفسرة لما تقدم، فلا يكون لها من الإعراب محل.

" فَلَا يَكُونُ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ.

 الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْكَبِيرِ الْمَشْهُورِ: «وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ...»، وَهَذَا صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَوَّلُ نَبِيٍّ  بِغَيْرِ إِشْكَالٍ؛ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا نُبُوَّةٌ، وَلَمْ تُفْرَضْ لَهُ الْفَرَائِضُ، وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِمُ، وإنما كان تنبيهًا على بعض الْأُمُورِ وَاقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ".

طالب: .......

نعم.

طالب: ........

لم يكن معه إلا نبوة، في نسخة بنوه.

بنوه ليس لهم آثار؛ لأنهم ممن بعث إليهم. يريد أن يقرر الفرق بين الرسالة والنبوة، نوح أول رسول؛ لأنه بعث بشريعة، وآدم لم يبعث بشريعة، يعني ليس لديه إلا نبوة فقط، وليس عنده إلا بنوه، هم لا يحتاجون إلى كثير من الشرائع باعتبارهم أنهم أول النوع، والمخالفات لا توجد، وأول مخالفة عندهم وقعت القتل.

 لكن يرد على هذا إيرادات على كل احتمال الحديث صحيح، «ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»، إذا قلنا بقول الجمهور الفرق بين الرسالة والنبوة أن الرسول إنسان أوحي إليه يشرع، وأمر بتبليغه، والنبي لم يؤمر بتبليغه، فماذا عن آدم؟

 أوحي إليه يشرع، لكن هل أمر بتبليغه أم لم يؤمر؟ لا شك أن أولاده تلقوا عنه هذه الأحكام وعملوا بها، فعلوا ما أوجب الله عليهم، واكتفوا عما نهى الله عنه، حتى لما وقع ولده في القتل بيَّن له عاقبة أمره وسوء مغبته، هذه شريعة، ولم يسبق إليها ليكون التعريف الثاني الذي اختاره شيخ الإسلام هو أن النبي يأتي مقررًا لشريعة سابقة، والرسول يأتي يشرع جديد.

 طيب إذا قلنا: آدم نبي، ولا بد أن يقال: إن آدم نبي، بلا إشكال؛ لأن الحديث صحيح، أول رسول نوح، وماذا عن هل يمكن أن يقال: لا نبي ولا رسول، هذا كلام ليس بصحيح، إذن هو نبي، وهل هو مقرر لشرع تقدمه؟ ما فيه شرع تقدمه، فهذا يرد على ما يختاره جمع من أهل التحقيق كشيخ الإسلام وغيره يقولون: إنه مقرر للشريعة السابقة، هذا ما فيه شريعة سابقة، وإذا قلنا: إن آدم أوحى إليه بالشرع، لكنه لم يؤمر بتبليغه، وإنما اقتدى به بنوه، اقتدوا بفعله، وليست هناك شرائع، يقول: لأن آدم لم يكن معه إلا بنوه، نبوة أو بنوه على بعض النسخ، أربع نسخ: بنوه، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، ولذلك في شرعه يجوز أن ينكح الرجل أخته،  أن ينكح الرجل أخته، هل يقال: إن هذا من باب التدين بدين أو من باب الاضطرار؛ لأنه لا يوجد غيرهم، ولو منع نكاح الرجل لأخته انقطع  النوع، ما فيه إلا ولد وأخته، وهنا نقول: إن هذا من باب التدين بشريعة، أو من باب الاضطرار؟

طالب: ...........الاضطرار يا شيخ....

نعم.

طالب:...........

كيف؟

طالب: ......، كثرة......الاضطرار...

من أجل بقاء النوع، لبقاء النوع لابد من النكاح، ولا يوجد غيرهم ليتناكح معهم، فهذا من باب الاضطرار، ولذا يقال: ولم تفرض له فرائض، ولا شرعت له محارم، وإنما كان التنبيه على بعض الأمور، واقتصارًا على ضرورات المعاش، يعني التنبيه على بعض الأمور، يعني هل يلزم من الشريعة أن تكون شاملة لكل شيء وجد أو لم يوجد، الشريعة لا شك أن الأصل فيها الشمول والعموم لكل ما يتصور أن يقع وقت قيامها، يعني ما يتصور أن يقع بعد نسخها وقت قيامها، فهل في هذا الكلام إشكال؟

 إنما لو كان تنبيهًا على بعض الأمور يقول: إنه لا نبوة، ما عنده رسالة، يعني نفترض أنهم لا يقتدون به من غير دعوة منه ولا طلب منه، ولا أمر بتبليغ على رأي الجمهور، أما رأي شيخ الإسلام وهو أن النبي من جاء ليقرر شريعة سابقة فهذا لا شك أنه  مستدرك، يُستدرك عليه أيضًا بعيسى، وأنه رسول بالإجماع، ومع ذلك هو مقرر لكثير مما جاء في  شريعة موسى- عليهما السلام-.

طالب: ...من قال: إن النبي بعث على قوم موافقين والرسول إلى قوم مخالفين...

من قال هذا؟

طالب: سمعته.

يتداول على الألسنة، لكن لا أعرف له قائلًا، يعني من النبي من بعث لقوم موافقين، والرسول من بعث على قوم مخالفين، هذا له وجه، لكن نحتاج إلى من قال به أهل العلم وله وجه.

"وإنما كان تنبيهًا على بعض الْأُمُورِ وَاقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ، وَأَخْذًا بِوَظَائِفِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَاسْتَقَرَّ الْمَدَى إِلَى نُوحٍ فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَوَظَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْآدَابَ فِي الدِّيَانَاتِ، وَلَمْ يزل ذلك يتأكد بالرسل يتناصر بِالْأَنْبِيَاءِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةً إِثْرَ شَرِيعَةٍ، حَتَّى خَتَمَهَا اللَّهُ بِخَيْرِ الْمِلَلِ مِلَّتِنَا عَلَى لِسَانِ أَكْرَمِ الرُّسُلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَانَ الْمَعْنَى أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا، يَعْنِي فِي الْأُصُولِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَالزُّلَفِ إِلَيْهِ بِمَا يَرُدُّ الْقَلْبَ وَالْجَارِحَةَ إِلَيْهِ، وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ والزنى والإذاية لِلْخَلْقِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَيْفَمَا دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات، فَهَذَا كُلُّهُ مَشْرُوعٌ دِينًا وَاحِدًا وَمِلَّةً مُتَّحِدَةً، لَمْ تَخْتَلِفْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أَيِ اجْعَلُوهُ قَائِمًا، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا مَحْفُوظًا مُسْتَقِرًّا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابٍ، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ وَفَّى بذلك ومنهم من نكث، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه  [الفتح: 10].

 وَاخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ وَرَاءَ هَذَا فِي مَعَانٍ حَسْبَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِمَّا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ وَأَوْجَبَتِ الْحِكْمَةُ وَضْعَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْأُمَمِ"، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَصَّاهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، فَذَلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ، وَقَالَهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي تَحْلِيلَ الْحَلَالِ وَتَحْرِيمَ الْحَرَامِ، وَقَالَ الْحَكَمُ: تَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا، وَخَصَّ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ الشَّرَائِعِ".

يعني خصهم؛ لأنهم هم أولي العزم من الرسل، وغيرهم له شرائع مثل هود وصالح وشعيب وغيرهم من الرسل لهم شرائع، يعني ما خص هؤلاء؛ لأن لهم شرائع، وإنمًا لأنهم أولو العزم من الرسل، وقد أمر بالصبر كما صبر.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} أَيْ عَظُمَ عَلَيْهِمْ، { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} مِنَ التَّوْحِيدِ وَرَفْضِ الْأَوْثَانِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَضَاقَ بِهَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، فَأَبَى اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهَا ويعليها ويظهرها على من نَاوَأَهَا، ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ} أَيْ يَخْتَارُ، وَالِاجْتِبَاءُ الِاخْتِيَارُ، أَيْ يَخْتَارُ لِلتَّوْحِيدِ مَنْ يَشَاءُ، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ"} أَيْ يَسْتَخْلِصُ لِدِينِهِ مَنْ رَجَعَ إِلَيْهِ.

 {وَما تَفَرَّقُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قُرَيْشًا، {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ} مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيٌّ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ}  [فاطر: 42] يُرِيدُ نَبِيًّا، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: { فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}[البقرة: 89] عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، وَقِيلَ: أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمُ اخْتَلَفُوا لَمَّا طَالَ بِهِمُ الْمَدَى فَآمَنَ قَوْمٌ وَكَفَرَ قَوْمٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ، دَلِيلُهُ فِي سُورَةِ الْمُنْفَكِّينَ: { وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[الْبَيِّنَةُ: 4]".

سورة المنفكين سميت بهذا؛ لورود هذه الكلمة فيها، والأكثر على تسميتها البينة، لورود هذه الكلمة أيضًا، فالتسمية إنما تنزع من كلمة أو قصة أو اسم يذكر في السورة.

" فَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: لِمَ خُصَّ بِالنُّبُوَّةِ! وَالْيَهُودُ حسدوه لما بعث، وكذا النصارى".

عندما بعث من غيرهم حسدوه، وكانوا يتوعدون به كفار قريش، سوف يبعث نبي، أظلنا وقت نبي، إذا بعث نكون معه ونقاتلكم، فلما بعث كفروا به -نسأل الله العافية-.

"{بَغْياً بَيْنَهُمْ} أَيْ بَغْيًا مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ طلبا للرئاسة، فَلَيْسَ تَفَرُّقُهُمْ لِقُصُورٍ فِي الْبَيَانِ وَالْحُجَجِ".

يعني  ليس تفرقهم وإصرارهم واستكبارهم وعنادهم لقصورهم في البيان من قبل الرسول الذي أرسل إليهم، وقد بين البيان المبين الواضح، والذي لم يترك لأحد حجة، وإنما هو لعنادهم وإصرارهم واستكبارهم والذي يجعلهم يستكبرون ويعاندون فيرفضون ما جاء به.

 يعني إذا كان بعض الدعاة تقصر عنده الحجة في بيان ما عنده سواء كان يدعو أو يناظر أو يحاج أو يجادل فإن النبي  لا يمكن أن يتصور منه هذا، لاسيما وأن النبي يبعث بلسان قومه، ويكون هو أفصح القوم، وأقدرهم على البيان والحجة، والنبي –عليه الصلاة والسلام- هذه منزلته، فكونهم لم يقبلوا لا لعدم الوضوح في كلامه،  والعرب يفهمون، وهو عربي مبين يبين ما نزل إليه ولذلك استكبارهم، استكبارهم عن قول: لا إله إلا الله،  {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا}، فهموا، فهموا ما يقول وما يطلب منهم، وأبو جهل يعرف معنى لا إله إلا الله ،ومع الأسف أن كثيرًا من المسلمين  لا يعرف معنى لا إله إلا الله.

 ممن يقول لا إله إلا الله ويزاول الشرك، ويطوف بالقبر ويقول: لا إله إلا الله، يعظم شيطانًا وهو يقول: لا إله إلا الله –نسأل الله العافية-.

" وَلَكِنْ للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ"} فِي تَأْخِيرِ الْعِقَابِ عَنْ هَؤُلَاءِ، {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} قِيلَ: الْقِيَامَةُ؛ لقوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ}[القمر: 46]، وَقِيلَ: إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قُضِيَ فِيهِ بِعَذَابِهِمْ".

سواء كان قبل الساعة في الدنيا كما حصل للأمم السابقة، ويحصل لبعض هذه الأمة من الخسف والمسخ وأيضًا الأمور العامة التي تذهب بفئام من الناس هذه موعدهم، وأيضًا ما حصل في بدر بالنسبة لمشركي قريش هذا موعدهم أو موعدهم الساعة، كما ذكر المؤلف- رحمه الله-نعم.

" وَقِيلَ: إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قُضِيَ فِيهِ بِعَذَابِهِمْ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ"} أَيْ بَيْنَ مَنْ آمَنَ وَبَيْنَ مَنْ كَفَرَ بِنُزُولِ الْعَذَابِ، { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ} يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، {مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيْ مِنْ بَعْدِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ، {لَفِي شَكٍّ} مِنَ الَّذِي أَوْصَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَقِيلَ: { إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ} قريش، {مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد اليهود النصارى، {لَفِي شَكٍّ} مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى" مِنْ بَعْدِهِمْ" مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَهُمُ الْيَهُودُ والنصارى".

يقول: إن الأولية التي ذكرت بالنسبة إلى نوح أول رسول الأولية ليست مطلقة، بل هي أولية مقيدة، وينظر بحديث: «أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب»، والعرش قبله على خلاف بين أهل العلم، والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان، هل كان قبل العرش أو بعده؟ قولان عند أبي الأعلى الهمذاني، والحق أن العرش قبله؛ لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان، وكتابة القلم الشريف تعقب إيجاده من غير فصل زمان.

 كلام ابن القيم يبين أن الأولية في قوله: «أول ما خلق القلم» ليس معناه بالنظر إلى جميع المخلوقات، وإنما الأولية مرتبطة بقوله: اكتب، أول ما قال له: اكتب، يعني لو أول ما سقط المولود استهل صارخًا، يعني كم مولود اليوم؟ هل نقول: إن هذا أول مولود خلق؟ لا، إنما الأولية متعلقة بما حصل منه أو ما حصل معه، أول ما خلق الله القلم قال: اكتب، فالأولية متعلقة بالكتابة ليست بالنظر إلى جميع المخلوقات.

طالب:...........المقصود أن الكاتبة تعقبت إيجاد القلم من غير متصل زمان كما قال ابن القيم، وعلى هذا حملت الأولية لا على أنها أولية مطلقة، نعم إرادة الأولية المقيدة لا مطلقة، هذه جاء فيها بعض النصوص، مما يدل عليها، وأن الأولية ليست أولية مطلقة، يعني قيل في حديث صلاة الكسوف قام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم قام قيامًا طويلاً دون القيام الأول، دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً دون الركوع الأول، ثم قام ثم سجد سجودًا طويلاً، ثم جلس، ثم سجد سجودًا طويلاً دون السجود الأول، هنا المراد بالأولية الأولية المطلقة في الركعة الأولى؛ لأن ما تقدم إلا شيء واحد، لكن في الركعة الثانية، ثم قام قيامًا طويلاً دون القيام الأول، وتقدمه قيامان، الأول من الركعة الأولى، والثاني من الركعة الأولى دون الأول الأولية مطلقة أو الأول بالنسبة له، وهو الثاني؟

طالب:............

يعني أولية نسبية أم مطلقة؟

طالب: نسبية.

يعني في القيام الرابع دون القيام الأول يعني دون الأول الذي لم يتقدمه شيء أو دون الثالث بالنسبة له؛ لأنه أول.

طالب:.............

وعلى الاحتمالين صلاة الكسوف القيام الأول هو المتميز عن غيره بالطول، والقيامات الثلاثة متساوية؛ لأن كلها دون القيام الأول، وإذا قلنا بالاحتمال الثاني قلنا: إن القيام الأول أطول من الثاني، والثاني أطول من الثالث، والثالث أطول من الرابع، وإذا قلنا: أولية نسبية فلا شك أن الأولية مطلقة مستعملة، والأولية نسبية مستعملة.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} لَمَّا أَجَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِقُرَيْشٍ قِيلَ لَهُ: " فَلِذلِكَ فَادْعُ" أَيْ فَتَبَيَّنْتَ شَكَّهُمْ فَادْعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَوَصَّاهُمْ بِهِ، فَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} [الزلزلة: 5] أي إليها، و"ذلِكَ" بِمَعْنَى هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ " الْبَقَرَةِ"، وَالْمَعْنَى فَلِهَذَا الْقُرْآنِ فَادْعُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ فَادْعُ، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ عَلَى بَابِهَا، وَالْمَعْنَى: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِلَى الْقُرْآنِ فَادْعُ الْخَلْقَ، " وَاسْتَقِمْ" خِطَابٌ لَهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

 قَالَ قَتَادَةُ: أَيِ اسْتَقِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: أَيِ اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَقِمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ،" وَ{لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ} أَيْ لَا تَنْظُرْ إِلَى خِلَافِ مَنْ خَالَفَكَ، { وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أَيْ أَنْ أَعْدِلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" }[غافر: 66]، وَقِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، أَيْ لِكَيْ أَعْدِلَ".

يأتون باللام هنا للتعليل اللام هنا للتعليل.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لِأُسَوِّيَ بَيْنَكُمْ في الدين فأومن بِكُلِّ كِتَابٍ وَبِكُلِّ رَسُولٍ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لِأَعْدِلَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ: هَذَا الْعَدْلُ هُوَ الْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ".

فلا يكون العدل هنا هو المأمور به، وإنما يكون علة للمأمور به، يعني أمرت به، أمرت به من أوامر من أجل إقامة العدل بينكم من أجل إقامة العدل إذا قلنا: إن لام كي لكي أعدل بينكم.

" وَقِيلَ فِي التَّبْلِيغِ { اللَّهُ رَبُّنا}".

نعم في التبليغ كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إنما أنا قاسم، والله المعطي»، قد يقول قائل: النبي –عبيه الصلاة والسلام- قد أُمر بالعدل، فلماذا يروي عنه أبو هريرة أكثر من خمسة آلاف حديث، وهو مأمور بالعدل في التبليغ، وغيره يروي الحديث والحديثين والثلاثة والعشرة والمائة وأكثر أو أقل، وأبو هريرة روى هذا العدد الكبير، هذا العدد الكبير، هل قلنا -عليه الصلاة والسلام – ما عدل في التبليغ؟

النبي –عليه الصلاة والسلام- قال: «إنما أنا قاسم، والله المعطي»، كذلك الطلاب يحضرون عند الشيخ، يخرج بعضهم بأكثر من بعض في الفوائد، بعضهم يخرج بجميع ما سمع، بعضهم بنصف ما سمع، وبعضهم يخرج بأقل أو أكثر، وبعضهم يخرج بلا شيء، ولا يحرم أجر الحضور وسلوك الطريق.

 كما أن المصلين أيضًا، يأتي المصلي ويخرج من صلاته بأجرها، بنصفه، بربعه، بعشره، كما جاء في الحديث الصحيح.

وقد يكون السبب اختياريًّا، وقد يكون السبب قهريًّا، يعني الذي حضر للدرس وانصرف بدون فائدة مثلاً سببه إما اختياريًّا انشغل وغفل ما انتبه للدرس، وهذا يلام عليه، أو يكون قهريًّا حافظته ضعيفة، وفهمه ضعيف فهذا لا يلام، وأجره وافر، إن شاء الله، لكن يبقى الإشكال فيمن تأهل للتحمل، وأضاع هذه الفرصة على نفسه، عنده الأهلية، عنده الحفظ، عنده الفهم، ثم بعد ذلك يخرج بلا شيء، فيكون مشبهًا للمنافقين الذين يرجعون من عند النبي –عليه الصلاة والسلام- بلا شيء، ماذا قال ءانفًا؟ يسأل بعضهم بعضًا، ولذلك بعض المغرضين من المستشرقين وغيرهم يقول: قد يكون في الصحابة الذي روى لنا هذه الأحاديث من المنافقين، ويدسون فيها ما يدسون، نقول: لا، المنافق لا يخرج بشيء، يقول: ماذا قال ءانفًا؟ لا يفقه شيئًا، والله المستعان.

"وَقِيلَ فِي التَّبْلِيغِ، { اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، أَيْ لَنَا دِينُنَا،  وَلَكُمْ دِينُكُمْ، قال: ثم نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: { قاتِلُوا الَّذِينَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَعْنَى " لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ" لَا خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ بمنسوخ؛ لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ قَدْ ظَهَرَتْ، وَالْحُجَجَ قَدْ قَامَتْ".

الخصومة تحتاج إلى حجة، فعبر بالحجة عن الخصومة؛ لأنها من لوازمها.

" فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعِنَادُ، وَبَعْدَ الْعِنَادِ لَا حُجَّةَ وَلَا جِدَالَ".

لأن بعض الناس الآن، حتى موجود في مجتمعات المسلمين، إذا أورد عليه دليل من الكتاب والسنة تجده يحاول جاهدًا أن يرده بحجة، لكن لا يوجد حجة، لا عقلية ولا نقلية، ثم يلجأ إلى حجج العاجزين: يقول: ولو، ولو، تقول له: الحديث في البخاري، يقول لك: ولو، وهذا لا حجة بيننا وبينه، ما عنده حجة، ماذا يرد؟ بأي شيء؟

 ومع الأسف أنه يوجد من بعض طلاب العلم شيء إذا مال إليه وجنح إليه من قول أو فعل، ثم بعد ذلك إذا نُوقش لم يجد له حجة، وإذا أوردت عليه الحجة انقطع وقال: ولو، مثل: لا حجة بيننا وبينكم، والله المستعان.

 طالب: ............

يعني الإشكال أنه يوجد بين طلاب علم، أما عامة الناس، عامة الناس هذا الأصل فيهم أنهم ما عندهم دليل، وإنما يقلدون، لماذا تفعل؟ والله الشيخ الفلاني قال، أو رأيت الشيخ الفلاني يفعل، طيب الحديث؟ قال: ولو، لست بأعرف من فلان، ومتعصبة المذاهب كذلك، يعني تورد عليه الحديث،  قال: أنت أعرف من الإمام أحمد؟ طيب الحديث في البخاري، يقول لك: ولو، هذه حجة المنقطعين.

طالب: ............

 العوام فرضهم التقليد، وإذا قلدوا من تبرأ الذمة بتقليده انتهى إشكالهم، الإشكال فيمن لديه أهلية النظر، يعني يورد عليه الشيء يقول: ولا، هذه تسمع كثيرًا.

" قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى { لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ} عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ: لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْكُمْ وَيُقَاتِلَكُمْ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، كَمَا أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ: لَا تُصَلِّ  إِلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ حُوِّلَ النَّاسُ بَعْدُ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: نُسِخَ ذَلِكَ.

{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا}".

يعني لو أن إنسانًا صلي إلى الكعبة قبل النسخ، ثم حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، صلاته صحيحة أم باطلة؟

طالب: صلاته صحيحة.

صلاته باطلة؛ لأن الناسخ يلزم العمل به من بلوغه، لكن نفترض أن شخصًا نسى صلاة أو فاتته صلاة، وكانت مما يصلى على بيت المقدس، ثم نسخت، وحولت القبلة إلى الكعبة، فهل يصلي باعتبار المقضية أو باعتبار الحال؟

طالب: ............

 نعم، باعتبار الحال، نظير ما قال أهل العلم: إذا صلى صلاة سفر، ثم تبين له بطلانها، ونسيها فقضاها بالحضر فإنه يصلي صلاة مقيم؛ لأن العبرة بالحال.

" { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا} يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أَيْ فَهُوَ يَحْكُمُ بَيْنَنَا إِذَا صِرْنَا إِلَيْهِ، وَيُجَازِي كُلًّا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقَدْ سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دَعْوَتِهِ وَدِينِهِ إِلَى دِينِ قُرَيْشٍ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْوَلِيدُ نِصْفَ مَالِهِ وَيُزَوِّجُهُ شَيْبَةُ بِابْنَتِهِ،قَوْلُهُ تَعَالَى{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ"} رَجَعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَعْدِ مَا أَسْلَمَ النَّاسُ، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ تَعُودُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمُحَاجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ الْفَضِيلَةَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}".

فلا حجة أهل الكتاب ولا حجة المشرك لا هؤلاء ولا هؤلاء؛ لأن كون أهل الكتاب من أولاد الأنبياء لا يعني أنهم على سننهم وطريقتهم، بل كانوا يقتلون الأنبياء، فكونهم أولاد أنبياء لا شك أن هذا عليهم، وليس لهم؛ لأن الذي ينفع الانتساب إليه إذا وفق إلى ما يمدح به، أما إذا خولف، يعني بعض الناس يزعم أنه من أهل البيت، طيب أنت من أهل البيت، لكن ما مدي التزامك بما جاء به  النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ إن كنت مخالفًا له فانتسابك إليه وبال عليك، وإن كنت موافقًا له انتفعت بهذه الموافقة، ولو كنت من أبعد الناس.

 نعم يبقي أن من كان من أهل البيت له قدر زائد من الحق؛ لأنه وصية النبي -عليه الصلاة والسلام-، وصانا بهم النبي- عليه الصلة والسلام-، لكن المقصود بذلك المتبع منهم، وأما المبتدع أو المخالف مخالفة ظاهرة فهذا لا ينفعه الانتساب، تقطعت بهم الأسباب، هو كذلك كون اليهود والنصارى وبنو إسرائيل أنهم أولاد الأنبياء، وبعث منهم أكثر هذا دليل على أنهم احتاجوا إلى البعث، إلى أن يبعث لهم أكثر؛ لكثرة عنادهم وإصرارهم، ليست هذه منقبة، لو اتبعوا هؤلاء الأنبياء وآمنوا بهم وبشرائعهم أجروا على ذلك، كونهم يخالفونهم، بل يقتلونهم هذه لا يمكن أن يحتجوا بها على أفضليتهم. نعم فضلوا على العالمين، عالمي زمانهم، نعم فضلوا على عالم زمانهم، أما هذه الأمة فكنتم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق من المتقدمين والمتأخرين. كون المشركين أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًّا يفتخرون بأحسابهم، بأنسابهم، بأفعالهم، بشجاعتهم، بكرمهم، كل هذا لا يجدي لهم شيئًا ما لم يتبعوا الرسول النبي الأمي -عليه الصلاة والسلام-.

" أَيْ لَا ثَبَاتَ لَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي يَزِلُّ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَالْهَاءُ فِي" لَهُ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا وَحَّدُوا اللَّهَ وَشَهِدُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَعْوَتِهِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَنَصَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ، يُقَالُ: دَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا بَطَلَتْ، وَأَدْحَضَهَا اللَّهُ، وَالْإِدْحَاضُ: الْإِزْلَاقُ، ومكان دحض ودحض أيضًا (بِالتَّحْرِيكِ) أَيْ زَلِقَ، وَدَحَضَتْ رِجْلُهُ تَدْحَضُ دَحْضًا زَلِقَتْ، وَدَحَضَتِ الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ زَالَتْ.

{ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ"} يُرِيدُ فِي الدُّنْيَا، { وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} يريد في الآخرة عذاب دائم.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، "بِالْحَقِّ" أَيْ بِالصِّدْقِ، " وَالْمِيزانَ" أَيِ الْعَدْلَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْعَدْلُ يُسَمَّى مِيزَانًا؛ لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ، وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مَا بُيِّنَ فِي الْكُتُبِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمِيزَانُ الْعَدْلُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَنْهُ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الطَّاعَةِ بِالثَّوَابِ، وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْعِقَابِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمِيزَانُ نَفْسُهُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ".

يعني هو العدل، عدل في الجزاء، فيجازي المطيع بالثواب، ويجازي العاصي بالعقاب، وهذا عدل نعم.

"أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ وَعَلَّمَ الْعِبَادَ الْوَزْنَ بِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَظَالُمٌ وَتَبَاخُسٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ وَمَعْنَى أنزل الميزان، هو إلهامه للخلق أن يعملوه وَيَعْمَلُوا بِهِ، وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقْضِي بَيْنَكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ.

{ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهَا، يَحُضُّهُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالْعَدْلِ وَالسَّوِيَّةِ، وَالْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَ الْيَوْمَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمُحَاسَبَةُ وَوَزْنُ الْأَعْمَالِ، فَيُوَفِّي لِمَنْ أَوْفَى وَيُطَفِّفُ لِمَنْ طَفَّفَ، فَ" لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ" أَيْ مِنْكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي، وَقَالَ:" قَرِيبٌ" وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةً؛ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّهَا كَالْوَقْتِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.

 وَالْمَعْنَى: لَعَلَّ الْبَعْثَ أَوْ لَعَلَّ مَجِيءَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: " قَرِيبٌ" نَعْتٌ يُنْعَتُ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ بِمَعْنًى وَلَفْظٍ وَاحِدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}".

تقول: زيد قريب، وهند قريب، والزيدان قريب، والهندان قريب، والرجال قريب، والمسلمون قريب ورحمة الله قريب، ومنهم في لغة فيها المطابقة زيد قريب، والزيدان قريبان، وهند قريبة، وهكذا، لكن اللغة الفصحى التي جاء بها القرآن هو التوحيد، التذكير والتوحيد مهما كان المخبر عنه، والمسند إليه.

" قَالَ الشَّاعِرُ:

وَكُنَّا قَرِيبًا وَالدِّيَارُ بَعِيدَةً ،،، فَلَمَّا وصلنا نصب أعينهم غبنا"

كيف كنا قريبًا والديار بعيدةً، كنا قريبًا والديار بعيدةً، يعني تقارب القلوب ولو تباعدت الأماكن القرب موجود، فلما وصلنا، وصلنا إليهم وقربنا منهم نصب أعينهم غبنا، حصل بيننا وبينهم ما حصل، لذا قال الشاعر:

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا   ،،،،،      وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

يعني الإنسان إذا وصل إلى ما هو بشوق شديد إليه خلاص، تجد بعض الناس يحرص على الشيء، فيبذل الغالي والنفيس في تحصيله، فإذا حصله ركنه في جانب من البيت، كأنه لا شيء، كأنه لا شيء، لو يذكر له هذا في بعيد الأقطار سافر إليه لاقتنائه، ثم إذا اقتناه تركه، كحال كثير من طلاب  العلم إذا قيل له: طبع الكتاب الفلاني، أو وجد، بذل كل ما يستطيع من مال، وجهد؛ لتحصيله، ثم إذا وضعه في الدواليب خلاص، يمكن إلى أن يموت ما فتحه هذا حاصل نعم

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها"} يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ آتِيَةٍ".

نعم يستبعدونها ويستعجلونها، يستبعدون وقوعها، بل يستحيلون وقوعها، يقولون: هات دعها تجيء الساعة، يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، يعني غير مصدقين، وغير المصدق يستعجل بالشيء، يعني إذا هدد إنسان بشيء، والمهدد إما أن يكون مكذبًا بما هدد به أو مستخفًا بوقوعه، يقول: خله يجيء هات، إذا ضرب شخص ثم هدد المضروب قال: أحضر أبي أو أخي أو فلانًا أو علانًا، أجيء لك بالشرطة أو أستدعي عليك قال له: هاته، مجنون هذا، إما أن يكون مكذبًا بأنه يستطيع الوصول إلى ما هدد به، أو لأنه يستخف بمن هُدد به، وهنا هم مكذبون بالساعة، يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، يقول: هات، عند الساعة هاتها خلها تجيء -والله المستعان-نعم.

 "أَوْ إِيهَامًا لِلضَّعَفَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها"} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ لِاسْتِقْصَارِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الْجَهْدِ فِي الطَّاعَةِ، كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون: 60]".

يعني يؤتون ما آتوا، يفعلون الأعمال الصالحة، ويخافون أن لا تقبل منهم، ليسوا الذين يعملون الأعمال السيئة، ويخافون من مغبتها وعاقبتها، لا، ولذلك لما قالت عائشة –رضي الله عنها –: أهم الذين يسرقون ويزنون ويشربون؟ قال: «قال لا: بابنة الصديق هم الذين يصلون ويصومون ويذكون ويحجون، لكنهم قلوبهم وجلة»، خائفة أن ترد عليه هذه الأعمال، فإذا رأيت الإنسان يعمل العمل الصالح ويخشى على نفسه فيجمع بين إحسان العمل وإحسان الظن بربه وسوء ظنه بنفسه وعمله هذا هو الموفق، لكن إذا رأيته يسيء العمل، ويطيل الأمل، ويأمن من مكر الله فهذا المخذول، نسأل الله العافية.

" وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ" أَيِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا، { أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ} أَيْ يَشُكُّونَ وَيُخَاصِمُونَ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ{ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ"} أَيْ عَنِ الْحَقِّ وَطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، إِذْ لَوْ تَذَكَّرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي أَنْشَأَهُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى أَنْ بَلَغُوا مَا بَلَغُوا، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَفِيٌّ بِهِمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بَارٌّ بِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَفِيقٌ بِهِمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، حَيْثُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: لَطِيفٌ بِهِمْ فِي الْعَرْضِ وَالْمُحَاسَبَةِ، قَالَ:

غَدًا عِنْدَ مَوْلَى الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ مَوْقِفٌ ،،، يُسَائِلُهُمْ فِيهِ الْجَلِيلُ وَيَلْطُفُ"

يسائلهم فيه الجليلُ

طالب: بالضم الجليل؟

يسائلهم فيه.

طالب: الجليل.

من الذي يسائلهم؟

طالب: الله -جل وعلا- إذا كان المراد به الجليل من أسمائه الحسنى فهو مرفوع، وإذا كان يسائلهم عن الجليل يعني الشيء العظيم، ثم يلطف بهم بعد مساءلتهم وإقرارهم بما فعلوا فالأمر محتمل.

"وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: يَلْطُفُ بِهِمْ فِي الرِّزْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ رِزْقَكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذوه، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَطِيفٌ بِهِمْ فِي القرآن وتفصيله وتفسيره، وقال الجنيد: لطيف بِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى عَرَفُوهُ، وَلَوْ لَطَفَ بِأَعْدَائِهِ لَمَا جَحَدُوهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَتَّانِيُّ: اللَّطِيفُ بِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا يَئِسَ من الخلق توكل عليه وَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُهُ وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ"

في قوله: ولو لطف بأعدائه لما جحدوه الآية {الله لطيف بعباده} الله لطيف بعباده هو لطيف بأوليائه، وهو لطيف بأعدائه أيضًا، والرسول-عليه الصلاة والسلام-رحمة للعالمين، هو لطيف بالجميع، فمنهم من يقبل هذا اللطف، ويعمل بمقتضاه وموجبه، فيستجيب، ومنهم من يتنكر لهذا الجميل وهذا اللطف، فيصر ويعاند ويستكبر، فيستحق العذاب الأليم –نسأل الله العافية-.

" وَجَاءَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطَّلِعُ عَلَى الْقُبُورِ الدَّوَارِسِ فيقول -عز وجل-: امَّحَتْ آثَارُهُمْ، وَاضْمَحَلَّتْ صُوَرُهُمْ، وَبَقِيَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَأَنَا اللَّطِيفُ، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ خَفِّفُوا عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَيُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ»".

من رواه؟

طالب: ............

تخريجه؟

طالب:.............

يعني ما عزاه إلى أحد.

طالب:...........الثعلبي.

عند الثعلبي، لكن مع ذلك ما قدح فيه في شيء إلا لأنه عند الثعلبي.

طالب:.....التخريج ....

هذا ما فيه شك أن ضعفه ظاهر، ولو لم يكن فيه إلا أنه لم يوجد في دواوين الإسلام، لكن وجوده عند الثعلبي لا شك أنه مظنة الضعف.

"قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:

أَمُرُّ بِأَفْنَاءِ الْقُبُورِ كَأَنَّنِي ،،، أَخُو فِطْنَةٍ وَالثَّوَابُ فِيهِ نَحِيفُ
وَمَنْ شَقَّ فَاهُ اللَّهُ قَدَّرَ رِزْقَهُ ،،، وَرَبِّي بِمَنْ يَلْجَأ إِلَيْهِ لَطِيفُ
وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الَّذِي يَنْشُرُ مِنْ عِبَادِهِ الْمَنَاقِبَ وَيَسْتُرُ عَلَيْهِمُ الْمَثَالِبَ، وَعَلَى هَذَا قَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَسَتَرَ الْقَبِيحَ»".

كذلك؟

طالب:... قال أخرجه الحاكم في المستدرك.

وما حكم عليه؟

طالب:.......حديث أخرجه الحاكم عن...............وصححه الحاكم ...الذهبي .... الميزان وهو كلام الحاكم، وقال أخرجه: الترمذي ......

ولذلك موافقات الذهبي للحاكم في المستدرك كثير منها غير محرر، كثير منها يرجع إلى سوء النسخ، نسخ تلخيص المستدرك، وبعضها يرجع إلى سوء الطباعة، وبعضها يرجع إلى أن الحافظ الذهبي نفسه ما حرر بعض الأحكام التي حكم عليها الحاكم، ولذلك تجده يسكت في كثير من الأحوال على أشياء ضعيفة، وإذا تكلم في ترجمة راوٍ من الرواة في الميزان تجده يبين؛ لأن الميزان محرر ومتقن، ما هو مثل تلخيص المستدرك.

"وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الْقَلِيلَ، وَيَبْذُلُ الْجَزِيلَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَجْبُرُ الْكَسِيرَ، وَيُيَسِّرُ الْعَسِيرَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يُخَافُ إِلَّا عَدْلُهُ، وَلَا يُرْجَى إِلَّا فَضْلُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَبْذُلُ لِعَبْدِهِ النِّعْمَةَ فَوْقَ الْهِمَّةِ، وَيُكَلِّفُهُ الطَّاعَةَ فَوْقَ الطَّاقَةِ، قَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها} [النحل: 18]".

اللطيف هو الذي يبذل لعبده النعمة فوق الهمة هذا كلام ماشٍ، يبذل لعبده النعمة فوق الهمة، يعني فوق ما يستحقه، لكن يكلفه فوق الطاقة.

طالب: يا شيخ وتكون ويكفيه تكون: ويكفيه الطاعة فوق الطاقة؟

طالب:.....

ماذا؟

طالب: زيادة الطاقة..

ويكلفه الطاعة فوق الطاقة، ويكلفه الطاعة فوق الطاقة في آخر سورة البقرة: {لا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: قد فعلت، والذي لا يطاق لا يقع به التكليف، فكيف بما فوق الطاقة؟ يكلفه الطاعة فوق الطاقة، يمكن لا يكلفه، يمكن لا يكلفه الطاعة فوق الطاقة.

""{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً} [لقمان: 20]، وَقَالَ: { وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْحَرَجٍ} [الحج: 78]، { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُعِينُ عَلَى الْخِدْمَةِ وَيُكْثِرُ الْمِدْحَةَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا يُخَيِّبُ مَنْ رَجَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَرُدُّ سَائِلَهُ وَلَا يُوئِسُ آمِلَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَعْفُو عَمَّنْ يَهْفُو، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ مَنْ لَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَوْقَدَ فِي أَسْرَارِ الْعَارِفِينَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ سِرَاجًا، وَجَعَلَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لَهُمْ مِنْهَاجًا، وَأَجْزَلَ لَهُمْ مِنْ سَحَائِبِ بِرِّهِ مَاءً ثَجَّاجًا، وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَامِ" قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالْجُنَيْدِ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيعَ هَذَا فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى عِنْدَ اسْمِهِ اللَّطِيفِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

{يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ، وَفِي تَفْضِيلِ قوم بالمال حكمة؛ ليحتاج الْبَعْضُ إِلَى الْبَعْضِ، كَمَا قَالَ: { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا}[الزخرف: 32]، فَكَانَ هَذَا لُطْفًا بِالْعِبَادِ، وَأَيْضًا لِيَمْتَحِنَ الْغَنِيَّ بِالْفَقِيرِ وَالْفَقِيرَ بِالْغَنِيِّ، كَمَا قَالَ: { وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}.

يعني هذه الحكمة من تفاوت الناس، {نحن قسمنا يبنهم معيشتهم} بعضهم غني وبعضهم فقير، والإنسان لا يدري ما الصالح فيه بالنسبة له، الفقير يتذمر من الفقر، وما علم المسكين أنه لو أغناه الله لأطغاه المال فصار وبالاً عليه، والغني في كثير من الأحيان يغبط الفقير إذا حصلت له هفوة أو كبوة، أو طُولب ببذل ما أوجب الله عليه يتمنى أن لو كان فقيرًا فلا تجب عليه هذه الواجبات، وما يدريك لو أن الله أفقرك لضرك الفقر أشد؟ وقل مثل هذا في جميع أمور الدنيا، كثير من الناس إذا كان عقيمًا بذل الغالي والرخيص، وبذل جميع ما يمكن مكن الأسباب أن يولد له الولد، وإذا وجد له الولد تمنى أن لا ولد له.

 وما الذي يدريه عن خفايا الأمور وبواطنها، الله لطيف بعباده، أعطاك هذا الولد نعمة؛ لتقوم بما أوجب الله عليك تجاهه، وتنتظر بره وإحسانه.

 وعلى كل حال هذه النعم لابد أن تستخدم فيما يرضي الله- جل وعلا-، ولا يجوز أن يفرط في هذه الأمانة، يعني بعض الناس يري من أولاده شيئًا من التعب والشقاء، ويبذل الأسباب لصلاحهم،  ومع ذلك لا يفلح، أنت في جهاد سواء أفلحت أو لم تفلح، أنت في جهاد، وعلى أجر عظيم، بل أخلص عملك لله، وتابع النصح والتوجيه بالتي هي أحسن، وافعل وابذل الأسباب الممكنة.

 يعني لا تقل: لو أنه لا ولد له أو فلان ما شاء الله عليه ما عنده أولاد، وسلم من هذه المشاكل، نعم في عصرنا هذا امتحان وابتلاء، جاء في بعض الأخبار أنه في آخر الزمان؛ لأن يربي أحدكم جروًا خير من أن يربي ولدًا؛ لما يري من الشقاء في الأولاد، نسأل الله أن يصلح أولاد المسلمين، لا يتذمر الإنسان عما كتب الله له.

 وكن صابرًا للفقر وادرع الرضى              بما قدر الرحمن واشكره واحمد

فالفقير عليه أن يصبر، والغني عليه أن يشكر.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ"} الْحَرْثُ الْعَمَلُ وَالْكَسْبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَاحْرُثْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ حَارِثًا".

هذا يروى مرفوعًا، لكنه لا يثبت، لا يصح مرفوعًا، وأورده أصحاب الكتب التي ألفت في الموضوعات فالمرفوع منه موضوع، لا يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومنهم من ينسبه لابن عمر، ومنهم من ينسبه لغيره.

 المقصود أنه حرث، المحفوظ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا، إذا يعني جاء في الحديث الصحيح أنه: « إذا قامت الساعة وفي يدي أحدكم فسيلة فليغرسها»، فليعمل وليدأب مريدًا بذلك وجه الله، ونفع نفسه وانتفاعه، وعدم الاحتياج إلى غيره، ومع ذلك نفع غيره وأداء ما أوجب الله عليه يؤجر على هذا العمل، ومع ذلك يكون عمله جله لا كله لما خلق من أجله وتحقيق العبودية لله –جل وعلا-، ويكون عمله للدنيا في حدود: ولا تنس نصيبك من الدنيا.

"وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ حَارِثًا" وَالْمَعْنَى: أَيْ مَنْ طَلَبَ بِمَا رَزَقْنَاهُ حَرْثًا لِآخِرَتِهِ، فَأَدَّى حُقُوقَ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ، فَإِنَّمَا نُعْطِيهِ ثَوَابَ ذَلِكَ لِلْوَاحِدِ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ فَأَكْثَرَ، { وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا} أَيْ طَلَبَ بِالْمَالِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ رئاسة الدُّنْيَا وَالتَّوَصُّلَ إِلَى الْمَحْظُورَاتِ، فَإِنَّا لَا نَحْرِمُهُ الرِّزْقَ أَصْلًا، وَلَكِنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَالِهِ".

بل قد يزاد في رزقه في الدنيا من باب الاستدراج.

"، وَلَكِنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَالِهِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً"} [الاسراء: 19 - 18]، وَقِيلَ: { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} نُوَفِّقُهُ لِلْعِبَادَةِ وَنُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: حَرْثُ الْآخِرَةِ الطَّاعَةُ، أَيْ من أطاع فله الثواب، وقيل: " نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ" أي نعطيه الدُّنْيَا مَعَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْغَزْوِ، أَيْ مَنْ أَرَادَ بِغَزْوِهِ الْآخِرَةَ أُوتِيَ الثَّوَابَ، وَمَنْ أَرَادَ بِغَزْوِهِ الْغَنِيمَةَ أُوتِيَ مِنْهَا.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكَافِرِ، يُوَسَّعُ لَهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي عَلَى نِيَّةِ الْآخِرَةِ مَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا يُعْطِي عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا إِلَّا الدُّنْيَا، وَقَالَ أَيْضًا: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "مَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ زِدْنَاهُ فِي عَمَلِهِ وَأَعْطَيْنَاهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَتَبْنَا لَهُ وَمَنْ آثَرَ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ لم نجعل له نصيبا في الآخرة إِلَّا النَّارَ، وَلَمْ يُصِبْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا رِزْقًا قَدْ قَسَمْنَاهُ لَهُ، لَا بُدَّ أَنْ كَانَ يُؤْتَاهُ مَعَ إِيثَارٍ أَوْ غَيْرِ إِيثَارٍ " وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: { مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ"}، مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ" نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ" أَيْ فِي حَسَنَاتِهِ { وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا"} أَيْ مَنْ كَانَ مِنَ الْفُجَّارِ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ الدُّنْيَا" نُؤْتِهِ مِنْها" ثُمَّ نسخ ذلك فِي سُبْحَانَ { مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ" } [الاسراء، 18]".

سبحان يعني في سورة الإسراء.

"{ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ" }الاسراء، 18]" وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".

والنسخ لا يدخل الأخبار.

" أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ»، وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ يُبَيِّنُ لَكَ أَنْ لَا نَسْخَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي" هُودٍ" أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَأَنَّ النَّسْخَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَخْبَارِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ".

في قوله: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، إذا جاء الدعاء بلفظ الأمر لا يجوز أن يقترن بالمشيئة، لكن إذا جاء بلفظ الخبر فلا مانع من ذلك، طهور إن شاء الله، ذهب الظمأ وثبت الأجر إن شاء الله، هذا إن شاء الله ما فيه إشكال؛ لورود ما يدل عليه إلا إذا كان الدعاء بلفظ الأمر الصريح  فلا يجوز أن يقترن بالمشيئة، ليعظم المسألة.

" مَسْأَلَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ تَبَرُّدًا أَنَّهُ يُجْزِيهِ عَنْ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْوُضُوءِ مِنْ حَرْثِ الْآخِرَةِ وَالتَّبَرُّدَ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا، فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تُجْزِي نِيَّتُهُ عَنْهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَهُ ابن العربي".

لأن هذا يريد حرث الدنيا، يتبرد من أجل الدنيا لا من أجل الآخرة، ما له في الآخرة من نصيب؛ لأن الوضوء المتعبد به هذا من حرث الآخرة، والذي يريد أن يتبرد بالوضوء، أو بالغسل، هذا يريد حرث الدنيا، يزاد له في حرثه، يحقق له ما يريد، وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا استنباط دقيق من ابن العربي -رحمه الله-.

 ومعروف مذهب أبي حنيفة في الوسائل، وأنها لا تشترط لها النية، ويفرقون بين الوضوء والتيمم، فلا يوجبون للوضوء والغسل نية، ويوجبونه للتيمم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ} أَيْ أَلَهُمْ! وَالْمِيمُ صِلَةٌ وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيعِ، وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً"} [الشورى: 13]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ} [الشورى: 17] كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَهَلْ لَهُمْ آلِهَةٌ شَرَعُوا لَهُمُ الشِّرْكَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ! وَإِذَا اسْتَحَالَ هَذَا فَاللَّهُ لَمْ يَشْرَعِ الشرك، فمن أين يدينون به؟ { وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} يوم القيامة حيث قال: { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ" } [القمر: 46]،" لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ" فِي الدُّنْيَا، فَعَاجَلَ الظَّالِمَ بِالْعُقُوبَةِ وَأَثَابَ الطَّائِعَ،" وَإِنَّ الظَّالِمِينَ" أَيِ الْمُشْرِكِينَ،" لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" فِي الدُّنْيَا الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْقَهْرُ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ.

 وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ" وأن" بفتح الهمزة على العطف على" وَلَوْلا كَلِمَةُ" وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجَوَابِ" لَوْلا" جَائِزٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ " إنَّ" رَفْعًا عَلَى تَقْدِيرِ: وَجَبَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ كَقِرَاءَةِ الْكَسْرِ، فاعلمه".

قف على هذا، قف على هذا يكفي.

"