التعليق على تفسير القرطبي - سورة المجادلة (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12] فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] نَاجَيْتُمْ سَارَرْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُكْثِرُونَ الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ كَفَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْتَخْلُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُنَاجَوْنَهُ."

يعني من الخلوة.

"فَظَنَّ بِهِمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَهُمْ فِي النَّجْوَى، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ عِنْدَ النَّجْوَى؛ لِيَقْطَعَهُمْ عَنِ اسْتِخْلَائِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ كَانُوا يُنَاجُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ كُلَّ مَا قِيلَ لَهُ، وَكَانَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مُنَاجَاتَهُ. فَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يُلْقِي فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ نَاجَوْهُ بِأَنَّ جُمُوعًا اجْتَمَعَتْ لِقِتَالِهِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة: 9] الْآيَةَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَانْتَهَى أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنِ النَّجْوَى، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاهُمْ صَدَقَةً، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَامْتَنَعُوا مِنَ النَّجْوَى، لِضَعْفِ مَقْدِرَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا بَعْدَ الْآيَةِ."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد سبق الحديث عن النجوى والتناجي، والنهي عن تناجي اثنين بحضرة الثالث، لأن الظنون تذهب به كل مذهب وتذهب بهذا الثالث كل مذهب، فأحيانًا يظن أنهم يتناجون فيما بينهم، ويتآمرون عليه فيحصل لديه الخوف والرهبة من صنيعهم، وأحيانًا يظن ما هو دون ذلك من أنهم يتناجون فيما بينهم، لئلا يسمع حديثهم لكونه أقل من أن يسمع لهم، أو يسمعونه ما يشاءون. المقصود أن الظنون كثيرة جدًا في مثل هذا ولا تنحصر، وما ذكر إنما هو مجرد أمثلة، وإلا فكل ما يتخيله الإنسان يصدق عليه أنه سبب النهي عن النجوى. في الموضع الأول قال: قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى شقوا عليه، فأراد الله –عز وجل- أن يخفف عن نبيه -عليه الصلاة والسلام-، لأن كثير من الناس ما عنده مانع الكلام رخيص، لكن إذا جاء دفع الدراهم توقف، فإذا فرض عليه مبلغ قبل أن يتكلم خفف الكلام، ولا يتكلم إلا في شيءٍ يظنه مقابل لما دفعه، أو يستفيد منه أكثر. هذا أسلوب من أساليب التخفيف لمن أراده، كما يأخذ الإنسان على نفسه أنه إن فعل معصية تصدق بكذا، كما أثر عن بعض السلف إنه نذر أنه إن اغتاب شخصًا تصدق بدرهم، فلم ينتهي من الغيبة حتى نذر أنه إن اغتاب شخصًا صام يومًا. هذا لكف النفس، وما في الآية لكف الناس. مثل هذا الصنيع كون الإنسان يعمل بنصٍ منسوخ، هذا الذي أخذ على نفسه أنه إن أغتاب شخصًا تصدق بدرهم، هذا يريد أن يكف نفسه من الغيبة، فهل له أن يتمسك بمثل هذه الآية؟ إن الله –جل وعلا- أراد التخفيف على نبيه ففرض صدقة النجوى، النص منسوخ، لكنه نسخ رفقًا بهم، وإن كان السبب قائمًا. أولاً مثل هذا النذر هل هو مشروع أم غير مشروع؟ والمراد منه كف النفس عن المحرم. مثل هذا يسمى نذر طاعة، هو نذر طاعة، لكن هل لمن فعله أن يستدل بهذه الآية؟ يعمل بها من أجل كف النفس أو كف الغير؟ كيف يعمل بها؟

إن سبب النزول الأول المراد منها الكف، كف الناس عن سؤال النبي عليه الصلاة والسلام ليخف عنه السؤال. الناس اليوم أكثر كلامهم بدراهم، من خلال هذه الأجهزة، أكثر كلامهم بدراهم، وتجدهم يسترسلون ولا يتورعون، يعني ما يكفهم أخذ الدراهم، يعني كثير من الناس إذا كانت الدراهم ما هي مقبوضة حالاً كأنها غير موجودة، ولذلك تجدهم عند المحلات التي توسع على الناس، تخرجهم بدون دفع، يدفعون فيما بعد، ما يبالون بشيء، لكن إذا ألزم الإنسان بالدفع فورًا هنا يحسب الحساب، والنجوى قدم، وبعد ذلك تحاسب، قدم بين يدي نجواك صدقة.

الآن بعض من يتصدى لنفع الناس تجده يفرض على الناس مبالغ مالية بواسطة هذه الرسائل الجوالية، ويقول: أنه يأخذ هذه الدراهم لدعم هذه الدروس، ودعم هذا النفع، وضمان استمراره وما أشبه ذلك، ويجرون من وراء ذلك الأموال الطائلة، ولاشك أن هذه الرسائل التي تأتي منها الآن فيها فائدة كبيرة، لكن هل مثل هذا العمل هل هي في مقابل هذه الرسالة هذا الدفع، أو الملحوظ ما هو أعم من ذلك من ضمان استمرار النفع من هذا الشيخ، ومثل مثلاً من يقولون تبرع لمرضى الكلى مثلاً، أو مرضى السرطان من خلال رسالة جوال، هذا فرض دراهم على الناس، نعم لهذا السبب، فهل للإنسان أن يلتمس أصل لهذه التصرفات من هذه الآية؟ هو لا شك لكن بعض أسباب النزول تدل على شيء من هذا، بعض الأسباب تدل على شيء من هذا، منها ما يراد منه التخفيف، والكف عن التضييق على النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا واضح.

لو أن شخصا من أهل العلم معروف، وله دروس نافعة، والناس يحطمونه، ولا يتركون له فرصة ولا ينام، وأحيانًا يوقفونه مدة طويلة عند بابه وهو يريد مثلاً الدورة، محتاج إليها جاء من درس أو درسين، فأراد التخفيف، أو أراد من حوله التخفيف، ففرضوا مثل هذه الصدقة.

يقول: نحن لا نأخذ في جيوبنا شيا، والشيخ لا يأخذ شيا، إنما هي لدعم الدروس، والمراد منها التخفيف على الشيخ. هل يمكن أن يفعل مثل هذا والآية منسوخة؟ هذه أمور من وسائل الصد، من وسائل التخفيف على الإنسان، فهل مثل هذا مشروعيته مستمرة، أو نقول هذا أمر نسخ فلا يجوز العمل به؟ لا أحد يتطاول على مقامه عليه الصلاة والسلام، لكن العلة معروفة، العلة مذكورة في سبب النزول.

يعني إذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتحمل الناس أكثر من غيره، وهذا الشخص حطمه الناس وأنتم ترون اجتماع الناس على بعض الشيوخ، يأتون يتأذى الشيخ أذى بالغا، بحيث لا يرتاح لا ليلا ولا نهارا. هل من باب التخفيف أن يقال تصدق، والصدقة ليست للشيخ، ولا لدروس الشيخ، للجهة الفلانية لمدارس تحفيظ القرآن، لحلق التحفيظ. العلة موجودة لكن الحكم منسوخ بالنسبة له -عليه الصلاة والسلام-، رفقًا بالصحابة –رضوان الله عليهم-، ولذا تسمعون كلام غريب جدًا من كلام ابن العربي، سيقرئه الشيخ الآن، فأقول: مثل هذه الأمور التي تفرض من أجل التخفيف وريعها يكون لجهات خيرية، ولنفرض أن منها من هو الدعم لدروس الشيخ، فهل له أن يصنع ذلك عملاً بهذه الآية؟ بعضهم يعمل ذلك بطريقة ملتوية، ما يقول للناس هاتوا دراهم، إنما يجعلهم يشتركون في فوائد علمية يرسلها إليهم، ثم يجني من وراءها الأموال، وليس الهدف من ذلك التجارة، هذا معروف. قد يوجد عند بعض الناس هدف تجارة من الذين عندهم دروس يسمونها تدريب، ومحاضرة، وشخص يشترك بألف وألفين 3 آلاف، دورات تدريبية، هذه بلا شك الواضح الظاهر منها أنها للكسب، لكن أناس من أهل العلم عرفوا بالعلم والصلاح، وبذل الخير، لكن يريدون من هذه الأموال أن يستمر نفعهم، فيجعل الناس يشتركون وهذه أموال طائلة جدًا، حتى بعضهم وصل في الشهر إلى المليون من وراء هذه الرسائل، وبعضهم أقل، إلى آخره.

 فهل نقول إن لمثل هؤلاء أن يتمسكوا بهذه الآية؟ فيه بُعد لكن فيه وجه شبه، لاسيما هنا صدقة تصرف في مصاريفها الشرعية، مع أنه على ما قيل إنها فعلت وقالوا لم يفعلها إلا عليّ –رضي الله عنه-، ثم نسخت، ومنهم من يقول: حتى ما نسب إلى علي لم يثبت، نسخت قبل التمكن من الفعل، وهذا من الأدلة التي يوجد فيها النسخ قبل التمكن من الفعل، مثل قصة الذبيح...

لكن مع قلة ذات اليد عندهم، يعني لو فرض مثلاً على السؤال كل من أراد أن يسأل يضع سؤاله في صندوق ومعه ريال مثلاً، وليس الهدف من ذلك، لا كسب الشيخ ولا غيره، هدفه حلق تحفيظ القرآن، وملحوظ أيضًا التخفيف على الشيخ، وإلا الأصل علم مبذول لا يؤخذ عليه عوض، لأن الناس لا ينتهون ما لهم حد... معروف أنا أقول يتفاوت بحسب الظروف والأحوال، (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) ولو درهما، يعني يصدق على أن يقدم صدقة، وبعض الناس يرده ريال ولو كان من أهل الأموال، ولا يرده الصيام، بعض الناس العكس مستعد يدفع الأموال الطائلة ولا يصوم يوما، فمثل الذي نذر إن اغتاب أحد يتصدق بدرهم، يقول هانت عليه الغيبة، لأن البذل عنده سهل، لكن لما نذر أنه إن اغتاب شخصًا صام يومًا، فترك الغيبة، لأن الصيام عليه أصعب من الصدقة. المقصود أن العمل بمثل هذه الآية، وهي منسوخة، وعلة النسخ الرفق بهم كما سيأتي بالآية التي تليها، هل يصوغ العمل بمثل هذه الآية المنسوخة رفقًا؟ طيب قال بعض الناس: هذا الرفق الذي من أجله نسخت لا يؤثر عليّ، والأمر سهل، مستعد أرسل رسالة جوال، ولو كانت بعشرة من أجل أن أصل إلى... الآن الأسئلة عبر الهاتف بدراهم، الأسئلة عبر الهاتف بدراهم. الدراهم وأو مجانية؟ هناك خطوط مجانية لكن في الجملة، يعني أفراد الناس من أراد أن يتصل على أحد يسأله... نعم لاسيما إذا كان خارج البلد، يدفع أموال من أجل أن يصل إلى من يفتيه، لكن هذه ليست من النوع الذي معنا، يعني أجرة المكالمة ليست من النوع الذي معنا، لأنه الصورة المطابقة أنها لا تحتاج إلى أجرة، لا تحتاج إلى أجرة، الشيخ ماثل بين يديك وقبله الرسول -عليه الصلاة والسلام-، تسأل كيف ما شئت بدون وسائط، تقدم بين يديك صدقة فهذه وضعت للحد من الكثرة التي تؤذي وتشق على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ومن بعده من يتولى مهمته في العمل الخيري، من الإفتاء وغيره. لو أن الناس ما عُين لهم قضاة بمرتبات من بيت المال، وأراد الناس أن يتقاضوا إلى شخص، يعطونه في مقابل هذا العمل، لكن ليس هذا هو المطابق، يعني أخذ الأجرة على التعليم، أخذ الأجرة على القضاء، أخذ الأجرة على التحديث، ما هو مطابق هنا، لكن الملاحظ به إذا كثروا وشقوا على الإنسان، هل يؤخذ منهم من أجل التخفيف هذا المطابق.

ثم قال: فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها. وقال الحسن: نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه، إلى آخره.. إلى غير ذلك من الظنون التي سبقت فيما سبق.

"الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ عَنْ زَيْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] ثُمَّ نَسَخَهُ مَعَ كَوْنِهِ خَيْرًا وَأَطْهَرَ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَظِيمٌ فِي الْتِزَامِ الْمَصَالِحِ، لَكِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْعُلَمَاءُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. "

تضعيف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا دخل فيما قاله ابن العربي، لأن ما قاله ابن العربي ما قاله مأخوذ من الآية، الآية فيها: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12]، يعني تقديم الصدقة بين يدي النجوى، فهذا الذي فيه الخير والطهر نسخ، وأما قول زيد بن أسلم نزلت بسبب أن المنافقين كانوا يناجون النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: أذن إلى آخره، هذا ما له ارتباط بما قال ابن العربي، وإن ورد في كلامه، إلا أنه أراد أن يبين أن هذا الخبر ضعيف. لكن أصل المسألة ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، لأن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] ثم نسخ ذلك الخير والأطهر. ما دام خير وأطهر لماذا لا يستمر؟ وهل نقول إن في مقابله عدم التصدق ما يقابل الخير والطهر؟ الصدقة بين يدي النجوى خيرٌ وأطهر، إذًا عدم الصدقة بين يدي النجوى، هل نقول أنه بدل خير شر، وبدل الطهر ما يقابله؟

نقول هذا كلام لا مفهوم له، مثل ما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»، طيب شخص من عامة المسلمين صاحب خير وبذل وعبادة، وتوجه إلى الله –جل وعلا- بصدق وإخلاص، وبذل الأموال الطائلة في وجوه الخير، نقول هذا أراد الله به شرًا لأنه لم يتفقه في الدين، لم يرد الله به خير في هذا الباب، إضافةٍ إلى أن خير أفعل تفضيل، وأطهر أيضًا أفعل تفضيل، فالتقديم خير وأطهر، وعدمه فيه خير وفيه طهر لكن التقديم يفوقه في الخيرية والطهر. الآن خير وشر، زيد خيرٌ من فلان، وبكر شرٌ من فلان، هذه أفعل تفضيل، أفعل تفضيل معروفة هذه من أساليبها، وأطهر ظاهر أن أفعل تفضيل، {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، الأصل أخير، لكنه استعمل خير وشر في مقام أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل تقتضي مشاركة اثنين في وصف يفوق أحدهما الآخر، فليس في عدم التقديم شر، ولا ما ينافي طهر، فيه خير وفيه طهر، لكن التقديم أفضل منه، فلا يحل محله الشر وما يضاده الخير. يبقى أن كلام ابن العربي في هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، لا نحتاج إلى كلام زيد المضعف، هو من الآية، هو منطوق الآية، لأن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12]، هو لا يلزم منه أن الحكم نسخ إلى ما فيه شر، وعدم طهر، لأن الله –جل وعلا- يقول: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. لا ينزل الناسخ عن المنسوخ بحال، لكن الخيرية هنا في التخفيف على الأمة، فهو خيرٌ منها من هذه الحيثية، في التخفيف على الأمة. التخفيف خير بلا شك، لكن إذا كان ذاك أطهر، التقديم أطهر، وإن كان حكمًا شرعيًا فهو متضمن لخبر، والأخبار لا تنسخ، لا يدخلها النسخ، فهل هذا التخفيف نسخ؟ هل هذا التخفيف نسخ ورفع للحكم، بحيث من عمل به قيل أنه عمل بحكم منسوخ لا يستند إلى شرع، لأن الحكم المرفوع لا يُعمل به... يعني ترك ما نزل في ترك الصدقة بين يدي النجوى هل هو رخصة، ترخيص لهم؟ من باب التخفيف عليهم، فيبقى الحكم التقديم، والذي لا يجد يرخص له ألا يقدم، أو من وجد وأراد ألا يقدم لا، لكن من قدم خيرٌ وأطهر، فهل مثل هذا النوع يسمى نسخ، فخفف الله عنهم بما بعد الآية؟ ونظير ذلك آيتتا المصابرة: الأولى تقتضي وجوب مصابرة الواحد لعشرة، والمائة لألف، ثم خفف بمصابرة الواحد لاثنين والمائة للمائتين، لكن لو أن شخصًا قال: أنا أريد أن أعمل بالعزيمة، وأثبت لعشرة، يلام أو ما يلام؟ نقول أنت عملت بنص منسوخ، أو نقول إن التخفيف من أجلك؟ ولذا يقرر أهل العلم مسألة الانغماس في الكفار ولو كان من واحد، والنزول عليهم من حصونهم كما فعل أبو بكر في الطائف مع أنه يغلب على الظن أنهم يقتلونه، وأعدادهم كبيرة أكثر من عشرة، فهل مثل هذا التخفيف ملزم أو أنه من باب مراعاة مصلحة المكلف، فلا يلزمه أن يلتزم به؟ كما قيل أيضًا في قول الرسول -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن بسبع»، لما أراد أن يقرأ القرآن في كل ليلة، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أقرأ القرآن في أربعين، في شهر، في عشرين، في خمسة عشر، في عشرة، في سبع ولا تزد».

هذا من أجل التخفيف عليه. صار عبد الله بن عمرو يقرأ في ثلاث، لأنه ما فهم أن هذا نص ملزم. فما شرع من أجل مصلحة المكلف والتخفيف عنه هل له أن يعدل عن هذا التخفيف إلى ما هو أشد منه؟ من أهل العلم من قال بذلك، وهو ما فهمه الصحابي، حينما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد»، صار يزيد، لأنه قال: هذا من أجلي، وأنا أستطيع أكثر. والتخفيف هنا من أجلهم وهم يستطيعون أن يتصدقوا، وأيضًا التخفيف المصابرة من أجلهم وهم يستطيعون الثبات، فهل هذا من باب الرخصة والعزيمة، أو من باب رفع الحكم، بحيث لا يكون العمل به شرعيًا؟ يعني نسخ الوجوب إلى الاستحباب يبقى أنه خير وأطهر، لكنه لا على سبيل الإلزام، يأتي في كلام أهل العلم يشير إلى شيء من هذا... طيب رد على المعتزلة، ردٌ على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، المعتزلة يقولون: يجب على الله رعاية الأصلح للمكلفين، يجب! تعالى الله عما يقولون، يجب على الله –جل وعلا- رعاية الأصلح للمكلفين، وهنا خير وأطهر أصلح، ورفع بما دونه فليس فيه رعايةٌ للمصالح على حد كلام ابن العربي. لكنها رعاية لمصالح من جهاتٍ أخرى، وأما الوجوب الذي يذكره المعتزلة فهو مردودٌ عليهم، فلا يجب على الله –جل وعلا- شيء إلا ما أوجبه على نفسه أو ما حرمه على نفسه. إني حرمت الظلم على نفسي، لكن يبقى أن أحد يلزم الله –جل وعلا-، فلا يتصور، فقول المعتزلة مردود. طيب شيء مُدح ثم نُسخ، يستمر هذا المدح أو ما يستمر؟ نعم يستمر أو ما يستمر؟ طيب الخمر كان فيها منافع، ثم حرمت. هل نقول إن هذه المنافع موجودة، لاسيما من يقول إن المنافع الاقتصادية بسبب البيع والشراء والثرى من وراءها، أو نقول أن فيها منفعة لجسم الإنسان، وفيها ضرر، والضرر أعظم، فرجحت المفسدة على المصلحة، أو أن الله –جل وعلا- كما جاء في بعض الأخبار، أن الله –جل وعلا- سلب الخمر هذه المنافع لما حرمها. نقول نظير ذلك في الحمر الأهلية، لما كانت حلال فهي داخلة في قوله –جل وعلا- {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157]، لما حرمت دخلت في قوله –جل وعلا- {يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، فهل نقول إنها كانت طيبة ثم صارت خبيثة، سلبت الطيب وأبدل بالخبث، أو أن تركيبها ما تغير، والطيب والخبث يدور مع الحكم فيكون معنويًا؟ يقول: ألا يتعارض هذا مع قوله -صلى الله عليه وسلم- «من رغب عن سنتي فليس مني»، فيمن أراد الزيادة على السنة مع قدرتهم على ذلك؟ يعني مثل صنيع عبد الله بن عمرو بن العاص، لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام عن الرهط، أن منهم من قال: لأقومن الليل ولا أنام، ومنهم من قال: لا أتزوج النساء، ومنهم من قال: أصوم ولا أفطر، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وقال: «إني لأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، لاشك أن من رغب عن سنته عليه الصلاة والسلام، إلى غير دليل شرعي عنه عليه الصلاة والسلام، ينطبق عليه هذا الكلام، لكن من أراد الإكثار من قراءة القرآن، وأراد أن يختم في ثلاث، ويعرف قول النبي عليه الصلاة والسلام «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد»، ويعلم يقينًا أن الأجر مرتب على الحروف، من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، وعمل بهذا فالوجه ظاهر بلا شك.     

"الثَّالِثَةُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] سَأَلْتُهُ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا تَرَى دِينَارًا» قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ : «فَنِصْفُ دِينَارٍ» قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ."

يعني سأله عن المقدار، مقدار الصدقة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَا تَرَى دِينَارًا» قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ.

"قَالَ: «فَنِصْفُ دِينَارٍ» قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: «فَكَمْ»؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ. قَالَ: «إِنَّكَ لَزَهِيدٌ»."

هل الشعيرة الحبة من الشعير؟ هذا عبث، لا يمكن أن يتصدق الإنسان بحبة شعير، يعني لو قال تمرة نعم يستفاد منها، لكن شعيرة واحدة؟ لعله أراد زينة الشعيرة من الذهب أو الفضة.

"قَالَ: فَنَزَلَتْ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الْآيَةَ. قَالَ: فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ..."

مخرج؟

إذا قال البخاري في الراوي فيه نظر فهو تضعيف شديد، لكن البخاري -رحمه الله- صاحب تحري، وورع في الألفاظ، لا يقول فلان كذاب، ولا فلان وضاع، ولا دجال، ولا ساقط ولا... فإذا قال: فيه نظر معناه أنه يضعفه...

"وَمَعْنَى قَوْلِهِ: شَعِيرَةٌ يَعْنِي وَزْنَ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ أُصُولِيَّتَيْنِ: الْأُولَى: نَسْخُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا."

أي كأنه لا يثبت ما ذكر عن علي -رضي الله عنه- أنه فعلها، وتفرد بهذا الحكم، ونظير ذلك نسخ الأمر بذبح، أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، نسخ قبل التمكن من الفعل.

"وَالثَّانِيَةُ: النَّظَرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِالْقِيَاسِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ فِعْلِ الصَّدَقَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَصَدَّقَ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَنَاجَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. رُوِيَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِخَاتَمٍ. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، وَهِيَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] كَانَ لِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ، فَكُنْتُ إِذَا نَاجَيْتُ الرَّسُولَ تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ حَتَّى نَفِدَ، فَنُسِخَتْ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13]. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَهَا اللَّهُ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ كَانَتْ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةٌ لَوْ كَانَتْ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَم: تَزْوِيجُهُ فَاطِمَةَ، وَإِعْطَاؤُهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَآيَةُ النَّجْوَى. {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} [المجادلة: 12] أَيْ: مِنْ إِمْسَاكِهَا وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} [المجادلة: 12] يَعْنِي الْفُقَرَاءَ {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12]. “

ظاهر إنما من قوله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} [المجادلة: 12] لم تجدوا ما تتصدقون به، هذا الذي يظهر من السياق، إن لم تجدوا ما تتصدقون به، فإذا لم تجدوا الفقراء ماذا تصنع بالصدقة؟ وفي آخر الزمان يطوف الإنسان بماله فلا يجد من يقبله، هذا يختلف عن هذا. يبقى حكم الوجوب وإن لم يجد فقراء، أما هنا فقد نسخ الوجوب، لعل المراد فإن لم تجدوا ما تتصدقون به {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12 ].

{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} [المجادلة: 12] يعني لم تجدوا أيها المخاطبون وفيكم الفقراء... لكن ظاهر أنه ليس المراد الفقراء المتصدق عليهم، لأن هذا حتى في الزكاة الواجبة التي لم تنسخ، ماذا تعمل إذا لم يوجد فقير، هل نقول نسخ الحكم في حقك؟

معنى كلام الشيخ فهو ظاهر {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} [المجادلة: 12] يريد بذلك الفقراء من المخاطبين، المأمورين بالصدقة، يريد الفقراء من المخاطبين، ويبقى الحكم في حق الأغنياء، ثم نسخ بالآية التي تليها... يبقى التخفيف في الآية الأولى عن الفقراء الذين لا يجدون والتخفيف في الآية التي تليها عن الجميع...تسمى الصدقة ولا تحل له عليه الصلاة والسلام...التخفيف في الآية الأولى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} أيها الْفُقَرَاء من الصحابة. هذا قبل النسخ فالمخاطبون بالصدقة الصحابة وفيهم المستطيع وفيهم غير المستطيع. غير المستطيع خفف عنه في الآية الأولى {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. والمستطيع منهم خفف عنه في الآية الثانية. هذا ظاهر.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:13] 

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَشْفَقْتُمْ} اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَأَشْفَقْتُمْ} أَيْ: أَبَخِلْتُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَقِيْلُ: خِفْتُمْ، وَالْإِشْفَاقُ الْخَوْفُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. أَيْ: خِفْتُمْ وَبَخِلْتُمْ بِالصَّدَقَةِ وَشَقَّ عَلَيْكُمْ {أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة:13]. “

ما يمنع أن يكون (أأشفقتم) يعني خفتم من الإثم بسبب فرض هذه الصدقة عليكم، لوجود من يخالف ويناجي بدونها، فهم أشفقوا من الإثم المترتب على ترك الصدقة بين يدي النجوى.

"قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَشْرُ لَيَالٍ ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَقِيَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ حَتَّى نُسِخَ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة:13] أَيْ: نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ الْحُكْمَ. وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ وَجَدَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:13] فَنَسَخَتْ فَرْضِيَّةُ الزَّكَاةِ هَذِهِ الصَّدَقَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} [المجادلة: 13] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} [المجادلة:13] فِي فَرَائِضِهِ وَرَسُولَهُ فِي سُنَنِهِ {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:13]. “

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ} [المجادلة:13] فيما أمركم به فعلاً واجتناب ما نهاكم عنه. طاعة أعم من أن تكون في الفرائض والنوافل، في الأوامر والنواهي، والرسول -عليه الصلاة والسلام- فيما جاء به من أحكام عن الله –جل وعلا-، وما زاده في سنته عليه الصلاة والسلام عما جاء في كتابه     –جل وعلا-.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة: 14] قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14] يَقُولُ: لَيْسَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَلَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُمْ مُذَبْذَبُونَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَحْمِلُونَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَبْتَلَ الْمُنَافِقَيْنِ؛ كَانَ أَحَدُهُمَا يُجَالِسُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إِلَى الْيَهُودِ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجُرَاتِهِ، إِذْ قَال: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبَّارٍ، وَيَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ»، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ- وَكَانَ أَزْرَقَ أَسْمَرَ قَصِيرًا خَفِيفَ اللِّحْيَةِ- فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟» فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَعَلْتَ»، فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا سَبُّوهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ..."

مخرج؟

"وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ، قَال: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَدْ كَادَ الظِّلُّ يَتَقَلَّصُ عَنْهُ، إِذْ قَالَ: «يَجِيئُكُمُ السَّاعَةَ رَجُلٌ أَزْرَقُ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الشَّيْطَانِ»، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَا بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟»؟ قَالَ: دَعْنِي أَجِيئُكَ بِهِمْ. فَمَرَّ فَجَاءَ بِهِمْ فَحَلَفُوا جَمِيعًا أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ..."

"فَمَرَّ فَجَاءَ بِهِمْ فَحَلَفُوا جَمِيعًا أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَنْزَلَ اللهُ –عَزَّ وَجَلَّ-: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [المجادلة: 18] إِلَى قَوْلِهِ: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] وَالْيَهُودُ مَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ بِ {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6]، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} [المجادلة: 15] أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ {عَذَابًا شَدِيدًا} [المجادلة: 15] فِي جَهَنَّمَ وَهُوَ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ. {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة: 15] أَيْ: بِئْسَ الْأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] يَسْتَجِنُّونَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ" إِيمَانَهُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ هُنَا، وَفِي (الْمُنَافِقُونَ). أَيْ: إِقْرَارُهُمُ اتَّخَذُوهُ جُنَّةً."

يعني يقيهم، يقيهم من القتل، مثل ما يجتن به المقاتل من ترس ونحوه، يقيهم السيوف والسهام، فهم يتخذون الإيمان، أو الأيمان، يتخذونها جنة يعني وقاية، تقيهم من الحكم المترتب على أقوالهم وأفعالهم.

"فَآمَنَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ، وَكَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 16] فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة: 16] وَالصَّدُّ الْمَنْعُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: عَنِ الْإِسْلَامِ. "

يعني المنافقون من الكفار هم مستحقون للقتل بما يبدر منهم مما يكفرون به، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- أعرض عنهم لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، إضافة إلى أنهم ينطقون بالشهادتين، ويصلون مع الناس، ومن أجل أن يقرر إن الأحكام تبنى على الظاهر.

"وَالصَّدُّ الْمَنْعُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: فِي قَتْلِهِمْ بِالْكُفْرِ لِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ النِّفَاقِ. وَقِيلَ: أَيْ: بِإِلْقَاءِ الْأَرَاجِيفِ وَتَثْبِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ وَتَخْوِيفِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المجادلة: 17] أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنْصَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَقَدْ شَقِينَا إِذًا فَوَاللَّهِ لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَمْوَالِنَا إِنْ كَانَتْ قِيَامَةٌ. "

وإلا فهم في حقيقة الحال لا يؤمنون بيوم القيامة، ولا يؤمنون ببعث، ولو أمنوا به وصدقوا لآمنوا إيمانًا حقيقيًا صحيحًا ينجيهم يوم القيامة.

"{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [المجادلة: 18] أَيْ: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] الْيَوْمَ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ."

يعني متعلق ظرف يوم بما قبله، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [المجادلة: 18] أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم، يعني في ذلك اليوم يوم القيامة إذا بعثوا لهم عذاب مهين بسبب نفاقهم، وكفرهم بالله ورسوله. ولو قدر كما يقدر في كثيرٍ من المواضع، فعل يتعلق به الظرف، كثير من المفسرين يقدر، اذكر {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [المجادلة: 18]. 

"وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ وَهُوَ مُغَالَطَتُهُمْ بِالْيَمِينِ غَدًا، وَقَدْ صَارَتِ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً."

لأنها بدلاً من أن تكون في عالم الغيب صارت في عالم الشهود، وحينئذٍ لا ينفع نفس إيمانها إن لم تكن أمنت من قبل. الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب، بما أخبر الله به –جل وعلا- عن نفسه، وعما أعده، وبجميع ما يمر الله به –جل وعلا- من غيبيات. هذا الإيمان الذي ينفع. أما إذا صار الشيء مشاهدا لا ينفع الإيمان، ولذا جاء ثلاثٌ لا ينفع إيمان نفس إيمانها إذا طلعت الدجال والدابة، وطلوع الشمس من مغربها. هذه الثلاث انتهى وقت الإيمان، لأن المسألة صارت مشاهدة. فما يشاهده الناس لا ينفع الإيمان به، يعني لو قيل أتؤمن بأن زيد حاضر، وهو حاضر، أو تؤمن بأن الشمس طالعة هذا ليس إيمان، ولا ينكره أحد ولا يكابر به أحد. لا يحتاج مثل هذا إلى إيمان، لكن الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب...

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَوْلُهُمْ {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} بِإِنْكَارِهِمْ وَحَلِفِهِمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: وَيَحْسَبُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لِأَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ بِاضْطِرَارٍ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ مُسْوَدَّةٌ وُجُوهُهُمْ، مُزْرَقَّةٌ أَعْيُنِهِمْ، مَائِلٌ شِدْقُهُمْ، يَسِيلُ لُعَابُهُمْ، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا صَنَمًا وَلَا وَثَنًا، وَلَا اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إِلَهًا». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقُوا وَاللَّهِ! أَتَاهُمُ الشِّرْكُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تَلَا: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] هُمْ وَاللَّهِ الْقَدَرِيَّةُ ثَلَاثًا."

نعم لأنهم يزعمون أن العبد يخلق فعله، فأثبتوا مع الله –جل وعلا- خالقًا، ولذا سُموا مجوس هذه الأمة. مخرج الحديث؟

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] أَيْ: غَلَبَ وَاسْتَعْلَى، أَيْ: بِوَسْوَسَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: قَوِيَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَحَاطَ بِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ رَابِعًا أَيْ: جَمَعَهُمْ وَضَمَّهُمْ. يُقَالُ: أَحْوَذَ الشَّيْءَ أَيْ: جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَإِذَا جَمَعَهُمْ فَقَدْ غَلَبَهُمْ وَقَوِيَ عَلَيْهِمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ.{فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19] أَيْ: أَوَامِرَهُ فِي الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ. وَقِيلَ: زَوَاجِرَهُ فِي النَّهْيِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَالنِّسْيَانُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَالْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ هُنَا. {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] طَائِفَتُهُ وَرَهْطُهُ..."

يكون بمعنى الترك، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} نسوا، تركوا أوامره ونواهيه فتركهم في العذاب.

"{أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19] فِي بَيْعِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بَاعُوا الْجَنَّةَ بِجَهَنَّمَ، وَبَاعُوا الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ. {أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَذِلَّاءِ لَا أَذَلَّ مِنْهُمْ {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] أَيْ: قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، عَنْ قَتَادَةَ. قال الْفَرَّاءُ: كَتَبَ بِمَعْنَى قَالَ. أَنَا تَوْكِيدٌ وَرُسُلِي مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَإِنَّهُ غَالِبٌ بِالْحَرْبِ، وَمَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحُجَّةِ فَإِنَّهُ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَنَا مَكَّةَ وَالطَّائِفَ وَخَيْبَرَ وَمَا حَوْلَهُنَّ رَجَوْنَا أَنْ يُظْهِرَنَا اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ: أَتَظُنُّونَ الرُّومَ وَفَارِسَ مِثْلَ الْقُرَى الَّتِي غَلَبْتُمْ عَلَيْهَا؟! وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَشَدُّ بَطْشًا مِنْ أَنْ تَظُنُّوا فِيهِمْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] نَظِيرُهُ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171- 173]. "

 لكن {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ}، الذي ينصر دين الله –جل وعلا- ينصره، وهو الغالب، والذي يخذل الدين والمتدنين لا شك أنه مخذول ولن ينتصر، لأنه قد يكون قائل: على مر التاريخ نجد المسلمين يحاربون كفار، وفي مواطن كثيرة ينتصر الكفار ويقضون على المسلمون، ويخرجونهم من ديارهم، ويقتلونهم، ويسبون نساءهم، لأن الشرط تخلف، ما نصروا الله –جل وعلا- ليستحقوا النصر. تخلوا عن دين الله وأبعدوا عن دين الله، فلا يستحقون نصره، وليس بهذا تخلف عن وعد الله –جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]، لكن الشرط معتبر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، لابد بهذا القيد إن لم تنصر دين الله فأنت مخذول غير منصور.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} [المجادلة:22] أَيْ: يُحِبُّونَ وَيُوَالُونَ {مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] تَقَدَّمَ."

المحاد: المخالف مع نوع معاندة، مخالف مع معاندة، هذا الذي يحاد.

"{وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22] قَالَ السُّدِّيُّ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيّ، جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَشَرِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاءً، فَقَالَ لَهُ: بِاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَبْقَيْتَ مِنْ شَرَابِكَ فَضْلَةً أُسْقِيهَا أَبِي، لَعَلَّ اللَّهَ يُطَهِّرُ بِهَا قَلْبَهُ؟ فَأَفْضَلَ لَهُ، فَأَتَاهُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هِيَ فَضْلَةٌ مِنْ شَرَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِئْتُكَ بِهَا تَشْرَبُهَا، لَعَلَّ اللَّهَ يُطَهِّرُ قَلْبَكَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: فَهَلَّا جِئْتَنِي بِبَوْلِ أُمِّكَ فَإِنَّهُ أَطْهَرُ مِنْهَا. فَغَضِبَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَا إذنتَ لِي فِي قَتْلِ أَبِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَلْ تَرْفُقُ بِهِ وَتُحْسِنُ إِلَيْهِ» . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج..."

مخرج؟

" وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ سَبَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَكَّهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُهُ صَكَّةً فَسَقَطَ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «أَوَ فَعَلْتَهُ». "

يعني مثل ما جاء في الحديث «والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»، ومقتضى هذه المحبة مثل هذه التصرفات، وإلا قد يقول قائل كيف يجرأ أبو بكر على أن يضرب أباه حتى يسقط على وجهه، فمن هذا الباب...الأصل أن الحدود مناطة بولي الأمر فليس لأحد أن يقتل أحدا لكن إذا كان ولي الأمر يأذن لبعض الناس أو يعطيهم إذنا مسبقا فهم نواب عنه لأنه ورد في بعض القضايا أن بعضهم تصرف لكن لعله فيه إذن منه وإلا فالأصل أن الحدود لسلطان...

"ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «أَوَ فَعَلْتَهُ، لَا تَعُدْ إِلَيْهِ»، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَوْ كَانَ السَّيْفُ مِنِّي قَرِيبًا لِقِتْلَتُهُ..."

"وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاح، قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَانَ الْجَرَّاحُ يَتَصَدَّى لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [المجادلة:22] الْآيَةَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ الشَّامِ. وَلَقَدْ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ دَعَا ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى الْبِرَازِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَتِّعْنَا بِنَفْسِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ»."

ماذا قال عنه؟ يعني ضعيف.

"{أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة:22] يَعْنِي مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ. {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ خَالَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلِيًّا وَحَمْزَةَ قَتَلَا عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، لَمَّا كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ أَوَّلَ سُورَةِ (الْمُمْتَحَنَةِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَفْسُدُ بِمُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ.

الثَّانِيَةَ: اسْتَدَلَّ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُعَادَاةِ الْقَدَرِيَّةِ وَتَرْكِ مُجَالَسَتِهِمْ. قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادِهِمْ فِي اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]."

التنصيص على القدرية من قبل مالك لوجودهم في وقته، وعظيم ضررهم، وتأثيرهم على الناس، يحذر منهم بقوة، وينص عليهم، ويخصهم دون غيرهم، وإلا في حكم جميع المبتدعة، لاسيما أصحاب البدع المغلظة.

"قُلْتُ: وَفِي مَعْنَى أَهْلِ الْقَدَرِ جَمِيعُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَنْ كَانَ يَصْحَبُ السُّلْطَانَ. وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي داود..."

داود أو رواد؟ صوابها رواد.

"وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي روادَ أَنَّهُ لَقِيَ الْمَنْصُورَ فِي الطَّوَافِ..."

"وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي روادَ أَنَّهُ لَقِيَ الْمَنْصُورَ فِي الطَّوَافِ فَلَمَّا عَرَفَهُ هَرَبَ مِنْهُ وَتَلَاهَا .وَعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أَوْحَيْتَ» {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [المجادلة:22] إِلَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22] أَيْ: خَلَقَ فِي قُلُوبِهِمُ التَّصْدِيقَ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يُوَالِ مَنْ حَادَّ اللَّهَ. وَقِيلَ: كَتَبَ أَثْبَتَ؛ قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: جَعَلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] أَيِ: اجْعَلْنَا. "

التعبير بقوله: خلق في قلوبهم التصديق، هذا تعبير جارٍ على طريقة الأشعرية، الذين لا يرون الاستطاعة قبل مباشرة الفعل. ينفون الاستطاعة قبل مباشرة الفعل، فإذا أرادوا الفعل خلق الله بقلوبهم مباشرة. هذا قول باطل.

"وَقَوْلُهُ: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] وَقِيلَ: كَتَبَ أَيْ: جَمَعَ، وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقُولُ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْكَافِ مِنْ "كَتَبَ" وَنَصْبِ النُّونِ مِنَ "الْإِيمَانَ" بِمَعْنَى: كَتَبَ اللَّهُ، وَهُوَ الْأَجْوَدُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ. "كُتِبَ" عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ "الْإِيمَانُ" بِرَفْعِ النُّونِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ" وَعَشِيرَاتِهِمْ" بِأَلِفٍ وَكَسْرِ التَّاءِ عَلَى الْجَمْعِ، وَرَوَاهَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقِيلَ: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ} [المجادلة: 22] أَيْ: عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 72] وَخَصَّ الْقُلُوبَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْإِيمَانِ."

في بمعنى على {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 72] يعني على جذوعها، لا يتصور أن يصلب في وسطها، لأن في للظرفية، فيكون معناها على. ومن أهل العلم من يرى أنها لا مانع أن تكون في بابها، ويكون الأسلوب أسلوب مبالغة، بمعنى أنه يصلبهم كالمعتاد عليها، ومن قوة الصلب، من قوة الشد عليهم على جذوعها يدخلون فيها. هذا أسلوب مبالغة، والذي لا إشكال عنده في تقارب الحروف يقول: إن في هنا بمعنى على، وعلى جادة شيخ الإسلام –رحمه الله- في تضمين الأفعال دون تضمين الحروف يضمن الفعل صلب معنى فعل يتعدى بفي، فكأنه قال: ولأدخلنكم في جذوع النخل.

"{وَأَيَّدَهُمْ} قَوَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ {بِرُوحٍ مِنْهُ}، قَالَ الْحَسَنُ: وَبِنَصْرٍ مِنْهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِالْقُرْآنِ وَحُجَجِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بِنُورٍ وَإِيمَانٍ وَبُرْهَانٍ وَهُدًى. وَقِيلَ: بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيَّدَهُمْ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المجادلة: 22] أَيْ: قَبِلَ أَعْمَالَهُمْ."

يعني من لازم رضاء، يعني أول الصفة بلازمها، وفي ذلك إثبات الرضا –جل وعلا- على ما يليق بجلالة وعظمة، وأما تفسيرها بلازمها فهو فرار من إثباتها.

"{وَرَضُوا عَنْهُ} فَرِحُوا بِمَا أَعْطَاهُمْ {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ، قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِلَهِي، مَنْ حِزْبُكَ وَحَوْلَ عَرْشِكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: "يَادَاوُدُ الْغَاضَّةُ أَبْصَارُهُمْ، النَّقِيَّةُ قُلُوبُهُمْ، السَّلِيمَةُ أَكُفُّهُمْ، أُولَئِكَ حِزْبِي وَحَوْلَ عَرْشِي. "

هذا مما تُلقي عن بني إسرائيل، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك.

 

"