كتاب بدء الوحي (034)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
النبي –عليه الصلاة والسلام- لمَّا رجع من الغار بعد أن حصل له ما حصل مع جبريل –عليه السلام- دخل على خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها- وهو يرجف فؤاده، وقد فزع –عليه الصلاة والسلام- مما حصل، وقال: «زملوني، زملوني» فزملوه حتَّى ذهبَ عنهُ الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيتُ على نفسِي»، فقالت خديجة:" كلا والله، ما يُخزِيك الله أبدًا". هذا تقدَّم الكلام فيه.

 ثمَّ بعد ذلك، أخذت خديجةُ –رضي الله عنها- تستدلّ لما أقسمت عليه، تستدلّ لِما أقسمت عليه "كلَّا والله ما يُخزيكَ اللهُ أبدًا"، وفي روايةٍ: "ما يُحزنك الله أبدًا" كأنها تقسم على أمرٍ مستقبل، والمستقبل غيب، فمن أين لها ذلك؟ استدلَّت  بأدلَّة عرفتْها من حالِه، ومقالِهِ –عليه الصلاة والسلام- وجرتْ السنَّة الإلهية أن من اتصف بها؛ إنه لا يحصلُ الحُزن والخِزي، أمَّا بالنسبة للخزي فلم يحصُل له –عليه الصلاة والسلام- وأما بالنسبة للحزن فقد حزِن في مواضِع، «إن القلب ليحزن» في مواضع متعددة، وكان المُراد أنه "لا يُحزِنكَ" فيما يتعلَّق بما بُعِثتَ بهِ، وأنه لا يحصل لك حُزْن، بل يحصل لكَ فرح ملازم؛ لأن الله اصطفاك واجتباك، مهما حصل لك من التعب والآثار المترتبة على هذه الدعوة التي اصطُفيت لها، فهذه الآثار وهذه الأتعاب وما حصل له من شدائد كلُّها لا تساوي شيئًا بالنسبةِ لما اصطفاه الله –جل وعلا- له وما ادخره له يوم الجزاء، فالحزن في الدنيا كــ لا شيء بالنسبة لما يحصل في الآخرة، ولذا جاء في الحديث «من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرب يوم القيامة»؛ لأنه قال: «من ستر مسلمًا ستره في الدنيا والآخرة» في الدنيا والآخرة، أما بالنسبة لمن نفس عن مسلم كربة نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ما قال في الدنيا والآخرة؛ لأن كرب الدنيا كـ لا شيء بالنسبة لكرب يوم القيامة، والحزن الذي يحصل في الدنيا والذي حصل له –عليه الصلاة والسلام- في مواضع والشدائد التي حصلت له، كلا شيء بالنسبة لما له من جزاء عند الله –جلَّ وعلا- هذا بالنسبة للحزن، وأمَّا بالنسبَةِ للخزي، فلم يحصل له –عليه الصلاة والسلام.
استدلت على أمر المستقبل بما عرفته وما سبرتْه وما ظهر لها من حاله بالاستقراء التَّام من الصِّفات التي من اتصف بها لا يحصُل له الخزي، وبمثلها استدلَّ ابن الدغنَّة على أنَّ أبا بكر لا يحصل له الخزْي، وهذا في الصحيح؛ لأنه متصف بهذه الصِّفات التي ذكرتْها خديجة بالنسبة للنبي –عليه الصلاة والسلام- وإن كانت ليست على نفس المستوى لكنه متصف– رضي الله عنه وأرضاه.
طالب:...........
أين؟
طالب:................
هو الخشية أعمّ من أن تكون شيئًا معينًا؛ لأن حذف المفعول يدلّ على أنَّ المَخشِي أعم من فرد من أفراده،  كل ما يخشى على النفس يدخل فيها.
طالب:.........
نعم
طالب:.............
خديجة.
هذا فرد من أفراده ويمكن أنها فهمت بقرائن أنه خشي الخزي.
طالب:................
يمكن.
فقالت: كلَّا والله ما يخزيك الله أبدًا. استدلَّت بأمور منها "إنك لتصل الرحم".

يقول ابن حجر: ثم استدلَّت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدًا بأمرٍ استقرائي، فوصفته بأصول مكارم الأخلاق، بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو لا يستقلّ، وذلك كله مجموعٌ فيما وصفته به.
لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بنفسه أو من لا يستقلّ بنفسه، وذلك كله مجموعٌ فيما وصفته به. على ما سيأتي من كلامٍ على هذه الجمَل العظيمة التي اتصف بها –عليه الصلاة والسلام-.
فقالت: "إنك لتصل الرَّحم" يقول النووي: "إنك" بكسر الهمزة على الابتداء، لماذا؟ "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك"..

نعم.

 يعني: كأنها قالت: " كلا والله ما يخزيك الله أبدًا".

وقالت: "إنك لتصل الرحم" فهي ابتدائية، "إنك" بكسر الهمزة على الابتداء. كذا الرواية، وهو الصواب.
وأما قولها: "لتصل الرحم" "إنك لتصل" أكدتْ الجملة بإنَّ التي هي حرف تأكيد وأيضًا بال"لام" "إنك لتصل الرحم"، وأما قولها: "إنك لتصل الرحم" فمعناه تحسن إلى قراباتك، وصلةُ الأرحام من أعظم الأعمال المقرِّبة إلى الله –جل وعلا-، وقطيعة الرَّحِم من عظائم الأمور، فالنبي– عليه الصلاة والسلام- اتصف بصلة الرحم، وجاء فيه الحثّ على الصلة والتحذير والترهيب الشديد من القطيعة ما أفرِد له أبواب مستقلَّة في كتبِ أهلِ العلم، وسيأتي –إن شاء الله تعالى- في هذا الكتاب.
سيأتي –إن شاء الله تعالى- بيان كيفية صلة الرحم في بابها، وبيان اختلاف تنوعها بالنسبة لأفرادٍ النَّاس، فالصِّلة المطلوبة من زيد قد يُطلب نظيرها أو ما هو أكثر منها أو ما هو أقلّ منها من عمرو، لماذا؟

لأن النَّاس يتفاوتون، والأرحام يتفاوتون كثرةً وقلَّة، يتفاوتون أيضًا حاجةً واستغناءً، فالقريب المحتاج صلتُه بالمال آكد من القريب الذي ليس بحاجة، وإن كانت صلة غير المحتاج بالهديًّة وغيرها مطلوبة، لكن صلة المحتاج برفع حاجته هذه آكد، الأقارب إذا كان عددهم كثيرًا لا شكَّ أنَّ قريبهم لا يطالب بالصلة بنفس المستوى الذي يُطالب به من قلَّت قراباته؛ لأن هذه أمور نسبيَّة، ويجمع ذلكَ كلُّه ما يرفعُ القطيعة ويرفع الهجر.

 نعم.
طالب:.....................
كأنه يحتاج إلى تفصيلٍ كثير، هذا موضوع يعني كثير من طلَّاب العلم يقرأ في الباب، ولا يتصوَّر المطلوب؛ لأن كلام أهل العلم يتركونه إلى ما لا يشقُّ على الإنسان ويعوقه عن تحصيل مصالِحه، ثم بعد ذلك الناس يتفاوتون، وواقع الناس، يعني ترى حتى من ينتسب إلى العلم وطلبِه تجد عندهم في هذا الباب خللًا كبيرًا؛ لماذا؟ لأنه ما عرف الضَّابط، وبعضهم يعرف لكنَّه يُخالف، ومع الأسف أن في التَّربية سواء كانت الأخلاقية والسلوكية أو العلميَّة فيها شيء من الخلل، في أوساط المتعلِّمين، يسهُل جدًّا على طالب العلم أن يقول له زميلُه: نريد أن نخرج لنزهة لمدَّة يومين أو ثلاث، من السهل جدًّا أن يخفّ لهذا الطلب، ويبادر إليه ويسارع إليه، ويصعب عليه أن تقول له أمُّه: أريد المكان الفُلاني، وذاك يستغرق أيامًا، وهذا لا يستغرق إلا دقائق! مثل ما مرَّ بنا في مسألة الحاج الذي حج من بغداد ثلاث مرار على رجليه وأمه تقول له: أعطني ماءً ولا يخف لذلك، يتثاقل، يعني هذا خلل. والله المستعان.
يقول القزَّاز -وهو من أئمة اللغة له كتاب اسمه "الجامع" لم يُطبع الكتاب-، يقول: يقال: وصِل رحمه صلةً، وأصله وُصْلَةً بالواو، فحذِف الواو وعوِّض عنها التاء، مثل: زِنة وعِدَة، كما قالوا: زِنة من وزن كذا، أصل صلة من وصل. يقول الكرماني في شرحه: صلة الرحم: الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصِل والموصول إليه، على حسب حال الواصل والموصول إليه. يقول: فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارةً تكون بالزيارةِ والسلام، وغير ذلك.
وعلى كل حال صلة الأرحام أمرها عظيم وشأنها في الشرع بالمكان المعروف، والقطيعة جاء فيها النُّصوص التي تشتمل على التَّرهيب والتَّخويف والوعيد الشَّديد على من قطع الرَّحم، فضلًا عن برِّ الوالدين وعقوقهم؛ لأن ما يتعلَّق بالوالدين يُقال له: برّ وعقوق، وما يتعلق بالأقارب يقال له: صلة وقطيعة، وما يتعلق بالأجانب يقال له: أدب.
ولذلك كُتُب أهل العلم، كتب الحديث يترجمون "كتاب البرِّ والصلة والآداب"، يعني: مع الوالدين ومع الأقارب ومع الأباعِد.

 نعم.
طالب:...............
مثل ما قلنا إن هذا يتفاوت، الذي له عشرة أعمام كل واحد من الأعمام له عشرة من الأولاد اضرب العشرة في عشَرَة تصل هؤلاء المائة بمستوى ما يُطلب من شخصٍ ليس له إلا عمّ أو عمّان، ولكل واحد منهما ولد أو اثنان؟ لأن الأول تلزمه مشقَّة بالِغة.
طالب:..........
كيف؟ بعضهم يحدها بكلِّ ذي رحمٍ محرَم، لكن الأمر أعم، هم إذا لم يكثروا. أولاً: الهجر، ويجب مما يرفع الهجر وأقل ذلك: السلام.
طالب:......
أقل ما يرفع الهجر –عند  أهل العلم- السلام، «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» هذا الذي يرفع الهجر.
طالب:.............
وبعضهم يقول: إذا وُجدت..
طالب:...................
فيه..
طالب:..................
«خيرهما الذي يبدأ بالسلام»، يعني« فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» لكن إن وُجدت قطيعة قبل ذلك.. فلا بدَّ أن تعود الحال إلى ما كانت عليه قبل القطيعة.
قوله: وتحمل الكل.

 نعم.
طالب:...............
يعني فروعه؟ مثل ما قلنا: المشقّة تجلب التيسير، الشرع ما يطلب منك أن تخل بمصالِحك. لاسيَّما الضروريات والحاجيَّات، ما يطلب منك هذا، فإذا كثروا اتسعت الدائرة وخفَّ الطلب، يعني بدلاً من أن تكون الزيارة للعمة الواحدة أو الخالة الواحدة  في كل أسبوع، إذا وجد خالتان أو ثلاث زِد في المدة، وهكذا، وإذا قلُّوا قلل في المدة.
طالب:......
كيف؟
طالب:..........
نعم، الهاتف كافي إذا وُجدت مشقة بالمسير إلى الموصول للرحم، فالهاتِف يرفع الهجر.
"وتحمل الكلّ" وفيه كلام طويل لأهل العلم بالنسبة للـكل، والمعدوم والمعدم، وتفاصيل نأتي بخلاصة ما ذكره أهل العلم.

 قالوا: الكلّ، يقول الخطابي: " وتحمل الكل": أي: تعين الضعيف والمنقطع. والكلُّ ما لا يُغني نفسه، ولا يستقلُّ بأمرها. ومنه قيل للعيال: كَلٌّ. وفي التَّلقيح للزركشي يقول: الكَلُّ بفتح الكاف: الثِّقل، وهو كل ما يُتكلف. والنووي في شرحه للقطعة من أوائل صحيح البخاري يقول: والثقل والعيال واليتيم ونحو ذلك. ومعناه: أنك تنفق على هؤلاء وتُعينهم، وأصله من الكلال، وهو الإعياء. فالكَلّ: العاجز عن القِيام بمصالحه.
فالذي يعينهم على القيام بأعباء الحياة هذا يقال له إنه يحمل الكَلّ، فيدخل فيه حمله الحسي دخولًا أوَّليًّا إذا كان من يحتاج إلى حمل، وهو أيضًا الحمل المعنوي، فكلُّ عاجزٍ يُعان يدخل في هذا. " تحمل الكل"، طالب علم لا يستطيع أن يتابع طلب العلم إلَّا بإعانة، بما يعينه على التفرُّغ لطلب العلم "تحمل الكل"، وكلّ من نوع خاص.
يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى من سورة النحل: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ} [النحل:76]، أي: ثقلٌ على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمِّه. وقد يسمى اليتيم كلًّا؛ لثقلِه على من يكفله. ومنه قول الشاعر:

إذا كان عظم الكَلِّ غير شديد

 

أكول لمال الكَلِّ قبل شبابه

أكول لمال الكَلِّ: يعني اليتيم.
قبل شبابه: أي قبل أن يكتمل نموُّه، ويرتفع عنه وصف اليُتم بالبلوغ.
إذا كان عظم الكَلِّ غير شديد: يعني لا يستطيع أن يتكسب لنفسه، ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه وعن ماله.
وجاء من النصوص ما جاء في أكل مالِ اليتيم من أجل هذا؛ أنه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه وعن ماله.
"إنك لتصل الرَّحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسب المعدوم" وفي رواية: "تُكسب" "تَكسب المعدوم" و"تُكسِب
" في رواية أبي ذر والمستملي: "تُكسب المعدوم"، والأكثر: "تَكسِب"، يقول الخطَّابي: المعدوم صوابه المعدِم؛ لأن المعدوم ليس بشيء، العدم ليس بشيء، فكيف يمكن إكسابه وهو عدم؟ المُعدم: الذي عدِمَ ما يستطيع أن يعيش بهِ، هذا المُعدِم. وأما المعدوم: فهو يقابل الموجود، والمعدوم ليس بشيء، فكيف يمكن إكسابُه؟

 قال: صوابه هو: المعدوم؛ لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال.
لأنه ليس بشيء. ليس بشي،ء فلا يدخل تحت الأفعال، ولا يمكن أن يُخبَر عنه، أو يسند إليه شيء، فلا يدخل تحت الأفعال، يريد أنك تعطي العائل وترفضه.

 المُعدَم: العائل، تعطيه وترفده. قال: وفيه لغتان، يقال: كسبتُ الرجل مالاً، وأكسبتهُ. كسبتُ الرجلَ: كسبتُ أكسب، وكسبتَ أبو عمر –غلام ثعلب- عن أبي العباس ثعلب في إثبات الألف:
تكسِبُ، هذا جارٍ على رواية تكسب، هي رواية الأكثر. يُقال: كسبتُ الرجل مالاً، وأكسبته جارٍ على رواية أبي ذر والمستملي: تُكسب. وأفصحهما بحذف الألف. قال: وأنشدني

فأكسبتُه مالًا وأكسبني حمدًا

 

.............................

يعني: المقابل مقابل هذا المال أن مدحه وأثنى عليه، يعني: إذا كان أحد العوضين حسِّيَّا والثاني معنويَّا، يمكن أن يقابل هذا بهذا. قال:
فأهديناهم من تحف المواعظ والفوائد مقابِل ما أتحفونا من التمر والأقط وغيرهما، يعني مثل ما هنا:

فأكسبتُه مالًا وأكسبني حمدًا

 

.............................

 هذه مقابلة.
يعني الكلام الذي قلته حاصل يعني ما، بعض المرشدين ذهب إلى جهة من الجهات، يقول: أنهم قابلونا بما أتحفناهم به من هدايا وتحف، لكنها ليست حسية، فوائد ومواعظ مقابل ما أتحفونا من العَينِيات، من السمن والأقط وغيره. وهنا يقول: لكل قومٍ وارث. هذا يقول:

فأكسبتُه مالًا وأكسبني حمدًا

 

.............................

وجرت عادة الشعراء التكسُّب بشعرهم، يمدحون فيُعطون، هو من هذا الباب.
ثعلب إمام من أئمة اللغة الثقات على مذهب أهل السُّنة، ثعلب، وهو أيضًا ثقة فيما ينقل، حجة فيما ينقل، مما يدل على أن أكسب: الرباعي مستعمل، وإن كان بدون الهمز أفصح، كما قال الخطابي.
كله سيأتي إن شاء الله، ولغير ابن حجر تعليق على كلام ابن حجر العيني وغيره. ما منهم إلا رادّ ومردود عليه.
نعم؟
طالب:.............
وفي "فتح الباري" قال: في رواية الكشميهني: وتكسِب، بضم أوله؛ لأنه عندكم كان معكم النسخة اليونينية التي على هامشها فروق النُّسخ، ترون رقم إحدى عشر، الحاشية: وتُكسب. وعليه رمز أبي ذر، والمستملي. الهاء: الهروي – أبو ذر الهروي-، والسين، فوقها: هاء، يعني رواية أبي ذر عن الكشميهني؛ لأن أبا ذر يروي عن شيوخه الثلاثة كما هو معروف.
قال في رواية الكشميهني: "تُكسِبُ" بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب: المعدَم، بلا واو، أي، الفقير؛ لأن المعدوم لا يُكسَب.
يقول ابن حجر: ولا يمتنع أن يُطلق على المعدَم: المعدوم؛ لكونه كالمعدوم الميِّت الذي لا تصرُّف له.

يعني: الذي لا مال له، ولا يستطيع أن يتصرَّف، كأنه معدوم، لا يتحرك مع النَّاس، ولا يباشر الأعمال؛ لأنه لا مال له. قال: ولا يمتنع أن يُطلق على المعدَم: المعدوم؛ لكونه كالمعدوم الميِّت الذي لا تصرُّف له. هذا مبالغة، الذي لا تصرف له. والكسب والاستفادة، فكأنها قالت: إذا رغب غيرُك أن يستفيد مالًا موجودًا رغبتَ أن تستفيد رجلًا عاجزًا فتعاونه.

 إذا رغب غيرُك أن يستفيد مالًا موجودًا رغبتَ أن تستفيد رجلًا عاجزًا –يعني معدوم في مقابل الموجود-رجلًا عاجزًا فتعاونه.

 وقال قاسم بن ثابت في "الدلائل"، "الدلائل" كتاب من أنفس كتب الغريب، من أنفس كتب غريب الحديث، وأصله لقاسم بن ثابِت السَّرَقسْطِي مات ولم يتمُّه فأكمله أبوه ثابت، يعني على عكس الجادَّة أن الأب يبدأ ثم يموت، فيكمل الولد، لا، هذا العكس، الابن بدأ فمات؛ كمَّل الأب. ونظيره أو قريبٌ منه "المشكاة" مثل ما قلنا سابقًا "مشكاة المصابيح" للتبريزي، أُلفت بمشورة من "الطيبي" شيخ التبريزي، ثم الطيبي شرح "المشكاة"، وبعض الناس يأنف أن يعتني بعلمِ غيرِه ممن هو دونَه، ولا ينبُل طالب العلم إلا إذا أخذ عمَّن فوقه كما هو الأصل، وعن مثلِه وعمَّن دونه.
وعمَّن دونه، يعني بعض النَّاس –وهذا فرق بين هذا وهذا- ينتقِد من يشرح كتابًا لشخص معاصر في درس أو دورة، هل هو ممن نتكلَّم فيه؟ يعني: هل الباعث على ذلك عدم رؤية المعاصر؟
طالب:.....
نعم.
طالب:............
لا، ليس من هذا الباب.
وإنَّما الغالب أنَّ كتب المُعاصرين لغتُها مفهومة، ولهجتها واضِحَة، يفهمها طُلَّاب العلم بدون شرح، وكتب المتقدمين هي التي بحاجة ماسَّة إلى شرح وإيضاح.
أذكر –مرة- رُتِّب دورة، فيها خمسة كتب وخمسة من المشايخ يشرحونها، ثلاثة كتب فيها هذه الدورة من مؤلفات المشايخ الذين يتولون الشرح! ماذا كان الأثر؟ الأثر أن الدورة ضعفت جدًّا، وصار الطلاب ما يحضرون. لماذا؟  لأن هذا الكتاب المقرر في الدورة يقرأه طالب العلم بنفسه، ويستفيد منه، ما يحتاج لشرح. واضح. كُتب بأسلوب العصر، حتى ما يُقال: إن مثل هذا يعني الطيبي يشرح كتاب تلميذه، وثابت يكمل كتاب ولده، وأنتم تقولون: إن كتب المعاصرين ما يصلح أن يُربَّى عليها طلاب علم. لماذا؟

 لأن أساليبها واضحة، ما تحتاج إلى شروح، ولا تحتاج إلى عقد دورات ولا دروس، يفهمها طالب العلم وهو في بيته بمفرده، وإذا أشكل عليه شيء منها يسأل المؤلف موجود. أما أن تُعقد دورة لشخص يشرح كتابه هذا ما... هناك كتب هي أولى بالشَّرح، فمن هذه الحيثيَّة ضعفت تلك الدورة، وقلَّ حضورها، فيها كتاب قديم فالحظوة صارت له. يعني طالب العلم حينما يشرح الكتاب من شيوخنا مثلاً متن في العقيدة واضح وسهل كُتِب لمثقفي العصر، ما هو مثل ما تشرح التدمرية، أو الواسطية أو الطحاوية أو غيرها من المتون، وقل هذا في سائر العلوم.

فتمرين طلاب العلم وتعويدهم وتربيتهم على أساليب المتقدّمين الوعِرَة، هذا هو الذي يربيهم، يربي فيهم الملَكة العلميَّة ويجعلُهم يستقلُّون بأنفسهم فيما بعد. يعني: شاء طالب علم يربى على التدمرية مثلاً، هل يشكِل عليه شيء من كتب العقيدة إذا عُيِّن في مكان ناءٍ ما فيه إلا هو طالب علم، وإذا أراد أن يشرح يجعل دروسًا لطلَّاب العلم، يستطيع أن يشرح وهو ما رُبِّي على كتب المتقدمين. ما يستطيع. كتب المعاصرين تصلح لغير المتخصصين في العلم الشرعي، يستفيدون منها لا بأس؛ لأنها كُتبت بأسلوب يفهمه الجميع.
طالب:.......
نعم؟
طالب:.....
كيف؟
طالب:............
نعم، هو في الأصل هو كتب لمن؟ كتب ليُفهم، لكن أنت هل تستغني في يوم من الأيام عن كتب المتقدِّمين؟ لن تستغني. كيف تتعامل مع كتب المتقدمين وأنت ما تربيت على أساليبهم، يعني إذا أردنا أن نفصل بين الماضي والحاضر ممكن، خلاص ربِّهم على كتب المعاصرين والمتقدمين انتهى وقتها، كما يقول بعضهم. بعضهم يقول: خلاص انتهى ما لنا داعٍ بالأساليب الصعبة، يعني المسألة مسألة عذاب أم تعليم؟ يعني مختصر خليل أو شيخ الإسلام لما كتب "التدمرية" يريد أن يعذب طلاب العلم، يعني ما يستطيع أن يكتب بأسلوب أسهل من هذا، الخليل لما ألف "المختصر" أو "زاد المستقنع" أو غيرها من الكتب. لما ألفت القصد منها تعذيب طلاب العلم أو تربية طلاب العلم؟ لماذا "منتهى الإرادات" ما يحله إلَّا كبار العلماء؟! وبعضهم يقف حائرًا أمامه، هل مقصود منه التعذيب؟
هناك دعوات وهناك أشياء نسمعها من بعض من ينتسب إلى طلب العلم. يعني فتح الكتاب وصعب عليه، وأشكلت عليه عباراته، ما له داعٍ بهذا الكتاب، يعني بدل منتهى الإرادات يوجد الملخص الفقهي يكفي أو "فقه السنة"، لكن هل يربى طالب علم على أسلوب سهل؟ ما يمكن إطلاقًا. سمعنا هذا من يتعبد بكلام المخلوقين. لا، لكن أنا أريد أن يكون عند طالب العلم ملكة يستطيع أن يتعامل بها مع كتب أهل العلم؛ لأن طالب العلم ما يُضمن أن يكون دائمًا في بلد العلماء متوافرون، ولا يليق به أنه إذا أشكل شيء رفع التلفون، أو ذهب إلى فلان يشرح له. خلاص في يوم من الأيام يصير مرجِعًا، يؤتى إليه ليشرح، وإذا لم يعرف هذه الأساليب فإنه لن يستطيع التعامل مع هذه الكتب إذا استقلَّ فيما بعد؛ لأنه فرق بين أن نقول: الطيبي شرح "المشكاة" ونمدحه بهذا، وبين أن نقول: فلان شرح كتاب فلان زميله أو شيخه الذي كتبه بأسلوب العصر.

 أنا لما اقول هذا الكلام ليس معناه أني أنتقد الطيبي كيف يشرح كتاب الخطيب التبريزي كتاب حديث، والحديث لا يختلف متقدم ولا متأخر، لكن يبقى أنَّ العلم دين، يحتاج أنك إذا اعتنيت بكتاب تنظر في مادة الكتاب، ومقدار فائدة مادة الكتاب، وتنظر أيضًا في المؤلِّف، هل هو من الأئمة الذين تشرُف بالتتلمذ عليهم، على كتبهم، يعني: فرق بين أن تعتني بكتاب لإمام معتبر عند أهل العلم، وبين شخصٍ نكِرة أو فيه شوب بدعة أو ما أشبه ذلك.
وقال قاسم بن ثابت في "الدلائل" قوله: يكسِبُ، معناه: ما يعدِمُهُ غيرُه ويعجِز عنه يصيبُه هو. ويكسبه. قال أعرابيٌّ يمدح إنسانًا:
 كان أكسبهم لمعدوم وأعطاهم لمحروم، وأنشد في وصف ذئبٍ:

كسوبٌ كذا المعدوم من كسب واحد

 

........................

أي: مما يكسبه وحده.
نعم.
طالب:......
معروف، والرواية رواية الأكثر.
نعم.
طالب:..............
وهذا الكلام موجود في "الدلائل" القسم المطبوع منه الجزء الأول صفحة ثلاثمائة وثلاث ثلاثين.
ولغير الكشميهني –هذا كلام ابن حجر-: وتكسِب بفتح أوله، وتَكسب بفتح أوَّله، قال عياض: وهذه الرواية أصحّ، وهذه الرواية أصح. يقول ابن حجر: قد وجَّهنا الأولى. قال: ولا يمتنع أن يُطلق على المعدم المعدوم؛ لكون المعدوم ميتًا إلى آخره، والكسب والاستفادة إلى آخر الكلام. قد وجَّهنا الأولى وهذه الراجحة، ومعناها تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك فحذف أحد المفعولين. ويقال: كسبتُ الرجلَ مالًا، وأكسبتُه بمعنًى. يعني كسب يتعدى إلى مفعول أم مفعولين؟ على هذا المثال، كسب كسبتُ الرجل، يتعدَّى إلى مفعولين، والهمزة؟ ما هي بهمزة تعدية؟ أكسبته مالًا.

 نعم.
إذا كانت همزة تعدية فإما أن نقول: أن كسب بدونها يتعدى إلى مفعول واحد.
طالب:......
نعم؟
طالب:..........
الآن في مثاله قال: كسبت الرجلَ مالاً، معناه يتعدى إلى مفعولين، وإذا قيل: أكسبتُه مالًا، قلنا إن كسب بدونه يتعدى إلى مفعولين، قلنا إن أكسب يتعدى إلى ثلاثة؛ لأن هذه همزة تعدية، أو نقول: إن كسب يتعدى إلى مفعول، وأكسب يتعدَّى إلى مفعولين.
قال: يقال: كسبت الرجل مالاً وأكسبته بمعنًى. إذا كان معنى الثلاثي والرباعي واحدًا فكلاهما يتعدَّى إلى مفعولين، وتمثيل ابن حجر يدلُّ عليه. وقيل: معناه، تكسِب المالَ المعدومَ، وتصيب منه مالاً يصيب غيركَ. هل هذا فيه مدح؟
طالب:.......
ماذا؟
طالب:..........
يعني: أن يكون الإنسان يعرف وجوه التِّجارة، ويكسِب من الأموال ما لا يستطيعه غيره يُمدَح به؟
طالب: ما هو مناسب لهذا المقام، قضية الخزي نفته بسبب هذه الأوصاف...........
يعني تكسِب المالَ المعدوم، يعني من خلال خبرة منها؛ لأنه اشتغل معها في التِّجارة، لكن أقول: هل هذا مما يُمدح به؟ كون الإنسان يعرف وجوه التِّجارة أو كون الإنسان يُوفق في تجارته وتحصل له المكاسب، والثاني يُخفِق في تجارتِه، هل هذا مناط مدح وذمّ؟
طالب: يمكن في هذا المكان ما هو مناط مدح وذم يا شيخ.
نعم.
طالب:...............
يعني: كسب المال في الأصل يعني ذاته إنما يُمدح بآثاره، يعني شخص كسب الملايين، بل مئات الملايين وأودعها البنوك، وما استفاد منها لا هو ولا غيره، يمدح ولَّا يُذم؟ يذَم. هذا يذَم. وإذا كسِبها من وجوهها ومن حلِّها وأنفقها في وجوه الخير يُمدح، إذًا مجرد الكسب، مجرد التوفيق –إن سميناه توفيق- في التجارة. هذا..
طالب:............
الدُّنيا يعطيها الله –جل وعلا- من يحب ومن لا يحب.
طالب:............
ماذا؟
طالب:..............
نعم.
طالب:...........
كيف؟
طالب:................
هذا مطلوب، لكن كون آخر يعرف أفضل من معرفته، أفضل من معرفته، ولا يستطيع أن يربح؛ لأنه هذا ما يعرف، كون الإنسان يعرف هل هذا دليلٌ على حِذقه ومعرفته بأصول التجارة، وأبوابها ووجوهها، والثاني كونه لا يربح، بل يُخفق في تجارته دليل على أنه لا يعرف؟ ما يلزم. ما يلزم. ما يلزم. ما... ليست المسألة طردية ولا عكسية.
طالب:...........
على كل حال كسب المال لذاته، جاء التوجيه إليه بقوله –جل وعلا-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، يعني: هذا التوجيه من أجل أن يُستعان به على تحقيق الهدف الذي من أجله خلِق الإنسان، فإذا كان الكسب يُعارض الهدف الذي من أجله خُلق الإنسان، ذُمَّ به، وإن كان يعينه على تحقيق الهدف، فهو مما يُمدح به.
على كل حال، ننظر ما قاله أهل العلم.

 قال: وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه ما لا يصيب غيرك، وكانت العرب تتمادح بكسب المال لا سيَّما قريش. لا سيما قريش. وكان النبي –صلى الله عليه وسلَّم- قبل البعثةِ محظوظًا في التِّجارة، وإنما يصحُّ هذا الكلام أو هذا المال إذا ضُمَّ إليه ما يليق به من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذُكِرت.
صلة الرحم، يقري الضيف، والإعانة على نوائب الحق، إذا استعمل في هذه الأمور. يمدح به شرعًا وعقلًا وعُرفًا، وإنما يصحُّ هذا المال إذا ضم إليه ما يليق به من أنه مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت، يعني: من المكارم.

يقول العيني، وله أيضًا انتقادات لابن حجر وغيره مما تقدَّم، يقول: قوله: وتَكسِب المعدوم، هو شرح الجملة على أنها المعدوم. وننتبه لهذا. وتَكسب المعدوم، بفتح التاء على المشهور الصحيح في الرواية. والمعروف في اللغة: هذا هو المشهور الصحيح في الرواية والمعروف في اللغة. ورُوي بضمها: تُكسِب، وفي معنى المضموم قولان: أصحهما: معناه تُكسب غيرك المال المعدوم، أي: تعطيه له تبرُّعًا هو ما زال يشرح المعدوم. يعني: يشرح مع أن لفظ: الكلمة هذه بصيغة اسم المفعول.
ثانيهما: تُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك من معدومات الفوائد ومكارم الأخلاق. يقال: كسبتُ مالًا وأكسبت غيري مالا. يقول: وفي معنى "المتفق"
يعني: كأنه متفق عليه بين الرواة ما عدا من ذُكر، يعني: المفتوح. حينئذ قولان: أصحُّهما: أن معناه كمعنى المضموم، إذا تكلم عن "تكسب". أصحهما أن معناه كمعنى المضموم، يقال: كسبت الرجل مالاً وأكسبته مالًا، والأول أفصح وأشهر. ومنع القزاز الثاني. القزاز صاحب " الجامع".
وقال: إنه حرفٌ نادر، وأنشد على الثاني:

وأكسبني مالًا وأكسبته حمدًا

 

.............................

يعني ما تقدم.
وقول الآخر:

ديوني في أشياء تكسبهم حمدًا

 

يعاتبني في الدين قومي وإنما

هذا يستدين على ذمتهِ الأموال من أجل الكرم، الذي تُمدَح به قبيلَته من أجله وقومه.
يقول: والمعدومُ:
هكذا يقول، والمعدوم عبارة عن رجل محتاجٍ عاجزٍ عن الكسب، وسماه معدومًا؛ لكونه كالميِّت حيث لم يتصرَّف في المعيشة. هذا كلام العيني، يعني إقرار بأن اللفظ على صيغة "اسم المفعول" المعدوم، والمعدوم:
قال: وسماه معدومًا؛ لكونه كالميِّت حيث لم يتصرَّف في المعيشة. قال: وذكر الخطَّابي أن صوابه: المُعدَم، بحذف الواو. يكون معناه حينئذ: تُعطي العائِل وترفضه؛ لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال. وسيأتي تكملة لكلام العيني، لكن هذا كلام للكرماني مهم في موضِعه، هذا نقل الكرماني عن التيمي قوله: لم يُصب الخطَّابي؛ لأن الخطابي ماذا قال؟
طالب:.......
أن صوابه بحذف الواو، معناه: أن إثبات الواو خطأ. ونقل الكرماني عن التيمي قوله: لم يصب الخطابي إذ حكم على اللفظة الصحيحة بالخطأ، فإن الصواب ما اشتهر بين أصحاب الحديث، ورواه الرواة.

 ما دام الرواة كلهم قالوا: المعدوم، كيف نصحح المعدوم الذي اتفق عليه الرواة، ونحذف الواو ولم تأتِ بها رواية! إلا أنها من حيث المعنى عند الخطَّابي أظهر؛ لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال، ليس بشيء فيُكسَّب.
طالب:..............
لا، لكن معدم يعني موجود، لكنه عادمٌ. عادم للمال، أما المعدوم: غير الموجود أصلاً. يعني معدم: أصلها شخص موجود لكن عادم للمال، والمعدوم: شخص معدوم غير موجود يعني هذه نظرة الخطابي. فقال: الصواب المعدم، صوابه المُعدم. التيمي فيما نقله عنه الكرماني قال: لم يصب الخطَّابي، إذ حكم على اللفظة الصحيحة بالخطأ، فإن الصواب ما اشتهر بين أصحاب الحديث ورواه الرواة.

وقال العيني: الصواب ما قاله الخطابي. العيني من أول كلامه إلى آخره يشرح الكلمة على أنها: المعدوم، وبها جاءت الرواية. يقول العيني: الصواب ما قاله الخطابي، وكذا الصاغاني في "العباب" الصواب: وتكسب المعدم" أي: تعطي العائل وترفده. نعم، المعدوم له وجهٌ، يقول العيني: نعم المعدوم له وجهٌ على معنى غير المعنى الذي فسروه، وهو أن يقال: وتكسب الشيء الذي لا يوجد، تكسبه لنفسكَ أو تملِّكه لغيرك، وإليه أشار صاحب "المطالع".
الآن العيني وهو يقول هذا الكلام يريد أن ينقض كلام ابن حجر؛ لأنه نقله عنه، قال: وقال بعضهم، فنقل كلام ابن حجر، فأراد أن ينقضه بتصويب كلام الخطّابي. ابن حجر والكرماني وغيرهم خطَّأوا الخطَّابي وشرح العيني على أساس أن اللفظة بصيغة "اسم المفعول" كما جاءت بها الرواية، ثمَّ بعد ذلك: قال: الصواب ما قاله الخطَّابي. نعم، المعدوم،

 يقول العيني: له وجه على معنى غير المعنى الذي فسَّروه، وهو أن يقال: وتكسب الشيء الذي لا يوجد تكسبه لنفسك أو تملكه لغيرك، وإليه أشار صاحب "المطالع".

 لكن هل هذا الكلام فيه جديد أو لمجرد إثبات المخالفة لابن حجر؟ يعني ما يظهر فيه كلام جديد ما قاله أهل العلم السابقون، يعني ممن نقل عنهم العيني.
 هناك كتاب في المحاكمة بين العيني وابن حجر، العيني ينقل عن ابن حجر ويتعقبه، ولا يذكر اسمه، أحيانًا ينقل منه الصفحة والصفحتين ولا يشير إلى اسمه، لكن إذا أراد أن يتعقَّبه، قال: "قال بعضهم"، ثم يرد عليه، وإذا لم يرد التعقب نقل من غير إشارة ولا على طريق الإبهام، إذا أراد أن يتعقبه ويرد عليه "قال بعضهم" هو يريد به ابن حجر. ابن حجر دافع عن نفسِه في كتاب اسمه "انتقاض الاعتراض".
 بقي مواضع ما استطاع ابن حجر أن يدافع عن نفسه فيها، ولا شك أن ابن حجر كغيره يخطِئ ويُصيب، فمحل النقض في مواضع. ولكن كثير من المواضع التي ينتقدها العيني على ابن حجر كثير منها فيه شيء من التَّحامُل. ابن حجر لما تكلَّم على مسألة لُغويَّة وتعقَّبه العيني- الكلام لابن حجر- وتعقبه العيني في "عمدة القارئ" ثم قال: وهذا كلام من لم يشمّ اللغة أدنى شمّ.

صاحب "المبتكرات" وهو يحاكم العيني وابن حجر، ينقل كلام ابن حجر وينقل كلام العيني، وفي محاكمة بينهما، كتاب اسمه: "مبتكرات اللآلئ والدرر في المحاكمة بين العيني وابن حجر"، لما تكلم عن هذه المسألة اللغوية، وأورد كلام ابن حجر وكلام العيني، ووجَّه كلام ابن حجر ودعمه بكلام أئمة اللغة قال: "بهذا يتبين أن الحافظ ابن حجر إنما أكل اللغة أكلاً لمًّا، ولم يكتفِ بشمها شمًّا". يعني حينما تدخل مثل هذه الأمور بين أهل العلم لا شك أنها نقص، يعني صحيح أنه تُثري البحث وتولِّد عند القارئ ملكة للنقاش، لكنها مع ذلك يعني مهما قلنا واعتذرنا عنهم؛ لأنه كما يعتري البشر من النقص، فليسوا بمعصومين.
طالب:.....
لا هو ما يقصد به الشخص قطعًا.
طالب:.......
لا، هم كلهم يتفقون على المعنى سواء قالوا: معدوم أو معدم، الرواية "معدوم" قالوا: إن المعدوم صيغة مبالغة جعلت الفقير الذي لا يملك شيئًا كالشخص المعدوم؛ لأنه لا يستطيع أن يتصرف.
طالب:............
نعم؟
طالب:...........

يعطي الشخص الذي عدمه.
طالب:.........
لا لا، هو يحتمل أمرين، هم فسروا على هذا وهذا، فسروه على المال المعدوم، وفسروه على الشخص المعدوم حكمًا الذي لا يستطيع أن يتصرف، والمطلوب الاثنين أحيانًا؛ لأنه إذا قيل: يكسب المعدوم، يكسب الرجل المعدوم، أو يكسب الرجل المال المعدوم، وفسروا الرجل المعدوم: الفقير الذي لا يستطيع أن يتصرف ووجوده مثل عدمه.
نكمل ما قاله أهل العلم: وإليه أشار صاحب "المطالع"، هذا مر بنا مرارًا وهو "مطالع الأنوار على صحاح الأخبار" أصله "مشارق الأنوار " للقاضي عياض، اختصر في "المطالع" وزيد عليه، وصارت شهرة المختصر أكثر من شهرة الأصل، والنقل عنه أكثر عند الشراح، وصاحب المطالع هو ابن قرقول على وزن عصفور.

في المحاكمة الثانية من "مبتكرات اللآلئ والدرر" بعد أن نقل كلام العيني والخطابي والكرماني وابن حجر، قال: أقول: حاصله أن الرواية المعدوم، الرواية المعدوم، والحديث دوَّار في كل كتاب ب "الواو" يعني في جميع الكتب -كتب الحديث- كلها المعدوم، والحديث دوار في كل كتاب بال"واو"، وعليه شرح الشيخان ابن حجر والعيني. كل كلام العيني في الشرح على أنه المعدوم، لكن لمَّا نقل كلام ابن حجر وتوجيهه نقل كلام الخطابي، وصوَّب كلام الخطَّابي أنه المعدم بدون واو.

 وأقول: حاصله أن الرواية المعدوم، والحديث دوار في كل كتاب بالواو وعليه شرح الشيخان. يعني ابن حجر والعيني. مع اتفاقهما على أن المعدوم: عبارة عن الرجل الذي لا تصرف له، فلو كان الصواب مع الخطابي كما قال العيني؛ لشرح على الصواب.

 يعني لو وضع بين القوسين: وتكسب المعدم؛ لأن هذا هو الصواب، كيف يشرح على الخطأ ثم يصوب غير ما شرحه؟!

قال: فلو كان الصواب مع الخطابي كما قال لشرح على الصواب إلا أنه لا يجد جوابًا على سؤال: كيف يصوب بمجرد الرأي أو مجرد الرأي الضعيف من غير دليلٍ على الرواية الصحيحة المشهورة مع استلزامه لتخطئة نفسِه، فافهم ذلك.
واضح؟

 قال: إلا أنه لا يجد جوابًا على سؤال: فكيف يصوب بمجرد الرأي؟ –الخطابي مجرد رأي، يعني أيده من حيث المعنى لا من حيث الرواية- قال: كيف يصوب مجرد الرأي الضعيف من غير دليلٍ على الرواية الصحيحة المشهورة مع استلزامه لتخطئة نفسِه، فافهم ذلك.

 كيف خطأ نفسه؟ لأن كل شرحه على أنه المعدوم، ثم في النهاية لما نقل كلام ابن حجر وأراد أن يخطئ ابن حجر نقل كلام الخطابي وقال: الصواب مع الخطابي! طيب شرحك في صفحة كاملة عن المعدوم! ثم قال: مع استلزامه لتخطئة نفسِه، فافهم ذلك.
"وتَقرِي الضيف" قال النووي: بفتح التاء، تقول: قريت الضيفَ، أقريه، قرًى، بكسر القاف، والقصر، وقراءً بفتح القاف والممد. ويقال للطعام الذي تضيفه به –تضيف به الضيف-: قِرى، بالكسر والقصر، وفاعله: قارٍ كقضى فهو قاضٍ. يقول ابن سيده: قرى الضيف قرى وقراءً: أضافه واستقراني واقتراني وأقراني: طلب مني القِرَى. وإنه لقريٌّ للضيف، والأنثى قرِيَّةٌ، كذا في المحكم.
"وتعين على نوائب الحق" يقول ابن حجر: هذه كلمةٌ جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدَّم.
يعني: ما ذُكر وما لم يُذكر. كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفي رواية للمصنف في في "التفسير" من طريق يونس عن الزهْرِي من الزيادة: "وتصدق الحديث" وهي من أشرف الخصال، وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة "وتؤدي الأمانة" تكون الرواية التي معنا فيها اختصار لبعض الجمل، وقال النووي: النوائب جمع نائبة: وهي الحادثة والنازلة، وإنما قالت: "نوائب الحق"؛ لأنها تكون –يعني النوائب- تكون في الحق والباطل. يعني ما يعين على نائبة باطل؛ لأن الإنسان قد ينوبه شيء يحتاج إلى ما يعينه على غيره، وقد يكون محقًّا وقد يكون مبطلاً، فهل يعين مطلقًا، وهل الإعانة على النوائب مطلقًا ممدوحة أو الإعانة إعانة المحقِّ ممدوحة وإعانة المبطل إعانة له على الظلم فهي مذمومة؟ وحديث: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» المظلوم واضح أنه يُنصَر، لكن الظالم؟ يكفه عن الظلم فهو نصر له، فلا يُعان على ظلمه بأن التي معنا فيها اختصار لبعض الجمل. يُظلم المظلوم زيادة على ظلم الظالم.
طالب:.............
إي.
طالب:..........
بلى، ما يعان عليه.
طالب:.............
ما يعان إلا بما يحقق له ما ينفعه دون ما يضر، يعني فقير تعرف أنه مخلِّط، يستعمل المحرمات، يتناول محرَّمات ويشتري بما يأخذ من الزكاة من المباح ومن المحرَّم، ما يعان هذا مطلقًا حتى يُعرف أنه لا يستعمله إلا فيما يُباح، وهذا المثال واضح لما نحن فيه.
وإنما قالت: "نوائب الحق"؛ لأنها تكون النوائب في الحق وفي الباطل. قال لبيد:

فلا الخير ممدود ولا الشر لازبُ

 

نوائب من خير وشر كلاهما

قال العلماء: معنى كلام خديجة –رضي الله عنها-: أنكَ لا يصيبك مكروه؛ لما جعله الله– سبحانه وتعالى- فيك من مكارم الأخلاق وجميل الصِّفات ومحاسن الشمائل، وذكرت ضروبًا من ذلك، وفي هذا أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب لسلامة من مصارع السوء والمكاره.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"