شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 18

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقةٍ جديدة في برنامجكم شرح كتاب ((الصوم)) من كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نُرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.

المقدم: كنا توقفنا في حديث أبي جُحيفة عند قوله: مُتَبذِّلة، وأسهبنا الحديث في هذا الموضوع. لعلنا نستكمل ما تبقى، أحسنَ الله إليكم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

في الحديث: فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذلة، فقال لها: ما شأنكِ؟ زاد الترمذي في روايته عن مُحمد بن بشار، شيخ البخاري، فيه: يا أم الدرداء. يعني ما شأنكِ يا أم الدرداء. وفي (مفردات الراغب): الشأن، الحال والأمر الذي يتفق ويصلُح، ولا يُقال إلا في ما يعظُم من الأحوال والأمور، قال الله- جلَّ وعلا-: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [سورة الرحمن 29].

قالت: أخوكَ، يعني في الدين والمؤاخاة، ففيهما الإخوة العامة والخاصة. أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا.

وفي رواية الدراقطني من وجهٍ آخر، عن جعفر بن عون: في نساء الدنيا، ليس له حاجة في نساء الدنيا.

وزاد فيه ابن خزيمة: يصوم النهار ويقوم الليل.

فجاء أبو الدرداء؛ لأنه كان غائبًا. زاد الترمذي: فرحَّب بسلمان، وقرَّب إليه طعامًا، فقال له: كُل. قال: فإني صائم، كذا في رواية أبي ذر والقائل: كُل، مَنْ؟

المقدم: القائل هنا سلمان المفروض.

والمقول له؟

المقدم: أبو الدرداء.

نعم.

فقال له: كُل، قال: فإني صائم. كذا في رواية أبي ذر، والقائل: كُل، هو سلمان، والمقول له أبو الدرداء، وهو المُجيب بأني صائم.

وفي رواية الترمذي: فقال: كُل، فإني صائم.

المقدم: يكون القائل هنا هو أبو الدرداء.

نعم.

فقال: كُل، فإني صائم. وعلى هذا فالقائل أبو الدرداء، والمقول له سلمان، وكلاهما يحتمل، يعني يحتمله اللفظ.

والحاصل أن سلمان وهو الضيف، أبى أن يأكل من طعام أبي الدرداء حتى يأكل معه. أبى سلمان أن يأكل من طعام أبي الدرداء، حتى يأكل معه. وغرضه أن يصرفه عن رأيه فيما يصنعه من جَهْد نفسه في العبادة، وغير ذلك مما شكته إليه امرأته.

يعني قد يقول قائل: كيف يصرف الإنسان عن العبادة والطاعة وهو إنما خُلِق لها، للعبودية؟

نقول: نعم، هكذا ينبغي أن يُعالج مثل أبي الدرداء، وأن يُعالج مثل عبد الله بن عمرو بن العاص في قراءة القرآن، «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد». يعني كل من لحظ عليه أنه يعمل عملًا ولو كان صالحًا، ويكون بسببه التقصير في حقه أو إرهاق النفس بحيث يملُّ ويترك، يُقال له مثل هذا. بخلاف المُفرِّط، المُفرِّط تُذكر له نصوص الحث على الازدياد، وتُضرَب له الأمثلة والنماذج بالمُشمرين، لا بالمُقصرين وهكذا.

فالمسألة مسألة علاج، فسلمان جاء يُعالج مشكلة، يعني قضية خاصة بهذا الصحابي الجليل، نفس تواقة ورجلٌ مُشمِّر وراغب في أمور الآخرة وعازف عن الدنيا، مثل هذا لا شك أنه سوف يترتب على ذلك التقصير في بعض أبواب الدين، فمثل هذا وإن كان يستطيع مثل أبو الدرداء مع إجهاد نفسه وإتعابه إياها أن يوفي، لكن مع ذلك الوفاء بجميع الأبواب مع جهد النفس وإتعاب النفس بحيث يؤدي ذلك إلى الملل، إن ذلك غير مرغوب في الشرع وجاء التحذير منه.

المقدم: هذا التوازن، يا شيخ، هو منهج أهل السُّنَّة والجماعة في كثيرٍ من الأبواب، يعني مثل باب الرجاء والخوف.

في جميع الأبواب.

المقدم: نعم، لكن هو مثال الحقيقة ظاهر، السبب في ذلك أن فئامًا من الناس الآن- مع كل أسف- أصبحوا يأخذون هذه النصوص ليُعللوا لأنفسهم ولأمثالهم هذا التقصير، فيقول: أنتم أكثرتم علينا نصوص التخويف والمفترض أن نأتي بنصوص الرجاء. مع أنهم في باب الرجاء أصلاً لم يسلكوه، وهذا خلل في التوازن.

النصوص الشرعية علاج لأمراض أفراد وعلاج لأمراض مجتمعات، فأنت إذا رأيت فردًا أجهَدَ نفسه وأتعبها وأكلَّه،ا وخشيت منه أن ينقطع، تورد عليه بعض النصوص التي تجعله يُخفف. بخلاف ما لو وجدت مُفرِّطًا، تورد عليه من النصوص ما تجعله يزيد.

يعني لو جاءنا شخص يقول: أنا طوال عمري أقرأ القرآن في يوم، قلنا له: الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد».

لكن لو جاءنا شخص من طلاب العلم، وهذا موجود، يقول: أنا لا اقرأ القرآن إلا إذا تقدمت إلى الصلاة، قبل الإقامة بخمس دقائق قرأت، وإن ما تقدمت ما قرأت وفي رمضان يقرأ القرآن. ومثل هذا لن يُعان على كثرة القراءة، نقول: أين أنت؟ النبي- عليه الصلاة والسلام- قام بالقرآن، وفي ركعةٍ واحدة قرأ البقرة والنساء وآل عمران، وعثمان كان يختم في كل ليلة، وفلان وفلان، ونُعدد له من هذه الأمثلة والنصوص والنماذج التي تجعله يُكثِر من قراءة القرآن. ونأتي له بما جاء في التنصيص على أن في كل حرفٍ عشر حسنات؛ ليستكثر من القراءة. وأيضًا النصوص التي فيها الوعيد على مَن قرأ القرآن ونام عنه، أو حفظه ونسيه. كل هذا يجعله يزيد.

وكذلك مجتمعاتنا، لو وجدنا مجتمعًا مُفرِّطًا، المعاصي والجرائم والمنكرات والطاعات على دبار، يعني على ضعف. نأتي لهم بنصوص الوعيد التي تجرُّهم إلى حظيرة التوسُّط.

وبالعكس، لو وجدنا مجتمعًا فيه إفراط، فيه غلو، مثل هذا نورد عليه من نصوص الوعد؛ لنجرّهم إلى حظيرة التوسُّط.

نعم، قد يوجد في المجتمع وفي الحاضرين من الصنفين، كما هو موجود الآن في العالم الإسلامي وقبل ذلك، يوجد ناس عندهم شدة، ويوجد ناس عندهم تفريط، ويوجد ناس متوسطون، وكلهم يجمعهم مسجد واحد مثلاً، فما دور الموجِّه هنا؟ يأتي بالنصوص كلها، يُحذِّر المُفرِّط، ويُرغِّب المُفرِط وهكذا.

فنصوص لهذا ولهذا، فيُقال: من فرَّط، يتجه إلى كذا. ومن أفرط، يتجه إلى كذا.

غرض سلمان- رضي الله تعالى عنه وأرضاه- أن يصرف أبا الدرداء عن رأيه فيما يصنعه من جَهْدِ نفسه في العبادة، وغير ذلك مما شكته إليه امرأته.

فقال سلمان لأبي الدرداء: ما أنا بآكل، يعني من طعامك، حتى تأكل، فأكل أبو الدرداء معه.

المقدم: عندي استشكال في الباء- إذا أذنت لي يا شيخ- ما أنا بآكل، ما أنا بقاريء، يعني لها وجه دخول هذه في مثل هذه المواضع، لماذا؟

هي مثل: ليس، وبعد ليسَ غالبًا تجرّ الباء الخبر، مثل: ليس. لست بقاريء، هي مثل ليس.

المقدم: يعني يجيئنا، يا شيخ، نحن مثلاً الإعلاميين إشكالية في مسألة: متى يُدخَل الباء على الاسم الذي بعد الفعل. يعني الآن عندنا بعض المذيعين يقول: ألتقيكم في الحلقة القادمة، بعضهم يقول: ألتقي بكم.

نعم؛ لأن هناك من الأفعال ما يتعدى بنفسه ويتعدى بالحرف. لكن هنا واقعة في خبر (ما) التي مثل (ليس).

المقدم: يعني لا دخل لها بذات الفعل؟

لا.

ما أنا بآكل: يعني من طعامك، حتى تأكل، فأكل أبو الدرداء معه.

وفيه: القَسَم الذي جاء في بعض الروايات، يعني القَسَم في مثل هذا ما فيه إشكال. وليس هذا من اتخاذ الله- جلَّ وعلا- عُرضة للأيمان، لا، ولا ابتذال اسم الجلالة. إنما في مثل هذه الأمور، يعني لو جُرِّد عن القَسَم، الذي جاء في بعض الروايات وترجم به البخاري- رحمه الله- يُمكن أن يُصِر. ولو افترضنا أن سلمان أقسَم، وأن أبا الدرداء أيضًا أقسَم ألا يأكل.

المقدم: واحد منهم عليه الكفارة، جزمًا.

في قصة أبي بكر لما حلف على ضيوفه، وحلفوا أن لا يأكلوا حتى يأكل، وحلفوا أن لا يأكل، ما أمره النبي- عليه الصلاة والسلام- بكفارة ولا هم.

فهل نقول: إن الكفارة محفوظة معروفة بنصوصٍ أخرى؟

المقدم: يمكن أنه فَهِم منها أبو بكر أن عليه الكفارة.

أو نقول: إن مثل هذا، كما قال بعض أهل العلم، اليمين التي يُقصَد منها الإكرام، ليس فيها كفارة، كما قال بعض أهل العلم بهذا.

المقصود أنه قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل أبو الدرداء معه؛ مراعاةً لأخيه وإدخالاً للسرور على قلبه. لا شك أنه لو أكل سلمان وحده، مثل الضيف مثلاً يأتي ويُقدَّم له الطعام وصاحب البيت جالس ينظر إليه لا يأكل، هذا لا يُدخِل السرور على قلبه.

المقدم: يعني اليمين على الإكرام كانت قديمة، أنا كنت أتوقع إنها حادثة؛ لذلك بعض الذين يتحدثون ينهون.

لا، اليمين قديمة، لكن الطلاق الحادث.

كثير من الناس ما يمشي في أموره صغيرها وكبيرها إلا بطلاق، هذا الذي حدث وهو شيء مؤسف، مُقلق يعني. يعني بعض الناس لفظ الطلاق عنده أيسر من أي كلام، ولأدنى مناسبة يُطلق، هذا المذموم.

المقدم: يعني الذي يُكرِم أضيافه بالحَلِف أن يأكلوا، ما يُنكَر عليه وما عليه شيء؟

ما يُنكَر عليه.

المقدم: ولا يُشدد عليه، مادام أبو بكر حلف.

لا، ما يُنكَر عليه أبدًا.

لكن أيضًا الأضياف يتفاوتون، منهم من يستحق غاية الإكرام ومنهم من يستحق دون ذلك وهكذا.

فعلى حسب أهمية الأمر يُحلَف. والنبي- عليه الصلاة والسلام- حلف في مناسباتٍ كثيرة، من غير استحلاف، حلف على أحكام. وحلف، لكن هذا الحَلِف لا شك أنه مشروعٌ عند وجود سببه.

في شرح القسطلاني: فإن قلت، لم يذكر في هذا الحديث قسمًا من سلمان؛ حتى تقع المطابقة بينه وبين الترجمة، حيث قال: مَنْ أقسَمَ على أخيه. قلت: أجاب ابن المُنيِّر بأنه إما لأنه في طريقٍ آخر وإما لأن القَسَم في هذا السياق مُقدَّر قبل لفظ: ما أنا بآكل، كما قُدِر في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم 71].

الكلام هذا تقدَّم، يعني في كلام العيني وابن حجر، هذا تقدَّم في الترجمة. لكن إعادته هنا؛ لأن الكلام يحتاج إلى ربط.

أجاب ابن المُنيِّر بأنه إما لأنه في طريقٍ آخر- وهذا لا شك أنه وجِد في طريق البزار- وإما لأن القسم في هذا السياق مُقدَّر قبل لفظ: ما أنا بآكل، كما قُدِر في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم 71].

تعقَّبه في (المصابيح) بأنه يحتاج إلى إثبات الطريق الذي وقع فيه القَسَم، والاحتمال ليس كافيًا في ذلك. وتقدير قسمٍ هنا، تقدير ما لا دليل عليه، فلا يُصار إليه.

قلت: تقدَّم أن القسم موجود في رواية البزار، فقال: أقسمت عليك لتُفطِرَن، وكذا عند ابن خزيمة والدراقطني والطبراني وابن حبان.

فلما كان الليل، أي: في أوله، ما الدليل على أنه كان في أوله؟

المقدم: أنهما ناما ثمَّ قاما للصلاة.

لأن قوله: لما كان من آخر الليل، قال سلمان: قُم، فدلَّ على أن النهي كان في أول الليل.

فلما كان الليل، أي: في أوله. وفي رواية ابن خزيمة وغيره: ثمَّ بات عنده، وكان هنا تامة، يعني وجِد الليل، والليل فاعل.

ذهب أبو الدرداء يقوم، ذهب يقوم، ما معنى هذا؟

المقدم: ذهب لقيام الليل يعني.

نعم.

ذهب يقوم، يعني للصلاة، والجملة حالية، يقوم حالية. هكذا قال الشُّراح، قالوا: إن الجملة حالية، ذهب يقوم.

لكن عندي أن (ذهب) هنا من أفعال المُقاربة والشروع، ذهب يقوم، أنشأ يخطُب، قام يُنشِد، من أفعال المقاربة.

كما قال ابن مالك: حيثُ عدَّ هبَّ وقام من أفعال الشروع، ابن مالك عدَّ (هبَّ) و(قام) من أفعال الشروع. نحو: هبَّ زيدٌ يفعل، وقام بكرٌ يُنشِد، كما ذكر ذلك الأشموني على شرحه على (الألفية).

أقول: ما المانع أن تكون (ذهب يقوم) مثل (هبَّ زيدٌ يفعل)؟ فتكون من أفعال الشروع. وعلى هذا يكون إعرابها، ذهب: فعل ماضٍ ناقص، واسمها: أبو الدرداء، وجملة يقوم: خبرها.

وفي (الألفية):

                     كأنشأ السائق يحدو وطَفِق                  كذا جعلتُ وأخذتُ وعَلِق

يعني قول ابن مالك: هبَّ زيدٌ يفعل، وقام بكرٌ يُنشِد، ذهب أبو الدرداء يقوم، مطابقة.

يعني أنا ما وجدت من عدها من أفعال الشروع، قد توجد، قد تُذكر في المطولات في مثل شرح (المُفصَّل) لابن يعيش وغيره، لكن ما رجعت.

لكن المختصرات، شروح (الألفية) ما فيها شيء من هذا. وعندي أنها مُطابقة، إذا كان ابن مالك عدَّ (هبَّ) و(قام) من هذه الأفعال، فلا أرى ما يمنع من عد (ذهب) في مثل هذا الموضع.

المقدم: من أفعال المقاربة.

نعم.

وفي (إرشاد الساري) وقد روى الطبراني هذا الحديث من وجهٍ آخر، عن محمد بن سيرين مُرسلاً، فعيَّن الليلة التي بات سلمان فيها عند أبي الدرداء، ولفظه: كان أبو الدرداء يُحيي ليلة الجمعة ويصوم يومها. هذا رواه الطبراني عن محمد بن سيرين مُرسل، معروف أن المرسل ضعيف. ولفظه: كان أبو الدرداء يُحيي ليلة الجمعة ويصوم يومها.

وأقول: لعله إن صح هذا الخبر، لم يبلغه النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام. وإلا فالأصل أنه مُرسل، ليس بصحيح.

المقدم: ما يكون يصوم، المقصود بالصيام هنا الخميس، ما يكون الجمعة.

لأن الصيام هذا قبل؟

المقدم: نعم؛ لأن الصوم ثمَّ صنع طعامًا أفطَر وذهبوا ينامون، فتكون النوم ليلة الجمعة، والصيام يوم الخميس.

أو الصيام يوم الجمعة والقيام ليلة السبت.

المقدم: ما جاء النهي عن شيء يخص ليلة السبت. الآن خص ليلة الجمعة وصام يومها..

على كل حال، لا نتكلَّف اعتبار هذا الخبر؛ لأنه ضعيف. والمظنون بأبي الدرداء ومن عرف سيرته أنه كان يصوم صيامًا كثيرًا وقيامًا طويلًا، هذا اللائق به وما عُرِفَ من سيرته.

وأما الخبر هذا، هذا أولاً مُرسَل ومُعارَض بالأحاديث الصحيحة.

قال سلمان مُخاطبًا أبا الدرداء، آمرًا له، ماذا يقول؟

المقدم: نَم.

قال سلمان مخاطبًا أبا الدرداء، آمرًا له على سبيل الالتماس، عند أهل العلم يسمونه، أمر النّد والنظير، يسمونه: التماسًا.

على سبيل الالتماس: نَم، فعل أمر من النوم، وهو غشية ثقيلة تهجم على القلب، فتقطعه عن المعرفة بالأشياء؛ ولهذا قيل هو آفة؛ لأن النوم أخو الموت. آفة، وهي لائقة ومناسبة لنقص البشر؛ ولذا الربُّ- جلَّ وعلا-: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [سورة البقرة 255].

لأن النوم أخو الموت، وقيل: النوم مُزيلٌ للقوة والعقل. وأما السِّنة ففي الرأس، والنُّعاس في العين.

وقيل: السِّنة هي النُّعاس، وقيل: السِّنة ريحُ النوم تبدو في الوجه ثمَّ تنبعث إلى القلب، فينعُس الإنسان فينام. ونام عن حاجته، إذا لم يهتم لها، قاله في (المصباح).

فنام، استجاب- رضي الله تعالى عنه-؛ إكرامًا لأخيه وضيفه، كما فعل في الصيام، نَم فنام، استجاب أبو الدرداء- رضي الله عنه- وإن كان على نفسه شاقًّا. تعرف حال العابد الذي تلذذ بهذه العبادة، لا شك أن مثل هذا شاقٌّ عليه. ولذا لو نام عنه ولو كان بغير اختياره ولو بذل الأسباب وانتفت الموانع، تجده يتحسَّر على مثل هذا.

المقدم: صحيح، وهذا الذي دعى بعض حضورنا في الحلقة الماضية أنهم سألوك فضيلة الشيخ، عن مسألة إذا كان الصائم هو الأب والمُفطِر هو الابن، وقال له: أفطِر من باب إكرامه وما يلحق الوالد. ويعرف الابن أن هذا يلحق الوالد مشقة وضيق صدر في ترك العبادة.

بلا شك أنه يشق عليه مشقة شديدة.

المقدم: وهذا يسأله كثير من الناس يا شيخ، الآن بعض أمهاتهم تكون كبيرة في السن ومُعتادة صيام الاثنين والخميس، فيقول: من باب التخفيف يمنعها أو ربما يقطع عنها بعض الأشياء التي تُخبرها بالوقت أو غيره، كله من باب التخفيف، وهذا يشق عليها، يعرف أنه يدخلها مشقة وحزنًا وألمًا لهذا.

ما فيه شك، لكن مثل هذه الأمور تُعالج بنصوص، يعني لو قال لها: إن النبي- عليه الصلاة والسلام- قال كذا، أو العالم الفلاني الذي تقتنع به قال كذا؛ من أجل أن يُبرِد هذا على قلبها. إذا أقنعها بنص: قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: «مه اكلفوا من العمل ما تطيقون» «إن الدين يسر، ولن يُشاد أحدكم ...» إلى آخره.

المقصود أنه يدخل مثل هذا على قلبها، لا على سبيل الأمر لها، أو بحيث يجعلها تنطق بكلام غير موزون. أحيانًا إذا قيل لكبير السن مثل هذه الأمور، تكلم بكلامٍ قد يضره. لكن إذا أورد عليه نصّ، انتهى.

ثمَّ ذهب أبو الدرداء يقوم كسابقتها، فقال سلمان- رضي الله عنه-: نَم مرةً أخرى، زاد ابن سعد من وجهٍ آخر مُرسل: فقال له أبو الدرداء: أتمنعني أن أصوم لربِّي وأصلي لربِّي؟

المقدم: زاد مَن هذا؟

ابن سعد من وجهٍ آخر مُرسل: فقال له أبو الدرداء: أتمنعني أن أصوم لربِّي وأصلي لربِّي؟

يحصل مثل هذا الكلام؛ لأن الترك شاق، ترك من اعتاد شاق. لكن إنسان في طور المعالجة، في طور معالجة النفس، إذا عرض له أدنى عارض، ارتاح لذلك. كما أن بعض الناس في أموره الواجبة عليه، تجده يلتمس أدنى عذر، ويتمنى أدنى شيء يصرفه عن هذا الواجب، فضلاً عن المُستحبات. فهذا بخلاف من يتلذذ بالعمل.

تجد بعض الناس في أمور دنياه، لا يريد أي عائق يعوقه، حتى إذا توفي له قريب وأرادوا الصلاة عليه في وقتٍ هو الذروة بالنسبة لعمله في أمر الدنيا، طلب أن يؤجل، وجِد هذا، قد تؤجل الصلاة. هذا واقع، ما هو بمسألة افتراض.

وتجده في أمور دينه، سَمِح في أمور دينه. لأدنى سبب تجده يجمع بين الصلاتين، لأدنى عذر مثلاً.

وبينما بعض الناس، بالعكس، وكلٌ على حسب اهتمامه.

يعني بعض الناس يجعل دينه نصب عينيه، يجعل الآخرة نصب عينيه. وبعض الناس يجعل الدنيا أكبر همه.

{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [سورة الليل 4]، لا شك أن هذا واضح في حياة الناس إلى اليوم.

المقدم: لعلنا نكتفي بهذا، فضيلة الشيخ.

على أن نستكمل- بإذن الله- ما تبقى في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب ((الصوم)) في كتاب ((التجريد الصريح)).

لقاؤنا بكم– بإذن الله تعالى- في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.

شكرًا لطيب متابعتكم، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.