شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (043)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم.

المقدم: توقفنا عند قول المؤلف -رحمه الله-:

"وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»."

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أُمرت أن أقاتل الناس»" "وعنه" أي: عن عبد الله بن عمر، صحابي الحديث السابق، وقد سبق التعريف به.

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم على هذا الحديث بقوله: بابٌ {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة 5].

يقول ابن حجر -رحمه الله تعالى-: جَعَل الحديث تفسيرًا للآية؛ لأن المراد بالتوبة في الآية: الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، ففسَّره قوله -عليه الصلاة والسلام-: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» وبين الآية والحديث مناسبة أخرى لأن التخلية في الآية، والعصمة في الحديث بمعنى واحد، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- جعل الحديث تفسيرًا للآية؛ لأن المراد بالتوبة {فَإِن تَابُواْ} في الآية: الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، فيفسِّره قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» ثم بيَّن الحافظ أن هناك مناسبة من وجه آخر، التخلية في الآية: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة 5] خلُّوا سبيلهم هي معنى قوله: «عصموا مني دماءهم» لأن تخلية السبيل يقتضي الترك، والترك وعدم المؤاخذة وعدم القتل هو عصمة الدم والمال.

مناسبة الحديث لأبواب الإيمان من جهة أخرى، وهي: الرد على المرجئة، حيث زعموا أن الإيمان لا يحتاج إلى الأعمال، وهنا رتَّب ترك المؤاخذة، بل رتَّب العصمة على الشهادة، وعلى -أيضًا- إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذه من الأعمال.

يقول الكرماني: وأما تعلُّق هذا الباب بكتاب الإيمان؛ فهو أن يُعلَم منه أن من آمن صار معصومًا، ويحتمل أن يكون من جهة أن يُعلم أن الإقامة والإيتاء من جملة الإيمان، يقول العيني: ذكر الآية والتبويب عليها للرد على المرجئة، وللتنبيه على أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل كما هو مذهبه ومذهب جماعة من السلف، كما هو مذهبه هناك من قبله الكرماني وابن حجر يقررون المسألة على أنها مذهب الإمام البخاري، وهي مذهبهم أيضًا، وهنا العيني يقول: ذكر الآية والتبويب عليها للرد على المرجئة، والتنبيه على أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل كما هو مذهبه، وليس مذهب العيني، لأن العيني حنفي، ومذهب جماعة من السلف، السلف قاطبة على هذا، لكن قال: مذهب جماعة من السلف ليبيِّن أن جماعة آخرين يوافقون المرجئة، وهذا لا شك أنه ليس بدقيق.

قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أُمِرْتُ» على صيغة المجهول، ويبنى الفعل للمجهول للعلم به، كما في قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء 28] للعلم به، كما يبنى أيضًا للجهل به، كما لو قلت: سُرِق المتاع، إذا جهلت السارق تقول: سُرِق المتاع؛ للجهل به، وهنا للعلم به «أُمِرْتُ» لأن الآمر هو الله -سبحانه وتعالى-، لا آمر لنبيِّه -عليه الصلاة والسلام- إلا الله.

والأمر هو قول القائل لمن دونه: افعل، بهذه الصيغة، يقول الكرماني: أصح التعاريف للأمر هو القول الطالب للفعل والمفهوم منه أن الله تعالى هو الآمر له، وكذا إذا قال الصحابي: أُمِرْنا بكذا، فهم منه أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- هو الآمر له، فإن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فُهِم منه أن الرئيس أمره به، يعني شخص عُرِف بخدمة رجل، عامل عند رجل، فقال: أُمِرْت أن أعمل هذا العمل، مَن الآمر له؟ المخدوم.

وقال ابن حجر: «أُمِرْتُ» أي أمرني الله؛ لأنه لا آمر لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أُمِرْتُ، فالمعنى أَمَرَني رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر؛ لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل.

ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر؛ لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، هل الصحابة كلهم مجتهدون؟ لا، الصحابي إذا أورد خبرًا عن حكم شرعي وقال: أُمِرْنا بكذا.

المقدم: الأصل الرفع.

بلا شك؛ لأنه لا آمر في هذه الأمور، في أمور الشرع إلا النبي -عليه الصلاة والسلام-، مَن له الأمر والنهي، لا ينصرف الأمر والنهي في الشرعيات إلا لمن له الأمر والنهي، وهو الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وهذا قول أكثر العلماء، خلافًا لأبي بكر الإسماعيلي وأبي الحسن الكَرْخِي حيث قالا: حكمه الوقف؛ لاحتمال أن يكون الآمر غير الرسول -عليه الصلاة والسلام- كأبي بكر أو عمر وغيرهما ممن تولَّى على الصحابة ولو في غزوة، له نوع سلطة، وله أمر ونهي، لكن في الشرعيات، أُمِرْنا باتباع الجنائز.

المقدم: أمرنا بالتكبير...

نعم، أمرنا وأمرنا، الصحابة كثير، أم عطية تقول: أمرنا بإخراج العواتق والحُيَّض، هل يأمرهم غير الرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ المسألة شرعية.

يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:

قول الصحابي: مِن السنة أو
بعد النبي قاله بأعصرِ

 

 

نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
على الصحيح وهو قول الأكثرِ

هذا قول الحافظ العراقي، وهو قول الأكثر على ما ذَكَر.

والتعبير عن صيغة الأمر بأمرنا ونحوه يفيد الوجوب، إذا قال الصحابي: أُمِرْنا أو نُهِيْنا، أو قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذا قال: أمرنا أو نهينا عرفنا أن الأكثر على أنه مرفوع، ولا عبرة بقول من خالف؛ لأن الاحتمال المقابل ضعيف، إذا قال الصحابي: أَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل فيه احتمال أن يكون الآمر غيره؟ ما فيه احتمال، لكن دلالة هذه الصيغة على الأمر، هل قوله: أَمَرَنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، أو نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثابة: افعلوا أو لا تفعلوا؟ الأمر الصريح والنهي الصريح؟ لكن لو قال الصحابي: أَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما موقفنا؟ نأتمر أو ما نأتمر؟

المقدم: بلا شك.

إذا قال: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ننزجر أو ما ننزجر؟ ننزجر، لا شك أن الأمر الصريح (افعل) والنهي الصريح (لا تفعل) هما الأصل في الباب، لكن إذا عَبَّر الصحابي عن هاتين الصيغتين بأَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نهانا، فجماهير الأمة على أنهما سواء، قول الصحابي في هذا مُلزِم، هل نقول: ننتظر إذا قال الصحابي: أمرَنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ننتظر حتى يقول الصيغة النبوية للامتثال؟ لا، ما يحتاج، خالف في هذا داود الظاهري وبعض المتكلمين قالوا: لا يدل على الأمر ولا على النهي؛ لماذا؟ لاحتمال أن يكون الصحابي سمع كلام فظنه أمر أو نهي، وهو في الحقيقة ليس بأمر ولا نهي، لكن هذا الكلام له حظ من النظر؟ إذا كان الصحابة لا يعرفون مدلولات الألفاظ الشرعية مَن يعرفها؟! لا أحد يعرفها، الصحابة الذين عاشوا مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، وعرفوا مقاصده ومقاصد الشرع إذا تكلم النبي -عليه الصلاة والسلام- وعبَّروا عنه، فهموا أن هذا أمر وهذا نهي، نقول: لا، حتى ينقل اللفظ النبوي؟! هذا الكلام لا حظ له من النظر.

السائل: أحسن الله إليكم يا شيخ، لكن عند التعارض بين النصين في أحدهما أمرنا، وفي النص الآخر الأمر الصريح ألا يكون ذلك مرجِّحًا لأحد النصين على الآخر؟

الأصل في الأمر صيغة (افعل) هذا الأصل، والأصل في النهي صيغة (لا تفعل) هذا الأصل، وإذا عبَّر الصحابي، الصحابة كلهم عدول ثقات ضابطون، وليسوا بمعصومين كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، فإذا عبر الصحابي وفهم من هذا النص أنه أمر لا يساوِرُنا أدنى شك في أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أَمر، وقال: افعلوا، ومثله لو قال الصحابي: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يساورنا أدنى شك في أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: لا تفعلوا، وعبَّر عنه الصحابي.

وعند التعارض يُسلَك المسالك المعروفة في التعارض بين النصوص، فلا يُلجَأ إلى الترجيح حتى نَفقِد جميع وجوه الجمع بين النصوص، لو افترضنا أن في البخاري مثلاً أمرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي غيره افعلوا كذا، أو لا تفعلوا، هنا أمرَنا وهنا لا تفعلوا، ماذا تقول؟ لأنه يُتصوَّر التعارض، كيف يُتصوَّر التعارض؟ يُتصوَّر لو جاء افعلوا مع النهي الصريح، أو التعبير عن النهي افعلوا ونُهينا، هنا يتصور التعارض، لكن لو جاءنا نص قال: افعلوا بالأمر الصريح ونص آخر أُمِرْنا.

المقدم: ما فيه تعارض.

ما فيه تعارض أصلاً، كما في قول عائشة كما في مقدمة صحيح مسلم: «أُمِرْنا أن ننزِّل الناس منازلهم» في سنن أبي داود وغيره: «أَنزلوا الناس منازلهم» هل فيه تعارض؟ ما يُتصوَّر هنا تعارض.

«أن أقاتل» أي بأن أقاتل، وحذف الجار من (أن) كثير شائع سائغ مطَّرد، و(أن) مصدرية، تقديره بمقاتلة الناس، «الناس» المراد بهم عبدة الأوثان دون أهل الكتاب؛ لأن القتال يسقط عنهم بقبول الجزية.

قال الكرماني: فإن قلت: فلِمَ خُصُّوا بالعبدة؟ يعني بعبدة الأوثان «أُمِرْت أن أقاتل الناس» لماذا خصَّصْناهم بعبدة الأوثان وأخرجْنا أهل الكتاب؟ يقول الكرماني: قلت: لأن الأدلة الخارجية مثل قوله: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} [سورة التوبة 29] دلت عليه، وقال الطيبي: هو من العام الذي خُصَّ منه البعض؛ لأن القصد الأول من هذا الأمر حصول هذا المطلوب؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات 56] هذه الحكمة من خَلْق الجن والإنس العبادة، فإذا تخلَّف منهم أحد في بعض الصور لعارِض لا يقدح في عمومه، ألا ترى أن عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط المقاتلة، وتثبت العصمة، فالحديث «الناس» (أل) هذه أصلها للجنس، وهي مفيدة للعموم، لكن خُصَّ منه أهل الكتاب إذا أَدَّوا الجزية، كما أنه خص منه بعض عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم، هذا كلام الطِّيْبِي.

وقال أيضًا: يجوز أن يعبَّر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله، أن يكون المقصود من الحديث أُمِرْت أن أقاتل الناس حتى تعلو كلمة الله، فيكون على ما قال الطيبي يجوز أن يعبَّر بمجموع الشهادتين، وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله، وإذعان المخالفين، فيحصل في بعضهم بذلك بشهادتي أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وفي البعض بالجزية، وفي الآخرين بالمهادنة، ما الفرق بين قوله الأول وبين ما جوَّزه ثانيًا؟ هناك في قوله الأول أهل الكتاب والمعاهَدون خرجوا من النص بأدلة خاصة، خارجية، وتجويزه في الثاني يريد أن يجعل النص يشمل بعمومه الجميع عبدة الأوثان، ويدخل فيهم المعاهَد وأهل الكتاب، فالنص شامل، ويكون المراد: أمرت أن أقاتل الناس حتى تعلو كلمة الله، فيكون مفهوم الحديث حتى تعلو كلمة الله، وعلو كلمة الله إما بالإقرار بما ذُكر وعمل ما نُصَّ عليه في الحديث، أو بأداء الجزية، أو بالمعاهَدة، لكن هذا القول لا شك أنه فيه بُعد، هذا التجويز فيه بُعد؛ لأن فيه أشياء منصوصة ومفصلة «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا» ويشهدوا ويفعلوا أمور منصوص عليها، فكيف نجوِّز أن يكون المجموع هذا المذكور المنصوص عليه بمفرداته عبارة عن أمر عام يدخل فيه الأنواع الثلاثة؟

وقال -يعني الطيبي- أيضًا: الاحتمال قائم في أن ضرب الجزية كان بعد هذا القول، يكون حديث الباب قبل فرض الجزية، قال الكرماني: أقول: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، فلا شك أن ضرب الجزية لا سيما بالنسبة لمن لا يستطيعها مما يجعله يدخل في الإسلام، فيقول: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، وهذا نظير الصلح صلح الحديبية لَمَّا كان سببًا للفتح صار فتحًا، الله -سبحانه وتعالى- سمَّى الصلح فتحًا، ونزل فيه قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [سورة الفتح 1] يقول: فكأنه قال: حتى يسْلموا أو يعطوا الجزية، فاكتفى بما هو المقصود الأصلي من خلق الخلائق، أما المقصود من القتال هو وما يقوم مقامه، نحو: أخذ الجزية، أو من الإسلام هو وما يقوم مقامه نحو إعطاء الجزية، وكل هذه التأويلات لِمَا ثبت بالإجماع أن الجزية مسقطة للمقاتلة.

«حتى يشهدوا» جُعلت غاية المقاتلة وجود ما ذُكر، فمقتضاه أن من شَهِد وأقام وآتى عُصِم دمه ولو جَحَد باقي الأحكام، قال ابن حجر: الجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: «إلا بحق الإسلام» يدخل فيه جميع ذلك، لا يقول قائل: أنا أكتفي بما ذُكر ليُعصَم دمي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقيم الصلاة، وأدفع الزكاة، ثم الباقي ليس بلازم؛ لأنه لم يُنَص عليه في الحديث، فلا أصوم، ولا أحج، ولا أبر الوالدين، ولا أصل رحم، ولا أفعل شيء من الواجبات، ولا أترك شيء من المحظورات، يقول: هذه كافية في عصمة الدم.

يقول ابن حجر: الجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، يعني جميع ما جاء به مع أن نص الحديث وهو قوله: «إلا بحق الإسلام» يدخل فيه جميع ذلك، فإن قيل: فلِمَ لم يكتفِ به ونَصَّ على الصلاة والزكاة؟ يعني ما اكتفى بقوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك -أو فإذا قالوا ذلك- عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام» فإن قيل: فلِمَ لم يكتفِ به ونَصَّ على الصلاة والزكاة من بين بقية الواجبات؟ فالجواب أن ذلك لعظمهما، والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أُمَّا العبادات البدنية والمالية.

«حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» أي لا معبود بحق إلا الله -سبحانه وتعالى-، فلا إله تنفي جميع ما يُعبَد من دون الله، وإلا الله تُثبِت العبادة لله وحده، لا شريك له «وأن محمدًا» -صلى الله عليه وسلم- «رسول الله» حقًّا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فلا بد من الإقرار والإذعان واعتقاد أن لا معبود بحق إلا الله -سبحانه وتعالى-، وألا يُصرَف شيء من حقوقه لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، وأن يذعن العبد، ويقر ويعترف ويعتقد أن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- رسول الله، وأنه عبد لله، ومرسل من قِبَله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سورة سبأ 28].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أُرسلْتُ به إلا كان من أصحاب النار» خرَّجه الإمام مسلم وغيره، والأدلة على عموم رسالته -عليه الصلاة والسلام- إلى الناس أجمعين لا يمكن حصرها، ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- رسالة مختصَرة أسماها: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة، فلتراجع.

«ويقيموا الصلاة» يقول الكرماني: معنى إقامة الصلاة إما تعديل أركانها، حفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، مِن أقام العُوْد إذا قَوَّمه، وإما الدوام عليها، من قامت السوق إذا نَفَقَت، وإما التجلد والتشمُّر في أدائها، من قامت الحرب على ساقها، وإما أداؤها تعبيرًا عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام بعض أركانها، هذه احتمالات في معنى إقامة الصلاة، إما تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع خلل في الفرائض والسنن والآداب، يعني تامة من كل وجه، مِن أقام العُوْد إذا قوَّمه.

الاحتمال الثاني: من الدوام عليها، من قامت السوق إذا نَفَقَت، وأما من التجلُّد والتشمُّر في أدائها من قامت الحرب على سُوقها وعلى ساقها، وأما أداؤها، يعني مجرد أدائها يسمى إقامة، تعبيرًا عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام بعض أركانها من باب التعبير بالجزء عن الكل، والمراد بالصلاة المفروض منها لا جنسها، هل يطالَب إذا أقام الصلاة المفروضة يطالَب بفعل النوافل حتى يُعصَم دمه؟ يعني هل عصمة الدم متوقفة على فعل النوافل؟

المقدم: لا.

نعم، في الفرائض، فالمراد بالصلاة المفروض منها للجنس، فلا يدخل في ذلك النوافل، ولا ما اختُلِف في وجوبه، يقول ابن حجر: فلا تدخل سجدة التلاوة مثلاً وإن صدق اسم الصلاة عليها، على أن في سجدة التلاوة خلاف بين أهل العلم هل هي صلاة أو ليست صلاة؟ يعني هل يشترط لها ما يُشترَط للصلاة أو لا يُشترَط؟ مسألة معروفة عند أهل العلم، لكن لو مثَّل بغير ذلك، لو قال: الوتر مثلاً، أو صلاة العيد عند من يقول بوجوبها كالحنفية، على أن سجدة التلاوة عند شيخ الإسلام واجبة، لكن مع الخلاف في وجوب هذه الأمور لا تتوقف عصمة الدم عليها.

«ويؤتوا الزكاة» أي المفروضة، فيعطوها لمستحقيها «فإذا فعلوا ذلك» أي قالوا وشهدوا، وأُطلِق على القول فعل لأنه فعل اللسان، أو هو من باب تغليب الاثنين على الواحد؛ لأن عندنا في المنصوص عليه في الحديث ثلاثة أشياء.

المقدم: الأول قول يشهد.

الأول قول، والثاني والثالث.

المقدم: فعل الصلاة والزكاة.

فعل، فإطلاق الفعل هنا من باب التغليب الاثنين على الواحد.

«عصموا» أي حفظوا ومنعوا، وأصل العصمة من العصام، وهو الخيط الذي يُشَد به فم القربة؛ ليمنع سيلان الماء.

«مِنِّي دماءهم وأموالهم» فلا تُهدَر دماءهم، ولا تُستَباح أموالهم بعْد عصمتهم بسبب من الأسباب «إلا بحق الإسلام» من قتل نفس، أو حَدٍّ، أو غرامة مُتْلَف، أو ترك صلاة، فالاستثناء مفرَّغ من أمر عام؛ لأن ما قبله مؤوَّل بالنفي «إلا بحق الإسلام» يعني الذي جاء الإسلام بأن هذا الأمر مهدِر للدم، فيكون من حق الإسلام، إضافة إلى ما ذُكِر، فإذا ارتكب الإنسان قَتْل، قَتَل نفس معصومة يُقتَل وإلا ما يُقتَل؟ يُقتَل، صار له عصمة أو ما صار له عصمة؟

المقدم: لا.

نعم، ليست له عصمة، دمه لا شك أنه مُستحَق بحق الإسلام، ومثله عصمة المال لو أَتلَف شيئًا لآدمي لا بد من غرامته، فلم يُعصَم ماله لأنه أَتلَف حق الغير، وقد جاء الإسلام بأن من أَتلَف شيئًا غرمه، فهذا من حق الإسلام.

يقول: فالاستثناء مفرَّغ من أمر عام؛ لأن ما قبله مؤوَّل بالنفي.

المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ، لعلنا نستكمل ما تبقى حول هذا الحديث -بإذن الله- في حلقة قادمة.

 

مستمعيَّ الكرام، انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لنا بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.