كتاب الصلاة من المحرر في الحديث - 19

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في كتاب المحرر:

وعن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وحسنه، وهو مما ألزم الشيخان تخريجه، ورواه البيهقي، وزاد فيه في بعض رواياته بعد واليت: "ولا يعز من عاديت".

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة.

وفي رواية: وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام. رواه مسلم.

وروى عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى.

يكفي، يكفي.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعن الحسن بن علي -رضي الله عنهما-" يعني بعد أن ذكر القنوت -قنوت النوازل- ناسب أن يذكر القنوت في الوتر، وإلا فالأصل أن هذا الحديث يؤخر إلى صلاة التطوع في الوتر.

"وعن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في الوتر" كلمات يراد بها الجمل، فالجملة يطلق عليها كلمة.

...................................

 

وكلْمة بها كلام قد يؤم
ج

يعني قد يقصد، يقصد بالكلمة الكلام، وكلمة التوحيد: لا إله إلا الله يعني جملة، وأصدق كلمة قالها الشاعر:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

 

 

...................................
ج

 قول لبيد، فالمقصود بالكلمات هنا جمل ودعوات، وكل دعوة بجملة مستقلة.

"أقولهن في قنوت الوتر" في قنوت الوتر، الوتر محل للقنوت، وعلى خلاف بين أهل العلم في ثبوته، فمنهم من لا يثبته ألبتة؛ لأنه ما حفظ أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قنت في الوتر، ومنهم من يقول: القنوت في وتر رمضان فقط، ومنهم من يقول: في النصف الأخير من رمضان، كما كان بعض السلف يفعله، ومنهم من يقول: إنه مشروع مطلقاً في الوتر، وعليه يدل حديث الباب.

"كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت" اللهم أصلها يا الله، حذفت ياء النداء، وعوض عنها بالميم المشددة.

"اهدني فيمن هديت" يعني اجعلني من ضمن المهديين الذين مننت عليهم بالهداية، ووفقتهم لقبول ما جاء عنك على لسان نبيك -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الهداية هنا يراد بها هداية التوفيق، أما الدلالة فقد حصلت، الدلالة والإرشاد حصلت، وإن كانت بحسب بلوغها للشخص، حصولها نسبي، لا يمنع أن يقول الإنسان: اللهم اهدني، يعني دلني على ما يخفى عليه مما يكون سبباً لهداية التوفيق، فينضوي في ذلك الهدايتان؛ لأن الدلالة والإرشاد حصلت على أبلغ وجه وأكمله من الله -جل وعلا-، وبلغ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ذلك البلاغ المبين، لكن بلوغ هذا المُبلّغ إلى كل فرد فرد من المكلفين يتفاوتون فيه تفاوتاً عظيماً، ولذلك ينبغي لطالب العلم إذا استشكل عليه مسألة وبحثها أن يدعو بالدعاء المأثور في صلاة الليل، ما كان يقوله النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك)) يعني دلني على الصواب في هذه المسألة؛ لأنه قد تكون جميع الأدلة بين يدي طالب العلم، قد تكون جميع الأدلة، جميع أدلة المسألة بين يديه، وجميع الأقوال لأهل العلم مبسوطة بين يديه، ومع ذلك لا يستطيع الترجيح، لا لتقصيره، استقصى، بل قد يكون لقصوره، وقد يكون من أذكى الناس وأعرفهم وأعلمهم بالمقدمات الموصلة للنتائج الصحيحة، ومع ذلك يستغلق عليه الوصول إلى القول الراجح في مسألة من المسائل، فهو يطلب الهداية لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فالهداية بجميع أنواعها تدخل في قوله: "اللهم اهدني فيمن هديت".

"وعافني فيمن عافيت" المعافاة من خير ومن أجمع ما يسأله المسلم ربه -جل وعلا-، وجاء من حديث أبي بكر وغيره سؤال العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة؛ لأن العافية -كما تسمعون مراراً- لا يعدلها شيء، العافية في البدن يتحقق للإنسان أن يهنأ بعيشه في هذه الدنيا، العافية في الدين تكون سبباً لوصوله إلى مرضاة الله وجناته، العافية في العقل، العافية في العلم، يسأل الله -جل وعلا- أن يعافيه في جميع ذلك، فلا يتتبع الشواذ، ولا يزيغ عن الجادة، فيكون معافى من هذه الأمور، وقد يعرض الإنسان نفسه في القول في مسألة لم يسبق إليها، فيقتدى بها، فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها، ولذا يكرر أهل العلم: العافية لا يعدلها شيء، والسلامة لا يعدلها شيء.

"عافني فيمن عافيت" يعني من ضمن من عافيت، والعافية قلنا: إنها شاملة لكل ما تطلب له، ومن ذلك عافية البدن، وإذا كانت العافية معناها ألا يصاب بما يخرجه عن حيز الاعتدال في الصحة، فإن إخراجه عن حيز الاعتدال خير له، المصائب لا شك أنها خير للمسلم، فإنها تكفر الذنوب، وتحُت الذنوب كما تحت الشجرة ورقها، وتحط الخطايا، فكيف يسأل الإنسان زوال ما هو خير له؟! وإذا مرض سأل الله الشفاء، وبذل الأسباب للشفاء، والمرض لا شك أنه مكفر، وهذا مثل ما جاء في الحديث: ((لا تسألوا لقاء العدو)) وإن كان فيه الشهادة التي هي من أعظم المطالب بالنسبة للمسلم، وفيها أعظم تكفير للذنوب، وتكفر كل شيء إلا الدين، ومع ذلك لا يسأل، فالإنسان لا يسأل المصيبة، ولا يسأل البلية، ولا يسأل الفتنة؛ لأنه لا يدري ما النتيجة؟ لا يدري، يمكن يسأل الله لقاء العدو ثم بعد ذلك ينحرف، ويقتل على غير هدى، نسأل الله العافية، وقد يسأل البلاء ولا يصبر عليه، فيكون ذلك وبالاً عليه، فسؤال مثل هذا لا يجوز، والعافية مطلوبة، عافية البدن مطلوبة؛ لماذا؟ لأن بها تتحقق العبودية، الإنسان لا يستطيع أن يطلب الله -جل وعلا- على الوجه المطلوب إلا إذا عافاه في بدنه، لكنه إذا ابتلاه أعظم له الأجر، وكفر عنه الذنوب، فإذا كان سؤاله العافية من أجل أن يحقق العبودية التي من أجلها خلق هذا مطلوب، أيضاً إذا سأل الله العافية وفي نيته من سؤال العافية تحقيق العبودية إضافة إلى الشكر على هذه العافية فلا شك أنه على خير عظيم، يعني الإنسان جرب كيف يكون مزاجه وهو يصلي سليم معافى ومزاجه ونفسيته وهو يصلي على شيء من التعب، هو مأجور على هذا التعب، لكن تحقيق العبودية إنما يكون تمامه مع العافية، وليس من يصلي وهو قائم كمن يصلي وهو جالس، يعني لولا المبرر لولا العذر لولا المرض قلنا: صلاة الفريضة باطلة، إذاً العافية أكمل، هذا هو الأصل، لكن إذا حصل المرض، وحصلت المصيبة وصبر عليها الإنسان أجر عليها، وكفرت بها خطاياه وذنوبه؛ لأن هذا موطن فيه شيء من الإشكال، وأورده ابن القيم -رحمه الله- في الجواب الكافي، كيف يسأل ويدعى بكشف المرض الذي هو خير للمسلم؟ يعني المسلم مثل خامة الزرع كما جاء في الحديث الصحيح، كخامة الزرع، يعني سهل تقلبه الرياح وتسفه مرة كذا ومرة كذا، تميله عن حيز الاعتدال الذي هو تمام الصحة، بينما الكافر مثل الأرزة ثابت معتدل إلا أنه إذا انتهت مدته وآل أمره إلى شر عظيم -نسأل الله العافية- بخلاف المسلم، هذه الرياح التي تسفه يميناً وشمالاً تكفر خطاياه حتى يوافي ليس عليه خطيئة، فلا شك أن طلب العافية بالنسبة للمسلم حسب ما يقر في قلبه، إن كان طلب العافية ليعبد الله -جل وعلا- على مراده، وشَكَر هذه النعمة لا شك أنه على خير عظيم، لكن إن طلب العافية ليتقوى بها على أمر من أمور الدنيا، فليس له إلا ما نوى، إن طلب العافية ليتقوى بها على معصية هذا أيضاً ليس له إلا ما نوى، وهذا إلى الاستخفاف بالله -جل وعلا- أقرب منه إلى الدعاء والانكسار بين يديه.

يقول: هل تكفير الذنوب بسبب المصيبة يشترط الصبر والاحتساب؟

الأكثر على هذا، على أن الذي لا يصبر لا أجر له ولا تكفير لذنوبه، مع أن النصوص جاءت تحث على الصبر على جهة الاستقلال، وجاءت تحث على الصبر مع المرض {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} [(156) سورة البقرة]... إلى آخره.

وجاءت أيضاً جاءت المصائب، وإثبات الأجور عليها غير مقترن بصبر، وهذا ما جعل بعض أهل العلم يرجح أن التكفير للذنوب يحصل بمجرد المصيبة صبر أو لم يصبر، وهذا اختيار ابن حجر، وأجر الصبر قدر زائد على ذلك، وفضل الله واسع.

"وتولني فيمن توليت" إذا تولاه الرب -جل وعلا- بعنايته، وأحاطه بها فلن يستطيع أحد أن يوصل إليه شيء من الأذى.

"وبارك لي فيما أعطيت" الله -جل وعلا- أعطى ورزق، وأعطى كل إنسان ما هو خير له، وإن كان فيما يظهر للناس أن هذا التفاوت بين الناس في الأرزاق بعض الناس أغنياء وبعضهم فقراء، وبعضهم متوسط الحال، فالله -جل وعلا- هو المعطي، والعبد إنما هو قاسم، والمال مال الله ليس لأحد {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ} [(33) سورة النــور] لكن ما الذي يدري هذا الفقير أنه لو اغتنى لضل بسبب هذا المال؟ {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [(6-7) سورة العلق] فبعض الناس الفقر خير له، ولا يدري ما المصلحة والخيرة؟ الخيرة فيما يختار الله -جل وعلا-.

"بارك لي فيما أعطيت" قد يقول: أنا ما أُعطيت شيء على شان يبارك أو ما يبارك، مع أن مثل هذا مأمور بأن ينظر إلى من دونه، لا أن ينظر إلى من فوقه، وذلك لأن النظر إلى من فوقه، كما هو حال كثير من الناس اليوم يجعل الإنسان يزدري نعمة الله عليه، يقول: أنا ما أعطيت شيء، فعلى الإنسان أن ينظر إلى من دونه في أمر الدنيا.

"بارك لي فيما أعطيت" وتجد الإمام في القنوت يقول: "وبارك لنا فيما أعطيت" بعض الناس يقول: أنا ما أعطيت شيء على شان..؛ لأنه ازدرى نعمة الله عليه؛ لأنه لم ينظر إلى من دونه، تجد هذا الإنسان الذي يقول: ما أعطيت عنده زوجة، وعنده أولاد، وعنده طعام، وعنده بيت، لكن الإشكال أن نظره طافح إلى فلان الغني، فلان الثري، فلان صاحب القصور، فلان صاحب السيارات، فلان صاحب المناصب، هذا الذي جعله يقول مثل هذا الكلام، لكن لو نظر إلى أناس ينامون على الأرصفة، وأناس على السرر في المستشفيات، وناس من ذو عقود معوقون لا يستطيعون الحراك لشكر الله -جل وعلا- على ما أولاه وأعطاه من نعم، وما يدريه أنه لو زادت عليه هذه النعم لضل بسببها، ولشقي بها، يمكن يشقى بها في دنياه قبل آخرته.

"وبارك لي" يعني اجعل البركة فيما أعطيتني قليلاً كان أو كثيراً، اجعل فيه البركة، وإذا حلت البركة فحدث ولا حرج، ولو كان شيء يسير، يعني لو ولد واحد يجعل فيه البركة خلاص يملأ عليك الدنيا كلها، لكن عندك عشرين ولد بدون بركة هؤلاء شقاء، لو عندك درهم واحد مبارك انتفعت به، ونفعت به غيرك، لو عندك المليارات بدون بركة لصارت وبال عليك، ولذا يطلب منك أن تقول: "وبارك لي فيما أعطيت".

"وقني شر ما قضيت" الله -جل وعلا- يقضي على عباده، وقدر عليهم المقادير قبل أن يخلقهم، وقدر عليهم ما يسرهم وما يتضررون به، وما يسوؤهم، لكن ليعلم المرء أنه لا يوجد شر محض ((والشر ليس إليك)) إنما هذا الشر الذي قدر عليك ووقع بك هو بالنسبة لك خير وعجب من أمر المؤمن إن أمره كله خير، إن ابتلي فصبر كان خيراً له، وإن عوفي فشكر كان خيراً له، فأمر المسلم كله خير، وفي قوله: "وقني شر ما قضيت" هذا يطلب قبل حصوله، قبل حصول المقضي، لكن بعد حصوله هذا مما يُدفع به، وهناك ما يرفع به بعد حصوله، يرفع بالدعاء أيضاً، وبذل الأسباب الشرعية والحسية، ومع الصبر والاحتساب الذي يترتب عليه الأجر العظيم.

"فإنك تقضي ولا يقضى عليك" القضاء والقدر كله لله -جل وعلا-، فالله -جل وعلا- هو الذي يقضي، وهو الذي يقدر {وَقَضَى رَبُّكَ} [(23) سورة الإسراء] والقضاء والقدر إنما هو لله وحده -جل وعلا-، وما يكون من وسائط وأسباب ووسائل من المخلوقين فإنما هم مجرد وسائط يؤدون للخلق ما أعطاهم الله -جل وعلا-، وليس لهم من ذلك شيء، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا قاسم والله المعطي)) فالله -جل وعلا- هو الذي يقضي ولا يقضى عليه، هو الذي يتصرف في خلقه ولا يتصرف فيه أحد.

"إنه لا يذل من واليت" من كان ولياً لله -جل وعلا- رفعه الله -جل وعلا- بحيث لا يستطيع أحد إذلاله، أولياء الله -جل وعلا- العزة لهم، فلا يستطيع أحد أن يذلهم، وجاء بعد هذه الجملة عند البيهقي: "ولا يعز من عاديت" عدو الله -جل وعلا- ذليل، سواء كان عدو معاداة تامة بالكفر والجحود، أو فيه شيء مما يغضب الله -جل وعلا- من الفسق والمعاصي والفجور فهي ذل على صاحبها.

يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "فإنهم وإن طقطقت بهم البراذين، وهملجت بهم البغال، فإن ذل المعصية لا يفارقهم" يعني مهما ظهروا به من مظهر من أبهة وتعالي وارتفاع على الناس، فإن هذا هم في حقيقة أمورهم في شقاء وذل، وتجد الإنسان وإن كان مطاعاً مهاباً بجيوشه وبعدته وعتاده إلا أنه ذليل لأحقر حراسه؛ لأن هذا الحارس الذي عند الباب يستطيع أن يمكن العدو الذي يقتله، ولذلك يقول بعض أهل العلم: إن الملوك عبيد لعبيدهم، فهل هذا ملك يتشبث به؟! والله المستعان.

وإذا عرفنا الجزاء الأوفى عند الله -جل وعلا- لآخر من يدخل الجنة ويخرج من النار أن يتمنى مُلك أعظم ملك في الدنيا، فيقال: لك مثله، ومثله، ومثله، وعشرة أمثاله "هذا وأدناهم وما فيهم دني" هذا يمكن أدنى أهل الجنة منزلة، عشرة أمثال ملك ذي القرنين، أو هارون الرشيد، أو أعظم ملك في الدنيا، ويأتي من يملك حفنة من الناس، أو شبر من الأرض، ويسوم الناس سوء العذاب، ويترفع عليهم ويتعالى، وإذا وقع الذباب على أنفه ما استطاع أن يصنع شيئاً، والله المستعان.

"إنه لا يذل من واليت" وفي رواية البيهقي: "ولا يعز من عاديت".

"تباركت ربنا وتعاليت" والفعل بهذه الصيغة لا يصرف إلا لله -جل وعلا-، يقال: فلان مبارك لما يرى من أثره المنتشر المتعدي؛ لكن لا يقال: تبارك فلان، لا، هذا خاص بالله -جل وعلا-، وتعالى أي: ارتفع، فله العلو المطلق بأنواعه: علو القدر، وعلو الذات، وعلو القهر، كل أنواع العلو لله -جل وعلا-.

يقول: "رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وحسنه، وهو مما ألزم الشيخان تخريجه" الأصل في مثل هذا الإلزام الذي يلزم هو الدارقطني في الغالب؛ لأن له الإلزامات، وأيضاً صنيع الحاكم في المستدرك نوع من الإلزام، صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وأنا أخرج أحاديث احتج بمثلها الشيخان، المقصود أن هذا الإلزام الذي يظهر أنه من الدارقطني، وأنا ما وفقت عليه، لكن يراجع؛ لأنه قال: "وهو مما ألزم الشيخان تخريجه" وللحافظ الدارقطني الإلزامات، وله أيضاً التتبع.

يقول: "ولا يُعز من عاديت" بضم الياء أم بفتحها؟

لا، هو من (عز) الثلاثي يَعِز.

يقول: "ورواه البيهقي، وزاد فيه في بعض رواياته بعد واليت: "ولا يعز من عاديت" ويكثر القلب في هاتين الجملتين من بعض الأئمة الذين لا يستحضرون قلوبهم أثناء الدعاء، سمعناها كثيراً مقلوبة، ولا شك أن هذا خلل، يعني لو قصد أبطل الصلاة.

قال بعد ذلك: "وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بإصبعه بالسبابة" قدم اليسرى في الذكر لأنها ليس لها متعلق، تقدم اليسرى وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى انتهت، انتهى ما يتعلق باليسرى، لكن لو قدم اليمنى بمتعلقاتها، ثم أخر اليسرى على الآخر قد يتركها بعض الرواة؛ لأنه ليس لها ما يذكر بها، والكلام إذا طال قد يترك بعض الأمر المهم فيه، يعني تجد مثلاً من يذكر: "قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعهم إلى يوم الدين- ينسى "وسلم" كما فعل مسلم، مع أنه لا يتم الامتثال بالصلاة فقط، فإذا أطال الكلام نسي الشيء اليسير، لكن لو قال: وصلى الله وسلم إلى آخره ما نسيها، ولذلك يقدم الشيء المختصر خشية أن ينسى؛ لأنه ليس له متعلقات.

"وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى" وانتهت، هذا وضع اليسرى ممدودة الأصابع، أو كأنها مرسلة يعني بعض أطراف الأصابع مرسلة على الركبة.

"على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى" لو انتهى الحديث عند هذا قلنا: وضع اليدين واحد؛ لكن في قوله: "وعقد ثلاثة وخمسين" وهذه طريقة حسابية شرحها بالتفصيل الحافظ ابن حجر، ونقله الصنعاني في سبل السلام بالتفصيل يعني من واحد إلى ألف بالأصابع، لكن مع ذلك بل الألوف؛ لأن كل أصبع له مهمة، وكل لوية من لويات الأصبع أيضاً تدل على عدد معين، وعلى كل حال مثل هذه الطريقة مهجورة، ولذلك لا تجد من يعتني بها، حتى من يشرح هذا الحديث من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين لا يهتم لبيانها؛ لأنها مهجورة، إلا بقدر ما يوضح الصورة التي عندنا.

"وعقد ثلاثة وخمسين" في شرح النووي على مسلم يقول: شرطه عند أهل الحساب، شرط ثلاث وخمسين عند أهل الحساب أن يضع طرف الخنصر على البنصر، كيف؟ يضع طرف الخنصر على البنصر هكذا، لكن هل هذه مراده في الصورة؟ في التشهد مرادة؟

يقول: "شرطه عند أهل الحساب أن يضع طرف الخنصر على البنصر وليس ذلك مراداً هنا، بل المراد أن يضع الخنصر على الراحة هكذا على الراحة، ويكون على الصورة التي يسميها أهل الحساب تسعة وخمسين، يقبض الإصبعين، فهو قبض أصابعه كلها، مقتضى الصورة في الرواية الثانية توضحها.

"أشار بإصبعه بالسبابة" وفي رواية: "وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام" يعني قبض الأصابع كيف يقبض الأصابع؟ هكذا، وأشار بالإصبع، وفي بعض الأحاديث في بعض الروايات، وفي بعض الأحاديث أنه حلق بإبهامه مع الوسطى، وأشار بالسبابة، السبابة هي التي تلي الإبهام كما في بعض الروايات، هي السبابة وهي السباحة، فسبابة لأن الذي يسب غيره يستعملها، وهي سباحة هي التي يسبح بها.

"وأشار بإصبعه بالسبابة" وفي رواية: "وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام" رواه مسلم" والروايات كلها صحيحة، واختلافها اختلاف تنوع، يعني مرة يفعل هكذا يضم الأصابع، ومرة يحلق بالإبهام والوسطى.

"رواه مسلم".

"وروى عن عبد الله" وروى مسلم أيضاً "عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه" يعني جاء في القعود في الصلاة الافتراش بأن يفترش اليسرى وينصب اليمنى، وجاء أيضاً من حديث ابن عباس السنة الإقعاء نصب القدمين، وجاء أيضاً التورك، بإدخال الرجل اليسرى تحت ساقه اليمنى، وجاء أيضاً هذه الصورة، جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، هذه صورة، لكنها شاقة على كثير من الناس، يعني البدين لا يستطيع أن يصنعها، نضو الخلقة ممكن.

على كل حال من أهل العلم من يقول: إن بين هذه معناها تحت لتتفق الروايات ويكون هذا هو إيش؟ التورك المعروف، ومنهم من حكم عليها بمخالفة الرواة، وحكم عليها بالشذوذ، لكنها صورة مستقلة، يعني وواضحة وليس فيها مخالفة، مقتضى ذلك أن من يستطيع أن يفعلها فيفعلها أحياناً، والذي لا يستطيع {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [(286) سورة البقرة] يفعل الصور الأخرى.

"وفرش قدمه اليمنى" كيف فرش قدمه اليمنى؟ إيش معنى يفرشها؟ يعني مثل فرش اليسرى في الافتراش في التشهد الأول مثلاً، فيجعلها تتجه إلى جاره، أصابعها إلى جاره من يمينه، أو يفرشها إلى الداخل بحيث يجعلها تحته؟ أكثر الرواة في صورة الافتراش تكون اليمنى منصوبة، وعلى كل حال الحديث في صحيح مسلم، ولا شك أن مثل هذه الصور وإن كان فيها شيء من المشقة على بعض الناس، فالذي لا تشق عليه يفعلها؛ لأنها ثابتة، والاختلاف في مثل هذا لا يضر.

"ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى" كما تقدم في الحديث السابق.

"ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى" هكذا؟ نعم، وضع إبهامه على إصبعه الوسطى، وهذه أيضاً صورة.

"وأشار بإصبعه السبابة" وهذا موجود في الحديثين، أشار بإصبعه، هذه الإشارة جاء فيها التحريك، وجاء فيها لا يحركها، وجاء فيها يحركها يدعو بها، ولذا تباينت الأنظار من أهل العلم، فمنهم من يقول: لا تحرك للنفي، ومنهم من يقول: يستمر في تحريكها؛ لأنه كما جاء مقمعة الشيطان، أو مقرعة الشيطان، كأنه يضربه بعصا، ومنهم من يقول: يحركها يدعو بها، فيرفعها وقت الدعاء فقط، إذا أراد أن يدعو حركها، ولا شك أن الشهادة موطن من مواطن الرفع، الشهادة: أشهد ألا إله إلا الله موطن من مواطن الرفع، ولذا لما رفع المصلي إصبعيه جاء في الحديث: ((أحد، أحد)) ومثل هذا الكلام إنما يقال لمن رفع إصبعيه وقت الشهادة، فقيل له: "أحد" لأن هذا يخالف التوحيد، رفع إصبعين يخالف التوحيد، فعلى هذا ترفع الإصبع مع لفظ الشهادة، ووقت الدعاء مع الدعاء.

وهذا في التشهد لا إشكال فيه، فماذا عن رفع السبابة بين السجدتين؟

يقول هذا السائل: لماذا حكم العلماء على الحديث الذي في مسلم عن ابن عمر إذا قعد في الصلاة... الحديث الذي يدل على قبض الأصابع بين السجدتين بالشاذ؟

هذا عندنا حديث: "إذا قعد في التشهد" الحديث الأول، حديث ابن عمر: "إذا قعد في التشهد" فإذا جاء رواية أيضاً: "إذا قعد في الصلاة" فهي محمولة على التشهد، وإن كان القعود أعم من أن يكون للتشهد، إذا قعد في الصلاة لفظ عام، والتشهد خاص، وهذا لا يقتضي تخصيص كما هو مقرر عند أهل العلم أن التنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص.

الشأن هنا: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قعد في الصلاة" وفيه: "وأشار بإصبعه" هذا يشمل جميع القعود، فعلى هذا الجلسة بين السجدتين تحرك فيها الإصبع ويشير بالسبابة، للتشهد تحرك فيها الإصبع ويشير بالسبابة، للاستراحة أيضاً وهي يشملها قعد في الصلاة، وهذه قعدة يشير بإصبعه، لكن لم يحفظ ذكر ولا دعاء لجلسة الاستراحة، ومعلوم أن التحريك ليس بأصل، وإنما هو تابع، وليس بأصل، فرفع اليدين تابع للتكبير، فإذا جاء الإنسان والإمام راكع واكتفى بتكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع يرفع مرة وإلا مرتين؟ مرة واحدة؛ لأن الرفع تابع للتكبير، وهنا جلسة الاستراحة ليس فيها ذكر، وعلى هذا ليس فيها تحريك.

السائل يقول: ما الذي جعل العلماء يحكمون على الحديث الذي في صحيح مسلم "إذا قعد في الصلاة" الذي يدل على قبض الأصابع بين السجدتين بالشاذ مع أنه لم تخالف الرواية حديثاً آخر؟

مثل هذا الكلام من يقوله؟ من يقول مثل هذا الكلام؟ نعم حكم بعض أهل العلم على هذه الرواية بالشذوذ، وقالوا: إن اليد في الجلسة بين السجدتين تبسط، اليمنى كاليسرى، وليس فيها تحريك، وهذا خاص بالتشهد، وحكموا على الرواية بالشذوذ، وهي في صحيح مسلم، لكن الذي يقول مثل هذا الكلام يقول ليس فيها مخالفة؟ يقولها أمثالنا الذين تعلموا على طريقة المتأخرين، وما وصلوا إلى حد يعلون الأحاديث والروايات بالقرائن، يعني الذي حكم عليها بالشذوذ إمام من الأئمة الحافظ الكبار الذين يحكمون على الحديث بشمه، ما يحتاجون إلى أن ينظروا في المخالفة وعدم المخالفة، يعرف أن هذه اللفظة ثابتة أو غير ثابتة من غير أن تكتمل الصورة بين يدي غيره.

فتجدهم يحكمون على لفظ بالشذوذ، مثلاً في الذكر الذي يقال بعد الأذان: ((وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد)) ومثل: ((إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)) بعد الوضوء، هذه فيها مخالفة وإلا ما فيها مخالفة؟ هذه يوجد ما يدل عليها من القرآن، فما فيها مخالفة، لكنها في هذا الموضع الذي يشترط المخالفة للحكم بالشذوذ يقول: مقبولة، زيادة ثقة فهي مقبولة، ويطلق القول بزيادة الثقة يقول: ما فيها إشكال، لا فيها مخالفة، وزيادة ثقة مقبولة، وبعضهم يحكي على هذا الاتفاق مثل الحاكم، يحكون على هذا الاتفاق.

لكن الأئمة الكبار حكموا على بعض هذه الألفاظ بالشذوذ، وليس لنا في مثل هذا المجال إلا أن نسلم إذا كنا مبتدئين، أو ننظر إذا كنا من أهل النظر ونرجح، ولو بالقواعد العامة، أو نرجح باعتبار القائلين؛ لأنه قد يلجأ إلى الترجيح باعتبار القائل، فإذا كان الذي حكم عليها بالشذوذ متشدد مثلاً، حكم عليها أبو حاتم بالشذوذ، حكم عليها أحمد وابن معين والبخاري بأنها محفوظة نرجح باعتبار القائلين، وإذا استطعنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه -ودون ذلك خرط القتاد- فهو فرضنا؛ لأن المتأخرين عالة على المتقدمين، لكن إذا كان الشيخ ابن باز على عنايته منذ أكثر من ستين سنة خلال عمره بالسنة، والألباني كذلك لا يستطيعون أن يرجحوا بمثل هذا إلا على قواعد، فتجده يقول: إنك لا تخلف الميعاد ويقول مثل هذا، حتى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في ((إنك لا تخلف الميعاد)) قال: إن الشيخ ابن باز يقولها فنقلده، فمثل هذه الأمور القوس تعطى باريها، يعني ما يقال في مثل هذا الكلام في مقابل أئمة كبار يحكمون على الأحاديث بالقرائن، يعني على الإنسان أن يعرف قدر نفسه، ما نقول: إنها ما تضمنت مخالفة كيف نحكم عليها بالشذوذ؟ يعني الحكم بالشذوذ لوجود المخالفة هو الذي جرى عليه المتأخرين، وهو الذي يطبقون عليه، وهو الذي مشى عليه الإمام الشافعي.

وذو الشذوذ ما يخالف الثقه
 

 

فيه الملأ فالشافعي حققه
ج

لكن الأئمة الكبار ما يطالبون بمثل هذا، حكم عليه أحمد بالشذوذ إذاً نقول: كيف شاذ وهو ما فيه مخالفة؟ ما هو بأمثالنا من طلاب العلم يواجهون الأئمة بمثل هذا الكلام، وأيضاً ليس من الأدب أيضاً مع الفريق الآخر أن يتهجم على أئمة علماء ناصحين مخلصين، أن يقول: والله ما أدركوا من علم الحديث شيء، أدركوا خيراً عظيماً، لكن خفي عليهم هذه المسألة وليكن، من الذي لا يخفى عليه شيئاً، من الذي لا تخفى عليه خافية؟ هو الله -جل وعلا-، حتى الأئمة الكبار المتقدمون لا يتفقون على مثل هذا، بعضهم يقول: شاذة، وبعضهم يقول: محفوظة، فأنت أيها طالب العلم الذي تريد أن تحاكي المتقدمين من تقلد من هؤلاء الأئمة الذي قال: محفوظة وإلا الذي قال: شاذة؟ مثل هذه الأمور تحتاج إلى صبر، تحتاج إلى تأني، وتحتاج إلى روية، ما تحتاج إلى جزاف، يحكم بحكم عام مطرد وإلا يخطأ الأئمة، كل هذا يحتاج إلى إعادة نظر.

سم.

قال -رحمه الله-:

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا: السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)) متفق عليه، واللفظ للبخاري.

وله أيضاً قال: كنا إذا كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقولوا: السلام على الله فإن الله هو السلام)).

كمل، كمل.

وعن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وعن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: ((التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) رواه مسلم.

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض التشهد: السلام على الله"... الحديث، رواه النسائي والدارقطني وصحح إسناده.

وقال عمر -رضي الله عنه-: "لا تجوز صلاة إلا بتشهد" رواه سعيد وغيره.

يكفي، بركة.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا: السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان" السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان" وفي الرواية الأخرى يقول: "كنا إذا كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده" وهذه لا بد منها من تقديمها هذه الزيادة؛ لأن الرد عليهم يقتضيها.

"فالتفت إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن الله هو السلام))" يعني فلا تسلموا عليه، والرواية المقدمة ليس فيها السلام على الله، الرواية الثانية: "كنا إذا كنا في الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قلنا: السلام على الله من عباده" فرد عليهم النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((إن الله هو السلام)) يعني فلا تسلموا عليه، يعني ليس بحاجة إلى أن تدعو له بالسلامة، أو تحيوه بهذه التحية.

((إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي)) التحيات جمع تحية، والصلوات جمع صلاة، وبسطها يحتاج إلى وقت، يعني شرحها يحتاج إلى مزيد من الوقت؛ لأنها مختلف فيها الصلوات هل هي الفرائض؟ هل هي النوافل؟ هل هي الدعوات الصلوات اللغوية أو الصلوات الشرعية المعهودة؟ والتحيات جنسها وجميعها كلها لله -جل وعلا-.

((السلام عليك أيها النبي)) السلام كذا بـ(أل) ويعرف في هذا الموضع لأنه متعبد بلفظه، و(عليك) بالخطاب وإن لم يكن موجوداً أثناء هذا الخطاب، يعني نقول نحن بعد أربعة عشر قرناً: ((السلام عليك أيها النبي)) مع بعدنا عنه -عليه الصلاة والسلام- بلفظ الخطاب، كما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذا اللفظ متعبد به، وهذا في حياته وبعد مماته؛ لأنه حتى في حياته وخلفه -عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يواجه بمثل هذا الخطاب إذا قلنا: إن المراد به الخطاب؛ لأنهم يقولونه سراً، وجاء عن ابن مسعود أن هذا يقال في حياته، وأما بعد مماته فيقال: "السلام على النبي ورحمة الله وبركاته" فهذا اجتهاد من ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-، لكن عامة أهل العلم بما في ذلكم عمر -رضي الله عنه- حيث علم الناس التشهد على المنبر بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقال: السلام عليك أيها النبي، ومع ذلك حضره جمهور الصحابة، ولم يخالفه ولم يعارضه منهم أحد، فتبقى هذه الصيغة، ولا يلزم من الخطاب حقيقة الخطاب، يعني قد يعجبك طعام مثلاً فتقول لصاحبك: هذا الطعام إذا أكلت منه لا تشبع منه، وهو يقصد نفسه، قد يكون صاحبه هذا لا يستسيغ هذا الطعام، لكنه يقصد بذلك نفسه، فلا يريد حقيقة الخطاب، والنبي -عليه الصلاة والسلام- إذا سلم عليه من في المشرق أو في المغرب رد الله روحه فرد -عليه السلام-، وهناك أيضاً من الملائكة من يبلغ النبي -عليه الصلاة والسلام- السلام.

((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)) بدأ بتمجيد الله -جل وعلا- وتحميده، ثم بعد ذلك ثنى بالسلام على النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن حقه أعظم من حق النفس، وهو مقدم على النفس فضلاً عن الغير، ولا يؤمن أحد حتى يحب النبي -عليه الصلاة والسلام- أعظم من حبه لنفسه، وحقه على المسلمين أعظم من أي حق فلذلك يقدم.

((السلام علينا)) "إذا دعا أحدكم فليبدأ بنفسه" ((وعلى عباد الله الصالحين)) يعني من المتقدمين والمتأخرين، من الحاضرين والغائبين، كل عبد صالح لله تقدم زمانه أو تأخر يدخل في هذا السلام، ويدعى له، وعلى هذا فليحرص الإنسان على أن يكون صالحاً؛ ليدخل في دعوات المسلمين، مؤدياً لحقوق الله وحقوق عباده.

((السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)) ((فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض)) وإذا دعوت لأخيك بظهر الغيب وهذا منه ماذا تقول الملائكة؟ ((ولك بمثله)) تصور الأجر والفضل العظيم من خلال هذه الجملة، والمصلي يصلي في اليوم مراراً، ويقولها تكراراً، ومع ذلك لا يلقي لها بالاً، فهل يترتب أثرها عليها؟ من قالها وهو غافل، يعني قالها بدأ بالتشهد وما عرف إلا وقت السلام، ما أفاق إلا وقت السلام، يحرص الإنسان على أن يعقل صلاته، وليس له من صلاته إلا ما عقل.

((أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)) والشهادتان شرحتا في مواضع كثيرة، ولا داعي لأن نكرر ما ذُكر مراراً.

((ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)) يعني بعد أن يفرغ من التشهد، ويسلم على النبي -عليه الصلاة والسلام- ويصلي عليه، يتخير من الدعاء أعجبه إليه، سواء كان من أمور الدنيا أو من أمور الدين، وليحرص على الجوامع، جوامع الكلم، ويحرص على ما هو بأمس الحاجة إليه الأهم فالأهم، لا يشتغل في هذه المواضع التي هي من أماكن إجابة الدعاء بالأمور التافهة، يجعل همته أعلى، فيجعل الآخرة نصب عينيه، وما يهمه من أمر دنياه أيضاً يدعو به، ومنهم من قال: إن الدعاء في هذا الموطن بأمور الدنيا لا يجوز، بل قال بعضهم: إنه يبطل الصلاة، وهذا الكلام ليس بصحيح؛ لعموم قوله: ((ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به)) وهذا عام لأمور الدين وأمور الدنيا وأمور الآخرة.

"متفق عليه، واللفظ للبخاري".

وله أيضاً قال: "كنا إذا كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام))" يعني لو أن المؤلف قدم هذه الرواية لكان أولى، وعلى كل حال هذا تشهد ابن مسعود، ويرجحه كثير من أهل العلم على غيره من التشهدات، وهو مروي عن أصحابه، ولا يختلفون فيه، وهو أيضاً مروي عن غيره من الصحابة، وهو مرجح عند أحمد وغيره، على تشهد ابن عباس الآتي، وعلى غيره من التشهدات، لكن مثل هذا الاختلاف في هذه الصيغ شأنه شأن الاختلاف في دعاء الاستفتاح، الاختلاف فيه اختلاف تنوع وليس باختلاف تضاد، نعم لو كان هناك تضاد لقلنا بالترجيح؛ لأن الذي اختار تشهد ابن مسعود رجحه، وألغى ما عداه، الذي اختار تشهد ابن عباس رجحه وألغى ما عداه، وقل مثل هذا في التشهدات الأخرى، لكن المرجح عند شيخ الإسلام ابن تيمية أنه من باب اختلاف التنوع، فمرة يتشهد بتشهد ابن مسعود، ومرة يتشهد بتشهد ابن عباس، ولذا أردفه بقوله: "وعن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وعن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" يعني يهتم بالتشهد -عليه الصلاة والسلام- كما يهتم بالقرآن، يهتم به، بحفظه من قبل الصحابة بلفظه؛ لأنه متعبد به كالقرآن.

"كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: ((التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً))" إيش عندكم يقول: عبده ورسوله؟

طالب: رسول الله.

ويش عندك؟

طالب: رسول الله.

الطبعة عندك رسول الله؟

طالب: إي نعم.

إيه لا عندنا: ((عبده ورسوله)) والذي في صحيح مسلم: ((وأشهد أن محمداً رسول الله)) وهذا مما يختلف فيه تشهد ابن عباس عن تشهد ابن مسعود، وفيه أيضاً التحيات المباركات... إلى آخره.

بعض أهل العلم يرى أن يلفق من هذه التشهدات تشهد واحد، فتؤخذ الزوائد من تشهد ابن عباس وتوضع في تشهد ابن مسعود، لكن هذا ليس بصحيح، الأولى أن يقال: إن هذا اختلاف تنوع وليس فيه تضاد، فيقال هذا تارة وذاك تارة أخرى.

"وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض التشهد" وجاء أيضاً الأمر به، ((إذا تشهد أحدكم فليقل)) فهذا دليل على أن التشهد واجب وفريضة، وبالنسبة للتشهد الأول من أهل العلم من يرى أنه سنة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- تركه نسياناً، وجبره بسجود السهو، ولو كان واجباً لما كفى فيه سجود السهو، وهو واجب عند الحنابلة، وجمع من العلماء أنه واجب، لكنه يجبر بسجود السهو.

التشهد الثاني أيضاً يختلف فيه أهل العلم، وهو عند الحنابلة ركن من أركان الصلاة، لا تصح إلا به، ومن أجل ذلك قال المؤلف:

"وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض التشهد: السلام على الله" وهي رواية من روايات الحديث السابق.

"رواه النسائي والدارقطني، وصحح إسناده" ولا شك أن إسنادها صحيح.

"وقال عمر -رضي الله عنه-: لا تجوز صلاة إلا بتشهد" رواه سعيد وغيره" لكن إسناده ضعيف، وعلى كل حال الذي قبله يغني عنه، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"