شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 16

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقةٍ جديدة في شرح كتاب ((الصوم)) من كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نُرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله. وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث أبي جحيفة- رضي الله عنه- في بابُ مَن أقسَم على أخيه ليُفْطِر في التطوّع، لعلنا نستكمل ما تبقى من هذا الحديث.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فتقدَّم ذكر ترجمة الراوي، أبي جحيفة وَهب بن عبد الله السوائي. وذكرنا أن الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: بابُ مَن أقْسَمَ على أخيه ليُفطِر في التطوُّع ولم يرَ عليه قضاءً إذا كان أوفق له.

يقول الكرماني: فإن قلت: أين الترجمة؟ قلت: السياق يدلُّ على تقدير قَسَم قبل لفظة: ما أنا بآكل.

وقال العيني: مُطابقة الحديث للترجمة من حيث إن أبا الدرداء صنع لسلمان طعامًا وكان صائمًا فأفطَرَ بعد محاورةٍ، ثمَّ لما أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبره بذلك، لم يأمره بالقضاء.

يقول العيني: أي هذا بابٌ في بيان حكم من حلف على أخيه وكان صائمًا ليفطر، والحال أنه كان في صوم التطوع، ولم ير على هذا المفطر قضاءً عن ذلك اليوم الذي أفطر فيه. إذا كان الإفطار أوفق له، أي: للمفطر بأن كان معذورًا فيه، بأن عزم عليه أخوه في الإفطار، وهذا القيد يدل على أنه لا يُفْطِر إذا كان بغير عذر، ولا يتعمَّدُ ذلك.

المقدم: أين القيد، يا شيخ؟ أوفق؟

أوفق، نعم.

المقدم: نعتبره قيدًا؟

نعتبره قيدًا، يعني إذا كان مستوي الطرفين، يُفطِر أم لا يُفطِر؟ لا يُفطِر. وهذا على مذهب الحنفية في أنه لا يُفطِر، وإذا أفطر من غير عذرٍ، قضى، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

المقدم: وهو الذي يُحدد الأوفق؟ الصائم؟

الأرجح عنده، نعم، فيكون معذورًا إذا كان أوفق له. فإذا كان لعذر، فلا يقضي عند الحنفية. وسيأتي الخلاف في ذلك، وأن مالكًا يُلزم بالقضاء مُطلقًا، وغيرهم لا، هو مُخيَّر مادام نفلًا، فلا يقضي، سواءً كان بعذر أو بغير عذر.

المقدم: لكن الإفطار هنا ما هو برضا من أبي الدرداء وإنما بقسَم من سلمان، ألا يُقال بأن الأوفق عند سلمان في هذه الحالة؟

لا، الأوفق عند أبي الدرداء، الآن إجابة طلب أخيه، هذا أرجح.

المقدم: لكن الإلحاح كان من سلمان.

الإلحاح من سلمان، وسيأتي تفصيل المسألة وما فيها من أقوال للفقهاء، إن شاء الله تعالى.

يقول: ولا يتعمد ذلك. ويُروى: إذا كان، يعني: حين كان، يعني الترجمة: بابُ مَن أقسَم على أخيه ليُفطِر في التطوُّع ولم ير عليه قضاءً (إذا كان)، يعني: حين كان أوفق، ويروى: أرفق أيضًا بالراء وبالواو، والمعنى صحيحٌ فيهما، وهذا تصرُّف البخاري واختياره وفيه خلافٌ بين الفقهاء، سنذكره إن شاء الله تعالى.

يعني لا قضاء عليه، هذا رأي الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- إذا كان أوفق له. والمسألة خلافية، وستأتي إن شاء الله تعالى.

المقدم: والترجمة كل هذه، هذه كلها ترجمة الباب التي ذكرتها، يا شيخ؟

نعم.

المقدم: في الأصل؟

باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم يرً عليه قضاءً إذا كان أوفق له

المقدم: كل هذه الترجمة؟

نعم، هذه الترجمة، ولكل جملةٍ منها ما يدلُّ له من الخبر.

وقال ابن حجر بعد أن ذكر الترجمة: ذكر فيه حديث أبي جحيفة في قصة أبي الدرداء وسلمان، فأما ذكر القَسَم فلم يقع في الطريق التي ساقها كما سأبينه.

وتعقّبه العيني، فقال: قلت في رواية البزار عن محمد بن بشار، شيخ البخاري، في هذا الحديث، فقال: أقسمت عليك لتفطرن، وكذا في رواية ابن خزيمة والدراقطني والطبراني وابن حبان.

ابن حجر يقول: فلم أقف عليه في شيءٍ من طُرقه، هو من طرقه، عند البزار من طُرقه يعني يتفق مع المؤلف في شيخه.

المقدم: بيَّنت في الحلقة الماضية أن هذا هنا فيه خلل.

نعم، ما فيه شك أن كلام العيني مُتجِه.

وقيل: القَسَم مُقدَّر قبل قوله: ما أنا بآكل، كما في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم 71].

لكن لا نحتاج إلى تقدير مادام وُجِد في بعض الطُرق؛ لأن الإمام البخاري- رحمه الله- يُقرر حكمًا قد لا يوجد في اللفظ الذي يسوقه، وقد يُخرجه في موضعٍ آخر في (صحيحه) على شرطه.

الإمام البخاري أحيانًا يعمد إلى شيءٍ غامض، من أجل أن يكون طالب العلم على..

المقدم: شحذ الهِمة.

بلا شك يكون على أُهبة واستعداد للتلقي؛ لأنه لو جاء بكل شيءٍ واضح، وجاء بالترجمة مُطابقة في كل وقت، ما صار للكتاب مزيَّة. وإنما فقهه في تراجمه، فأحيانًا يُترجِم بحكمٍ شرعي لا يدلُّ له اللفظ الذي يسوقه في الباب، وإنما قد يسوقه في أبوابٍ أخرى في أطرافه اللاحقة.

وقد يقول بعضهم: لماذا لا يدل؟ يُريد أن يُتعِب الطلاب من أجل ماذا؟ لماذا لا يسوق اللفظ المُطابق للترجمة في هذا الباب؟

نقول: هذا مقصد ومغزى لمثل هذا الإمام؛ من أجل تربية طلاب العلم على مثل هذا، تتبع الطرق. ولذلك تجد ابن حجر له خصيصة في هذا الباب، كثيرًا ما يوهَّم البخاري- رحمه الله-، وأنه لا توجد مُطابقة بين الحديث والترجمة، فيحلها ابن حجر لما في الطرق الأخرى؛ لأنه يعرف الكتاب الذي يشرحه. يعني مُحيط بالكتاب الذي يشرحه- رحمه الله- ومع ذلك، في هذا الموضع..

المقدم: زَل.

نعم، العيني أرجح منه.

نعم، هذه الرواية لا توجد في البخاري، وإنما توجَد في طُرق الحديث خارج البخاري، عند البزار، وينبغي أن يكون الحافظ على ذكرٍ منها.

لكن الكمال لله -جلَّ وعلا-.

المقدم: ولا يُمكن أن يوجَه كلام ابن حجر لما قال: في طُرقه.

لا، الآن الطُرق تبدأ من محمد بن بشار شيخ البخاري، والبزار رواه بنفس الطريق عن محمد بن بشار شيخ البخاري إلى آخر الإسناد.

المقدم: إذًا ما فيه مكان للتوجيه..

ما فيه مجال أبدًا.

يقول ابن حجر: وأما القضاء فلم أقف عليه في شيءٍ من طرقه إلا أن الأصل عدمه.

تعقبه العيني: الجواب عنه: أن القضاء ثبت في غيره من الأحاديث، وقوله: فليس في شيءٍ من طرقه، لا يستلزم عدم ذكر القضاء في طرق هذا الحديث نفي وجوب القضاء في طرق غيره.

يعني أنه إذا جاءنا البيان مرة واحدة يكفي، يعني جاءنا حديث مُطلق وجاء قيده في حديثٍ آخر، لا نحتاج إلى أن نقول: هنا ما ذُكِر القيد؛ لأنه ذُكِر ولو مرة واحدة ولو تعددت الألفاظ المُطلقة، تُحمَل على القيد. وقل مثل هذا في التخصيص أو استثناء مثلاً أو ما أشبه ذلك.

المقصود أن مثل هذا لا يحتاج إلى بيانٍ في موضعٍ آخر.

الآن لو ضربنا مثال: النبي- عليه الصلاة والسلام- ..

المقدم: مثال لقيده في مكان آخر يعني؟

نعم.

رَجَم الزناة المُحصنين في القضايا التي حصلت في عهده- عليه الصلاة والسلام- خمسًا، حصل في عهده خمس قضايا، كلهم رجمهم. ولا واحد فيه إشارة، ولا في قصة من القصص إشارة إلى أنه يُجلَد.

المقدم: قبل الرجم؟

قبل الرجم؛ ولذا الجمهور على أنه لا يُجلَد.

لكن جاء في حديث عبادة بن الصامت: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئة وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مئةٍ والرجم» يكفي هذا. هذا يكفي، ما يحتاج أن تُذكر في القضايا كلها، يُستصحَب مثل هذا الحكم، ومع ذلك لا يلزم أن يُبيِّن.

لكن أحيانًا قد يحتف بالمُطلق ما يقويه، قد يحتف به ما يقويه، فيحتاج إلى تنصيصٍ للقيد في هذا الموضع. مثل: في حجة الوداع، قبل خروجه من المدينة- عليه الصلاة والسلام- قال: «ومن لم يجد النعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين» هذا قيد، القطع.

فلا تُلبَس الخُف إلا إذا قُطعَت.

في الموقف، ذكر أن من لم يجد النعلين فليلبس الخفين بدون قيد. جريًا على القاعدة، نحمل المُطلق على المُقيَّد؛ لأنهما اتفقا في الحكم والسبب. نحمل المُطلق على المُقيَّد بدون نزاع في مثل هذه الصورة. لكن من يقول بأنه لا يُقطَع، يقول: لو كان القطع لازمًا، لبيَّنه في هذا الموقف؛ لأنه حضر جموع غفيرة لم يحضروا في المدينة، يحتاجون إلى بيان وهذا موضع البيان.

فيحتف ببعض القضايا ما احتاج إلى تنصيص في هذه القضية بعينها، مثل هذا.

العيني يقول: الجواب عنه أن القضاء ثبت في غيره من الأحاديث، وقوله: فليس في شيءٍ من طرقه، لا يستلزم عدم ذكر القضاء في طرق هذا الحديث نفي وجوب القضاء في طرق غيره. وقوله: إلا أن الأصل عدم القضاء، غير مُسَلَّم، بل الأصل وجوب القضاء؛ لأن الذي يشرع في عبادةٍ يجب عليه أن يأتي بها ولا يكون مُبطلاً لعمله، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد 33].

يعني نقتصر على هذا القدر مناسب للترجمة، وأما تفصيل المسألة وبيان حكمها بأدلتها وخلاف أهل العلم فيها يأتي إن شاء الله.

إلا أن الأصل عدمه- يقول الحافظ: وأما القضاء فلم أقف عليه في شيءٍ من طرقه إلا أن الأصل عدمه، وعرفنا كلام العيني.

وقد أقره الشارع، يعني هذا من كلام سلمان، أقره الشارع في قوله: «صدق سلمان».

وقد أقره الشارع ولو كان القضاء واجبًا لبيَّنه له مع حاجته إلى البيان، وكأنه يُشير إلى حديث أبي سعيد قال: صنعت للنبي- صلى الله عليه وسلم- طعامًا فلما وُضِعَ، قال رجلٌ: أنا صائم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «دعاك أخوك وتكلَّف لك، أفْطِر وصُم مكانه إن شئت» رواه إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن ابن المُنكدر عنه، وإسناده حَسَن، أخرجه البيهقي. وهذا دالٌّ على عدم الإيجاب؛ لقوله: «إن شئت» فردَّه إلى مشيئته. ولو كان القضاء حتمًا لازمًا، لقال: صُم يومًا مكانه.

وقوله: وهو أوفق له- في الترجمة- إذا كان أوفق له، قد يُفْهِم أنه يرى أن الجواز وعدم القضاء لمن كان معذورًا بفِطره، لا من تعمَّده بغير سبب.

يقول: إذا كان أوفق له، قد يُفْهِم أو يُفْهَم منه أنه يرى أن الجواز وعدم القضاء لمن كان معذورًا بفِطره، لا من تعمَّده بغير سبب. كما يشير إليه كلام العيني سابقًا.

وقوله: أوفق له، يُروى بالواو الساكنة وبالراء بدل الواو، والمعنى صحيحٌ فيهما، وسبقت الإشارة إليه.

قوله: آخى النبي- صلى الله عليه وسلم- بين سلمان وأبي الدرداء، آخي النبي- صلى الله عليه وسلم-، من المؤاخاة وهي اتخاذ الأخوَّة بين الاثنين، يُقال: واخاهُ مؤاخاة وإخاءً، آخى من المؤاخاة وهي اتخاذ الأخوة بين الاثنين، ويُقال: واخاه مؤاخاةً وإخاءً. وتأخيتُ أخًا أي: اتخذت أخًا.

وذكر أهل السير والمغازي: أن المؤاخاة بين الصحابة وقعت مرتين، الأولى قبل الهجرة بين المهاجرين خاصةً على المواساة والمناصرة، وكان من ذلك إخوَّة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب. ثمَّ آخى النبي- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر، وذلك بعد قدومه المدينة، قاله ابن حجر.

وروى الواقدي عن الزهري أنه كان يُنكر كل مؤاخاة وقعت بعد بدرٍ، يقول: وقطعت بدر المواريث.

قال ابن حجر: هذا لا يدفع المؤاخاة من أصلها، وإنما يدفع المؤاخاة المخصوصة التي كانت عُقِدَت بينهم ليتوارثوا بها. فلا يلزم من نسخ التوارث المذكور أن لا تقع المؤاخاة بعد ذلك على المواساة ونحو ذلك.

يعني كون المواريث انتهت بعد بدر في كلام الزهري، لا ينفي أصل المؤاخاة التي كانت موجودة قبل ذلك، والمؤاخاة وقعت بعد بدرٍ واستمرت التي هي على المناصرة لا التوارث.

المقدم: والتي قبل كان من أسسها التوارث، يا شيخ؟

التي كانت في مكة.

المقدم: التي في المدينة.

نعم.

المقدم: التوارث؟ يُنص عليه؟

كانوا يتوارثون، نعم.

يقول ابن القيم في (زاد المعاد): آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله- عزَّ وجلَّ-: {وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأحزاب 6] ردَّ التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة. ظاهر.

وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاةً ثانية، واتخذ عليًّا أخًا لنفسه والثَبْتُ الأول.

وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاةً ثانية، يعني بعد المؤاخاة التي وقعت على المواساة والمناصرة في مكة قبل الهجرة،.. مثل إخوَّة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب، ما فيها إشكال. لكن الكلام في القول الثاني: وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاةً ثانية، واتخذ فيها عليًّا أخًا لنفسه والثَبْتُ الأول.

يعني الأرجح الأول، وأنه لا مؤاخاة ثانية، الأولى بين المهاجرين والثانية بين المهاجرين والأنصار، ولا يُعْرَف ثانية بين المهاجرين وأنفسهم.

الأحاديث التي فيها مؤاخاة النبي-عليه الصلاة والسلام- لعلي كلها ضعيفة، لا يثبُت منها شيء.

وأخرج الترمذي حديثًا فيه أنه- عليه الصلاة والسلام- قال لعلي: «أنت أخي بالدنيا والآخرة» لكن في سنده: جُميع بن عُمير، اتهمه ابن حبان، وقال ابن نُمير: كان من أكذب الناس. وهذا الكلام مأخوذ من التعليق على (زاد المعاد) الذي فيه تضعيف المؤاخاة مع علي- رضي الله عنه-.

يقول ابن القيم: ولو آخى بين المهاجرين كان أحق الناس بأخوَّته أحبُّ الخلق إليه، ورفيقه في الهجرة، وأنيسه في الغار، وأفضل الصحابة وأكرمهم عليه: أبو بكر الصديق، وقد قال: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكن أخوة الإسلام أفضل»، وفي لفظ: «ولكن أخي وصاحبي». وهذه الأخوة في الإسلام وإن كانت عامة- يعني التي جاء ذكرها في قول الله- جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات 10]- هذه الأخوة في الإسلام وإن كانت عامة فللصديق من هذه الأخوَّة أعلى مراتبها، كما له في الصحبة أعلى مراتبها، فالصحابة لهم الأخوَّة ومزية الصحبة، ولأتباعه بعدهم الأخوة دون الصحبة.

يعني جاء في الحديث: «وددت أن لو رأيتُ إخواني»، قالوا: نحن إخوانك، قال: «أنتم أصحابي».

المقصود: أن من يأتي بعد النبي- عليه الصلاة والسلام- له الإخوة في الدين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات 10].

على الخلاف بين أهل العلم في إطلاق الأب للنبي- صلى الله عليه وسلم- على أمته، العلماء يختلفون باعتبار أن أزواجه أمهات المؤمنين، مقتضى ذلك؟

المقدم: أنه أب للمؤمنين.

أنه أب للمؤمنين.

وأما قول الله- جلَّ وعلا- {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [سورة الأحزاب 40] هذه مسألة التبني التي جاء نفيها، أما إبوة التعظيم والتقدير والتبجيل، هذه لا شك فيها. كما أن زوجاته- عليه الصلاة والسلام- أمهات المؤمنين.

المقدم: يعني يصلح أن نقول: نبينا وحبيبنا وأبونا محمد- صلى الله عليه وسلم-؟

على الخلاف بين أهل العلم، من يرى هذا يقوله، ما فيه مانع. كما أن عائشة أمنا- رضي الله عن أمهات المؤمنين وصلى الله نبينا محمد  صلى الله عليه وسلم-.

ذكر الشيخ عبد الله، ابن شيخ الإسلام الإمام المُجدد محمد بن عبد الوهاب، في (مختصر السيرة) له، وسيرة الشيخ عبد الله متوسطة، يعني أطول من سيرة الشيخ محمد.

المقدم: في مختصر غير مختصر والده؟

الشيخ له مختصر مختصر بالفعل، لكن مختصر الشيخ عبد الله يمكن أربعة أضعاف سيرة الشيخ. لكنها أخصر من سيرة ابن كثير أو سيرة ابن هشام.

المقدم: ومطبوعة، يا شيخ؟

نعم، مطبوعة، مطبوعة مرارًا.

ذكر الشيخ عبد الله، ابن الإمام المُجدد محمد بن عبد الوهاب- رَحِمَ الله الجميع- في (مختصر السيرة): بعض المهاجرين والأنصار ممن آخى بينهم النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال: وآخى بين جعفر بن أبي طالب، وهو غائبٌ بالحبشة، ومعاذ بن جبل. وآخى بين أبي بكرٍ وخارجة بن زيد، وآخى بين عُمَر بن الخطاب وعتبان بن مالك من بني سالم. وآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع. إلى أن قال: وآخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عويمر. وآخى بين بلال وبين أبي رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي. وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخوين. وكان أبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين.

آخى النبي- عليه الصلاة والسلام- بين سلمان وأبي الدرداء.

في (الاستيعاب) لابن عبد البر: سلمان الفارسي أبو عبد الله، يُقال: إنه مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويُعرَف بسلمان الخير، كان أصله من فارس من رامهُرمز، ويُقال: بل كان أصله من أصبهان. وكان إذا قيل له: ابن مَنْ أنتَ؟ قال: أنا سلمان ابن الإسلام، من بني آدم.

وقد رويَ من وجوهٍ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اشتراه على العتق. وأول مشاهده: الخندق، وهو الذي أشار بحفره.

وقد قيل: إنه شهد بدرًا وأُحدًا، والأكثر على أن أول مشاهده الخندق.

ولم يفته بعد ذلك مشهدٌ مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

المقدم: مُهاجر، يا شيخ؟ أم من الأنصار؟

هو مُهاجر باعتبار أنه ليس من المدينة، وافد على المدينة. لكن ليس من مكة.

المقدم: ما وفد مع من وفدوا من مكة؟

لا، ليس من مكة. هو جاء من فارس.

المقدم: لكن إسلامه- أحسنَ الله إليكم- قبل الهجرة أم بعد؟

المقصود أنه تنقَّل بين الأديان وجاء إلى المدينة قبل الهجرة، واسْتُرِق ومكث في الرق إلى أن أعتقه النبي- عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: والقصة المشهورة في انتظاره هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم-؟

هذه تُذكر في السيَّر ويأتي كلام الذهبي في بعض ما ذُكِرَ فيها، من عُمُره وأشبه ذلك.

وكان- رضي الله تعالى عنه- خيِّرًا، فاضلاً، حبرًا، عالمًا، زاهدًا، متقشفًا.

رويَ عن النبي- عليه الصلاة والسلام- من وجوهٍ أنه قال: «لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان».

وفي روايةٍ: «لناله رجالٌ من فارس».

وله أخبارٌ حسان وفضائل جمة- رضي الله عنه-. توفيَ في آخر خلافة عثمان- رضي الله عنه- سنة خمسٍ وثلاثين. وقيل: توفي في آخر خلافة عُمَر- رضي الله عنه- والأول أكثر، والله أعلم. انتهى من (الاستيعاب).

وفي (الإصابة)، قال الذهبي: وجدت الأقوال في سِنهِ كلها دالةٌ على أنه جاوز المائتين والخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد.

المقدم: يعني زاد على المائتين وخمسين؟

نعم.

ثمَّ رجعتُ عن ذلك، وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين.

المقدم: هذه مسألة، يا شيخ، تحتاج إلى وقفة، فنستأذنك أن تكون مطلع الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

إذًا مُستمعينا الكرام بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب ((الصوم)) في كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

لقاؤنا بكم- بإذن الله تعالى- في حلقةٍ قادمة؛ لاستكمال ما تبقى من هذا الحديث وأنتم على خير.

شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.