التعليق على الموافقات (1430) - 22

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

يقول هذا: ما رأيكم فيمن يهدد أمن الحجيج بإثارة البلبلة لتحقيق أغراض سياسية؟ وما نصيحتكم للحجيج؟

أولاً تهديد أمن الحجيج، وأمن المسلمين عمومًا، والحجيج على وجه الخصوص الذين هم بصدد أداء عبادة ونُسُك من أعظم العبادات ومن أعظم الشعائر الظاهرة، هؤلاء أهدافهم تخريبية، بسبب عداواتٍ ترجع إلى أصولٍ عقدية، ليس مردُّها إلى سياسة أبدًا، ولذا لم يحصل من طوائف الكُفر الذين لا ينتسبون إلى الدين ما حصل من هؤلاء المفسدين، الذين تعود عداوتهم إلى أغراضٍ عقدية، وفرض هيمنةٍ سببها الخلاف في الاعتقاد؛ لأنهم لهم اعتقاداتهم التي اعتنقوها من الصدر الأوّل، بدءًا من الغلو بآل البيت فيما يزعمون، ويلبِّسون به على عوام الناس، وحصل منهم على مرّ التاريخ الاضطرابات والفتن، والمِحن على المسلمين، ولا تكاد تخلو سنة من السنوات كما في تاريخ ابن كثير وغيره إلا ويحصل منهم شيء، والمصائب العظمى التي مُنيت بها الأمة على أيديهم أو على يد الكفار بسببهم لا تخفى، وأوّلهم كشَّر عن أنيابه وأظهر العداوة للمسلمين والمؤمنين، واستمر ذلك إلى آخره، حتى إن منهم من صرّح بعبادة علي، وتأليه علي.

 حجهم لبيت الحرام هو مجرد تلبيس على الناس، وإلا فعند حجهم إلى مشاهدهم أفضل بكثير من حجهم إلى بيت الله الحرام، وألفوا في حج المشاهد ومناسك المشاهد، وصرحوا بأن حجة إلى كربلاء أفضل من ألف حجة إلى بيت الله الحرام، هؤلاء إنما جاؤوا ليفسدوا على الناس حجهم ونسكهم، ويخوفوا الآمنين ويروعوهم؛ لأنهم يعتبرونهم أعداء، ويكفرون الطوائف الأخرى، لا يترددون في تكفير أهل السُّنَّة، ومن هذا المنطلق يرونهم أعداء كغيرهم من طوائف الكفر من اليهود والنصارى، نسأل الله السلامة والعافية.

 ليست المسألة مسألة سياسة واختلافًا سياسيًّا، لا، هي جذور عقدية قديمة ضاربة في أطناب الأرض، في تخوم الأرض ضاربة، ليس المسألة قريبة ولا، لا، مسألة لها جذور قديمة، ولها عداوات قديمة، الذين طعنوا في كتاب الله -جل وعلا- ماذا يُرجَى منهم؟ الذين ادعوا عصمة أئمتهم ودعوهم من دون الله ماذا يُرجَى من ورائهم؟

الذين قذفوا عائشة بعد أن برأها الله -جل وعلا- من فوق سبع سماوات ماذا يُرجَى منهم؟ الذين كفَّروا خيار الأمة الذين حملوا لنا الدِّين فلا دين يصل إلينا إلى بواسطتهم، وما داموا كفارًا على حدّ زعمهم، وكلهم مرتدون، إذًا ما الدين الذي حملوه صحيح أم باطل؟ باطل الدِّين، وهم يسعون لإبطال الدِّين، لا يسعون إلى إسقاط أشخاص، فهم يبطلون الدِّين، ويسعون إلى إسقاط حملته، وأما بالنسبة للحجيج فعليهم أن يعتصموا بحبل الله، وأن يتصدوا لمثل هؤلاء لو حصل منهم شيء، ويكفّوا شرهم، ويوقوفهم عند حدهم على ما لا يترتب عليه مفسدة، ليس للإنسان أن يتصرف تصرفًا فرديًّا، هذا لا يجوز بحال؛ لأنه يترتب عليه مفاسد، لكن مع الجماعة، إذا تصدت لهم الأمة الإسلامية أهل التوحيد وأهل التحقيق الذين لم يلبسوا إيمانهم بشرك، ينضوون تحت لواء واحد ويوقفوهم عند حدِّهم. والله المستعان.

أحسن الله إليكم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "فصل: هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدًّا، وقد مرّ منها فيما تقدَّم تفريعًا على المسائل المقررة كثير، وسيأتي منه مسائل أُخَر تفريعًا أيضًا، ولكن لا بد من خاتمة تكرّ على كتاب المقاصد بالبيان، وتُعَرِّفُ وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله، فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبنيٌ على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يُعرَف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟".

يعني النصف الأول من الكتاب من الموافقات الذي نكمله إن شاء الله تعالى غدًا هو مبني على المقاصد، قسم المقاصد ينتهي بإذن الله غدًا، وفي هذا الفصل كأنه يُلخِّص ما مضى، ولذا قال: تَكِرُّ على كتاب المقاصد بالبيان، الذي سبق، فتجمع أطرافه، وتلم مسائله، ثم بعد ذلك يأتي إلى قسم الأدلة.

" فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبنيٌ على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يُعرَف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟

 والجواب: أن النظر ها هنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقال: إن مقصد الشارع غائبٌ عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به، وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردًا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء، ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي، إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح، وإن وقعت في بعضٍ فوجهها غير معروفٍ لنا على التمام، أو غير معروفٍ ألبتة".

يعني هذا رأي الذين يقفون عند ظاهر النصّ ولا يُعدُّونه إلى ما يشاركه في العِلّة، هذا رأي أهل الظاهر، يعني يقابلهم من يستطرد في الرأي والأقيسة، وقد تتناول أقيسته أحيانًا معارضة ما ثبت من النَصّ، فهؤلاء على طرف، وأولئك على طرف، وبينهما من يتوسط، فيأخذ من هذا وهذا، يعتمد النَصّ ويُعدِّيه إلى ما يشاركه في العِلّة.

"ويُبالَغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس، ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس، وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقًا".

نعم، جاء ذمّ الرأي والقياس، وهذا كثير في أقوال السلف، ومرادهم في ذلك مواجهة من يتوسَّع في الأقيسة، والآراء، في مقابل النصوص، ولذلك يقول قائلهم: إن هؤلاء لمّا أعيتهم النصوص في حفظها، ذهبوا إلى الآراء، وهذا عند بعض المذاهب ظاهر أظهر منه عند غيرهم، يعتمدون الأقيسة، والآراء، ويُفرِّعون المسائل بناءً على هذه الأقيسة، ونصيبهم من الدليل أقلّ من تصرُّفاتهم في الآراء والأقيسة، وهؤلاء كما قال بعض السلف: إنهم أعياهم حفظ النصوص، أعياهم حفظ النصوص، فتجد الإنسان يؤتى بشيء، يُعطى شيئًا من الفهم، يُعطى شيئًا من الفهم وينساق وراءه، ولا يُعطى نصيبًا من الحفظ، ولا يُعطى نصيبًا من الحفظ، فتجده إذا جاء النَصّ وقف؛ لأنه لا يحفظه، وإذا جاء الرأي استرسل فيه، وفرَّع عليه، ونظَّر له، وكثُرت عنده الأشباه والنظائر، بناءً على هذا التأصيل.

 أما بالنسبة لعلماء الأثر فمنهم من يقف عند النَصّ، ولا يتعدّاه ولا يُعدِّيه، هذا ظهر فيما يُسمى بالظاهرية أهل النصوص، أهل الظاهر، هم أهل نصوص، لكنهم مع ذلك جمدوا على هذه النصوص، ووفق الله أئمة الإسلام وفقهاء المسلمين وفقهاء أهل الحديث فجمعوا بين الأمرين، حفظوا السُّنَّة، مالك والشافعي وأحمد، وغيرهم سفيان وأئمة الإسلام، كلهم على هذا، حفظوا السُّنَّة وحفظوا النصوص وفرَّعوا عليها ما يشاركها في العِلل.

"وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص، ولعله يشار إليه في كتاب القياس إن شاء الله، فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على إطلاقه كما قالوا".

الظاهرية يرمون أهل القياس بالعظائم، ويقولون: إن أوّل من قاس إبليس، قال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[سورة الأعراف: 12]، وبالمقابل أهل الرأي يرمون أهل الظاهر بالعظائم، فيقول ابن العربي: فلمّا جاء القوم، الذين هم كالحمير، يطلبون الدليل في كل صغيرٍ وكبير، يعني ما عندهم إلا الدليل، ما دليلك؟ وظهرت الآن من أُناس ليسوا من أهل الظاهر ولا من أهل الأثر، تجده إذا قيل له كذا، قال: هات الدليل، إن كان القرآن ينصُّ عليه وإلا فلا، إذا ما كان في القرآن شيء فلا تحاسبني. وهذه مشكلة، هذا دفع في صدر الأحكام الشرعية، ما كل الأحكام منصوص عليها في القرآن، إذا كان عندك شيء، دليل من القرآن أو صريح السُّنَّة وإلا فلا تتكلم. هذه ظاهرية، لكنها من نوع جديد.

 أولئك الدافع لهم تعظيم النصوص، هذا الذي يظهر؛ لأنهم أهل علم وعمل، لكن هؤلاء الذين يكتبون ويتحدثون في وسائل الإعلام، هل الدافع لهم تعظيم النصوص أو الدفع في صدر الأحكام الشرعية؟ هذا الذي يظهر، والله أعلم، بدليل أنهم ليسوا أهل علم ولا عمل، إنما يريدون أن يتخلصوا من هذا الحكم الذي وُجِّه إليهم، هات هات دليلًا من القرآن، وفق الله علماء الإسلام، فحفظوا النصوص، واعتمدوا عليها، وعوّلوا عليها، وفرَّعوا عليها.

"والثاني في الطرف الآخر من هذا إلا أنه ضربان: الأول: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها".

قد يقال مثلاً: إن بعض أهل العلم وهم ليسوا من النوع الأوّل، ولا من النوع الثّاني، هم يعظمون النصوص، ويعولون عليها، ويفرِّعون عليها، إلا أنهم ما رزقوا حفظًا مثل ما رُزِق الأولون، عند بعضهم الحافظة تكون ضعيفة جدًّا، وتجده يهتم بالنصوص، ويعنى بالنصوص وإن لم يحفظها، ويشرح النصوص ويفرِّع عليها وإن كان محفوظه قليلًا منها، هذا يلام أم ما يلام؟ ما يلام، ما يلام؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها، وبالمقابل تجد أناسًا عنده حوافظ يحفظون عشرات الألوف من النصوص، لكن فهمهم لها أقلّ، هل يقال: إن هؤلاء ظواهر؟ لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها.

"وإنما المقصود أمرٌ آخر وراءه، ويُطرَد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها مُتَمَسَّكٌ يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة، وهم الباطنية؛ فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية؛ لكي يفتقر إليه على زعمهم، ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله، والأولى أن لا يُلتَفَتَ إلى قول هؤلاء. فلننزل عنه إلى قسمٍ آخر يقرُبُ من موازنة الأول، وهو الضرب الثاني، بأن يقال: إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق، فإن خالف النص المعنى النظري اِطَّرَح، وقدم المعنى النظري، وهو إما بناءً على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق، أو على عدم الوجوب، لكن مع تحكيم المعنى جدًّا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية، وهو رأي المتعمقين في القياس المُقدِّمين له على النصوص، وهذا في طرفٍ آخر من القسم الأول".

يعني هذا يقابل أهل الظاهر، هذا يقابل أهل الظاهر، يعني الضرب الأوّل الذي قبله يقابل أهل الظاهر على فهمٍ باطل، لا يسنده عقل ولا نقل، وهو فهم الباطنية، الذين عندهم الصلاة لها معنى غير الصلاة التي نصليها، والصيام له معنى غير المعنى الذي نعتقده ونفعله، وكذلك الحج، وغير هذا على رأي الباطنية، هذا مرفوض جملة وتفصيلاً، ويجعلون النصوص تشير إلى إشارات لا تُفهَم من جهة اللغة ولا من جهة العقل، ولا يدلُّ عليها نقل، فهمهم خاصّ لهذه النصوص، وهذا رأي الباطنية معروف.

 ومنه ما يُسمى بالتفسير الإشاري يشير إلى إشارات لا يدلُّ لها لا عقل ولا نقل، هذا فهمٌ تداولوه بينهم، وبينهم فيه اختلاف كثير؛ لأنه مرجع له يُرجَع إليه فيُحتَكَم إليه، أما هؤلاء فمفروغٌ منهم، القسم الأول الذين هم أهل الظاهر ويعظمون النصوص ويهتمون بالنصوص لكنهم لا يتعدونها هؤلاء يختلف أهل العلم في اعتبارهم، في اعتبارهم من أهل العلم، والاعتداد بأقوالهم في الخلاف والوفاق، فالنووي يقول: ولا يعتد بقول داود؛ لأنه لا يرى القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد...

طالب:...

لا يرون القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد، فلا يعتدون بهم، وهذا كثير في أقوال الأئمة، نعم في بعض أقوالهم وأحكامهم المستنبطة من النصوص على حد زعمهم وفهمهم مع إلغاء القياس وتعدِّي الأحكام للاتفاق في العلل، من أقوالهم ما يضحك، بل ما يضحك العامّة، ومن أقوالهم مما صرّحوا به وما أُلزموا به والتزموه، هذه جهة، من أهل العلم من يقول: إنهم ما دام يعظمون النصوص فهم من أهل العلم، العلم قال الله وقال رسوله، وهم يعتنون بقال الله وقال رسوله، ولا شك أنه إذا كان دليل المسألة منطوق نصٍّ فهم أولى من يُعتَد به، وإذا كان معول المسألة على مفهوم أو على قياس أو استنباط فلا عبرة بقولهم؛ لأنهم لا يعتمدون هذه الأمور.

 أما بالنسبة للباطنية الذين يفسرون النصوص على هواهم وعلى حد زعمهم وعلى أفهامهم وإشاراتهم، فهؤلاء لا يُعتَدُّ بهم، ووجودهم مثل عدمه.

 يبقى من يُغرِق في استعمال الآراء والأقيسة، وإذا وجدته في باب الاستدلال بالنصوص تجد نصيبه أقلّ، هؤلاء لا شك أنهم علماء، ويعتنون بالنصوص، ويهتمون بها، لكن لم يعطوها حقًّا من الحفظ، والضبط، والإتقان، لم يُعرَفُوا بأثرٍ، لكنهم مع ذلك هم أهل علم، ومتقدِّموهم وأئمتهم أهل دين وأهل علم وأهل عمل، فهؤلاء يُعتَدُّ بهم، يُعرَفُون بمدرسة الرأي، يُعتَدُّ بهم، لكن المسألة مسألة موازنة ومعرفة راجح ومرجوح، راجح ومرجوح، وصاحب النظر الذي لديه أهلية النظر والاجتهاد لا يشكل عليه اعتددنا بهم أو لم نعتد بهم؛ لأنه سيعرض أقوالهم على النصوص، ويرجح من خلال النصوص، والمسالك المعروفة عند أهل العلم والجوادّ المطروقة عندهم، إذا كانت لديه أهلية لا يُشكِل عليه شيء.

 أما بالنسبة للتقليد، فيقلدهم طوائف بل أكثر المسلمين يقلدون أصحاب الرأي، يعني شرق الأرض تجدهم كلهم ماشيين على هذا، الضرب الثالث هؤلاء هم الذين وُفقوا للجمع بين النصوص بين الحفظ والفهم، نعم.

"والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعًا على وجه لا يُخِلّ فيه المعنى بالنص ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد، لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمَّهُ أكثر العلماء الراسخين فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع. فنقول، وبالله التوفيق: إنه يعرف من جهات: إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرًا لاقتضائه الفعل، فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصودٌ للشارع، وكذلك النهي معلوم أنه مقتضٍ لنفي الفعل، أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له، وإيقاعه مخالفٌ لمقصوده، كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالفٌ لمقصوده، فهذا وجهٌ ظاهرٌ عامٌ لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي، من غير نظر إلى عِلّة، ولمن اعتبر العلل والمصالح، وهو الأصل الشرعي".

يعني من العلماء من يدور على الأمر والنهي ويجعل المصلحة فيما أمر الله به -جل وعلا- ويجعل المفسدة فيما نهى عنه، وهذا ظاهر، وهذا ظاهر، لكن العبرة فيما لم يُنصّ عليه لا بأمر ولا نهي، كيف نصل إلى معرفة المصلحة والمفسدة؟ ننظر إلى عِلل هذه الأمور، عِلل هذه الأمور، فإن كانت توافق المأمور به عرفنا أنه مصلحة، وإن كانت توافق المنهي عنه عرفنا أنه مفسدة، نعم.

"وإنما قُيِّدَ بالابتدائي تحرزًا من الأمر، أو النهي الذي قُصِدَ به غيره كقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]".

يعني الأمر بترك البيع هل هو مقصودٌ لذاته أو مقصود لغيره؟

طالب:...

مقصود لغيره، وإلا فقد أحلّ الله البيع {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[سورة البقرة: 275]، فهو مقصود لغيره وهو التفرُّغ لصلاة الجمعة، نعم.

"فإن النهي عن البيع ليس نهيًا مبتدأ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني. فالبيع ليس منهيًا عنه بالقصد الأول كما نُهي عن الربا والزنا مثلاً، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به، وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر، واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في  الدار المغصوبة".

يعني النهي عن الصلاة في الدار المقصودة في الدار المغصوبة نهي لذات الصلاة أو تبعًا لغيره؟

طالب:...

تبع، تبع، ما نُهي عن الصلاة لذاتها، الصلاة مأمور بها، لكن نُهي عنها في هذا المكان، نعم.

"وإنما قُيِّدَ بالتصريحي تحرزًا من الأمر، أو النهي الضمنى الذي ليس بمصرح به، كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر، والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء، فإن النهي والأمر ها هنا إنما قيل بهم".

إن.

"إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني، لا بالقصد الأول".

يأتي تبعًا الأمر ب، الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي عن الشيء أمرٌ بضده، فالنهي الفرعي الناتج عن الأمر بضده تبعي، وكذلك الأمر النهي عن الشيء الناتج والنابع من الأمر بضده.

"إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر، أو النهي المصرح به. فأما إن قيل بالنفي فالأمر أوضح في عدم القصد، وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلا به، المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به. فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلاً فيما نحن فيه ولذلك قُيِّد الأمر والنهي بالتصريحي".

نعم ما لا يتم المأمور إلا به، فهو مأمورٌ به، وما لا يتم ترك المنهي عنه إلا به فهو منهيٌ عنه؛ لأنها وسائل والوسائل لها أحكام الغايات.

"والثانية: اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أُمِرَ بهذا الفعل ؟ ولماذا نُهيَ عن هذا الآخر ؟ والعِلةُ إما أن تكون معلومة أو لا، فإن كانت معلومة اتُّبِعَتْ فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد أو عدمه، كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، والحدود لمصلحة الازدجار، وتُعرَفُ العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه، فإذا تعيَّنت عُلِمَ أن  مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل، أو عدمه".

لكن قد يكون للمأمور به أكثر من مصلحة، وأكثر من حكمة وأكثر من عِلّة، وللنهي عن بعض الأفعال عِلل كثيرة جدًّا ومصالح تترتب على ترك هذا المنهي عنه، قد يدرك بعض المجتهدين منها ما لا يدركها الآخر.

"ومن التسبُّب أو عدمه، وإن كانت غير معلومة، فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا، وكذا إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر، أحدهما: أن لا يتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين، أو السبب المعين؛ لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكُّم من غير دليل، وضلال على غير سبيل ولا يصح الحكم على زيد".

كيف تقيس أو تطرد هذا الحُكم في مسائل وأنت لا تعرف علّة المسألة الأصلية؟ هذا تحكُّم، كيف تدخل وتُلحِق مسائل في المسألة الأصلية المنصوص عليها وأنت ما أدركت أصل العِلة؟ لأن من أركان القياس معرفة العِلّة الجامعة بين الأصل والفرع، فإذا فُقدت العِلّة، فكيف يكون هذا أصلًا لهذا؟

"ولا يصح الحكم على زيد بما وضع حكمًا على عمرو، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا؛ لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكمًا عليه، فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع فالتوقف هنا لعدم الدليل.

والثاني: أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعًا أن لا يُتَعَدَّى بها محالها، حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي؛ لأن عدم نصبه دليلاً على التعدي دليلٌ على عدم التعدي؛ إذ لو كان عند الشارع متعديًا لنصب عليه دليلاً، ووضع له مسلكًا، ومسالك العلة معروفة، وقد خبر بها محل الحكم، فلم توجد له علة يشهد لها مسلك من المسالك، فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصودٍ للشارع. فهذان المسلكان كلاهما مُتَّجِهٌ في الموضع إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثًا حتى يجد مَخلَصًا؛ إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع، ويمكن أن لا يكون مقصودًا له، والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفيُ التعدي من غير توقف، ويحكم به علمًا، أو ظنًا بأنه غير مقصودٍ له؛ إذ لو كان مقصودًا لنصب عليه دليلاً".

نعم، الأول يقتضي التوقف من غير جزم؛ لأنك لم تقف على عِلّة، لكن لا تجزم بانتفاء العِلّة، والسبب في ذلك إما قصور أو تقصير، قصور في إدراك الشخص، أو تقصير في بحثه، هنا لا يجزم بالنفي ولا بالإثبات، لكن الثّاني.... إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد؛ لأنه لم يدرك هذه العِلة لتقصيره أو لقصوره، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد، فيبقى الناظر باحثًا حتى يجد مخلصًا؛ إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع، ويمكن ألا يكون مقصودًا له انتهى.

 والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد؛ لأنه يجزم بأنه لا عِلّة، أو أن العلّة غير ما غير العلّة التي في الحكم الذي يراد إلحاقه بالأصل، إما أن يجزم بأن هذه العِلّة لا تنطبق عليه، أو أن الأصل لا عِلّة له، وحينئذٍ يجزم بعدم الإلحاق، الأول يتوقف.

 يعني نظير ذلك نظير ذلك، مثل ما قلنا مرارًا، الجهالة، جهالة الراوي، جهالة الراوي هل هي قادح، جرح، أو عدم علم بحال الراوي؟ يعني إذا قلنا: قادِح ضعَّفنا الخبر مباشرةً، حكمنا على الخبر بأنه ضعيف، لوجود فلان وهو مجهول، وإذا قلنا: عدم علم بحال الراوي توقفنا فيه حتى نعلم حاله، حتى نجد من يوثقه أو ينصّ على تضعيفه فنقبل أو نرد، فما عندنا فيه علم بيقين أنه تنطبق عليه العِلة أو لا تنطبق عليه العِلة جزمنا عليه نفيًا أو إثباتًا، وما توقفنا فيه بأن العلة لا تنطبق عليه أو تنطبق عليه مثل هذا نتوقف فيه.

"ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود، فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم، ثم يطلع بعد على دليل ينسخ حزمه إلى خلافه".

ولهذا عُرِف عن كثير من الأئمة أكثر من قول في مسألة واحدة؛ لأنه في وقت يترجح له كذا، وفي وقتٍ آخر يترجح له غيره، يتجدد اجتهاده، ويطلع من الأدلة، ويتبين له، يلوح له فهم آخر غير ما فهمه في المرة الأولى، وحينئذٍ يتغير اجتهاده.

"فإن قيل: فهما مسلكان متعارضان؛ لأن أحدهما يقتضي التوقف، والآخر لا يقتضيه، وهما في النظر سواء، فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما، فلا يبقى إلا التوقف، وحده فكيف يتجهان معًا؟ فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل، فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين، وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدَين، أو مجتهد واحد في وقتين أو مسألتين، فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة، ومسلك النفي في مسألة أخرى، فلا تعارض على الإطلاق".

نعم، قد تكون هناك قواعد مقررة عند أهل العلم، لكن في بعض المسائل وإن كان ينطبق عليها هذه القاعدة إلا أنها عورضت بقواعد أخرى، يعني مثل ما قلنا في مسألة قطع الخُفّ، يعني هل الإمام أحمد ينازع في حمل المطلق على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب؟ ما ينازع، وعدم القطع مطلق، والقطع مقيد، فينبغي أن تطبق عليه القاعدة، لكن عورض عنده بأصل آخر، وهو البيان في وقته؛ لأن عدم القطع ذُكر عند أناس لم يسمعوا القيد، والبيان في هذا الموضع واجب، وتأخيره عن موضعه لا يجوز، عن وقته، لا يجوز، فرجَّح هذا في هذه الصورة، وإلا ففي صور كثيرة قريبة من هذه يقول: لا يلزم البيان في كل مناسبة، لكن لما كان العدد الذين سمعوا الخبر من غير تقييد أضعافًا مضاعفة وجاؤوا من آفاق فالذي يغلب على الظن أنه ما بلغه مما سمع، قال بعدم القطع.

"وأيضًا فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلَّب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل؛ ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس...".

ولذلك في باب العبادات يمنعون القياس؛ لأن المغلَّب فيها التعبد، لا قياس في العبادات، هذا القول المتفق عليه بين أهل العلم، لكنهم تجدهم في بعض القضايا يلجؤون إليه، لكن ليس هو الأصل، يعني على خلاف الأصل، إذا أشكل عليهم شيء وتوازنت عندهم الأدلة تجدهم يميلون ويرجحون ببعض الأقيسة التي هي ببعض الأحكام أليق، على كل حال مثل هذا موجود في مواقع استعمالهم، وإن منعوه نظريًّا، أما في باب المعاملات والنكاح والأبواب الأخرى من أبواب الدين غير العبادات فالأقيسة مستعملة على أوسع نطاق، شريطة أن تتوافر أركان القياس.

"ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة، حتى اشترط الماء المطلق، وفي رفع الأحداث النية، وإن حصلت النظافة دون ذلك، وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما، ومنع من إخراج القيم في الزكاة".

امتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما، فلا تنعقد الصلاة إلا بقول: الله أكبر، ولا تنتهي إلا بقول: السلام عليكم ورحمة الله؛ لأنها ألفاظ متعبد بها، توقيفية لا يُزاد ولا ينقَص، وهذا قول الحنابلة أيضًا، يلتزمون، لكن الشافعية يجوز عندهم: الله الأكبر، والحنفية يجوز عندهم: الله الأعظم الله الأجل؛ لأن المقصود تعظيم الرب -جل وعلا- وقد حصل.

"واقتصر على مجرد العدد في الكفارات، إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه، أو ما ماثله. وغلَّب في باب العادات المعنى، فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال به".

فيه.

"الذي قال فيه: إنه تسعة أعشار العلم. إلى ما يتبع ذلك، وقد مرّ الكلام في هذا والدليل عليه، وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات، ومسلك التوقف متمكن في العادات. وقد يمكن أن تُراعى المعاني في باب العبادات وقد ظهر منه شيءٌ، فيجري الباقي عليه، وهي طريقة الحنفية، والتعبدات في باب العادات، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه، وهي طريقة الظاهرية".

الآن على طرفي نقيض، الحنفية أجروا المعاني في باب العبادات، والظاهرية ألغوا المعاني في المعاملات.

"ولكن العُمدة ما تقدَّم، وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة. والجهة الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصدَ أصلية، ومقاصدَ تابعة. مثال ذلك: النكاح، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول".

يعني بقصد بقاء النوع، بقاء النوع، لكن هل المقصود هذا المقصود الأصلي معه مقاصد أخرى أم فقط هذا القصد؟

طالب:...

بمعنى أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج إلا إذا لاحظ الولد، فماذا عن الذي لا يشترط عدم الإنجاب؟ نكاحه صحيح أم غير صحيح؟ يعني إذا كان المقصود التناسل القصد الأوّل، لكن معه مقاصد أخرى، الشرع ما ألغى المقاصد الأولى... الأخرى، فالذي يشترط عدم الإنجاب هل نقول: إن هذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف للقصد الأصلي من النكاح؟ أو معتبر والمسلمون على شروطهم وإن أحق ما إيش؟

طالب:...

لا، «إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج» نعم. هو استحلها بهذا الشرط لا سيما إذا كانت هي التي اشترطت، هل نوفي هذا الشرط أو لا نوفيه؟

المقصود أن النكاح هذا مقصوده الأصلي بقاء النوع، وله مقاصد أخرى معتبرة، معتبرة شرعًا، وجاء من الأدلة ما يدل عليها، يعني من المنصوص عليه كسر الشهوة، يعني تخفيف الشهوة بالزواج أو بالتسرِّي؛ لأنه لو لم تخف شهوته بالزواج أو بالتسري، ويحصل به غض بصره، وحفظ فرجه، لو لم يحصل له ذلك لطلبه بوسائل محرمة.

طالب:...

نعم.

طالب:...

الشرط باطل، لكن لا يُبطِل العقد، العقد صحيح. كمن اشترط في السلعة ألا يستعملها، باع عليك سيارة وقال: خلاص، ما أنا معطيك المفتاح لا تستعملها ولا تشغلها، منهم من يقول: إن هذا يقضي على العقد بالبطلان؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، فمثل هذا الذي العقد منصب على الاستعمال والإفادة، هذا هو متجه كونه يقضي عليه بالبطلان، لكن إذا كان له مقاصد أخرى يمكن تحقيقها يعني فرق بين أن يقول: يبيع عليك السيارة ويشترط عليك ألا تسافر بها سفرًا محرمًا، ولا مكروهًا، والأصل في السلعة التي اشتريتها بحرّ مالك أن تستعملها فيما أردت، وبين أن يشترط عليك ألا تستعملها بالكلية، فرق بين هذا وهذا.

"مثال ذلك: النكاح، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول، ويليه طلب السكن والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، من الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه، وعلى أولاده منها، أو من غيرها، أو إخوته".

يعني كما جاء في الحديث: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها»، هذه مقاصد في النكاح، لكن المقصد الشرعي الذي حثّ عليه الشرع وألغى النظر إلى ما عداه «فاظفر بذات الدين تربت يداك».

"والتحفُّظِ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظَر العين، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد، وما أشبه ذلك، فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح، فمنه منصوص عليه، أو مشار إليه، ومنه ما علم بدليل آخر، ومسلك استُقرِئ من ذلك المنصوص، وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مُثبِّت للمقصد الأول".

الأصلي.

"للمقصد الأول... للمقصد الأصلي، ومقوٍّ لحكمته، ومستدعٍ لطلبه، وإدامته، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل، فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضًا، كما رُوي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبًا لشرف النسب، ومواصلة أرفع البيوتات، وما أشبه ذلك، فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ، وأن قصد التسبب له حسن.

وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق، من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة، كما إذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثًا، فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامةً إلى انقطاع الحياة من غير شرط؛ إذ كان المقصود منه المقاطعة بإطلاق، المقاطعةَ بالطلاق، وكذلك نكاح المتعة، وكل نكاح على هذا السبيل، وهو أشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة، حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك.

وهكذا العبادات، فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة".

بعض الناس قد ينظر إلى هذا المقصد الأصلي، ويجعله مقصدًا لكنه ثانوي، يتوصل به إلى مقصدٍ دونه في الأصل، فالقصد الأصلي من النكاح التناسُل، فيتزوج المرأة وهو لا يرغب في نسلها، فإذا أحبها رغب في نسلها؛ ليتمكن حُبه من قلبها؛ لأن الولد يربط، وإذا أحبها وخشي أن تتركه في يوم من الأيام أو العكس، رغبوا في الولد، فصار المقصد الأصلي ثانويًّا باعتبارهم، وصار المقصد الثاني أوّلًا على حدِّ تصرفهم وزعمهم.

"وهكذا العبادات، فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول، وباعثة عليه، ومقتضية للدوام فيه سرًّا وجهرًا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده كالتابع بقصد حفظ المال".

كالتعبد.

"كالتعبد بقصد حفظ المال والدم، أو لينال من أوساخ الناس أو من تعظيمهم، كفعل المنافقين والمرائين، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام، بل هو مقوّ للترك، ومكسل عن الفعل؛ ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه، فإن بعُدَ عليه تَرَكَه، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]".

يعني يقصد أن يكون وليًّا من أولياء الله تعالى، إن قصده بهذا القصد أو من هذا القصد أن يحبه الله -جل وعلا-، وأن يعادي من يعاديه وأن يكون مقربًا لديه، محبوبًا إليه، محفوظًا عنده هذا هدف شرعي، وإن كان قصده أن يكون مُعظمًا عند الناس مقدَّمًا لديهم، فهذا مذموم، نعم.

"فمثل هذا المقصد مضادٌ لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله، وإن كان مقتضاه حاصلاً بالتبعية من غير قصد، فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق، فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل".

يعني النهاية فراق سواءً كان ناكحًا من أجل الاستمرار ومن أجل الولد، والمودة والرحمة في النهاية، يعني بعد شهر أو شهرين يطلِّق، والثاني الذي نكح مدة شهرين أو ثلاثة متعةً يطلِّق، قالوا في النكاح: يقول: فالناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق، بعد شهر أو شهرين أو سنة، فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل، لكن قصد هذا غير قصد هذا، هذا محمود وهذا مَلُوم.

"والمتعبد لله على القصد المؤكد، يحصل له حفظ الدم والمال، ونيل المراتب والتعظيم فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة".

يعني ما يحصل من تعظيم لمن سعى إلى الولاية ولاية الله -جل وعلا-، من أجله من أجل التعظيم الذي يحصل له يحصل نظيره أو أعظم منه لمن أخلص لله -جل وعلا-، والذي يحصل لمن نطق بالشهادتين حقنًا لدمه فقط، يحصل نظيره بل أعظم منه لمن قصد بذلك رضا الله -جل وعلا-.

"ولكنَّ الفرق بينهما ظاهر، من جهة أن قاصد التابع المؤكد حرٍ بالدوام، وقاصد التابع غير المؤكد حرٍ بالانقطاع. فإن قيل: هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي عينًا أم يكتفى فيها بكونها لا تقتضي الموافقة؟ وبيان ذلك: أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينًا، فلا يصح؛ لأن مخالفته لقصد الشارع عينية، ونكاح القاصد لمضارة الزوجة، أو لأخذ مالها، أو ليوقع بها، وما أشبه ذلك ما لا يقتضي مواصلة، ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح، ولكنه لا يقتضي المخالفة عينًا؛ إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح، أو الحكم على الزوج، أو زوال ذلك الخاطر السببي، وإن كان القصد الأول مقتضيًا فليس اقتضاؤه عينيًّا".

نعم قد يتزوج الإنسان لقصد من المقاصد، ثم يتبين له ما هو أعظم من هذا المقصد، وأن هذا المقصد لا شيء، أو لا حقيقة له، متوقع أن عندها أموالًا، فتزوجها لذلك، فتبين أنه لا مال لها، لكن عندها جمال أو أخلاق أو دين، فأحبها لأجل ذلك فالقصد الذي من أجله يُقدَم على الشيء أو يُترك من أجله قد يتغير.

"فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها، وبطلان مقتضاها مطلقًا في العبادات والعادات معًا، فلا يصح أن يَتعبَّدَ لله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد، وإن أمكن كونه مشروعًا في نفس الأمر، وكذلك لا يصح له أن يتزوج بذلك القصد، وأما ما لا يقتضي المخالفة عينًا كالنكاح بقصد المضارة، وكنكاح التحليل عند من يصححه، فإن هنا وجهين من النظر؛ فإن القصد وإن كان غير موافق لم يظهر فيه عين المخالفة، فمن ترجَّح عنده جانب عدم الموافقة مَنَع، ومن ترجَّح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يَمنع، ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة، فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع. فالنكاح منفردٌ بالحكم في نفسه، وهو في البقاء، أو الفرقة ممكن، إلا أن المضارة مظِنَّةٌ للتفَرُّق، فمن اعتبر هذا المقدار منع، ومن لم يعتبره أجاز".

يعني شخص تزوج امرأة للإضرار بها، هذا الاحتمال وإن كان هو الباعث الأصلي، إلا أنه قد يوجد ما يخالفه ويضاده، حصل النكاح على هذا الأساس، والزوج مُبيِّت هذا الأمر، ثم بعد أن دخل بها وجد عندها ما يغريه بها، ويرفع عنده القصد الأصلي، إلى قصدٍ آخر، فمن نظر إلى القصد الأصلي وأنه ما تزوجها إلا لهذا منع، ومن نظر إلى ما آل إليه الأمر أجاز، والله أعلم. غدًا إن شاء الله نكمل الموافقات؛ لأن السبل ينتهي اليوم إن شاء الله، السبل ينتهي اليوم، وغدًا يعني بمقدار درسين باقيين، لكن نكمله إن شاء الله.

طالب:...

ماذا فيه؟

طالب:...

نعم، لكن كون الشيء متفقًا عليه بين الطرفين بحيث لو عدل واحد ما عدل الثّاني، يختلف عما إذا بيَّته شخص في نفسه، والطرف الثّاني لا يدري؛ لأنه في نكاح المتعة لو أراد التمديد ما طاعه، وهذا لو أراد التمديد وهو ما باح به لأحد ما الذي يمنعه كما هو الأصل؟

طالب:...

العامة، الأئمة الأربعة كلهم على جوازه، ماذا تفعل بهم؟

طالب:...

أبدًا، بشرط ألا تعلم المرأة ولا وليها، لكن لا يعرف الطرف الآخر.

طالب:...

لا؛ لأنه ملعون لذاته.