بلوغ المرام - كتاب البيوع (13)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه: (بلوغ المرام من أدلة الأحكام):
باب: الشركة والوكالة
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قال الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجتُ من بينهما)) رواه أبو داود وصححه الحاكم.
وعن السائب المخزومي -رضي الله تعالى عنه- أنه كان شريك النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: ((مرحباً بأخي وشريكي)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "اشتركت أنا وعمار وسعد في ما نصيب يوم بدر" الحديث رواه النسائي وغيره.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- الحافظ ابن حجر في كتابه: بلوغ المرام من أدلة الأحكام:
باب: الشركة والوكالة
الشركة: بفتح الشين المعجمة، وكسر الراء على زنة سرقة، وقد تقال بإسكان الراء مع كسر الأول شِركة على وزن نعمة، وقد تقال بفتح أوله وثانيه، شَرَكة على وزن ثمرة، وهي في الأصل: الخلطة والاختلاط، اشتراك بين شيئين الخلط بينهما {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ} [ص:24] المراد بهم: الشركاء {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] كثير من هؤلاء الذين تحصل بينهم الشركة والخلطة بسبب ما جبلت عليه النفوس من البغي والظلم والعدوان وحب الدنيا، وإيثار النفس يحصل البغي بينهم، وقوله: "كثير" يدل على أن هناك من يوفق للعدل والإنصاف من النفس؛ لأن الكثرة أو ذكر الكثير يدل على أن هناك ما يقابل الكثير وهو القليل، من ينصف من نفسه، ويبرأ من العهدة بيقين، وحقيق وخليق بالمسلم أن يكون كذلك، يكون منصفاً من نفسه، فيبرأ من عهدة ما أوجب الله عليه من حقوقه، وحقوق عباده بيقين، ليلقى الله -جل وعلا- وليست لديه مظلمة، والمظالم شأنها عظيم، البغي والعدوان على حقوق العباد، حقوق الله -جل وعلا- مبنية على المسامحة، لكن حقوق العباد مبنية على المشاحة، فعلى الإنسان أن يحرص على براءة ذمته، ولذا قال الله –جل-: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] فاحرص أيها المسلم وأنت طالب علم تقضي وقتك بهذا المندوب، تقضي جل وقتك بصدد تحصيل هذا المندوب، فلئن تبرأ من عهدة ما أوجب الله عليك، وأن تتنصل عن ما حرم الله عليك من باب أولى، ويوجد من طلاب العلم، بل ممن ينتسب إلى العلم من هو صاحب تحري وتثبت، لكنه بالنسبة للنوافل مقل، ومنهم العكس تجده في باب الواجبات يلاحظ عليه ما يُلاحظ، وإن لم يكن شيئاً مخل خللاً بيناً، لكن تجد عنده شيء من التقصير، ويجبره بكثير من النوافل، فأيهما أولى وأحرى وأجدر؟ ((وما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه)) يبرأ من عهدة الفريضة والواجب بيقين، ثم بعد ذلك يلتفت إلى النوافل، والله المستعان.
الشركة تكون أحياناً عن اختيار، وأحياناً تكون لا عن اختيار، فالشركة عن الاختيار التي تُبدأ من قبل الطرفين بعد أن لم تكن، اختياراً منهما، يشترك زيد وعمرو بأن يدفع كل واحد من ماله جزءً فيخلطانه ويزاولان به التجارة، على أن تكون الأرباح بينهما، وأحياناً تكون لا عن اختيار بأن يرث زيد وعمرو بكراً، من تركته ما قدر له شرعاً فهذا شريك له في التركة، لكن هل هو باختياره أو لا عن اختياره؟ ليس عن اختيار.
باب: الشركة، الشركة لها أقسام عند أهل العلم وأنواع مما يتعلق بالأموال، ومنها ما يتعلق بالأبدان، والوكالة بفتح الواو وقد تكسر، مصدر وكّل يوكل توكيلاً ووكالة، والأصل فيها التفويض، تفويض الأمر، ومنها التوكل على الله -جل وعلا-، تفويض جميع الأمور إليه، كثيراً ما يقول الناس: الأصل أن يقال: توكلت على الله، {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [(23) سورة المائدة] والتوكل من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله -جل وعلا-، التوكل الذي يتعبد به، لا يجوز صرفه، تفويض الأمور كلها لله -جل وعلا-، هذا نوع من أنواع العبادة، لكن التوكيل والاعتماد على المخلوق فيما يقدر عليه، فيما يقبل النيابة مثل هذا جاءت النصوص فيه، وعليه عمل المسلمين، وينوب بعضهم عن بعض حتى في بعض العبادات التي تقبل النيابة؛ لأن من العبادات ما يقبل النيابة، ومنها ما لا يقبل النيابة، وعرفوها في الاصطلاح: أنها إقامة شخص غيره مقام نفسه، إما مطلقاً وإما مقيداً، فهناك الوكالات العامة المطلقة، وهناك الوكالات الخاصة المقيدة، فإذا وكل على أمر من الأمور الخاصة وكله يبيع له هذه الأرض بعينها لا يتعدى ما وكل فيه، أما إذا وكله مطلقاً، تصرف عنه تصرفاً عاماً مطلقاً فمثل هذا إذا لم تدل القرائن على منعه من بعض الأمور، فالأصل العمل باللفظ، فيتزوج له، ويطلق عنه، لكن هناك أشياء لا تقبل النيابة، ما يقول: احلف عني، فضلاً عن كونه يصلي عنه، أو يصوم عنه في غير النذر، إذا مات وعليه صوم.
يقول في الحديث الأول:
"عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين))" هذا الحديث يسمونه إيش؟ قدسي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أضافه إلى الله -جل وعلا-، وهذه حقيقة الحديث القدسي، وهي ما تكون إضافته إلى الله -جل وعلا-، وأما لفظه ومعناه فحكمه حكم الحديث النبوي، تجوز روايته بالمعنى، واللفظ لا يجزم بأنه اللفظ الإلهي، وإن كان المعنى من الله -جل وعلا-، هذا الحديث يقول الحافظ: "رواه أبو داود، وصححه الحاكم" لكنه ضعيف، معل بعلتين، أولاهما: الجهالة بحال راويه سعيد بن حيان، وأعله الدارقطني بالإرسال، فهو ضعيف لهاتين العلتين.
ننظر في معناه، يقول الله تعالى فيما يروى عنه: ((أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه)) يعني هو معهما، الله -جل وعلا- مع الشريكين بالحفظ والرعاية والعناية، وتيسير الأمور؛ لأن هذه معية خاصة ((ما لم يخن أحدهما صاحبه)) فالخيانة شأنها عظيم تمحق البركة، وترفع هذه المعية الخاصة وتنافيها، والخيانة من صفة المنافقين، ومن علامات النفاق، إذا اؤتمن خان، والشريك لا شك أنه مؤتمن على أموال صاحبه، ويتمكن منها بحيث يستطيع أن يخون صاحبه، ولا يستطيع صاحبه إقامة البينة عليه، ولذا جاء التشديد في شأنه، ((أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما)) يعني وكلهما إلى نفسيهما وإلى جهدهم، ومحقت البركة من بينهم، هذا معنى الحديث يعني لو ثبت، وأهل العلم يتكلمون على الأحاديث ويشرحونها ويبينون معانيها ولو لم تثبت، إذا كانت هذه المعاني صحيحة، أولاً: يبينون ضعفها ولا يبنى عليها حكم من الأحكام، لكن الخيانة -مدلول الحديث- دلت عليها الأدلة الكثيرة، يعني الحديث لم يتفرد بذم الخيانة لنقول: إننا نبني عليها حكم من الأحكام، فالخيانة من خصال المنافقين -نسأل الله السلامة والعافية-، وتحرم مطلقاً، وإذا كانت بين شريكين لا يستطيع أحدهما إقامة البينة على صاحبه فإن أمرها يكون أشد؛ لأنه ما تستطاع إقامة البينة عليه أمره أسهل يقيم عليه البينة، ويؤخذ نصيبه، ويردع الخائن، لكن الذي لا يستطاع إقامة البينة عليه، ولذا صارت الخيانات بين من تكثر معاملته له من قريب من زوج أو زوجة أو والد أو ولد أو ما أشبه ذلك، أمرها شديد، والرجل مؤتمن على زوجته، ومؤتمن على ولده، وقد استرعاه الله -جل وعلا- على هذه الرعية، فإذا خانها استحق الوعيد الشديد الذي ورد في ذلك، المدرس مؤتمن فإذا خان هذه الأمانة استحق الوعيد وهكذا، فالخيانة ولو لم يرد هذا الحديث جاءت النصوص المتكاثرة المتظافرة بتحريمها، وجاء أيضاً النهي عنها ولو بدأ الطرف الآخر بالخيانة، فجاء في الحديث: ((ولا تخن من خانك)).
ثم بعد هذا في الحديث الذي يليه حديث السائب بن أبي السائب المخزومي -رضي الله عنه- أنه كان شريك النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة في الجاهلية، فجاء يوم الفتح كي يسلم النبي -عليه الصلاة والسلام- مع مسلمة الفتح، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((مرحباً بأخي وشريكي)) فالترحيب بالضيف أمر مطلوب، وهو من إكرامه، ولا سيما إذا كانت بينك وبينه صلة ودالة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- رحب بجمع من صحابته، فقال: ((مرحباً بأم هانئ)) و((مرحباً بابنتي)) لكن هل هذا اللفظ مما اكتفى به من رد السلام أو لا؟ في حديث أم هانئ جاءت والنبي -عليه الصلاة والسلام- يغتسل فقالت: السلام عليك يا رسول الله، يوم الفتح فقال: ((مرحباً بأم هانئ)) ولم ينقل عنه أنه قال: وعليك السلام، حتى أن بعضهم قال: إن الترحيب يكفي عن رد السلام، وهو رد للتحية؛ لأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد السلام على أم هانئ، وقال: ((مرحباً بابنتي)) يعني فاطمة، وما نقل عنه أنه رد السلام، ومنهم من يقول: إنه لا بد من رد السلام بلفظه، والزيادة عليه مطلوبة {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [(86) سورة النساء] فأقل الأحوال أن ترد، وكون رد السلام لم ينقل لا يعني أنه لم يحصل؛ لأن هذا مما علم، فلا يحتاج إلى نقله، ونقل في نصوص أخرى يكتفى بها، يعني لا يلزم أن ينقل ما يتضمن الحكم الشرعي في كل مناسبة، إذا عرف الحكم وأن رد السلام لا بد منه يرد السلام، ويكتفى بما ثبت فيه، ولا يلزم أن يثبت في كل قضية.
((مرحباً بأخي وشريكي)) السائب بن أبي السائب المخزومي هذا من المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامه بعد ذلك، وعمّر طويلاً، كان شريكاً للنبي -عليه الصلاة والسلام- قبل البعثة، وعاش بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- دهراً إلى زمن معاوية -رضي الله عنه-، جاز المائة قطعاً، النبي -عليه الصلاة والسلام- شاركه قبل البعثة، وعاش النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد البعثة ثلاث وعشرون سنة، وعاش هو بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- دهراً طويلاً، وهم ممن ذكر ممن عاش فوق المائة، ممن عمّر، جاء في مدحه: ((مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يماري ولا يداري)) المماراة هي المجادلة والمخاصمة، فتكون أموره مبنية على المسامحة، الذي لا يماري ولا يخاصم ولا يجادل هذا من كانت أموره مبنية على المسامحة, ولا يداري هل هو من المداراة أو من المدارأة؟ هل هذا اللفظ من المداراة أو من المدارأة؟ لأنه إذا كان من المداراة يكون من المراعاة، مراعاة الأحوال وهذه مطلوبة، وإذا كان من المدارأة وهي المدافعة، إذا أراد شريكه شيئاً دفعه عنه فالمدارأة مذمومة، وأما المداراة وهي استعمال الأساليب المناسبة في الأوقات المناسبة من أجل تمشية الأمور فهذه لا بأس بها، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((بئس أخو العشيرة)) ولما دخل عنده، استأذن عليه ودخل انبسط معه، هذه يقال لها: مداراة، وهي مطلوبة في بعض الأحوال، بخلاف المداهنة، المداهنة التنازل عن شيء مما أوجب الله -جل وعلا- بحيث لا يفعل، أو ارتكاب محظور من أجل فلان أو علان، هذه مداهنة، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [(9) سورة القلم] ودوا لو تتنازل عن شيء من دينك، فالمداهنة لا تجوز بحال، والحديث فيه دليل على أن الشركة كانت موجودة قبل الإسلام، وأن الإسلام أبقاها؛ لأن هناك أعمال يعملها العرب في جاهليتهم، منها الحسن، وأبقاه الإسلام وأقره، ومنها السيئ والقبيح الذي نهى عنه وحذر منه، وعلى كل حال الحديث صحيح لغيره، يعني يحتج به، وجزم بعضهم بأنه حسن، وعلى كل حال هو في دائرة القبول والاحتجاج.
الحديث الذي يليه حديث عبد الله بن مسعود:
حديث "عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر" الحديث رواه النسائي وغيره، النسائي وأبو داود وابن ماجه، لكنه ضعيف، لماذا؟ لأنه من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وصرح أنه لم يسمع من أبيه شيئاً، فهو منقطع، مضعف بالانقطاع بين ابن مسعود وبين ولده أبي عبيدة، هذه علته، والحديث دليل على ما يسمى بشركة الأبدان، يتفق اثنان على أن يعملا بأبدانهما ثم بعد ذلك يجتمعان في اليوم في نهايته، أو في آخر الشهر، أو في آخر السنة، ثم يقتسمان ما تحصل لهما، شركة أبدان، والحديث دليل عليها لو صح، لكنه ضعيف.
يقول: زيد لعمرو نخرج في الوقت المحدد في السابعة صباحاً إلى السوق، أنت تشتغل كهربائي، وأنا سباك مثلاً، فما اجتمع لي يضاف إلى ما اجتمع لديك، ثم يقسم على اثنين، نصير شركاء، هذا النوع من الشركة صححه الحنفية، وحكم جمع من أهل العلم ببطلانه، أما الاعتماد على الحديث فلا يصح، ابن حزم إضافة إلى ضعف إسناده أبطل متنه، كيف يبطل متنه؟ المتن يقول: "اشتركت أنا وعمار وسعد في ما نصيب يوم بدر" يعني من الغنيمة، هل متن هذا الخبر مستقيم؟ فجاء سعد بغلامين، ولم أجيء أنا وعمار بشيء، ما جاءوا بشيء، وهذا جاء بأسيرين، هل متنه مما يثبت؟ وهل لكل واحد من الغزاة أن يتملك ما غنم؟ أو أن هذا غلول إذا أخذ من الغنيمة قبل أن تقسم شيئاً؟ مما حرمه الله -جل وعلا- لأنه غلول، والأصل أن مثل هذه الغنيمة قسمتها بيد ولي الأمر، يجمعها ثم يقسمها القسمة الشرعية {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [(41) سورة الأنفال] ..الخ، فأبطل متنه، إضافة إلى ضعف إسناده بالانقطاع، هل نقول: إن هذا اشتراط بينهم والمسلمون شروطهم، واتفاق والأمر لا يعدوهم، وتنازل من أحدهما للأخر؟ هل نستطيع أن نقول مثل هذا؟ هذا سباك وهذا كهربائي في نهاية الوقت جاء السباك بألف، وجاء الكهربائي بمائة، أضيفت المائة إلى الألف صارت ألف ومائة، وقسمت على اثنين، صار لكل واحد خمسمائة وخمسين، فكأن هذا تنازل عن أربعمائة وخمسين لصاحبه، يمكن أن يكون مثل هذا العقد جاري على القواعد؟ يشهد له شيء من أصول الشرع؟ يعني هذا مجرد تنازل، أو نقول: هذا مجرد غرر؟ لأن كل واحد يرجو أن يكون مكسب صاحبه أكثر، وأن هذا شرط لكنه ليس في كتاب الله، وليس في كتاب الله ما يشهد له، لو لم يحصل اتفاق في أول الأمر، خرج السباك وخرج الكهربائي ثم في المساء قال لصاحبه: كم حصلت؟ قال: حصلت ألف، وقال الثاني: أنا حصلت مائة، قال: وش رأيك نقتسم يمنع أو ما يمنع؟ ما يمنع هذا؛ لأن ما فيه غرر، هذا تنازل، هذه هبة من شخص لأخيه يمدح بها، لكن ما في غرر، لكن في أول الأمر كل واحد يرجو أن يكون صاحبه كسب أكثر، وأيضاً مثل هذا الاشتراك وهذا الاتفاق قد يدعو إلى الكسل والخمول، يقول: ما دام صاحبي يأخذ نصف كسبي لماذا أتعب؟ وعلى كل حال المعول على هذا الحديث وهو ضعيف جداً، والأصل في الشركات الخلطة، وليس في مثل هذا الصنيع ما يمكن خلطه؛ لأنها شركة أبدان، نعم.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: "أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً)) رواه أبو داود وصححه.
وعن عروة البارقي -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث معه بدينار يشتري له أضحية، الحديث، رواه البخاري في أثناء حديث، وقد تقدم.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة، الحديث، متفق عليه.
وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحر ثلاثاً وستين، وأمر علياً -رضي الله تعالى عنه- أن ينحر الباقي، الحديث رواه مسلم.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في قصة العسيف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وأغدو يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) الحديث، متفق عليه.
في الأحاديث الثلاثة السابقة شواهد لشق الترجمة الأول: الشركة، وبقية أحاديث الباب للشق الثاني: التي هي الوكالة، يقول في الحديث الرابع:
"وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إذا أتيت وكيلي في خيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً)) رواه أبو داود وصححه" وحسنه ابن حجر في التلخيص، وفيه عنعنة محمد بن إسحاق، وهو مدلس لا يقبل إلا ما صرح به، وقد عنعن، ولذا ضعفه جمع من أهل العلم.
يقول جابر -رضي الله تعالى عنه-: "أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إذا أتيت وكيلي في خيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً))" وفيه: ((إذا ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته)) علامة، يعني مثل: الشفرة، أو الكلمة التي يتفق عليها، كلمة سر ونحوها، هذا عمل متفق عليه بينهما، وعلى كل حال مثل ما ذكرنا الحديث مضعف بعنعنة ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، اختلف أهل العلم فيه اختلافاً كبيراً حتى قيل: أوثق الناس، وقيل: ركن للكذب، قيل: دجال من الدجالين، لكن التوسط في أمره هو المطلوب، وأنه إذا صح السند إليه، وصرح بالتحديث حديثه حسن، هذا هو المرجح عند أهل العلم، وهو إمام في المغازي، هذا الحديث يرويه جابر بن عبد الله، والقصة حصلت له، قال: "أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إذا أتيت وكليلي في خيبر فخذ منه))" هذا المقدار، الوكيل يحتاج إلى تعميد، ما هو هذا الوصل يحتاج إلى تعميد، أو إقامة بينة، يعني مثل هذا ما تصدق فيه الدعوة، ما تصدق فيه مجرد الدعوة، يعني لو أن إنساناً ذهب إلى المالية وقال: إن ولي الأمر أمر لي بكذا، يعطى بمجرد دعواه؟ لا يعطى بمجرد دعواه، بل لا بد من البينة، لا بد من كتابة لا يتطرق إليها الاحتمال، أو لا بد من الشهادة التي تدل على أنه صادق، أمارة وعلامة قد يضعها المسئول، وهذا كثير بين المسئولين هذه العلامات، وهذه الشفرات، وهذه التصرفات التي يتفق عليها بينهم ما زالت مستعلمة إلى الآن، فتجد شخصين كل واحد معه خطاب لجهة من الجهات، أو معهما خطاب، كل واحد معه خطاب إلى جهة واحدة، هذا طلب وظيفة فشرح له ولي الأمر لا مانع بأسلوب متفق عليه، وشرح للثاني كذلك، الثاني المسئول الذي ترد عليه المسئول الأصغر الذي وجه إليه يعرف الأسلوب الذي يلزمه بتوظيفه، والأسلوب الذي فيه شيء من السعة، وبعضهم يستعمل الألوان، ألوان الحبر إذا أراد الأمر الجازم النافذ وضع لون من ألوان الحبر أو وقع توقيع معين، وإذا أراد أن يكله إلى اجتهاد من أحيل إليه وضع اللون الثاني أو التوقيع الثاني، هذه علامات متفق عليها، لكن إذا اخترقت مثلاً، وعرف من خلال عمل هذا المطرد أن هذه العبارة تمشي وهذه العبارة ما تمشي، وتصرف في العبارة، ودخلها التزوير أو دخلها شيء من هذا اختل الأمر، التواقيع لا بد أن تكون منضبطة من أجل أن لا تزور، ولذا ينبغي أن يحتاط ويعتنى بها، والأختام كذلك ينبغي أن تحفظ ولا يتلاعب بها.
هذه القرينة التي -إن صح الخبر- بين النبي -عليه الصلاة والسلام وبين وكيله ((ضع يدك على ترقوته)) هذه قرينة أو شفرة يمكن كشفها، راح الأول وقال له: ((ضع يدك على ترقوته)) ثم أخبر غيره ((ضع يدك على ترقوته)) انكشفت، انتهت، بخلاف الأمور والدقائق الخفية التي لا تظهر لأحد، بإمكانه أن يأتي بعلامة لا يمكن اختراقها، هذه سهلة يعني كل يطلع عليها، ومكشوفة، وإذا أخبر بها الثاني واستعملها انتهى مفعولها، اللهم إلا إذا كانت لم تستعمل إلا هذا الرجل فقط، هذا يقول: ((ضع يدك على ترقوته)) وهذا اذهب بكذا ليراه، على كل حال مثل هذا التصرف مستعمل قديماً وحديثاً، لكن لا يلزم منه أن يكون الخبر صحيحاً، العبرة بإسناده.
((فإذا أتيت وكيلي في خيبر)) وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، ففيه إثبات الوكالة، ودليل على شرعيتها، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع، قام الإجماع على صحتها، ولكن هل تكفي القرينة لتصديق المدعي أو لا تكفي؟ وهل القرائن مما يحكم به أو لا؟ هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، فمنهم من لا يرى إلا البينة بالشهادة أو اليمين عند عدمها، ومنهم من يقول: إن القرائن قد تقوى فتقوم مقام البينة؛ لأن البينة هي ما أبان الحق، والقرينة أحياناً قد تكون أقوى من مجرد الشهادة، بعض القرائن أقوى، ابن القيم -رحمه الله- ذكر في الطرق الحكمية الحكم بالقرائن، وذكر قصص، القرائن في بعضها أقوى من مجرد الشهادة، ذكر أن جزاراً وكل إليه ذبح شاة، فذبحها في خربة، فلما ذبحها خرج من الخربة والمدية تقطر دماً، السكين متلطخة بالدم، وثيابه كذلك، وفي طريقه إلى الخروج من هذه الخربة في داخل الخربة وجد رجل يتشحط بدمائه، فمسك هذا الجزار، فقيل له: أنت القاتل، هل يستطيع أن يقول: لا أنا لست القاتل؟ السكين في يده مشهورة تقطر دم، والرجل يتشحط بدمه، أخذ به، فلما لم يبقَ سوى القصاص خرج رجل من الحضور وقال: أنا الذي قتلته، فخلي سبيله. شخص يجري وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة، وخلفه رجل يجري وراءه حاسر الرأس، ويقول: إنه أخذ عمامتي، يصدق أو ما يصدق؟ لأنه ما جرت عادة الناس بأن يمشي الرجل حاسر الرأس، يعني أنت لو تشوف اثنين من زملائك في المسجد يوم الجمعة وهم زملاءك تعرفهم، ما رأيتهم أبداً، ولا رأيت واحداً منهم يمشي حاسر الرأس، أحدهما على رأسه شماغ وطاقية، وبيده شماغ وطاقية، والثاني أصلع ما عليه شيء، ماذا تقول؟ ما تقول: الشماغ والطاقية، هذه قرينة، لكن لو كان في بلد مختلط فيه الحاسر، وفيه الذي عليه الطربوش، والذي عليه الشماغ، والذي عليه العمامة، مثل هذا يمكن يصير يمشي أصلع، ما في إشكال، فالقرائن منها ما يقوى على إثبات الحق، ومنها ما لا يقوى.
ابن القيم أطال في تقرير الحكم بالقرائن، وهنا فيه الحكم بهذه القرينة، ومنهم من يقول: يحكم بهذه القرائن إذا غلب على الظن الصدق، فيدفع له ما أدعاه وإلا فلا، مثل هذه القرائن أحياناً توقع في حرج عظيم، الاسترسال في القرائن، أو استعمال القرائن مع عدم غلبة الظن -ظن الصدق- شخص مع مجموعة خرجوا في رحلة خارج البلد، ثم قال لزميله: لو تكرمت أبي مفتاح السيارة با اصل مشوار، أخذ السيارة وذهب إلى بيته، فطرق الباب على أهله وقال: افتحوا الباب معي سيارة، يقول: لبقها في البيت، ما عندهم شك هذه سيارتهم، والقرينة دلت على صدقه، فتحوا البيت فصار فرصة أن ولج البيت وسكر الباب، وحصل منه ما حصل من سرقة وغيرها، فهم استدلوا بهذه القرينة على صدقه، فمثل هذه الأمور يحتاط فيها أشد الاحتياط، بعضهم يأخذ سبحة زميله، أو قلم زميله أو شيء مما يتعلق به ويعرف به، ويذهب إلى فلان ويقول: هذه سبحة فلان أو كذا، يقول: لو تكرمت أعطينا كذا، فمثل هذه القرائن لا شك أنه إذا غلب على الظن الصدق، ولم يكن الأثر المترتب على العمل بالقرينة فيما لو كذبت؛ يعني صارت في أمور يسيرة، الأمر يسير، لكن في الأمور الكبيرة وما يتعلق بالأموال العظيمة، أو يتعلق بالأعراض مثل هذه لا يصدق فيها، والله هذه سيارته أنت أجنبي ما تدخل البيت، ولو كانت سيارته، إيش يصير؟ لبقها عند الباب، والمفتاح من السور، ارمي علينا المفتاح من السور، فالتساهل في مثل هذه الأمور، واستغفال الناس، وغفلة بعض الناس قد يوقع في الحرج.
الحديث الذي يليه من أحاديث الوكالة يقول -رحمه الله تعالى-:
"وعن عروة البارقي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث معه بدينار يشتري له أضحية، الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم" تقدم نصه فيما تقدم، يقول: عن عروة البارقي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاه ديناراً يشتري به أضحية أو شاة فاشترى شاتين، (أو) هذه للشك، هل هي أضحية أو شاة؟ والأضحية شاة، وقد تكون كبش، المقصود يقول: فاشترى شاتين بدلاً من الشاة، اشترى بالدينار الواحد بدلاً من شاة واحدة اشترى شاتين، فباع إحداهما بدينار، بالمبلغ كامل، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه، يقول: رواه الخمسة إلا النسائي، وقد أخرجه البخاري ضمن حديث ولم يسق لفظه، والواقع أن البخاري -رحمه الله تعالى- ساق لفظه بهذا اللفظ، أعطاه النبي -عليه الصلاة والسلام- دينار واحد يشتري به شاة، فاشترى بالدينار شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاءه بشاة ودينار، الربح ظاهر، يعني من تُصرف له مثل هذا التصرف هل يتصور أن يغضب على هذا التصرف أو لا يرضى مثل هذا التصرف؟ هو كسبان على كل حال، أقل الأحوال ديناره رجع، ولو لم تكن الشاة التي يريدها، الأوصاف التي في نفسه، فمثل هذا التصرف هو فضولي بلا شك، تصرف تصرف على خلاف ما أمر به، لكنه يحقق ما أمر به وزيادة، الأصل أن يشتري شاة واحدة ما يشتري شاتين، فباع واحدة بدينار، ورجع بالدينار وشاة هذا التصرف وإن كان فضولياً إلا أنه الذي يغلب على ظن المتصرف الإجازة، لكن لو اشترى بالدينار شاتين، وجاء بهما إلى موكلة، وقال: أنا لا أريد هاتين الشاتين، أنا أريد شاة واحدة بدينار أطيب من الشاتين، لكن لما جاء بالدينار ومكسب شاة، ليس للموكل أن يقول: والله أنت تصرفت تصرف لا أرتضيه، أقل الأحوال أن يقول له: أرجع واشتر بهذا الدينار الشاة التي أريد، فهو كسبان على كل حال، أما لو اقتصر على شراء الشاتين قد لا يرتضى هذا التصرف من قبل الموكل، فمثل هذا يوقف على إجازة الموكل، أما في مثل هذه الصورة هل يوقف على إجازة الموكل؟ لا يوقف على إجازة الموكل لماذا؟ لأنه جاء بما وكل عليه وزيادة، أقل الأحوال أن الدينار رجع إليه ما خسر شيء، وهو كسبان من كل وجه، بخلاف ما لو جاء بشاتين أو ثلاث شياة بدينار بدلاً من واحدة، لو قال لك: خذ ريال وهات لنا خبزة واحدة، فأخذ الريال وأتى بثلاث خبز، الخبزة الواحدة المعروفة ذات الريال تعادل ست خبز من اللي هو جاب، يعني مثل هذا ما يطرد؛ لأنه إذا قال له: جيب خبز تميز بريال، فراح جاب له ثلاث خبز صامولة، يرضى وإلا ما يرضى؟ يقول: الرسول -صلى الله عليه وسلم- أرسل -عليه الصلاة والسلام- من يشتري له شاة فأتى بشاتين، وأنا جبت لك ثلاث، نقول: لا هذا يوقف إجازته؛ لأن الواحدة أكثر من الثلاث، بينما لو اشترى شاتين والموكل يحتاج إلى شاة ذات أوصاف معينة، فله أن يرد الشاتين، وأما الصورة التي في حديثنا فليس للموكل أن يرد؛ لأنه جاءه ماله وزيادة، فاشترى له شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة، هل يمكن أن يستدل بهذا الحديث على عدم تحديد الربح، ولو كان الضعف، تقول: أنا حر تشتر السلعة بمائة وتبيع بمائتين، المأخذ من الحديث واضح وإلا ما هو واضح؟ تقول: هذا أعطي دينار واشترى شاتين باع واحدة بدينار وجاب الشاة الثانية، دليل على أنه كسب الضعف، لماذا لا أكسب الضعف؟ هل له ذلك أو ليس له ذلك؟ الغبن عند من يقول بخيار الغبن يحده بالثلث، وهذا النصف، الضعف، فهل يمكن أن يستدل بهذا الحديث على جواز ربح الضعف؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- أنكر عليه وإلا أقره؟ أقره، ما أنكر عليه، فإما أن يكون صاحب الشاتين مغبون، باعهما بنصف القيمة، أو يكون الذي اشترى الشاة بدينار مغبون، اشتراها بضعف القيمة بدينار، ها يا الإخوان؟
طالب:......
في الثلثين، وبقيت التي في الثلث، فيكون كأنه كسب ثلث دينار، أو ثلاثة أرباع وربع إيش المانع؟ اشترى شاتين إحداهما رديئة والثانية طيبة، باع الطيبة بالدينار ورجع بالرديئة فلا يلزم أن يكون المكسب الضعف، وعلى كل حال على المسلم أن يكون سمحاً، فمثل هذا الحديث المحتمل لا يقضي على أحاديث واضحة وبينة ومحكمة ومفسرة جاءت تأمر بالرفق بالناس والمسامحة والتيسير عليهم، فمثل هذا لا يفتح باب على أهل الجشع أن يقولوا: والله إيش المانع؟ هذا مالي وأنا حر أبيع كيفما شئت، يعني نظير ما هو موجود في أسواق المسلمين من بيع بعض السلع بأضعاف مضعفة مما تستحقه، أحياناً يأتي بعض الفرص مثلاً، فيصير بالسلعة من حيث الشراء نزول أصل مشتراها فيها نزول، نزول ما فيه ضرر، ولا فيه غبن، ثم بيعها يصير فيه زيادة ليس فيها غبن ولا ضرر، فيحصل من الفارق بين هذا وهذا يحصل ربح كبير، يعني مثل لو اشترى سلعة بمائة ريال، وكسدت عنده هذه السلعة ثم ارتفع سعرها، فهو من الأصل اشتراها بقيمة نازلة، ثم احتاجها الناس وارتفع سعرها وصارت تباع بقيمة عالية، مثل هذا ما يقال: إنه استغل أو احتكر أو سوى، يعني مثل البيوت من أول قبل ثلاثين وأربعين سنة بقيم زهيدة، ثم ارتفعت أقيامها وهي بيد أربابها، مائة ضعف ارتفعت، فمثل هذا ما يقال: إنه استغلال، فلا شك أن الظروف والأحوال لها ما يحتف بها، وعلى كل حال المطلوب من المسلم أن ييسر على إخوانه المسلمين.
"فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه" وهذا ملاحظ، بعض الناس ما يدخل في شيء إلا ويربح فيه، ما يدخل في تجارة إلا والربح حليفه، بعض التجار أقام مشروع سكني احتاج إلى حفر الأرض فاجتمع لديه تراب كثير، تأذى منه أهل الحي من نتيجة حفر الأرض، فذهب إلى شركة لنقله، لنقل هذا التراب ليرمى خارج البلد، فطلبت منه الشركة مبلغ كبير جداً، فقال: لا نبحث عن شركة تكون أرخص، وفي أثناء بحثه جاءته شركة تشتري منه التراب بمبالغ طائلة، بدلاً من أن يدفع للشركة التي تريد حمل هذا التراب، جاءت شركة تشتري منه هذا التراب، فبعض الناس لا شك أنه تحل فيه أو في تصرفاته البركة بحيث يكون كما وصف عروة البارقي، أنه لو اشترى تراباً لربح فيه، هذه البركة، دعونا من هذا الصحابي والدعوة النبوية، أنس دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبركة في ماله وولده، ورأى ذلك، لكن مثل هذا التاجر الذي لا يدخل في تجارة إلا ويربح، هل هذه علامة خير أو علامة شر؟ أو لا هذا ولا هذا؟ بل ينظر في تصرفه في هذه الأموال التي يكسبها سواء كانت أرباح أو خسائر؟ قد يربح أرباح طائلة من باب الاستدراج، يستدرج ويختبر ويمتحن في هذا المال، كيف يتصرف؟ لأنه ليس على كل حال كثرة الأموال دلالة على أن الله يحب هذا الشخص الذي أعطاه هذه الأموال ويسر له أمر حصولها، فالعبرة في تصرفه في هذه الأموال، إن كانت تصرفها على ضوء ما يرضي الله -جل وعلا- فهي لا شك أنها خير له في دينه ودنياه، أما إذا كانت العكس فهي وبال عليه.
بعد هذا يقول:
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة" فالإمام يبعث السعاة والجباة لجباية الزكاة، فيأخذها ممن وجبت عليه "فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس" منعوا ورفضوا أن يدفعوا الصدقة إلى عمر -رضي الله تعالى عنه- "فلما بلغ ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((ما ينقم ابن جميل إلا إن كان فقيراً فأغناه الله))" يعني ليس له عذر إلا هذا، وهذا تأكيد للذم بما يشبه المدح، ليس له عذر إلا أن كان فقيراً فأغناه لله! هذا شكر النعمة؟! لما أغناه الله -جل وعلا- يمنع ما أوجب الله عليه! هذا ذم له، ((وأما خالد فقد احتبس أدراعه في سبيل الله)) منهم من يقول: إنه جعل هذه الأدراع بمثابة الزكاة، أخرجها عن الزكاة في سبيل الله وفي سبيل الله مصرف من مصارف الزكاة، وأخرج الزكاة عرض، ليست مال، والذي يظهر أن مثل خالد الذي حبس أدراعه في سبيل الله وأدراعه تعادل أكثر مما أوجب الله عليه لا يظن به أن يبخل بما أوجب الله عليه، يعني لو أن شخصاً عنده عمارة يؤجرها أو عرضها للبيع، فزكاتها كم تسوى؟ قالوا: قيمتها مليون، كم زكاتها؟ خمسة وعشرين ألفاً، وقبل أن تجب عليه الزكاة قال: هذه العمارة وقف لجمعية تحفيظ القرآن، هل نقول: مثل هذا يمنع الزكاة؟ هذا هروب من الزكاة؟ مثل هذا الذي تصدق بهذه الصدقة الكبيرة أكثر مما أوجب الله عليه لا يظن به أنه يمنع ما أوجب الله عليه، والأسلوب والسياق يدل على هذا.
((وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها)) فتحملها النبي -عليه الصلاة والسلام- عنه، ومثلها معها، ومنهم من يقول: إن العباس قد قدم زكاة سنتين، دفعها مقدمة للنبي -عليه الصلاة والسلام-، فقوله: ((هي علي)) يعني عندي، عندي زكاة هذه السنة من زكاة العباس والتي تليها، فقد قدم زكاة سنتين، والشاهد من الحديث للوكالة أن الزكاة تقبل التوكيل، وتقبل النيابة، ولذا تحملها النبي -عليه الصلاة والسلام- عن عمه، وفيه أيضاً توكيل النبي -عليه الصلاة والسلام- لعمر بن الخطاب في قبض الزكاة، النبي -عليه الصلاة والسلام- وكّل عمر في قبض الزكاة من أصحابها.
ثم بعد ذلك في حديث جابر -رضي الله عنه- وهو قطعة من حديثه في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم-، المخرج في صحيح مسلم، يقول: عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحر ثلاثاً وستين من البدن التي أهداها النبي -عليه الصلاة والسلام- في حجته، وقد بلغت مائة، فنحر -عليه الصلاة والسلام- بيده عدد سني عمره ثلاث وستين، وأمر علياً أن يذبح الباقي، وكله في ذبح الباقي، فدل على أن نحر الهدي وهو عبادة يصح التوكيل فيه، دل على أن من العبادات ما يقبل النيابة، فالذي يحسن الذبح ينبغي أن يتولى هذه العبادة بيده، والذي لا يحسن الذبح يوكل غيره، وقد فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- الأمرين، ذبح بيده -عليه الصلاة والسلام- ثلاثاً وستين, وأمر علياً، ووكله بذبح الباقي، الوكيل هل يشترط أن يكون مسلماً؟
طالب:.......
لماذا؟
الكتابي تصح ذبيحته، لكن الهدي الذي محله ومكانه مكة مثلاً والمشاعر، وقد منع الكافر من قربانها {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [(28) سورة التوبة] مثل هذا لا يوكل، لكن لو افترضنا هنا أنها أضحية مثلاً في بلد من بلدان المسلمين، وجاء الكتابي وقد أبيح لنا طعامهم وذبحهم، فذبيحته صحيحة، لكن النية لا ينوب فيها الكافر، لا بد أن ينوي المسلم أن هذه أضحية، القربة كونه يتولاها الكافر، لا شك أن النفس فيها شيء من هذا، لكن إذا لم يوجد غيره فلا إشكال، أما إذا وجد غيره فالأولى أن الذي يتولى القرب المسلمون، وقل مثل هذا في عمارة مسجد مثلاً مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا-، ينبغي أن يتولاه المسلمون بدء من تخطيطه إلى تنفيذه، لكن إذا لم يوجد غيره فالأمر فيه سعة -إن شاء الله تعالى-.
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصة العسيف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أغدو يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) الحديث متفق عليه" في قصة العسيف الذي زنى بامرأة مؤجرة والقصة معروفة في الصحيحين بطولها، لكن فيها: ((وأغدو يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فأرجمها)) فدل على أن الحدود تقبل النيابة والوكالة، ويمكن أن يوكل الإمام في إقامة الحدود وفي مقدماتها، وما تثبت به؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أنيساً أن ينوب عنه في هذا، فيما يثبت به الحد، وفي إقامة الحد، والحدود هي للإمام أو لمن ينيبه وليست لغيره، لا يُفتات على الإمام في إقامة الحدود، بل هي له، فلا يتولى الحدود إلا الإمام أو من ينوبه، ولذا قال: ((واغدوا يا أنيس)) وأيضاً الحدود من أعمال الرجال لا النساء، وإلا ما قال: أذهبي يا فلانة إلى امرأة هذا، والمرأة بالنسبة للمرأة، يعني لو كان الأمر يقبل نيابة المرأة في مثل هذا لقال: اذهبي يا فلانة، يعني للتحقيق مع هذه المرأة، فدل على أن هذا من عمل الرجال لا النساء، البخاري -رحمه الله تعالى- بوب على الحديث: باب الوكالة في الحدود.
اقرأ الحديث.
أحسن الله إليك.
باب: الإقرار، فيه الذي قبله وهذا شبهه.
عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قل الحق ولو كان مراً)) صححه ابن حبان في حديث طويل.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: الإقرار
والإقرار والاعتراف والإثبات بمعنى واحد، فالإقرار هو الاعتراف على النفس، أن يقر ويعترف على نفسه وفيه ما قبله من اعتراف المرأة في الحديث السابق ((فإن اعترفت فارجمها)) يعني إن قرت بما نسب إليها واعترفت به فارجمها، فهذا دليل على أن الإقرار يؤاخذ به إذا كان مكلفاً رشيداً فإنه يؤاخذ به، فإخبار الإنسان بما عليه يسمى إقرار، ويقابله الإنكار والجحود.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قل الحق ولو كان مراً)) صححه ابن حبان" يعني رواه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه أحمد والبيهقي، وهو حديث صحيح، وفيه جمل اقتصر المؤلف منه على موضع الشاهد، ((قل الحق ولو كان مراً)) يعني قل الحق على نفسك وعلى غيرك ولو ترتب عليه ما ترتب، فالحق لا بد من بيانه، ولذا يعترف الإنسان على نفسه، ويشهد على غيره، لا يجوز له أن يكتم الشهادة، فعليه أن يقول الحق ولو ناله ما ناله، اللهم إلا إذا كان يتضرر بقوله ضرراً بالغاً فمثل هذا فيه مندوحة، في الحديث: "أوصاني خليلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي" يعني في أمور الدنيا، وجاء الأمر بذلك في الصحيح -في صحيح البخاري-: ((انظروا إلى من هو دونكم فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) إذا نظر الإنسان إلى من دونه شكر الله -جل وعلا- على نعمه، أما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو فوقه مثل هذا لا يشكر نعمة الله عليه، يقال: والله أحمد ربك أنت عندك بيت، قال: وش بيت خمسمائة متر، شوف زميلي عنده ألف متر، لكن هو ما ينظر إلى من يسكن تحت جدار هو وأسرته، موجود الآن، أسرة مكونة من عشرين شخص تسكن تحت جدار، ما عندهم ولا معشاش، ما ينظر إلى مثل هؤلاء ليشكر نعمة الله عليه، تقول له: انظر يا أخي عافاك الله ما فيك مرض ولا فيك كذا ولا فيك كذا، يقول: بس شوف زميلي يسحب السيارة، مثل هذا يشكر نعمة الله عليه! هذا يزدري نعمة الله عليه, تقول: شوف يا أخي أنت يسر الله لك وظيفة ومعاش طيب، وعندك أسرة وكذا، يقول لك: شوف زميلي الآن يملك الأرصدة في الملوك، هذا لا يشكر نعمة الله عليه، بل يزدري نعمة الله عليه، لكن بالعكس لو قيل له مثلاً: وراك ما تطلع من هذا البيت، بيت حسرة أربعمائة متر، الناس طلعوا للقصور والاستراحات، قال: يا أخي شوف الناس الذين يعيشون بالعشش، مثل هذا يشكر نعمة الله عليه، وهذا مطرد في أمور الدنيا، لكن أمور الآخرة العكس، العكس ينظر إلى من فوقه لا من دونه، إذا قيل له: يا أخي ما شاء الله عليك أنت تجي قبل الإقامة، لكن يقول: شوف زملائي يجون قبل الآذان، قبل الآذان يحضرون، وإذا قيل: ما شاء الله أنت تحفظ كذا، قال: ما شاء الله شوف زملائي وش يسوون ويفعلون؟ ويقومون الليل، ويصومون النهار وأنا مسكين، مثل هذا إذا نظر إلى من فوقه بعثه ذلك على العمل بخلاف ما لو نظر إلى من دونه، إذا قيل له: وراك ما تجي إلا مع الإقامة؟ قال: أنت ما التفت يوم سلمنا صفين كلهم يقضون، مثل هذا يعاقب، المرة الثانية بيقضي، هذا ما يتشجع ويزداد من العمل الصالح، فهذا أمر مطرد في أمور الدنيا انظر إلى من دونك لتشكر نعمة الله عليك، ولا تزدري وبأمور الآخرة العكس، من أجل إيش؟ أن تتشجع، وحقيقة ما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من الانحطاط الذي نعيشه إلا بسبب نظرتنا العكسية لما طلب منا، فإذا قيل: يا أخي البلد قبل عشرين سنة وضعه غير هذا، البلد ما زال ينحدر، قال لك: شوف اللي جنبا، النار تبي تمتلئ من غيرنا، في ناس ما يصلون ولا يعرفون الله، وإحنا بنعمة نصلي ونصوم والحمد لله، وندحدر إلى أن نصل إلى حد لا نهاية له ونحن نقول..، ما يقول: انظر إلى البلد قبل عشرين قبل ثلاثين سنة، انظر إلى الصحابة، انظر إلى السلف، انظر إلى كذا، فمثل هذا لا شك أنه يوقع على كافة المستويات الأفراد والجماعات في هوة سحيقة، إذا نظر الإنسان تقول مثلاً لواحد: والله يا أخي أنت ما عندك إلا درسين بالأسبوع، قال: احمد ربك الزملاء كلهم ما عندهم دروس، هذا في النهاية يترك، لكن لما تضرب له مثال، شوف اللي عندهم أدركنا ناس عندهم خمسة دروس في اليوم من المشايخ، حينئذٍ يتشجع ويعمل، والله المستعان.
"أوصاني خليلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من فوقي، وأن أحب المساكين" حبك للمساكين يدل على أنه لله -جل وعلا-؛ لأنك لا ترجو من هذا المسكين شيء، تحب المساكين لهذا الوصف، لكن لو كان هذا المسكين عنده بنت وأنت طامع فيها، أنت تحب هذا المسكين لأنه مسكين؟ لا لأن وجود الوصف المناسب وهو المسكنة يحال عليه الحكم، يعني ما جاء الحث على حبهم إلا لأنهم مساكين، لا لأمر آخر.
"وأن أحب المساكين، وأن أدنو منهم" لأنهم بهم تعرف نعمة الله عليك، ولا تفتن بدنياهم، بينما إذا قربت من العلية تزدري نعمة الله عليك من جهة، وتفتن بدنياهم، وتنشغل بها.
"وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني" ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها، وجاء من يشكو قراباته وقال: إن له قرابة يصلهم ويقطعونه، ويحسن إليهم ويسيئون إليه، فذكر له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن كان الأمر كما تقول فكأنما تسفهم الماء)) وصلة الرحم شأنها عظيم، وفي ذروتها بر الوالدين، ثم صلة الأقارب الأقرب فالأقرب.
"وأن أقول الحق ولو كان مراً" وهنا في الحديث قال: ((قل الحق ولو كان مراً)) أوصاني أن أقول، يعني قل المعنى واحد "وأن أقول الحق ولو كان مراً" يعني ولو ترتب عليه المرارة، والمراد بالمرارة هنا المرارة المعنوية، وهي ما تكرهه النفس وتأباه.
"وأن لا أخاف في الله لومة لائم" إذا كان أمره لله، مخلصاً لله في ذلك لا يهمه كلام الناس، لا يعبأ بكلام الناس، ولو لاموه على ما يقربه إلى الله -جل وعلا-.
"وأن لا أسال أحداً شيئاً" (شيئاً) نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء صغير وكبير، والمراد بذلك من أمور الدنيا، أما أمور الآخرة فقد جاء الأمر بالسؤال {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [(43) سورة النحل] العلم وما يتعلق به يُسأل.
"وأن استكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" الكنز في الأصل ما يطمر ويدفن تحت الأرض لأهميته ونفاسته، يخشى عليه، فلأهميته ونفاسته يكنز ويدخر ويطمر ويدفن تحت الأرض، فإذا كانت الجنة ترابها الظاهر الذي يداس المسك الأذفر، فيكف بكنزها؟! فليحرص الإنسان وطالب العلم على وجه الخصوص بها، يحرص على هذه الوصايا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.