الدنيا بحذافيرها كلها قليلة، ولا تزن عند الله جناج بعوضة، فلو قوبلت الدنيا كلها في مقابل الاشتراء أو الشراء بآيات الله -سبحانه وتعالى- فهي قليلة،
ولو قيل لرأس من رؤوس الكفرة نعطيك الدنيا بحذافيرها واستمر في كفرك لكان ما يُعطَى قليل بالنسبة لما فاته من أمر الآخرة، كما فعل هرقل -عظيم الروم- عندما جاءه الخِطَاب من النبي -عليه الصلاة والسلام-، حاور أبا سفيان والرهط الذين معه وكان حواره يدل على أنه جازم وموقن بأن هذا هو الرسول الموعود به -عليه الصلاة والسلام-، ولما جمع كبار قومه -في الدسكرة- وعرض عليهم الإسلام حاصوا حَيْصَة حُمُرِ الوَحْش، فخاف أن يَثِبُوا عليه فيقتلوه -كما فعلوا في ضغاطر الذي أسلم فقتلوه-، عندها أخبرهم أنه إنما يريد اختبارهم وشدتهم في دينهم. فآثر المُلْك، وهو في أنظار الناس كثير، إلا أن هذا المُلْك قليل في مقابل ما صنع، فيكون قد اشترى بآيات الله ثمنًا قليلا.
الدنيا بحذافيرها كلها قليلة، وأكثر ما يصد الرؤوس والكبار عن دين الله مناصبهم ودنياهم، فكبار المبتدعة الذين يأخذون الإتاوات والضرائب والخمُس من أتباعهم إنما يردهم عن اتباع الحق انقطاع المدد، فيشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، وهذا الثمن مهما بلغ من أرقام تحتملها الدنيا فهو قليل؛ لأن الدنيا بكاملها لا تزن عند الله جناح بعوضة.
سعيد بن المسيب، لما خُطِبَت منه ابنته للوليد بن عبد الملك جاءه السفير الذي بينهما وهو يقول له جاءتك الدنيا بحذافيرها، فقال سعيد بن المسيب إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة فماذا يُقَص لي من هذا الجناح؟! هؤلاء الذين يعرفون الدنيا ويقدرونها قدرها، ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} فلو أعطي ملك الدنيا كلها فهو قليل بالنسبة للإيمان.
وأحيانًا يكون الثمن المقابل ليس بمادي أو حسي بل يكون معنويًّا، مثل ما يفعله الأتباع بمتبوعيهم من خدمة وتعظيم وتأليه وخضوع وذل أعظم مما يُصرَف لله -سبحانه وتعالى-، والنفس متشوفة إلى مثل هذا، ولذا جاء في الحديث: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه» فحب الإنسان للمال وحبه للشرف وحبه للرئاسة يقتل الإنسان، وكم من شخص فتن بالمنصب؟! كم من شخص كان من الأولياء قبل أن يتولى ما تولى ثم يُوَلَّى ويُفتَن؟!
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله الثبات.