شرح سنن أبي داود - كتاب الطهارة (21)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، يقول:
"حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ" وهو ابن الحجاج، "عَنْ أَبِي بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ" والإتيان بـ (يعني) في هذا الموضع مناسب، بخلاف إتيانها بها في الحديث الماضي، وعرفنا السبب في ذلك. "عَنْ أَبِي بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ" ابن أبي وقاص، "أنَّه سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ" مولى تيم بن مرة كما سيأتي، "عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ" مرة يؤتى به على هذا الوجه، ومرة يُقلب، فعلى هذا الوجه أبو عبد الله مولى تيم بن مرة يرويه عن أبي عبد الرحمن السلمي، ومرة يُروى بالعكس عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أبي عبد الله، مولى تيم بن مرة، ولا شك أنَّ هذا قلب يُروى الإسناد مقلوبًا هكذا أبو عبد الرحمن السلمي يرويه عن أبي عبد الله مولى تيم بن مرة. أبو عبد الرحمن السلمي، "شَهِدَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَسْأَلُ بِلَالًا، عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" عبد الرحمن بن عوف من كبار الصحابة، ومن جلتهم، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وقريبٌ منه -عليه الصلاة والسلام -، لكنَّه قد ينشغل بتجارته كما هو معروف بخلاف بلال المؤذن الذي لا تجارة له بحيث يلزم النبي -عليه الصلاة والسلام -؛ فيحفظ ما لم يحفظه من هو أجل منه ممن انشغل.
وفي الحديث الصحيح عن عمر أنَّه كان يشغلهم الصفق بالأسواق والعمل بالأموال والضياع، وأبو هريرة رجل فقير من أهل الصُّفَّة يلزم النبي -عليه الصلاة والسلام- فحفظ ما لم يحفظوا. ولا يلزم من هذا أن يكون بلال أفضل من عبد الرحمن بن عوف، أو أبو هريرة، أفضل من عمر بن الخطاب، لا؛ لأنَّ التفضيل من جهة لا يعني التفضيل المطلق. الفضيلة الواحدة، أو المزية لا تعني التفضيل على الإطلاق. إبراهيم -عليه السلام- أول من يُكسى يوم القيامة، وليس بأفضل من محمد -عليه الصلاة والسلام-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذ بقائم العرش» ما معنى هذا؟ أنَّه قبله، «فلا أدري أجوزي بصعقة الطور، أو ممن استثنى الله» ولا يعني أنَّ موسى -عليه السلام- أفضل من نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- ولا يُمكن أن يوجد شخص أفضل من غيره من جميع الوجوه، لكن الكلام بالتفضيل الإجمالي والغالب، ولا شك أنَّ عبد الرحمن بن عوف، من العشرة المبشرين بالجنة، وبلال من خيار الصحابة وفضلائهم، ولزم النبي- عليه الصلاة والسلام-، وكما قال عمر: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني: بلالًا.
"شَهِدَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَسْأَلُ بِلَالًا، عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: كَانَ يَخْرُجُ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ، وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ" ظاهر الحديث الاقتصار على مسح العمامة، ولكنه جاء مقيدًا في أحاديث أخرى أنَّه يمسح مع العمامة على الناصية، وتقدم الكلام في الجمع بين المسح على العمامة والناصية، وأنَّه يقول به الشافعية وغيرهم، والاقتصار على العمامة قال به جمع من أهل العلم بهذا الحديث وغيره، وقياسًا على الخف. ومنع الأكثر من المسح على العمامة، وتكلموا في الأحاديث الواردة فيها، وقالوا: إنَّه لا يُمكن قياس العمامة على الخف؛ لأنَّها لا تساوي الخف في المشقة.
"يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ" والمُوق: الخف، قالوا: فارسي مُعرَّب.
"قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ" كما تقدم؛ لأنَّه جاء مجردًا، أو مُبهمًا. سمع أبا عبد الله، وأبو داود يُميز هذا المُبهم، فيقول: "هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ".
ثم قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الدِّرْهَمِيُّ" علي بن الحسين بن مطر الدرهمي، البصري، "قال: حَدَّثَنَا ابْنُ دَاوُدَ" اسمه عبد الله بن داود بن عامر، "عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَامِرٍ" البجلي، "عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ" ابن عبد الله البجلي، وأبو زرعة الأكثر على أنَّ كنيته اسمه، اسمه كنيته، وسمَّاه بعضهم هَرِم، أبو زرعة بن عمرو بن جرير يروي عن جده جرير بن عبد الله البجلي، وآخر حديث في البخاري من روايته عن جده، «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» تفرَّد به أبو زرعة عن جده، وخُرِّج في الصحيح.
"قال: أَنَّ جَرِيرًا" يعني: جده، "بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ" يروي عن جده، أو يحكي قصة جده وقد ثبت سماعه منه، ورؤيته له، فـ (أنَّ) هنا محمولة على الاتصال، وحُكمها حكم (عن)، وحكم (أنَّ) حكم (عن).
فالجُلُّ سووا وللقطع نحا البرديجي |
حتى يبين الوصل في التخريج |
فرق بين أن يروي من سمع ورأى قصة عمَّن رآه وسمع منه، وبين أن يروي قصة لم يشهدها، واللبس الذي حصل في التفريق بين (عن) و (أنَّ) المنسوب للإمام أحمد ويعقوب بن شيبة، حصل من مثال واحد، وهو أنَّ عمارًا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن محمد بن حنفية، أنَّ عمارًا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: وهذا منقطع؛ لأنَّ محمد بن الحنفية لم يشهد القصة، ولم يحضرها، بينما قال في إسنادٍ أخر عن محمد بن الحنفية، عن عمارٍ، أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له، قالوا: متصل؛ والسبب في ذلك أنَّه يروي القصة عن صاحبها، وفي الرواية الأولى يحكي قصة لم يشهدها، ولم يروها عن صاحبها، وليس مرد ذلك إلى اختلاف الصيغة. التفريق بين (عن) و(أنَّ)؛ ولذا قال الحافظ العراقي في الرد على ابن الصلاح، الذي نسب القول إلى الإمام أحمد، ويعقوب بن شيبة، قال: كذا له ولم يصوب صوبه، لماذا؟ لأنَّه لم يصب سبب الاختلاف الحقيقي.
" أَنَّ جَرِيرًا، بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ" يعني: لو قال أبو زرعة: أنَّ جريرًا لقي النبي- عليه الصلاة والسلام-، وقال له: قلنا منقطع؛ لأنَّ جريرًا لم يشهد هذا اللقاء، لكن لمَّا قال: عن جرير، أو أنَّ جريرًا، يحكي قصة يعرفها؛ لأنَّه لقي جريرًا، وأيضًا سمع منه.
"بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ" وهذا الحديث مُخرَّج في الصحيحين، "فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَمْسَحَ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ؟" يعني: ما الذي يردني عن المسح، وقد رأيت النبي -عليه الصلاة والسلام- يمسح؟ "قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ" التي فيها التنصيص على غسل الرجلين، "قَالُوا: إِنَّمَا ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ" فأجابهم جرير، "قَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ"، وهذا الحديث مُخرَّج في الصحيحين، لكن هل لقائل أن يقول: إنَّه رآه يمسح قبل أن يُسلم، وقبل نزول المائدة، ثم أسلم بعد نزول المائدة، فلا يكون فيه مستمسك؟ لكن لا يُظن هذا بالصحابي، أنَّه يستدل بفعله -عليه الصلاة والسلام- ويُعلل ذلك أنَّه أسلم بعد نزول المائدة، لا يُظن به ذلك؛ لأنَّه يسوق القصة مساق الاحتجاج، ولا يُمكن للصحابي أن يحتج بما ليس فيه مستمسك وحجة؛ وعلى هذا فتكون السُّنَّة بمسح النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث وغيره مخصصة للآية، {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [سورة المائدة:6] يعني: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.
والعلماء يختلفون في الأفضل، هل الأفضل المسح كما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- من طريق سبعين صحابيًّا، أو ثمانين كما قال ابن منده، أو الأفضل الغسل كما هو الأصل، وكما تدل عليه آية المائدة؟ محل خلاف بين أهل العلم، ولا شك أنَّ المسح سُنَّة ثابتة، ولم يُخالف في ثبوتها إلا طائفة شاذة مبتدعة، لا التفات إلى قولها، ولا شك أنَّ هذه الرخصة مما ينبغي أن تُفعل، وتُشهر، ولا يُعدل عنها إلا إذا كان غير لابس للخف، فلا يتكلف لبس الخف من أجل المسح؛ وعلى هذا من أهل العلم من قال: إنَّ المسح أفضل، ومنهم من قال: إنَّ الغسل أفضل؛ لأنَّه الأصل، ونصوص الشريعة، وقواعدها تدل على أنَّ الأفضل الأرفق بالمكلف، فلابس الخف الأفضل أن يمسح، ومن نزع الخف الأفضل له أن يغسل، ولا يتكلف اللبس من أجل أن يمسح.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ" تقدم مرارًا، هو شيخ الأئمة، "وَأَحْمَدُ بْنُ عبد الله بن أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ" وهو مُخرَّج له في البخاري، "قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ" ابن الجراح الإمام المشهور، "قال: حَدَّثَنَا دَلْهَمُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ" وقالوا عنه: صدوق، "عَنِ عبد الله بن بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ" بريدة بن الحصيب، "أَنَّ النَّجَاشِيَّ" أصحمة بن أبحر، أو أبجر، ملك الحبشة، أسلم ونعاه النبي -عليه الصلاة والسلام- لمَّا مات سنة تسع، وخرج بالناس إلى المصلى، وصلى عليه نعاه في يوم موته، "أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ" يعني: عاريين من التلوين، ومن الأمور التي تُخالف السواد، "فَلَبِسَهُمَا -عليه الصلاة والسلام-.
ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا" توضأ وضوءً كاملًا ومسح عليهما، "قَالَ مُسَدَّدٌ: عَنْ دَلْهَمِ بْنِ صَالِحٍ" وكيع يقول: حدثنَّا دلهم، ومسدد يقول: عن دلهم، يعني: حدثنا مسدد، وأحمد بن أبي شعيب، فلأبي داود في هذا الحديث شيخان، أولهما مسدد، والثاني أحمد بن أبي شعيب الحراني، "قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قال: حَدَّثَنَا دَلْهَمُ"، ثم قال في نهايته: "قَالَ مُسَدَّدٌ: عَنْ دَلْهَمِ بْنِ صَالِحٍ" واختلاف الصيغة بين(حدثنا) و(عن) هنا هل هو مؤثر؟ ما دام مسدد لم يوصف بالتدليس. والآن مسدد، وأحمد بن أبي شعيب يروي عنهما أبو داود الحديث، وكلاهما يروي عن وكيع، ووكيع يرويه عن دلهم.
قول أبي داود: "قَالَ مُسَدَّدٌ: عَنْ دَلْهَمِ" هل يعني أنَّ التحديث الوارد في أصل الإسناد يختص به أحمد بن أبي شعيب، والعنعنة التي عقَّب بها أبو داود من نصيب مسدد؛ لأنَّه إذا روى هنا قليل ما يبين الاختلاف في الصيغ مثل البخاري -رحمه الله-، وكثير من الأئمة لا يشيرون إلى مثل هذه الأمور بدقة، بخلاف مسلم، مسلم دائمًا يقول: حدثنا فلان وفلان عن فلان، وقال فلان: حدثنا فلان، يميز بدقة الإمام مسلم، لكن الآن أبو داود، يروي الحديث عن شيخين، ذكر أنَّ الرواية عن دلهم، بالعنعنة في طريق مسدد، وفي أصل الإسناد حدثنا دلهم؛ فتكون حينئذٍ، يكون التصريح بالتحديث من نصيب الثاني، أحمد بن أبي شعيب، مثل ما يقولون، أو يقول مسلم: حدثنا فلان وفلان وفلان، قال فلان: حدثنا فلان، أو قال: واللفظ لفلان. حدثنا فلان وفلان وفلان، واللفظ لفلان، ماذا يكون للآخرين؟ إذا كان واحد له اللفظ، فالأخرين لهم المعنى.
"أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَلَبِسَهُمَا" الساذج: العاري عن الوصف، ما له وصف يميزه عن غيره، إذا قيل: فلان ساذج، يعني: ما له وصف يتميز به عن غيره، وهذان الخفان الساذجان ليس فيهما لون يُغاير اللون الأصلي الذي هو السواد، "فَلَبِسَهُمَا" النبي -عليه الصلاة والسلام- يقبل الهدية، وأهدى إليه غير هذين الخفين، وأهدى إليه المقوقس من مصر ما أهدى، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقبل الهدية، لكنه يثيب عليها.
"قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ" الرواة فيهم بصري؟ يعني هذا تفرد به مسدد؟ ما تفرد به مسدد، هذا من أوهامه -رحمه الله-. نص الشراح على أنَّ هذا من أوهامه، لا يُمكن أن نجزم بتوهيم إمام مثل أبي داود، في سعة اطلاعه يحفظ خمسمائة ألف حديث، معلوم أنَّ له عناية بالروايات، ثم يُوهم بكل سهولة، ولولا أنَّ العلماء قالوا ذلك وسبقونا إليه، ما جرأنا لأن نقول: هذا من أوهامه.
قال -رحمه الله تعالى-: "حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ" أحمد بن عبد الله بن يونس الحافظ، " قال: حَدَّثَنَا ابْنُ حَيٍّ، الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَامِرٍ الْبَجَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ" الزاهد المعروف، "عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ؟" يعني: مسحت على الخفين ولا غسلت رجليك؟ "قَالَ: «بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ، بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ»" الأمر الصريح في القرآن إنَّما هو بغسل القدمين، ولا يلزم أن يكون أمر الله -جلَّ وعلا- لنبيه في القرآن. وأنواع الوحي كثيرة إليه- عليه الصلاة والسلام- فأمره بما أوحى إليه من غير القرآن المتلو.
يقول: إنَّ المسح مأمور به في القرآن، ويستدلوا له برواية الجر، {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ} [سورة المائدة:6] يعني: امسحوا أرجلكم إذا كان عليهما الخفان. على كل حال المسح على الخفين لا خلاف فيه عند من يُعتد بقوله ممن ينتسب إلى القبلة، وكون الروافض يخالفون فشأنهم وديدنهم مخالفة السُّنن؛ ولذا جعل أهل العلم المسح على الخفين من مسائل الاعتقاد؛ لأنَّه لا يُعرف الخلاف إلا عند هؤلاء المبتدعة.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "بَابُ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ"
قال: "حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ" الضرير، وهو صدوق، "قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ" ابن الحجاج، الإمام العلم، "عَنِ الْحَكَمِ" ابن عتيبة، "وَحَمَّادٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ" ابن يزيد التيمي، "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ" واسمه عبد بن عبد، كنيته أبو عبد الله، ونسبته الجدلي، "عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ»" يعني: بلياليها، "«وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ»، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ" الكوفي الإمام، "عَنْ إِبْرَاهِيمَ" ابن يزيد "التَيمِيِ بِإِسْنَادِهِ" يعني: عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، "قَالَ فِيهِ: وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا".
نقل النووي -رحمه الله- الاتفاق على ضعف هذه الزيادة، حتى لو صحت ما موقفنا منها؟ هل حصلت الاستزادة، وزادهم النبي -عليه الصلاة والسلام- أو لم تحصل؟ ما حصلت؛ إذًا لا دليل فيها. هذا ظن من الراوي أنَّه لو حصل مثل ما قالت عائشة-رضي الله عنها-: لو رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- ما أحدث النساء؛ لمنعهن من حضور المسجد. لو رأى النبي-عليه الصلاة والسلام- ما أحدث النساء؛ لمنعهن..، الآن نستدل على المنع بمثل هذا؟ هل حصل المنع؟ ما حصل المنع، فلا دليل فيه. نعم، المنع من جهة أخرى، وهي الفتنة والافتتان هذا شيء أخر، لكن بالنص ما في منع؛ لأنَّه ما رأى؛ إذًا لم يمنع. وهنا ما استزادوا، ولم يزد -عليه الصلاة والسلام-.
قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ" الإمام، إمام المحدثين، " قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ" البصري، مُخرَّج له في الصحيحين، "قال: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ" الغافقي، "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ قَطَنٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ" صحابي، "قَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: وَكَانَ قَدْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْقِبْلَتَيْنِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: يَوْمًا؟" يعني: أمسح يومًا؟ "قَالَ: «يَوْمًا»" يعني: امسح يومًا، "قَالَ: وَيَوْمَيْنِ؟" يعني: أمسح يومين؟ "قَالَ: «وَيَوْمَيْنِ»" يعني: امسح يومين، "قَالَ: وَثَلَاثَةً؟ قَالَ: «نَعَمْ وَمَا شِئْتَ»". يقول ابن عبد البر في ((الاستذكار)) عن هذا الحديث إنَّه لا يثبت، وليس له إسناد قائم.
"قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمِصْرِيُّ" أبو بكر، بكير بن عبد الله بن أبي مريم المصري، "عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ" الثقفي، "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسِيٍّ" الكندي، تابعي كبير، "عَنْ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ قَالَ فِيهِ: حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا" يعني: سبع ليال، "قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «نَعَمْ، مَا بَدَا لَكَ»" يعني: امسح ما بدا لك، سبع أو أكثر. "يقول أَبُو دَاوُدَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ" ضعفه أبو داود، وبعده ابن عبد البر في ((الاستذكار)) وعامة العلماء على تضعيفه؛ ولذا ما قال به أحد إلا ما يروى عن مالك في السفر، وإلا فالتحديد الثابت بالأدلة الصحيحة أنه يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر.
"قال أبو داود: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ والسَّيْلَحِينِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيَّوبَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ" قال أحمد: رجاله لا يُعرفون، وذكره الجوزجاني في ((الأباطيل والمناكير)). بعضهم يوجهه إن صح، يقول: امسح ما شئت سبعة أيام، عشرة أيام، شهرًا، شهورًا، سنوات، امسح ما شئت لكن بشرط المسح المعروف بالنصوص الثابتة. شروط المسح المعروف بالنصوص الثابتة، مثل ما يُرى شخص يلبس الخفين صيفًا وشتاءً ومستمر عليهما، لا ينزعها أبدًا، هل يُظن به أنَّه لا يخلعها إذا انتهت المدة؟ يأتي من يقول له: أنت عطَّلت الآية، الآية فيها مسح، وأنت مستمر على المسح، ألا يتجه أن يُقال له: امسح ما شئت، يعني: ما دمت متقيدًا بالشروط الشرعية، امسح ما شئت. بهذا وجَّه بعض أهل العلم هذا الحديث، وعلى كل حال إذا لم يثبت الإسناد، لا يُتكلف له. يعني: على فرض ثبوته، يُحمل على هذا المعنى، امسح سبعة أيام، عشرة، مائة، شهرًا، شهرين، سنة، وما بدا لك، لكن مستصحبًا ما ثبت بالأدلة الأخرى من شروط الخف، والشروط المتعلقة بالمدة وهكذا، امسح ما بدا لك.
أقول: إذا رأينا شخصًا يلبس الخفاف، أو باستمرار عليه جوارب ويمسح، هل يليق أن يُقال له: أنت عطَّلت الآية، ما تغسل رجليك؟ نعم؟ لا، ما يليق، خلاص، ما دام عمل بما جاءت به الشريعة، فلا تثريب عليه، لكن لا يُظن به أنَّه لا يخلعهما إذا تمت المدة، أو لا يُراعي الشروط الأخرى.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ"، والجوارب: ما يُغطي القدم ويرتفع، هذا الأصل فيها، قد تصل إلى نصف الساق، قد تزيد على ذلك. وهي كما يُقال قد تكون من الجلد، قد تكون من الصوف، قد تكون من القطن، كل هذا يُقال له: جوارب، ولا يلزم أن تكون من جلد، وإن اشترط الحنفية ذلك. وعلى كل حال الجورب معروف، وميزته أنَّه يرتفع أكثر من الخُف. ورأينا في الأسواق جوارب بقدر الخف، يلبسها بعض الناس الذين يتبعون كل جديد، يلبسونها، ويمسحون عليها، والجورب ليس مثل الخف ثابتًا، ما ينزل إذا وصل إلى حد ما نزل، الجورب ينزل، وإذا بدا الكعب لزم خلعه؛ لأنَّ فرض ما ينكشف الغسل. كثير من الناس نراهم إذا مدوا أرجلهم، وعليهم هذا النوع الذي يُغطي الكعب، ولا يزيد عليه، قد ينحسر عن الكعب؛ فيُعرِّض وضوءه للبطلان.
على كل حال الأصل في الجورب أنَّه يرتفع، ومادته إمَّا أن تكون من الجلد الرقيق، وهو أرق من جلد الخف، أو يكون من الصوف، أو يكون من القطن، أو من غيرهما من المواد الطاهرة المباحة.
قال: "حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَرْوَانَ" مُخرَّج له أيضًا عند البخاري، "عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ" الجوربين: تثنية للجورب، وهو فوعل مُعرَّب، جمعه: جواربه، وربما حذفت الهاء، قيل: جوارب. الجوربين والنعلين يعني: فوق الجوربين، فيما قاله الخطابي وغيره، وإلا النعل الذي لا يُغطي الكعب لا يُمسح عليه؛ لأنَّ ما ظهر من محل الفرض، ففرضه الغسل، ومن شرط المسح على الخف أن يُغطي الكعبين.
جوَّز المسح على الجوربين جمع من الأئمة شريطة أن يكون ساترًا لمحل الفرد، ويُمكن متابعة المشي فيه؛ لأنَّه إذا لا يُمكن متابعة المشي فيه، فنزعه لا يشق. ينزع حينئذٍ. والمسح على الخفين والجوربين وما يُمسح عليه مما جاءت به الرخصة، كله لوجود المشقة، فإذا كان لا يُمكن متابعة المشي بحيث يسقط من الرجل بسهولة، مثل هذا لا يُمسح عليه؛ لعدم وجود المشقة.
"قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ" الإمام المشهور "لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ -عليه الصلاة والسلام- مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ" كما تقدم في أكثر من رواية أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- مسح على الخفين، وهنا يقول: "أنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ" يقول: المحفوظ من حديث المغيرة أنَّ النبي-عليه الصلاة والسلام- مسح على الخفين.
"قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَلَيْسَ بِالْمُتَّصِلِ وَلَا بِالْقَوِيِّ" قالوا: لأنَّه من رواية الضحاك عن أبي موسى، وهو منقطع، الضحاك لم يسمع من أبي موسى، ومن رواية أبي سنان، وهو ضعيف، فهو مضعَّف لهذا -حديث أبي موسى-. وأمَّا حديث المغيرة، فالمحفوظ أنَّه في الخفين، ولا يمنع أن يروي وينقل ما رآه من النبي -صلى الله عليه وسلم- إضافة إلى الخفين، أنَّه أيضًا مسح على الجوربين.
ورد في المسح على الجورب عدة أحاديث كلها فيها كلام، أوردها ابن القيم في ((معالم السُّنن)) وأعلها.
"قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاس" تسعة من الصحابة، نقله أبو داود عن تسعة من الصحابة، وحكاه الترمذي عن حذيفة، وسلمان، وبُريدة، وعامر بن أمية، ويعلى بن مرة، وعبادة بن الصامت، وجابر، وأسامة بن شريك، وغيرهم من المهاجرين والأنصار. يعني عند ابن القيم ثلاثة عشر صحابيًّا بالأسانيد كلهم مسحوا على الجوارب، وكأنَّ ابن القيم يرى أنَّ المعوَّل في الاحتجاج على عمل هؤلاء الصحابة مجتمعين، ولا يوجد لهم مخالف من الصحابة، إضافة إلى القياس على الخف، لِما في نزعهما من المشقة.
وأمَّا الأحاديث الواردة في ذلك فمتنازع في ثبوتها، ويكفي في ثبوت هذا الفعل عن بضعة عشر صحابيًّا بالأسانيد الصحيحة. وأشار إلى ذلك ابن القيم أنَّ المعوَّل في الحكم -حكم المسح على الجوارب- ما ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-. وأمَّا ما روي عنه- عليه الصلاة والسلام- ففيها كلام، وبعضها يرتقي إلى درجة الحسن، ومجموعها بكثرتها، وطرقها تدل على أنَّ لها أصلًا.
قال -رحمه الله تعالى-: "باب" يعني: من غير ترجمة، باب كذا، من غير ترجمة، وابن حجر يقول: إذا ذكر البخاري بابًا بغير ترجمة، فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، مع أنَّ كلمة (باب) موجودة في بعض النُّسخ دون بعض.
قال: "حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، وَعَبَّادُ بْنُ مُوسَى" الخُتلي، مخرجٌ له في الصحيحين، "قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ" هو ابن بشير الواسطي، "عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ" عطاء العامري الطائفي، "قَالَ عَبَّادٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي" قال عباد بن موسى، عن هشيم بالسند السابق، "قال: أخبرني أوس" يعني: قال يعلى بن عطاء: "أخبرني أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ، قَالَ عَبَّادٌ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى كِظَامَةَ قَوْمٍ -يَعْنِي الْمِيضَأَةَ- وَلَمْ يَذْكُرْ مُسَدَّدٌ الْمِيضَأَةَ وَالْكِظَامَةَ ثُمَّ اتَّفَقَا" يعني: مسدد، وعبَّاد اتفقا على بقية الحديث، "فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ". قالوا: هذه الرواية محمولة على سابقتها، وأنَّ المراد بالقدمين المغطيين بالجوربين كما تقدم؛ لتتفق الروايات، ولا يُمكن أن يمسح على القدمين بدون ساتر مع قوله- عليه الصلاة والسلام -: «ويلٌ للأعقابِ من النارِ» والحديث في الصحيحين؛ ولذلك قالوا: هي محمولة على الرواية السابقة القدمين المستورين بخفين، أو بجوربين ونعلين. هنا يقول: "مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ" إذا قلنا: القدم المراد بها المستورة اتفقا الحديثان، فيكون مسح على الجوربين، والنعلين.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "بَابُ كَيْفَ الْمَسْحُ"
قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّازُ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ" وقد خرَّج له مسلم في المقدمة، وإذا نصوا على أنَّ مسلمًا خرَّج له في المقدمة، المقدمة لا تحمل ميزة الكتاب. فرق بين أن يُخرِّج له في المقدمة التي لا يشترط فيها ما يشترط في الصحيح. لا يلزم أن يكون ثقة كمن أخرج له في الصحيح. "عبد الرحمن بن أبي الزناد، قَالَ: ذَكَرَهُ أَبِي" يعني: أبا الزناد، عبد الله بن ذكوان، "عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلم- كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ غَيْرُ مُحَمَّدٍ: عَلَى ظَهْرِ الْخُفَّيْنِ". وسيأتي في كلام علي -رضي الله عنه- بعد ذلك أنَّه لو كان الدين بالرأي، يعني: بالقياس واستعمال الرأي والاجتهاد، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه؛ لأنَّه هو الذي يُباشر الأرض، ويُباشر القاذورات وهو أولى بالمسح من أعلى الخف الذي لا يصل إليه شيء من ذلك.
قال: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قال: حَدَّثَنَا حَفْصٌ يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ" سليمان بن مهران، "عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ" السبيعي، "عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ" الهمداني، ثقة مخضرم، "عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ"؛ لأنَّ الأسفل هو الذي يُباشر الأرض، ويُباشر ما يحتاج إلى مسح. "وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ" وهذا يرد ما يُنقل عن علي -رضي الله عنه- أنَّه يُنكر المسح على الخفين، يقول: "وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ"، فما ذُكر عنه أنَّه يُنكر المسح على الخفين ظاهر أنَّه من افتراء من ينتسبون إليه، وهو منهم براء، وهم الرافضة.
قال: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ" الأُموي، "قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ" مُخرَّج له في الصحيحين، يزيد بن عبد العزيز بن سياهن الحِمَّاني، سياهن واللفظ أعجمي، فارسي، ولماذا صُرف؟ قالوا: ابن سِياهن، وهو أعجمي سُمِّي به الآن هو علم، مع العجمة يجب منعه من الصرف، لكنَّهم صرفوه، لماذا؟
طالب: ...
ما أسمع، لم يكن علمًا في الأعجمية، إنَّما كان وصفًا، ولو كان علمًا في الأعجمية لوجب منعه من الصرف. "عَنِ الْأَعْمَشِ" سليمان بن مهران، "بِإِسْنَادِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ إِلَّا أَحَقَّ بِالْغَسْلِ، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى ظَهْرِ خُفَّيْهِ". الكلام في الغسل أم في المسح؟ يعني: في الغسل في الوضوء والقدم مكشوف، فغسل ظاهره وباطنه سواء. ما يكون ظاهر القدم أولى بالغسل في الوضوء من أسفله؛ لأنَّه يجب استيعاب القدم من جميع جوانبها بالغسل.
وهنا قال: "مَا كُنْتُ أَرَى بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ إِلَّا أَحَقَّ بِالْغَسْلِ، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى ظَهْرِ خُفَّيْهِ" يعني كأنَّه يستروح، ويميل إلى أنَّ باطن القدم تُغسل أكثر من ظاهره، لكن لمَّا رأى أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- يمسح ظاهر الخف؛ رأى أنَّ المسألة ليست بالرأي، وإنَّما يسوى بين ظهر القدم وباطنه بالنسبة للغسل.
ثم قال -رحمه الله تعالى -: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قال: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ، لَكَانَ بَاطِنُ الْقَدَمَيْنِ أَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا، وَقَدْ مَسَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ظَهْرِ خُفَّيْهِ"، ومعناه: هو بمعنى ما تقدم في الأحاديث السابقة.
قال: "وَرَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِإِسْنَادِهِ" يعني: عن علي -رضي الله عنه -. "قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الْخُفَّيْنِ. وَرَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، كَمَا رَوَاهُ وَكِيعٌ". والمسح لا يلزم فيه الاستيعاب كالغسل؛ لأنَّ مبنى المسح على التخفيف، فلو مسح أكثر الخف؛ لأنَّه ثبت أنَّه يُمسح بالأصابع، ويُرى أثر الأصابع خطوطًا، فإذا مسح أكثره صح.
وقال أبو حنيفة: بثلاثة أصابع، والشافعي يقول: ما يُسمَّى مسحًا يكفي ويُجزئ، ولو قل. إذا كان يُسمَّى مسحًا كما هو رأيه في مسح الرأس. على كل حال إذا عُرفت الصفة، وأنَّه يؤخذ ماء جديد للمسح، لا للغسل. يعني: ترطب الأيدي فتمر على ظهر القدم بالأصابع كلها، ولو لم يكن الاستيعاب لظهر الخف الاستيعاب الكامل.
قال: "وَرَوَاهُ أَبُو السَّوْدَاءِ" عمرو بن عمران النهدي، "عن المسيب بن عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ ظَاهِرَ قَدَمَيْهِ" أي مسح على ظاهر خفيه، والغسل يستعمل بإزاء المسح، وغسل كل شيء بحسبه. إذا كان الخف، أو الرجل عليها خف، فغسلها بالمسح، وإذا كانت عارية ما عليها شيء فالغسل متعين بمعناه.
"غَسَلَ ظَاهِرَ قَدَمَيْهِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ" يعني: لم أفعله. "وَسَاقَ الْحَدِيثَ" السابق.
قال: "حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَرْوَانَ" الرقي، "وَمَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ بن يزيد الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْنَى"، "حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَرْوَانَ، وَمَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْنَى" يعني: المعنى واحد، المعنى مبتدأ خبره محذوف تقديره واحد. يعني رواية موسى ومحمود متفقتان في المعنى، وإن اختلفت الألفاظ. "قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ" ابن مسلم، "قَالَ مَحْمُودٌ:" ابن خالد الدمشقي، "أَخْبَرَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ" الحمصي، "عَنْ رَجَاء بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ" وقد جاء بيانه في رواية ابن ماجه، وأنَّ اسمه ورَّاد، وهو مروي ومخرج له في الصحيح.
"عَنْ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: وَضَّأْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ" كما تقدم، في سنة تسع. "فَمَسَحَ أَعْلَى الْخُفَّيْنِ وَأَسْفَلَهُمَا" وهذا الحديث مُضَعَّف بأكثر من علة، لكن منها العلل المؤثرة، ومنها العلل غير المؤثرة. قيل: من علله أنَّ كاتب المغيرة لم يسمَّ، فهو في عداد المجهولين، لكنه سُمِّيَ بطريق أخرى عند ابن ماجه، فارتفعت جهالته، وهو مخرج له في الصحيح.
"قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ثَوْرُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَجَاءٍ" لم يسمع ثور بن يزيد هذا الحديث من رجاء بن حيوة؛ وحينئذٍ يكون منقطعًا، والمنقطع في القسم الضعيف، فيضعَّف بهذه العلة، مع أنَّه في رواية الدارقطني صرَّح بسماعه منه، وعلى كل حال. قال: "وَضَّأْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ أَعْلَى الْخُفَّيْنِ وَأَسْفَلَهُمَا" فإذا قورن هذا الخبر بما تقدم من الأخبار التي هي أرجح منه وأقوى، يكون على فرض ثقة رواته، يكون شاذًّا والمحفوظ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنَّه كان يمسح أعلى الخف فقط، ولا يمسح الأسفل، وقد تقدم في أكثر من حديث.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولا شك أنَّ هذا خلل، على الإنسان أن يُعنى بتجويد خطه؛ لأنَّه قد يتمكن من قراءته بنفسه، لكن غيره لن يستفيد منه، وقد يحتاج إليه مع ضعف بصره، فلا يجد من يقرأه عليه، ولا شك أنَّ تحسين الخط يُعين على فهم المعنى. يقولون: الخط ما قُرئ، والباقي صَنعة، لكن أنا مر عليَّ أكثر من سؤال ما تُقرأ. قد يكون مرد ذلك أحيانًا إلى ضعف البصر عندي، لكن في الغالب الضعف واضح.
في أشياء غير مناسبة في دروسنا هذه.
أريد أن أتخذ شرحًا من شروح ألفية بن مالك أصلًا أدمن النظر فيه، وأنقل إليه فوائد الشروح الأخرى، فبأي شرح تنصحون؟
من أوفى الشروح المطبوعة، شرح الأشموني بحيث تكون الزوائد عليه من الشروح الأخرى قليلة، يُمكن نقلها إلى حواشيه، لكن لو اتخذ شرح ابن عقيل أصلًا، أو أوضح المسالك سوف تكون زوائد الأشموني كثيرة، وتتعب في نقلها على الحواشي، مع أنَّ طالب العالم إذا اعتنى بالأشموني مع حاشية الصبَّان قد لا يحتاج إلى غيره.
العلماء يقولون إنَّه لا يتكلف، ولا يُكلِّف نفسه ولا يشق على نفسه، فيتكلف غير الموجود، لكن لو لبس من أجل أن يمسح، الوضوء صحيح، بخلاف من سافر من أجل أن يفطر، من سافر من أجل أن يفطر هذا آثم.
على كل حال ما مضى عفا الله عمَّا سلف، وهو معذور بجهله، لكن ما دام علم أنَّ الفرض في غسل اليدين بعد غسل الوجه من أطراف الأصابع إلى المرفقين، وما تقدم قبل غسل الوجه، فهو مسنون وليس بفرض، ولا يُجزئ عن غسلهما بعد غسل الوجه.
كل واحد منهما له ميزته، ميزة ((عون المعبود)) النقل عمن تأخر عن ابن رسلان، وإلا فشرح ابن رسلان أطول من ((عون المعبود))، و((عون المعبود)) على اختصاره فيه فوائد، فيه نفع لطالب العلم، وشرح ابن رسلان فيه طول، وفيه إشارات من كلام الفقهاء في المسائل الفقهية لا توجد عند صاحب ((عون المعبود)).
سُنن أبي داود كتاب من كتب أحاديث الأحكام، فالغالب فيه الأحكام. ما ذكره من الأبواب المتأخرة، ذكرها مجملة، أو باختصار ما توسع فيها مثل ما توسع في أحاديث الأحكام؛ ولذا قال الفقهاء إنَّه يكفي المجتهد، ((سُنن أبي داود)) يكفي المجتهد، نصوا على ذلك في كتب الأصول.
بالنسبة للواجبات لا إيثار فيها، لا يجوز الإيثار في الواجبات. السُنن والمستحبات الأصل أنَّ الإنسان يُسارع إلى فعلها ويفعلها بنفسه، ويُنافس عليها لكن قد يترتب على الإيثار بهذه السُّنَّة أجر أعظم من أجر هذه السُّنَّة، وهنا تكون المفاضلة بين العبادات. قد يريد الدخول مع أبيه إلى المسجد، لا شك أنَّ المبادرة بالدخول إلى المسجد أفضل من التأخر، لكن هل مثل هذه الفضيلة تعدل فضيلة تقدير الوالد، واحترامه، وتقديمه في الدخول؟ لا، وقل مثل هذا في بقية المندوبات فيها الفاضل والمفضول، فيرجح الفاضل ويتجاوز عن المفضول.