تعليق على تفسير سورة المائدة من أضواء البيان (15)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بيَّن في مواضع أُخر أن ولاية بعضهم لبعضٍ زائفة ليست خالصة؛ لأنها لا تستند على أساسٍ صحيح، هو دين الإسلام، فبيَّن أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمةٌ إلى يوم القيامة، بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]، وبيَّن مثل ذلك في اليهود أيضًا، حيث قال فيهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:64]، والظاهر أنها في اليهود فيما بينهم، كما هو صريح السياق، خلافًا لمن قال: إنها بين اليهود والنصارى.
وصرَّح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللاً له بعدم عقولهم في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما ذكره الله –جلَّ وعلا- من العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى، وبين اليهود بعضهم مع بعض، والنصارى مع بعض، كل هذا لبُعدهم عن دينهم وشرعهم اقتداءً بنبيهم الذي أرسله الله إليهم رحمةً لهم، فإذا بعدوا عن الدين تنافرت القلوب، وإذا تنافرت القلوب حصلت العداوة والبغضاء، وإلا فالأصل كما في دين الإسلام وهو دين الحق أنهم إخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحُجُرات:10]، فهم متحابون مُتاودون، وأوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله إلى آخر ما جاء في هذا السياق، لكن هم لما انحرفوا عن دينهم وحرَّفوه وبدَّلوه حصل لهم نقيض ذلك من العداوة والبغضاء، وهذه الأمور لا شك أنها تُورِث العداوة والبغضاء.
ولذا تجد حتى في دين الإسلام بين الفِرق والطوائف بينهم شيء من هذا النوع، لكنه لا يصل إلى ما كان بين الأمم السابقة، لكنه موجود، العداوة بين الفرق المختلفة في المذاهب الإسلامية في الأصول يعني في العقائد بينهم هذا، وتجد في كتبهم كثيرًا من هذا النوع من السب والشتم، والكلام والطعن، وقد يُوجد مثله في جهلة بعض أتباع الأئمة للاختلاف في المسائل الفرعية؛ لأن الاختلاف في الجملة يورث، الاختلاف في الأعمال يورث الاختلاف في القلوب، لكن وُجِد الخلاف الفرعي بين الصحابة وقلوبهم متآلفة مُتحدة متحابة، لكن وُجِد بعض هذا النوع من الاختلاف بين الجهلة من أتباع الأئمة، وصار بعضهم منتصرًا لإمامه، والآخر كذلك، ثم يتطور هذا إلى أن يسب هذا إمام ذلك الشخص، وهذا يسب إمام هذا المذهب وهكذا، حتى إن بعضهم وصل به الأمر إلى أن كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- ليثلُب الإمام الذي يتبعه أولئك الذين يُثنون عليه ويمدحونه ويظنون أنهم لا يصلون إلى مدح إمامهم إلا بثلب الأئمة الآخرين.
وفي مثل هذا يُقال في عصرنا وفي أسلوبنا: أنه ما يرتقي إلا على أكتاف الآخرين، ويظن أنه لا يطلع إلا إذا وضع الآخرين، مع أنه هو العكس تمامًا، إذا سمعك السامع وأنت تُثني على قرينك ونظيرك ارتفعت في عينه، هذا معروف حتى عند المسؤولين يُقدرون هذه الأمور قدرها، وأن الذي يذم غيره ليرتقي على أكتافه هو الذي يسقط وينزل، بعض أتباع الأئمة حدا بهم الأمر إلى أن وضعوا على النبي -عليه الصلاة والسلام- أحاديث في مدح أئمة وفي ذم آخرين؛ منهم من يقول: أبو حنيفة سراج أمتي، يجعلونه حديثًا مرفوعًا إلى النبي –عليه الصلاة والسلام-، وهذا موضوع باتفاق الأئمة، ومنهم وضع في الشافعي سيكون في أمتي رجلٌ يُقال له: محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس، إلى غير ذلك يصل الأمر الجهل والضلال يصل إلى هذا الحد، ويزيدون عليه كما هو معلوم، فوجِد شيءٌ من التنافر بسبب أو بحسب البُعد عن دين الله، والقلوب إذا تنافر ودُها فهي مثل الزجاج كسرها لا يُشعب.
على كل حال على الإنسان أن يكون همه وديدنه نصر ما يراه الحق مما يؤيده الكتاب والسُّنَّة، وأن يُحب في هذا الإطار، ويُبغض في هذا الإطار؛ ليكون حُبه منضبطًا، وبُغضه الشرعي منضبطًا أيضًا، والله المستعان.
طالب:.........
ما تجده حبًّا حقيقيًّا بقدر ما هو بحب مصلحي {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة:82] هؤلاء أشد الناس عداوة للمسلمين والمؤمنين {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] قد يقول قائل: النصارى في وقتنا هذا عداوتهم أشد من غيرهم، نقول: قد تزيد هذه المودة في وقت، وتنقص في آخر، وتزيد هذا البغض لأسباب وأمورٍ وقتية وآنية، وإلا فهذا هو الأصل.
طالب:.........
هو ضد الإسلام يتحدون؛ لأنه بالنسبة لهم هو العدو المشترك، وقل مثل هذا في الطوائف المنتسبة إلى الإسلام ضد أهل الحق من أهل الإسلام.
"وصرَّح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللاً له بعدم عقولهم في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
تنبيه:
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [المائدة:51] أن اليهودي والنصراني يتوارثان، ورده بعض العلماء، بأن المراد بالآية، ولاية اليهود لخصوص اليهود، والنصارى لخصوص النصارى".
يعني في الملة الواحدة أولياء بعض في الملة الواحدة بعضهم أولياء بعض، أما إذا اختلفت الملل فالكفر ما هو ملة واحدة وإن جاء ما يدل عليه مللٌ شتى؛ ولذلك لا يتوارثون.
"وعلى هذا المعنى فلا دليل في الآية لتوارث اليهود والنصارى.
قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ذكر في هذه الآية الكريمة، أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم، وبيَّن في موضعٍ آخر أن توليهم موجبٌ لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمنًا ما تولاهم، وهو قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون} [المائدة:80-81]، ونهى في موضعٍ آخر عن توليهم مُبينًا سبب التنفير منه وهو قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور} [الممتحنة:13].
وبيَّن في موضعٍ آخر: أن محل ذلك، فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوفٍ، وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] فهذه الآية الكريمة فيها بيانٌ لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا وإيضاحٌ؛ لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيُرخَّص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يُكتفى بها شرهم، ويُشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة".
ومن المسموح من ذلك المداراة عند الحاجة، وبقدر الحاجة، بخلاف المداهنة فهي محرَّمة على كل حال، كما قال –جلَّ وعلا-: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون} [القلم:9].
أما المدارة التي محلها التصرفات الظاهرة، ولا تصل إلى القلب، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- لما استأذن عليه من استأذن، قال النبي–عليه الصلاة والسلام-: «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ»، ولما أُذن له ودخل انبسط معه في الكلام؛ اتقاء شره داراه بالكلام ، ويُدارى الإنسان بالكلام رغبةً ورهبة، إما أن يُخشى شره أو يُرجى خيره ونفعه.
قالت عائشة للنبي –عليه الصلاة والسلام-: قلت ما قلت قبل أن يدخل، ثم انبسطت معه في الكلام، قال: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ» فهذا نوع المداراة، وأما المداهنة فلا تجوز بحال، وكل هذا لا يصل إلى ما في القلب مع المخالف.
وَمَنْ يَأْتِي الْأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ |
| فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارًا |
نعم.
طالب:.........
ماذا؟
طالب:.........
التنازل عن واجب أو ارتكاب محظور.
"ويُفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدًا اختيارًا، رغبةً فيهم أنه كافرٌ مثلهم.
قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِين} [المائدة:52-53]
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، يعتذرون عن موالاة الكفار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر، أي دول الدهر الدائرة من قومٍ إلى قوم، كما قال الشاعر:
إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى |
| أُنَاسٍ كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا |
يعنون إما بقحط فلا يميروننا، ولا يتفضلوا علينا، وإما بظفر الكفار بالمسلمين، فلا يدوم الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، زعمًا منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذُكر، يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم، فينالون منهم ما يؤمِّل الصديق من صديقه، وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم، إنهم لمع المسلمين، وبيَّن في هذه الآية: أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة اليهود، أنها لا تدور إلا على اليهود، والكفار، ولا تدور على المسلمين، بقوله: {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} [المائدة:52] الآية، وعسى من الله نافذة؛ لأنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يُعطي".
كما يُذكر عن ابن عباس ويُروى عنه أن عسى من الله واجبة، فالشيخ تلطف بالأسلوب فعدل عن الوجوب إلى النفاذ عسى من الله واجبة، وليس على الله شيءٌ واجب إلا شيئًا أوجبه على نفسه، وليس عليه محرم إلا شيئًا حرَّمه على نفسه «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا».
وأوجب مثل هذه الأمور التي جاء فيها بعسى كما قال ابن عباس، وتلطف في العبارة وهو القول بنافذة هروبًا من أن يُدعى أنه يجب على الله شيء كما تقوله المعتزلة، مذهب المعتزلة أنه يجب على الله –جلَّ وعلا- رعاية الأصلح لعباده تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
قد يقول قائل: إن مودة الكافر من يهوديٍّ أو نصراني جاءت في جواز التزوج بالكتابية، يجوز الزواج بالكتابية بنص القرآن، والله –جلَّ وعلا-: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] بين الزوجين فهل تُخالف هذا النوع المحرم الذي تحدث عنه الشيخ أو أن هذه المودة غير المودة التي حُرِّمت في هذه الآيات وهذه النصوص؛ لأنها مودة {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فهل هذه المودة هي المحبة الجبلية التي تكون بين الزوج وزوجته، وبين الوالد وولده؟ غير المحبة الشرعية التي لا يجوز أن تُوجد بين المخالف ومخالفه في الدين أو حتى من الفساق والعصاة والمبتدعة يُبغضون بقدر ما عندهم من مخالفةٍ للشرع، فالذي بين الزوجين هل هي المحبة الشرعية أو المودة الشرعية أو المودة الجِبلية التي من باب جُبلت النفوس على حُب من أحسن إليها، وبُغض من أساء إليها؟ ولو كان من خير الناس لو ظلمك لا بُد أن تجد في نفسك كرهًا لهذا الشخص، فهل هذا يُنافي وجوب المحبة الشرعية لهذا الشخص المؤمن الصالح، وقد يكون تقيًّا ومع ذلك حصل منه ظلم، فأبغضته من أجل هذا الظلم أو حصل إكرام أو إنجاء من غرق أو حرق أو ما أشبه ذلك؟ فلا شك أن القلب يميل إلى وده ومحبته بقدر ما أسدى إليك من خير.
وضابط المحبة الشرعية والمودة الشرعية التي لا تزيد مع الصفاء، ولا تنقص مع الجفاء، والمحبة الطبيعية ضابطها ألا تُقدم على مراد الله ومراد رسوله، فإذا أمرك أبوك أو ولدك بأن تُحضر له شيئًا مما حرم الله إن قدمت أمره على مراد الله صار عندك خلل في المحبة، وإن قدمت أمر الله وأمر الرسول على ما يُريده أبوك أو أخوك أو أمك أو ولدك فأنت في هذ الباب على ما جاء عن الله ما قدمت محبتهم على مراد الله، إذا لم يحصل تعارض بين مراد الله ومراد من تُحب فلا إشكال.
"والفتح المذكور قيل: هو فتح المسلمين لبلاد المشركين، وقيل: الفتح الحكم، كقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين} [الأعراف:89]، وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة، وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل: هو فتح مكة، وهو راجعٌ إلى الأول.
وبيَّن تعالى في موضعٍ آخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين، أنهم منهم، إنما هو الفرق أي: الخوف، وأنهم لو وجدوا محلاً يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه؛ لشدة بغضهم للمسلمين".
ما فيه لشدة فهي لا بُد منها "لشدة بغضهم للمسلمين" نعم.
"وهو قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُون * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُون} [التوبة:56-57] ففي هذه الآية بيان سبب أيمان المنافقين، ونظيرها قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16].
وبيَّن تعالى في موضعٍ آخر، أنهم يحلفون تلك الأيمان ليرضى عنهم المؤمنون، وأنهم إن رضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عنهم، وهو قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [التوبة:96]".
تصرفاتهم بحسب ما ينفعهم في دنياهم، ولا يلقون لآخرتهم بالاً هذا بالنسبة للمنافقين الذين يُظهرون الإسلام ويُبطنون الكفر لا رغبة لهم في الآخرة، لكن من أجل أن تمضي أمور دنياهم تجدهم يضطربون ويكونون كالعائر بين غنمين أحيانًا ينضم إلى هؤلاء، وأحيانًا ينضم إلى هؤلاء كل هذا دفاعًا عن أنفسهم بالقتل أو التعزير أو ما أشبه ذلك، وهم في تصرفاتهم يرون أنهم لا يقصدون من ذلك إلا الإحسان والتوفيق، يوفقون.
وكثير من تصرفات بعض الناس ومنهم طلبة علم ينتسبون إلى العلم تجده يُريد أن يوفق بين هذا القول وهذا القول من باب الإحسان والتوفيق بين الأقوال، ومن أجل أن تمشي الأمور وتمضي الأمور، وهذا ليس بصحيح، القول الذي لا يسنده دليل لا عبرة به، ولا قيمة له، قد يكون بعضهم الداعي له أن يُخالف ما يعتقده أو ما يترجح عنده الخوف على نفسه أو على ماله أو على ولده هذا أمرٌ ثانٍ، لكن الأصل ألا ينصر الباطل، وإذا لم يستطع أن ينطق بالحق يسعه السكوت بدلاً من أن ينطق بباطل، ونسمع من ينتسب أو يكتب ينطقون بالباطل يتقربون بقرابين من أجل أن ينجو ممن يزعمون أو يظنون أنه يضرهم، مع أن الإنسان إذا اتقى الله وخشي الله وراقب الله وأرضى الله ولو بسخط الناس فإن الله يرضى عليه، ويُرضي عنه الناس، بخلاف من أرضى الناس بسخط الله.
"وبيَّن في موضعٍ آخر: أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين، وأن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وهو قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة:62]".
{يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62].
طالب: يحلفون لكم.
عندنا برسم المصحف {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين} [التوبة:62].
الموضع الأول: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} [التوبة:96].
والثاني: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62] وهو بصدر قراءة الآية الثانية.
"وهو قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين} [التوبة:62] وبيَّن في موضعٍ آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم، بسبب أن لهم عذرًا صحيحًا، وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم؛ لا لأن لهم عذرًا صحيحًا، بل مع الإعلام بأنهم رجس، ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق، وهو قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون} [التوبة:95].
وبيَّن في موضعٍ آخر: أن أيمانهم الكاذبة سببٌ لإهلاكهم أنفسهم، وهو قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة:42] الآية".
وكل هذه الأيمان التي يُبديها هؤلاء المنافقون كلها من أجل أن ينجو في دنياهم بغض النظر عما لو كانت سببًا لهلاكهم في الآخرة، هم همهم الدنيا، فإذا نجو على حد زعمهم في هذه الدنيا وقد حصَّلوا ما أرادوا –نسأل الله العافية-.
"وهذه الأسباب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعةٌ جميعًا إلى السبب الأول، الذي هو الخوف؛ لأن خوفهم من المؤمنين، هو سبب رغبتهم في إرضائهم، وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم؛ ولذا حلفوا لهم، ليرضوهم، وليعرضوا عنهم؛ خوفًا من أذاهم، كما هو ظاهر".
لكن هل هذا الخوف يُعذرون به ليصنعوا ما صنعوا؟ لو آمنوا وصدَّقوا واتبعوا الرسول ما حصل لهم هذا الخوف، وإنما خوفهم؛ لأنهم أعرضوا عما جاء به الرسول –عليه الصلاة والسلام-.
طالب:........
إذا ثبت به النص أنت الذي تقول ماذا عندك أنت؟ أنت تقول: إذا ما جاء عن الرسول –عليه الصلاة والسلام- مما ظاهره، وما هو بهذا الذي تُريده.
طالب:........
لا لا، ما يدخل هذا من غير معارض، نعم لا بُد من التقييد.
"تنبيه:
قوله في هذه الآية الكريمة: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ} [المائدة:53] فيه ثلاث قراءات سبعيات.
الأولى: يقول بلا واوٍ مع الرفع، وبها قرأ نافع، وابن كثيرٍ، وابن عامر.
الثانية: ويقول بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضًا، وبها قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي.
الثالثة: بإثبات الواو، ونصب (يقول) عطفًا على (أن يأتي بالفتح) وبها قرأ أبو عمرو".
القراءات كلها متواترة وسبعية، والمجال للبحث فيها.
الذين يقولون: بأن الأحرف السبعة والقراءات التي اشتمل عليها مصحف عثمان ليس فيها خلافٌ في الصورة زيادة الواو ونقصها فيه خلافٌ في الصورة {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100].
أبو عمر موجود؟
طالب:.......
أين أنت؟
الذين يقولون: إن القراءات المتواترة التي اشتمل عليها مصحف عثمان لا خلاف فيها في الصورة صح أم لا؟
طالب:.......
غير السبعة الأحرف دعنا مع الذي اتفق عليه عثمان ووزعه في الأمصار، والقراءات السبع المتواترة كلها في مصحف عثمان أو عشرة أو عشرون، المهم أنه لا نختلف لا تخرج عن الموضوع.
طالب:.......
هل فيها اختلاف في الصورة أم فيما يحتمله الرسم؟ طيب {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100] هل يحتمل الرسم؟
طالب:.......
لكن ما قُرئت من تحتها؟
طالب:.......
سمعت، فهمت قصدي.
وعندنا الواو هنا {وَيَقُولُ} [المائدة:53] في قراءةٍ (يقول) بدون واو، اختلف الرسم أم ما اختلف؟
طالب:.......
انظر أنت ما فهمت ما أقصد أم لا؟
طالب:.......
مفهوم واضح؛ لأن زيادة واو ونقص واو ما يحتملها الرسم.
طالب:.......
ماذا؟
طالب:.......
الواو حرف زائد.
طالب:.......
دعنا مما يحتمله الرسم زيادة الحرف لا يحتملها الرسم زيادة، أما كونه يُكتب بالألف أو بالواو أو الألف موجودة أم مجرد رمز فوقها هذه أمور يحتملها الرسم، واختلف فيها القراء، لكن الإشكال في زيادة حرف أو نقص حرف إما معنى أو مبنى.
طالب:.......
يعني هل تظن أن في مصحف عثمان ما يحتمل زيادة (من تحتها الأنهار)؟
طالب:.......
التي بعثها عثمان إلى الأمصار؟
طالب:.......
يا ابن الحلال نعرف أنك ما فهمت كلامي أصلاً، ما فهمته، فتقول هذا الكلام، أنا أعرف ما تقول، لكن الإخوان كلهم فاهمون ماذا أُريد.
طالب:.......
هو أربعة مصاحف أرسلها هل في بعضها زيادة عن بعض؟
طالب:.......
ما يخالف فيما يحتمله الرسم.
طالب:.......
إذًا القول كله ما هو بصحيح، وإن القراءات السبع فيما يحتمله الرسم.
طالب:.......
يا شيخ لو قيل بزيادة حرف في القرآن.
طالب:.......
أظن فهمتم ما أُريد؟
طالب:.......
وأنا فهمت ما قلته، فنرجع إلى أصل القاعدة التي قعَّدها أهل العلم، ونستثني منها ما يخرج عنها..
طالب:.......
كيف؟
طالب:.......
يا ابن الحلال نحن نُجمع على أن القرآن مصون من الزيادة والنقصان إلا أن جبريل نزل بهذا، ونزل بهذا، هذا الكلام.
طالب:.......
إذا قلنا: إن كل مصحف له مزيته، وقد يكون فيه زيادة حرف أو نقص حرف انتهى الإشكال. نعم.
طالب:.......
والله ما تحل الإشكال الذي أوردته، واسأل الإخوان كلهم يقولون -وهذا قول معتبر عند أهل العلم ومنصور-: إن القراءات السبع المتواترة فيما يحتمله رسم مصحف عثمان.
طالب:.......
نحن مازلنا في مصحف عثمان والسبع المتواترة، نحن ما نناقش أركان القراءة وما يُقرأ أو ما لا يُقرأ، لا.
طالب:.......
ما عندنا إشكال في هذا، لكن هل (من) يحتملها الرسم أم ما يحتمل زيادتها أو نقصها؟ لا يحتملها الرسم إلا إذا قلنا: إن المصاحف، مصاحف عثمان ما هي بواحد، وإنما هي مصاحف فيها (من) وليس فيه (من)، فيه الواو وهذا ما فيه الواو، هذا الذي يقول هذا الذي يحل الإشكال.
طالب:.......
حتى ولا يقرأ قراءة ورش بالخط المغربي ما يقدر أن يقرأها.
طالب:.......
والله الذي أعرفه يمكن، يمكن قبل أن تعرف أن تقرأ وتكتب، إني أعرفه قبل ما تعرف القراءة والكتابة ما أدري عنك؟! أنت أصلاً نحن نتناقش في شيءٍ متضاد، وأنت ما أصبت المحز، والإخوان كلهم فاهمون خلاص انتهى الموضوع يا أبا عمر، وإن كان لك شيء لحالك، شروط القراءة وأركان القراءة، ابن الجزري فصلها تفصيلًا وغيره، أنا أعرف ما أنا أقول من فراغ، يعني مُتخصص في الحديث لكن أعرف بالعلوم الأخرى.
طالب:.......
لي يد أزاحمكم أحيانًا.
طالب:.......
أزاحمكم أحيانًا.
طالب:.......
لا ما أنا بغاضب عليك ولا راجع.....
طالب:.......
اسمع يا أبا عمر.
طالب:.......
اسمع أنت ويسمعون كل الإخوان أنا ما راجعتك إلا لأنك مرجوح في هذا الباب.
طالب:.......
خلاص انتهينا، وأما الرجل فيُقرئ من عشرات السنين بالقراءات، ويُحفِّظ بالقراءات؛ ولا عولت عليه إلا لأنه أصل في الباب، لكن نمون عليه وأحيانًا يغفل قليلًا.
نعم.
"قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]".
{يَرْتَدَّ} [المائدة:54] عندك بالفك أم بالإدغام؟
طالب: بالفك.
نعم.
طالب:.........
لا نحن على القراءة المعتمدة عندنا الذي جرى عليها المفسِّر.
"{مَن يَرْتَدد مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] الآية".
هي جاءت في موضعين مرة بالفك ومرة بالإدغام، لكن هذا الموضع من سورة المائدة بالفك أم بالإدغام؟
طالب:.........
الكلام على هذا الموضع تقولون في الدرس أو في التفسير نفسه؟ والشيخ ماذا يعتمد من القراءات؟ يُبينه كلامه على...
طالب:.........
عندنا {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي..} [المائدة:54].
طالب:.........
ما فيها.
طالب:.........
لا لا أنا ما أعتمد على الطبعة التي بيد الشيخ، قراءته هو على حفظ الشيخ، أنت تحفظ هكذا؟
طالب: حفص {يَرْتَدَّ} [المائدة:54].
خلاص انتهينا؛ لأن النسخة هذه التي معك فيها أخطاء في الآيات كثيرة؛ ولذا عمدوا في هذه الطبعة إلى أن يأخذوا الآيات برسم المصحف في موضعه، يبقى الفيصل في هذا الباب المُفسِّر ماذا يعتمد من القراءات ويكون ما رسمه بيده أولى بالاتباع، ولو خالف ما نحن عليه.
طالب:.........
ما أدري الذي طُبع من نسخة الشيخ، طبعة المدني طبعت على نسخة الشيخ، لكن حصل فيها أخطاء وصُححت أخطاء كثيرة في طبعة المدني؛ ولذلك خرجوا من أخطاء الآيات بانتزاعها برسم المصحف، ووضعوها هنا؛ لأنك تقرأ وأنت مرتاح إذا كانت برسم المصحف.
"أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضًا عن ذلك المرتد بقومٍ من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم، ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين} [الحِجر:88]، وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الشعراء:215]، وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} [التحريم:9]، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] الآية، وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين، من صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- بقوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وقد قال الشاعر في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ |
| رَحْلِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّد |
وَأَعْطَى إِذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ |
| وَأَمْضَى بِحَدِّ الْمَشْرَفِيِّ الْمُهَنَّد |
وقال الآخر فيه:
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ |
| رَحْلِهَا أَشَدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ |
ويُفهم من هذه الآيات أن المؤمن يجب عليه أن لا يلين إلا في الوقت المناسب للين، وألا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدة؛ لأن اللين في محل الشدة ضعفٌ، وخور، والشدة في محل اللين حمقٌ، وخرق، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إِذَا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فَلِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ |
| وَحِلْمُ الْفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ |
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة:66] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله، وأقاموا كتابهم باتباعه، والعمل بما فيه، ليسر الله لهم الأرزاق، وأرسل عليهم المطر، وأخرج لهم ثمرات الأرض.
وبيَّن في مواضع أُخر أن ذلك ليس خاصًّا بهم، كقوله عن نوحٍ وقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-11].
وقوله عن هودٍ وقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] الآية.
وقوله عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- وقومه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [هود:3] الآية.
وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] الآية، على أحد الأقوال.
وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] الآية.
وقوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3]. وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، ومفهوم الآية أن معصية الله تعالى، سببٌ لنقيض ما يُستجلب بطاعته، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] الآية، ونحوها من الآيات".
يعني مُراعاة الأحوال يُجمع بها بين النصوص التي ظاهرها التعارض أحيانًا، فتجد النبي– عليه الصلاة والسلام- يُغلظ القول بالنسبة لشخص، ويُلين القول بالنسبة لشخص، لماذا؟ لأن حال هذا الشخص من توافر العلم لديه والفهم ما لا يُوجد عند ذلك الشخص الذي لا تُوجد فيه هذه الصفات، فتجد هذا الجاهل يُرفق في تعليمه، وذاك يُشد عليه في الإنكار عليه، فقال لأسامة بن زيد: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟» لماذا؟ لأن وضع أسامة وقربه من النبي– عليه الصلاة والسلام- بحيث يغلب على الظن أن مثل هذا لا يخفى عليه يُنكر عليه، لكن لو جاء شخصٌ آخر ممن ألان لهم النبي –عليه الصلاة والسلام- لجهلهم وتلطف بهم هذا يحتمله ما لا يحتمله ذاك، يقول:
ووضع الندي في موضع السيف مضرٌّ |
| كوضع السيف في موضع الندى |
يعني أحيانًا تحتاج سيفًا وأحيانًا تحتاج إكرامًا، وظاهر الأمر في الصورة كأنه متقارب؛ ولذلك تختلف المعاملات باختلاف الأشخاص والأحوال، يقول:
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له |
| بوادر تحمي صفوه أن يُكدر |
فالبوادر أحيانًا يُحتاج إليها ليُردع من يحتاج إلى ردع، وإلا فالأصل أن الحلم هو الأصل.
طالب:.......
أيهم؟
طالب:.......
البيت الأخير؟
طالب:.......
هذا من مقصورة ابن دريد.
ووضع الندي في موضع السيف مضرٌ |
| كوضع السيف في موضع الندى |
لأن بعض الناس يأتي إليك، وقد أساء، تُكرمه، فماذا يقول؟ يقول: خائف مني ويجرؤ عليه، ويُكرر الإساءة، يقول: خائف مني، بعض الناس إذا قلت: السلام عليك، قال: مساكين خائف مني، لكن السلام لا بُد من إلقائه؛ لأنك مأمور بهذا على كل من عرفت ومن لم تعرف، لكن بعض الناس فيه من اللؤم ما يتصور مثل هذا، لكن العكس "وضع الندى في موضع السيف" يحتاج إلى تأديب أساء إساءة بالغة، لكن تأديبه يترتب عليه مفاسد كبرى، فأنت تُكرمه وتُعامله بما يُناسبه، وتنتهي المشكلة بإذن الله، فهذا مراد ابن دُريد في بيته.
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له |
| بوادر تحمي صفوه أن يكدر |
نقول البيت؟
طالب:.........
طلعه عندك.
والله إن طلعته لنا بالجوال ختى يكتبونه الإخوان فزين.
طالب:.........
أعطى وأمضى تفضيل ما هو بفعل.
طالب:.........
نعم، يكثر عطاؤه.
طالب:.........
"وأندى العالمين بطونًا راح" أندى يعني أفعال تفضيل.
طالب:.........
صياغة أفعال التفضيل، متى......
طالب:.........
ثلاثي إذًا من العطاء.
طالب:.........
لا، من العطاء الذي هو الثلاثي.
طالب:.........
عطاياه، النابغة الجعدي، نعم.
"قوله تعالى: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} [المائدة:66]"
أشرت إلى كتاب اسمه (فعلت وأفعلت) في الدرس الماضي في المغرب تُميز به بين الأفعال الثلاثية والرباعية، اللفظ واحد قد يُقال: بالهمز، وقد يُقال: بدونه فليُرجع إليه.
طالب:.........
تعال المغرب واستفد.
طالب:.........
الله يعينكم.
طالب:.........
ترجع للدرس وتسمع.
طالب:.........
تعرف المؤلف والله بين عيني كأني أرى اسمه.... لكن يجيء يجيء، نعم.
"قوله تعالى: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُون} [المائدة:66] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب قسمان:
طائفةٌ منهم مقتصدةٌ في عملها".
طالب:.........
للزجاج الكتاب، نعم صح.
طالب:.........
ماذا؟
طالب:.........
الجواليقي (شرح أدب الكاتب) له، وله كتب أخرى، لكن لا أظن هذا منها.
طالب:.........
للزجاج الذي معنا، أبو إسحاق الزَّجاج (فعلت وأفعلت) مطبوع ومتداول، مطبوع أكثر من مرة.
"وكثيرٌ منهم سيئ العمل، وقسم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير } [فاطر:32]، ووعد الجميع بالجنة بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير} [فاطر:33]".
وذكر القسم الرابع: وهو الكفار منها بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّم....}.
حتى الظالم لنفسه الذي جاء ذكره في قوله –جلَّ وعلا-: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة:102] فالسيئ ظلم للنفس، ولكن النتيجة {عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] وفيها ما مر في عسى من أنها واجبة من الله كما قال ابن عباس.
طالب:.........
هذا إذا تاب هذا ما فيه إشكال، لكن الترجي يدل على أن بقاء شيءٍ من هذا ظلم للنفس.
طالب:.........
لأنهم تابوا.
طالب:.........
مآله مآله هو له أصل.
"وذكر القسم الرابع: وهو الكفار منها بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر:36] الآية.
وأظهر الأقوال في المقتصد، والسابق، والظالم، أن المقتصد هو من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزد على ذلك.
وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك...".
مثل الأعرابي الذي قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أفلح إن صدق» لم يزد على ما أوجب الله عليه.
"وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات، خوفًا من أن يكون سببًا لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] الآية، والعلم عند الله تعالى".
قف على هذا.
طالب:.........
هذا سابق بقدر ما فعله من النوافل.
طالب:.........
سبقه بقدر ما يزيده على ما افترض الله عليه من النوافل.
"