تعليق على تفسير سورة البقرة (73)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
قال الإمام ابن كثيرٍ –رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:208-209].
يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.
قال العوفي، عن ابن عباسٍ، ومجاهدٍ، وطاووس، والضحاك، وعكرمة، وقتادة، والسُّدي، وابن زيد، في قوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}[البقرة:208] يعني: الإسلام".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد...
السلم هنا يُراد به الإسلام، ومما يدل له حديث المسعود البدري «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَاؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» إلى أن قال: «فأقدمهم سلمًا» يعني إسلامًا، وأن الدخول في الإسلام كافة يعني يُدخَل فيه بجميع ما يتطلبه الإسلام، فالإسلام هو الاستسلام لله، التوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، فلا يتخير الإنسان من شرائع الإسلام ما تهواه نفسه، ويترك ما لا تميل إليه، وإنما يدخل في السلم، ويأخذ الإسلام كافة، ويأخذه بقوة لا على التراخي، ولا يتبع خطوات الشيطان وتصوير الشيطان، وتأويل الشيطان؛ لأننا نسمع من بعض المسلمين، ومن بعض طلاب العلم –مع الأسف- أنه في حقيقة أمره يتبع هواه، فتجده إذا لم تمل نفسه إلى أمرٍ من الأمور تجده يبحث في الأقوال، ويتتبع الرخص، وأحيانًا يُفتي بحسب هواه، ثم يبحث عن المبرر لهذا الفتوى، والأصل أن يعرف الحكم بدليله قبل كل شيء سواءٌ وافق هواه أو خالف هواه.
أما إذا أفتى بمسألة أو عمل بمسألةٍ لا يعرف دليلها، ثم ذهب يبحث عنه في أقوال أهل العلم، وهذا يستوي فيه ما إذا كانت فتواه أو عمله فيه شيء من الضعف أو من القوة، المقصود أن الأصل اتباع الدليل والعمل بالدليل.
وتقرؤون عمن يكتب الآن في مواقع التواصل والوسائل تجدونه إذا أفتي هو أو من يتبعه تجده يبحث عمَّا يُبرر هذه الفتوى، أو عمل بعملٍ تجده يبحث عن المبرر لهذا العمل، ولو سُئل عن هذه المسألة قبل أن يُفتي فيها، وأُخبِر بدليلها، رأى أن هذه المسألة حكمها غير ما أفتى به من غير دليل.
وعلى كل حال، اتباع الهوى كثير، وكان الناس على حزمٍ وعزم يأخذون هذا الدين بقوة، ثم بعد ذلك بدأ التراخي، وسببه الاطلاع على الأقوال من غير تقوى، ومعرفة بعض الأحكام مع شيءٍ من التساهل في الدين، والله المستعان.
ولذا تجدون ممن ينتسب أو بعض من ينتسب إلى العلم مظاهر الفسق عليه ظاهرة، وإذا نُوقِش قال: التقوى هاهنا، هذا تناقض، لو قيل له: عرِّف التقوى؟ ما وسعه إلا أن يقول: فعل الأوامر واجتناب النواهي، طيب عملك هذا الذي ظاهرٌ عليك مما يُعد فسقًا، هل هذا من التقوى؟ وفي النهاية تقول: التقوى هاهنا، أين التقوى وأنت تفعل المعاصي، وتترك الواجبات؟!
وفي الحديث الذي حسَّنه الإمام أحمد وجمعٌ من أهل العلم «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» فما يحمله الفُساق هو في حقيقته ليس بعلم، فالذي يعمل المعصية جاهل، ولو عرف حكم هذه المعصية بدليلها، فهو جاهل {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}[النساء:17] ليس معنى أن هؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ما يعرفون الأحكام، ولو قيل بذلك لقيل: إن من يعرف الحكم لا توبة له، توبته مقبولة بشروطها بإجماع أهل العلم، فدل على أن الجهل هنا هو مخالفة الأمر وارتكاب المعصية.
ابن عبد البر قال: كل من يحمل العلم فهو عدل، كيف؟ وما يُرى في الواقع ممن يحمل العلم ويعرف الأحكام وهو ليس بعدل في حقيقة الأمر؛ لأنه يرتكب مُحرَّمًا، ويكون حينئذٍ معنى الحديث الأمر للعدول بحمل العلم، وترك المجال للفُساق بأن يحملوا شيئًا من العلم يُضللون به الناس، كأنه قال: ليحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله؛ ولذا يقول الحافظ العراقي:
ولابن عبد البر كل من عُني |
|
بحمله العلم ولم يوهن |
فإنه عدلٌ بقول المصطفى |
|
يحمل هذا العلم لكن خولفا |
ابن عبد البر ما وُوفِق على كلامه؛ لأن الواقع يرده، والحديث مختلفٌ في تصحيحه وتضعيفه، لكن الإمام أحمد مال إلى تحسينه، ووافقه جمعٌ من أهل العلم.
نعم.
"وقال الضحاك، عن ابن عباس، وأبو العالية، والربيع بن أنس: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}[البقرة:208] يعني: الطاعة، وقال قتادة أيضًا: الموادعة".
السلام يعني: السلام والمسالمة والموادعة.
"وقوله: {كَافَّةً}[البقرة:208] قال ابن عباسٍ، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع، والسُّدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة والضحاك: جميعًا، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفرٍ ممن أسلم من اليهود وغيرهم، كعبد الله بن سلام، وأسد بن عُبيد، وثعلبة وطائفة استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أن يسبتوا، وأن يقوموا بالتوراة ليلاً، فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها.
وفي ذِكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر، إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام".
ما معنى هذا الكلام؟ يستحيل أن يستأذن عبد الله بن سلام في إقامة السبت أو أن يقوم بالتوراة بعد أن أسلم، وإسلامه معروف ومشهور، وشهد له النبي –عليه الصلاة والسلام- بالجنة، ثم قال: "وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه".
طالب:........
السبت؟
طالب:........
إيمانه إذًا بتحقق نسخه.
طالب:........
نعم.
طالب:........
وهو مع تمام إيمانه بتحقق نسخه، إيمان عبد الله بن سلام.
طالب:........
عندنا "يتحقق" لكن بتحقق نسخه "وهو مع تمام إيمانه" يعني: عبد الله بن سلام، بتحقق "نسخه ورفعه وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام" سواءً كان السبت أو ما ذُكر كله.
"ومن المفسرين من يجعل قوله: {كَافَّةً}[البقرة:208] حالاً من الداخلين، أي: ادخلوا في الإسلام كلكم، والصحيح الأول، وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شُعب الإيمان وشرائع الإسلام، وهي كثيرةٌ جدًّا ما استطاعوا منها.
كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين، قال: أخبرنا أحمد بن الصباح، قال: أخبرني الهيثم بن يمان، قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا، قال: حدثني محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة:208] كذا قرأها بالنصب، يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة:208] يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم".
عموم من أسلم أو اهتدى على شيءٍ سابق تبقى معه بعض الأشياء كما هو شأن بعض المبتدعة إذا اهتدوا يبقى معهم من أصول البدع السابقة ما لا يستطيعون دفعه إلا مع طول الوقت أو مع العزيمة والصدق واللجأ إلى الله –جلَّ وعلا-، كما قيل في أبي الحسن الأشعري، رجع عن مذهب المعتزلة إلى مذهب أهل السُّنَّة، لكن بقيت عنده أشياء يُدركها من قرأ المقالات والإبانة يُدرك أنه ليس من الأصل على مذهب أهل السُّنَّة.
وكذلك من عاش في بيئة وتأثر فيها -بهذه البيئة- بما يسود فيها من المقالات ومن المذاهب، فإنه يبقى عنده شيء، من نظر في كتب الشوكاني والصنعاني وجد أن تأثير البيئة موجود، ولكن على المسلم، وعلى العالم، وطالب العلم أن يأخذ هذا الدين بقوة، وأن يترك كل ما خالفه سواءً كان كبيرًا أو صغيرًا.
"يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا تدعوا منها شيئًا، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}[البقرة:208] أي: اعملوا الطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فـ {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، و{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر:6]؛ ولهذا قال: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:208]".
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}[فاطر:6] ومع الأسف حال كثير من المسلمين في العصور المتأخرة تجد الشيطان يُسوِّل لهم، ويُملي لهم، ويتبعونه، ويستدرجهم بخطواته ويتدرجون معها -والله المستعان-.
"قال مطرف: أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان.
وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}[البقرة:209] أي: عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله عزيز أي: في انتقامه، لا يفوته هاربٌ، ولا يغلبه غالب، حكيمٌ في أحكامه ونقضه وإبرامه؛ ولهذا قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس: عزيزٌ في نقمته، حكيمٌ في أمره.
وقال محمد بن إسحاق: العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده".
الحكيم هو الذي يضع الأمور في مواضعها، كل أمر من الأمور يضعه في مواضعه، وهذه هي الحكمة وضع الأمور في مواضعها؛ ولذا إذا أُوضِع شخص على عملٍ مناسبٍ له فهو الرجل المناسب في المكان المناسب، فتعيينه حكمة، وضعه في هذا المكان حكمة؛ لأنه وضعٌ للأمور في مواضعها، لكن إذا كان العكس قد يحصل يُحسن الظن في شخص، ثم بعد ذلك يكون واقعه خلاف ما تُوقع منه، هذ خلاف الحكمة، ومثل هذا إذا بان أمره وتبين أنه لا يصلح لهذا المكان فبقاؤه خلاف الحكمة، فلا بُد من الإتيان بشخصٍ مناسب لهذا المكان –والله المستعان-.
"قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ}[البقرة:210].
يقول تعالى مهدّدًا للكافرين بمحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليه-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ}[البقرة:210] يعني: يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عاملٍ بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ ولهذا قال: {وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ}[البقرة:210]، كما قال: {كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 -23]، وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158].
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جريرٍ هاهنا حديث الصور بطوله من أوله، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو حديثٌ مشهور، ساقه غير واحدٍ من أصحاب المسانيد وغيرهم، وفيه: «أَنَّ النَّاسَ إِذَا اهْتَمُّوا لِمَوْقِفِهِمْ فِي الْعَرَصَاتِ تَشَفَّعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا، مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، فَكُلُّهُمْ يَحِيدُ عَنْهَا، حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا جاؤوا إِلَيْهِ قَالَ: أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا. فَيَذْهَبُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَيَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فيُشفّعه اللَّهُ، وَيَأْتِي فِي ظُلَل مِنَ الْغَمَامِ بَعْدَ مَا تَنْشَقُّ السَّمَاءُ الدُّنْيَا، وَيَنْزِلُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ، ثُمَّ الثَّالِثَةُ إِلَى السَّابِعَةِ، وَيَنْزِلُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ والكَرُوبيّون، قَالَ: وَيَنْزِلُ الْجَبَّارُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ظُلَل مِنَ الْغَمَامِ والملائكةُ، وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ ذِي الْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ، سُبْحَانَ الذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، سُبّوح قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، سُبْحَانَ ذِي السُّلْطَانِ وَالْعَظمَةِ، سُبْحَانَهُ أَبَدًا أَبَدًا».
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا أحاديث فيها غرابة، والله أعلم".
هذا الحديث حديث الصور مُضعَّف عند أهل العلم.
طالب:.......
نعم.
طالب:.......
ماذا فيه؟
طالب:.......
على كل حال....
طالب:.......
ما له شاهد يبقى بحسب قوة الشاهد، وإذا قلنا: إننا نُرقي ما له شاهد، فمعناه أن ضعفه ليس بشديد؛ لأنه يقبل الترقية، وعلى كل حال الحديث بطوله ضعيف، وبعض ألفاظه منها ما هو في الصحيح وهذا لا إشكال فيه، ومنها ما له شاهد في غير الصحيح، لكنه مقبول، ومنها ما شاهده ضعيف وإلا فأصل الحديث بجملته ضعيف.
"وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا أحاديث فيها غرابة، والله أعلم.
فمنها: ما رواه من حديث المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن مسروق".
أبي عبيدة الله بن؟
طالب: عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود.
عندنا ميسرة، ما علَّق عليه؟
طالب:.......
ابن مسعود.
طالب:.......
يقول: في زاي وخاء: ابن مسعود.
طالب:.......
هو عن ابن مسعود، لكن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أم ابن ميسرة؟ لو رأى من الطبراني، كمِّل، يُراجع، يُراجع.
طالب:.......
ما يخالف، لكن هل هو في هذا الموضع هو المطلوب، وإلا فمعروف أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود.
طالب:.......
من مصدر التخريج من الطبراني، يُراجع من مصدر التخريج.
طالب:.......
طيب.
نعم.
"عن مسروقٍ، عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، قِيَامًا شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، يَنْتَظِرُونَ فَصْل الْقَضَاءِ، وَيَنْزِلُ اللَّهُ فِي ظُلَل مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، قال: حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، يقول: سمعت عبد الجليل القيسي، يحدث عن عبد الله بن عمرو: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}[البقرة:210] الآية، قال: يهبط حين يهبط، وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها: النور، والظلمة، والماء، فيُصوِّت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب.
قال: وحدثنا أبي: قال: حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، قال: حدثنا الوليد قال: سألت زهير بن محمد، عن قول الله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}[البقرة:210] قال: ظلل من الغمام، منظومٌ من الياقوت، مكللٌ بالجوهر والزبرجد".
طالب:.......
ماذا؟
طالب:.......
ابن؟
طالب:.......
في هذا الموضع، في هذا الحديث.
طالب:.......
في هذا الموضع أبو عبيدة مع عبد الله ابن مسعود، انتهى الإشكال، فيكون الصواب ابن مسعود؛ لأن مصدر التخريج هو المرجع.
"وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}[البقرة:210] قال: هو غير السحاب، ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ}[البقرة:210] يقول: والملائكة يجيئون في ظللٍ من الغمام، والله تعالى يجيء فيما يشاء، وهي في بعض القراءة: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام"، وهي كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا}[الفرقان:25]".
الإتيان والمجيء ثابت لله –جلَّ وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، وأهل التأويل يؤولون مجيئه بمجيء أمره؛ هروبًا من إثبات الصفة التي أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله –عليه الصلاة والسلام- على ما يليق بجلاله وعظمته.
طالب:.......
"{فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}[البقرة:210] قال: هو غير السحاب" من نوع ما يُصاحب المطر ويتقدمه قبل نزوله، لكن هل هو السحاب أو شيءٌ آخر؟ الله أعلم.
طالب:.......
ماذا؟
طالب:.......
أين؟
طالب:.......
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}[البقرة:210] ليس معنى هذا أنها ظرفية وأن الظرف يحويه أو يُقله أو كذا هو على ما يليق بجلاله وعظمته.
"قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[البقرة:211-212]
يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل: كم قد شاهدوا مع موسى {مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}[البقرة:211] أي: حُجةً قاطعةً بصدقه فيما جاءهم به، كيده وعصاه، وفلقه البحر، وضربه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثيرٌ منهم عنها، وبدلوا نعمة الله كفرًا، أي: استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها، والإعراض عنها.
{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:211] كما قال تعالى إخبارًا عن كفار قريش: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28-29].
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذي رضوا بها واطمأنوا إليها".
الذين.
"الذين رضوا بها واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال، ومنعوها من مصارفها التي أُمروا بها مما يُرضي الله عنهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوه ابتغاء وجه الله؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم، ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين".
التزيين، تزيين الشيء هو الذي يجعله يُتمسك به؛ ولذلكم قد يُزين للإنسان الشيء القبيح فيراه حسنًا {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}[فاطر:8]، ولذلكم تجدون بعض الناس يفعل أشياء، ويألف أشياء يقذره به عموم الناس، ولا يرى في ذلك بأسًا، بل هو متعلقٌ به، ومتمسكٌ به؛ لأنه زُيِّن لهن، فمن زُينت له الدنيا تمسك بها، ومن زُينت له الآخرة سعى إليها.
فنسأل الله –جلَّ وعلا- أن يهدينا إلى ما يدلنا ويثبتنا على صراطه المستقيم، وإلا فتجدون بعض الناس بكلماتٍ يسيرة يُزين له بعض القبائح فيسلكها، وعنده من الأعمال الصالحة السابقة ما يجعلها رخيصةً في عينه بكلمةٍ أو بكلمات ويتركها.
فهذا التزيين هو محط الإشكال، الآن كثيرًا ما يسأل طالب العلم أنه عنده حرص ونهم لطلب العلم، ثم يجد نفسه فجأةً تراخى لا بُد أن يُزين له العلم من أجل أن يرجع إليه، كيف يُزين له العلم؟ بالنصوص الواردة في فضل العلم والعلماء، ثم يرجع، وأيضًا ما جاء في منازل العلماء، وما يستحقونه من رفعةٍ في الدنيا والآخرة، ويقرأ في سير أهل العلم العلماء، ويقتدي بهم، فيشحن من حب العلم والحرص عليه والرجوع إليه.
وكذا لو زُيّن له الجهل والسفه، هذا موجود، كثيرٌ من الناس يُزين السفه تجده في كل وقته من التنكيت بالعبارات البذيئة والقذرة، ومع ذلك هو راغب فيما هو فيه، وبعضهم يرغب فيه وفيما يقوله ويتبناه من سفه؛ لأنه زُيّن له.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}[فاطر:8] تجد بعض الناس عنده امرأة من أقبح النساء، ومن أسوئهن خُلقًا، وتراه ينظر إليها كأنها أجمل النساء، فهذه المرأة زُينت له فرأها كذلك.
فالتزيين... ولذلك يُحَث على صحبة الأخيار؛ لأنهم يُزينون له الخير، ويُحذَّر من صُحبة الأشرار، لماذا؟ لأنهم يُزينون له الشر، وهكذا؛ ولذا كتاب مؤلَّف من كتب الأدب له نوع قِدم من ثلاثمائة أو أربعمائة سنة اسمه (ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار) وتجد هذا الخيِّر المسكين زُينت له المرأة ومتمسكًا فيها، وكم من شخص على هدى وعلى تقى، وعلى صلاح، ثم تُزيَّن له هذه المرأة، تُزيَّن في عينه فتقلبه، والنساء كما جاء في الأثر حبائل الشيطان قوة ضاغطة على الرجال؛ لأن لديهم هذه الشهوة وهذه والغريزة التي رُكِّزت فيهم تجدهم يتنازلون عن كثير من الأمور.
وبعض الشباب، ومنهم طلاب علم، إذا بحث عن زوجة تجده يبحث عن الجمال أكثر من غيره، وبعضهم يبحث عن المال، وبعضهم...إلى آخره، ومن وُفِّق يبحث عن الدين وصية النبي -عليه الصلاة والسلام-: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ».
وعمران بن حطان كان من أهل السُّنَّة، وكان من المناصرين والمنتصرين لها، خطب امرأة، فقيل: إنها من الخوارج، وكان فيها جمال، وقال: الآن نضمن هذا الجمال، والدين يأتي بالدعوة، نكسب أجرها، يقول هذا كثير من طلاب العلم، كثير ممن يبحث عن امرأة، الدين يأتي بالدعوة وتُهدى، بينما الجمال ما يأتي، ما الذي حصل لعمران بن حطان؟ صار من رؤوس الخوارج، حتى إنه مدح قاتل علي –رضي الله عنه- بسبب تأثير هذه المرأة، وتزيين الشر والخروج من قِبل هذه المرأة، والله المستعان.
وجدنا من بعض طلاب العلم الذين تزوجوا نساء أقل مما يليق بهم في الاستقامة وكذا، تجدهم تساهلوا في كثيرٍ من الأمور، فعلى الإنسان أن يحرص على دينه الذي هو رأس ماله.
نعم، يا شيخ.
"ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[البقرة:212] أي: يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاءً كثيرًا جزيلاً بلا حصرٍ ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث: «ابْنَ آدَمَ، أَنْفقْ أُنْفقْ عَلَيْكَ»، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَنْفِقْ بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالَا»، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}[سبأ:39]، وفي الصحيح «أَنَّ مَلَكين يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ صَبيحة كُلِّ يَوْمٍ، فيَقُولُ: أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسكا تلفًا»، وفي الصحيح «يقول ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي! وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، وَمَا لَبسْتَ فأبليتَ، وَمَا تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ»".
وقد جاء في الحديث «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِليه مِن مَالهِ؟» هل هناك أحد يقول: مال وارثي أحب إلي من مالي؟ ما فيه أحد، مال وارثك ما أبقيت له، وشححت به، وبخلت به، ومالك ما أنفقته في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله.
"وفي مسند الإمام أحمد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ».
قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213]
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: أخبرنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: كان بين نوحٍ وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا.
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث بَندار".
بُندار.
"من حديث بُندار محمد بن بشار، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه".
طالب:........
بُندار محمد بن بشار، هو محمد بن بشار.
طالب:........
لا لا، محمد بن بشار شيخ البخاري، ولقبه بُندار، وهو يروي عن غُندر محمد بن جعفر.
"وكذا روى أبو جعفرٍ الرازي، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب: أنه كان يقرؤها: كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}[البقرة:213] قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين منذرين، فكان أول نبي بعث نوحًا، وهكذا قال مجاهد، كما قال ابن عباسٍ أولاً".
فكان أول نبيٍّ بُعِث نوحٌ أو نوحًا؟ كان أول تصير خبرًا، خبر كان، نعم.
"وقال العوفي، عن ابن عباس: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}[البقرة:213] يقول: كانوا كفارًا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}[البقرة:213].
والقول الأول عن ابن عباس أصح سندًا ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم، حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا -عليه السلام- فكان أول رسولٍ بعثه الله إلى أهل الأرض.
ولهذا قال: {وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[البقرة:213]
أي: من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213].
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:213] قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أوّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فَهَدَانَا لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى»".
هذا أول الصحيفة، صحيفة همام بن مُنبِّه التي يرويها عن أبي هريرة في أولها «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابقون يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، «الْآخِرُونَ» يعني بالنسبة للزمان محمدٌ –عليه الصلاة والسلام- وأمته آخر الأمم، لكن في البعث ودخول الجنة هم السابقون.
يقول: «فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه» يعني يوم الجمعة «فَهَدَانَا لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ» السبت، «وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى».
"ثم رواه عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:213] فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد. فهدى الله أمة محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- ليوم الجمعة.
واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة.
واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمدٍ للحق من ذلك.
واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمدٍ للحق من ذلك.
واختلفوا في إبراهيم -عليه السلام- فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا، فهدى الله أمة محمدٍ للحق من ذلك.
واختلفوا في عيسى-عليه السلام- فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه، وكلمته، فهدى الله أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- للحق من ذلك.
وقال الربيع بن أنس في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:213] أي: عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله –عزَّ وجلَّ- وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوحٍ، وقوم هود، وقوم صالحٍ، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم.
وفي قراءة أبي بن كعب: (وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)، وكان أبو العالية يقول: في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله: {بِإِذْنِهِ}[البقرة:213] أي: بعلمه، وبما هداهم له. قاله ابن جرير: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:213] أي: من خلقه".
ولذا جاء في الدعاء المأثور وفي استفتاح صلاة الليل "اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك" نعم.
"{وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:213] أي: من خلقه {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213] أي: وله الحكمة والحجة البالغة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللَّهُمَّ، رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السموات وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اختلفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، وفي الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضِل، واجعلنا للمتقين إمامًا".
اللهم صلِّ على محمد.