شرح كتاب العلم لأبي خيثمة (5)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان يقول: ادنوا يا بني فروخ، فلو كان العلم معلقًا بالثريا لكان فيكم من يتناوله".
أبو هريرة -رضي الله عنه- مع ما حمله من علم عظيم أخذه من مشكاة النبوة صار يتألف الناس، ويقصدهم في أماكنهم، ويحثهم على الأخذ عنه، حتى قال لأبناء العجم: "ادنوا -وخذوا عني- يا بني فروخ -هذه كنيتهم كنية العجم- فلو كان العلم معلقًا بالثريا لكان فيكم من يتناوله" وجاء في الحديث الصحيح: ((لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس)) على كل حال ضرب العجم في جميع أنواع العلوم والمعرفة بسهم وافر، وإذا عرفنا أن فروع اللغة العربية، اللغة العربية بجميع فروعها أكثر المؤلفين فيها من العجم، أيضًا العلوم الأخرى، التفاسير أكثرها من العجم، شروح الحديث أكثرها من تلك الجهات، من غير العرب، فهذا العلم مشاع، وهذا الدين لكل أحد، والفضل والتفاضل إنما هو بالتقوى، مهما كان نسبه، مهما كان حسبه، ((من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) ولو كان من الذرية الطاهرة، ما يستفيد ولا ينتفع، ما لم يكن عمله مسرعًا به، ومن أسرع به عمله لم يضره نسبه، والله المستعان، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن سهيل قال: "كان أبو هريرة -رضي الله عنه- إذا نظر إلى أبي صالح قال: "ما كان على هذا أن يكون من بني عبد مناف".
نعم أبو هريرة -رضي الله عنه- إذا نظر إلى أبي صالح ذكوان السمان من الملازمين لأبي هريرة، ومن الآخذين عنه، إذا نظر إليه وهو مولى، مولى جويرية بنت الأحمس، إذا نظر إليه أبو هريرة "قال: "ما كان على هذا أن يكون من بني عبد مناف" ما ضره ما فاته، لا يضره ما فاته من نسب، بعد أن جمع من العلم والعمل ما جمع، ولا شك أن العلم كمال، فمن اتصف به لا يضره ما يفوته لا سيما إذا اقترن بالعمل، إذا اقترن العلم بالعمل لا يضر الإنسان ما فاته من أمور الدنيا، لا في مال ولا في نسب، ولا في جمال، ولا في جاه، ما يضره أبدًا؛ لأنه حصل على أعظم ذخر، أعظم ذخر يوصله إلى الله -جل وعلا- وإلى مرضاته، هذا العلم إذا اقترن بالعمل، وأُخذ عن أهله بالإخلاص والاتباع، وعمل به هذا هو الذخر الذي ينبغي أن يدخره الإنسان لنفسه، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا يحيى بن يمان عن الأعمش عن أبي صالح قال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلا ثوبين أبيضين أجالس فيهما أبا هريرة".
هذا أبو صالح السمان الذي سبق ذكره، وهو مولى يتمنى من الدنيا، ماذا يتمنى؟ يتمنى الملايين والمليارات أو القصور أو العمائر الشاهقة، أو الضياع والمزارع والاستراحات أو المراكب الفارهة؟ ما يتمنى شيئًا، يتمنى ثوبين أبيضين، ثوبين مثل ثيابنا هذه يعلق واحد بالدالوب ويلبس واحدًا؟ لا، ثوبين معناه إزار ورداء، يبغي يلبسهم مرة واحدة، يتمنى ثوبين أبيضين فقط، لماذا؟ يبغي يقابل الأمير الفلاني أو الوزير الفلاني أو الملك الفلاني أو التاجر الفلاني حتى لا يُنتقد؟ لا، يبغي يجالس أبا هريرة من فقراء المسلمين "أجالس فيهما أبا هريرة"؛ ليأخذ عنه العلم، والمسلم مأمور بالنظافة المناسبة، ما هو بالمبالغة في النظافة، فالبذاذة من الإيمان، لكن يبقى أن الإنسان عليه أن يتوسط في أموره كلها، بحيث لا يزدرى بين الناس ويحتقر، ولا يظن به ظن السوء، ولا أيضًا يبالغ في نظافة بدنه أو ثوبه مبالغة تعوقه عن تحصيل ما ينفعه، فديننا وسط، ولله الحمد، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير قال: قال قابوس: عن أبيه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في قوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء} إلى قوله: {فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [(135) سورة النساء] قال: "الرجلان يقعدان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه إلى أحد الرجلين على الآخر".
{كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء} [(135) سورة النساء] القاضي يلزمه العدل بين الخصوم، لا يجوز له أن يلتفت إلى أحد الخصوم دون الآخر، ولا أن يصغي إلى أحد الخصوم دون الآخر، ولا أن يبش في وجه أحد الخصوم دون الآخر، بل عليه أن يعدل بينهما، ولا يكون لأحدهما مزية مهما كانت منزلته، ولو كان هذا من أهل العلم وهذا من أهل الجهل، لا يؤثر هذا في هذه القضية، لكن إذا انتهت القضية يعامل كل إنسان بما يليق به، ومثل القاضي المدرس -المعلم- في الفصل في القاعة عليه أن يعدل بين طلابه، ومثلهما الوالد في بيته عليه أن يعدل ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))، وعلى كل حال العدل مطلوب، وبه قامت السماوات والأرض، ((المقسطون على منابر من نور يوم القيامة)) الذين يعدلون في كل شيء، في جميع ما ولوا يعدلون، بخلاف القاسطين، القاسطون {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [(15) سورة الجن] وهم العادلون عن طريق الحق، يعني المائلون، فالمقسطون العادلون، وأما القاسطون فهم المائلون الحائدون عن طريق الحق، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن قابوس عن ابن عباس قال: "قال موسى حين كلم ربه: رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكرًا، قال: رب أي عبادك أحكم؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس، قال: رب أي عبادك أغنى؟ قال: الراضي بما أعطيته".
نعم وهذا الخبر المروي عن موسى الكليم ابن عمران الرسول الشهير قال "حين كلم ربه -أي-: ربِ أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكرًا" والذكر فضله معروف، وفوائده لا تحصى، أثبت ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مقدمة الوابل الصيب ما يقرب من مائة فائدة من فوائد الذكر، فالذكر لا يكلف شيء، في آية الأحزاب قال في آخرها لما عدد الأصناف قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [(35) سورة الأحزاب] فالذكر جاء في فضله أحاديث ونصوص كثيرة تبين فضله وأهميته ((سبق المفردون)) من المفردون؟ ((الذاكرون الله كثيرا ًوالذاكرات)) {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [(28) سورة الكهف] الباقيات الصالحات لا تكلف، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، في كل واحدة يغرس لك شجرة في الجنة، تجلس سنين تعمل في شجرة يمكن تموت، يمكن تحيا، وسبحان الله ما تأخذ منك ولا ثانية، شجرة في الجنة، يقول إبراهيم -عليه والسلام-: ((أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم بأن الجنة قيعان وغراسها التسبيح والتحميد)) سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
أو ما سمعت بأنها القيعان |
| فاغرس ما تشاء بذا الزمان الفانِ |
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل)) ومن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة خذ من الأجور شيء لا يعد ولا يحصى، جاء في فضلها في الصحيحين، جاء عتق عشر رقاب، وجاء مائة درجة، ويحط مائة خطيئة، وكانت حرزًا له من الشيطان، شيء ما..، لا إله إلا الله هذه مائة مرة تقال بعشر دقائق بالراحة، سبحان الله وبحمده من قالها في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، يعني في دقيقة ونصف، ما يحتاج لا تلبس ثوبك ولا تلبس نعلك وأنت بمكانك، في دقيقة ونصف سبحانه الله وبحمده حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، وهذا الخبر في الصحيحين ليس لأحد كلام، يعني إذا رتبت الأجور العظيمة على خبر يقبل الأخذ والرد وفضل الله واسع، يعني ما فيه حد لا يحد فضله، فهذا الخبر في الصحيحين ما لأحد كلام، في دقيقة ونصف تحط عنك خطاياك وإن كانت مثل زبد البحر، لكن لو أحصيت من يقولها من عموم المسلمين لوجدت نفرًا يسيرًا، الموفق من وفقه الله، والحرمان ما له نهاية، والله المستعان.
فالذكر شأنه عظيم ((ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) نعم، بعض الناس لو يقال له: إن التاجر الفلاني البارحة أثنى عليك، يمكن ما ينام، فضلًا عن أن يقال له: الأمير الفلاني أو الوزير الفلاني ذكرك ما شاء الله، وأثنى عليك خير، يمكن ما ينام تلك الليلة، لكن من قال: لا إله إلا الله في نفسه، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، والله أكبر ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)) هذا الذكر الذي ينفع، يعني كونه يذكرك يثني عليك، ولا أحد مدحه زين وذمه شين إلا الله -جل وعلا-، لما جاء الأعرابي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: يا محمد أعطني، فإن مدحي زين وذمي شين، قال: ((لا، ذاك الله -جل وعلا-)) مدحك لا يقدم ولا يؤخر، ولا ذمك ما يضر.
"أكثرهم لي ذكرًا، قال: رب أي عبادك أحكم؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس" ينصف، يعدل في نفسه، يعدل في نفسه، وفي ولده قبل أن يقضي على الناس، ويحكم عليهم "قال: رب أي عبادك أغنى؟ قال: الراضي بما أعطيته" لا شك أن الذي يرضى ويقنع هذا غني، ولو كان عنده من المال شيء يسير، هذا غني، أما إذا وجدت الأموال الطائلة مع عدم الرضا وعدم القناعة هذا الفقر بعينه:
وكن صابرًا للفقر وادرع الرضا |
| بما قدر الرحمن واشكره واحمدِ |
بعض الناس على سرير المستشفى يلهج بذكر الله وشكره ليل نهار، لو يراه واحد من هؤلاء الأصحاء قالوا: ماذا يشكر عليه؟ هذا على ظهره بعد، ومقعده متكسر من كل ناحية، يا أخي يشكر الله على أن جعله مسلمًا، مآله -إن شاء الله- إلى الجنة، كيف لو زاغ به طوفان الدنيا الموجود الآن، ثم انحرف عن دين الإسلام، ومات على غير هدى، يقول ابن القيم -رحمه الله-:
والله ما خوفي الذنوب وإنها |
| لعلى سبيل العفو والغفرانِ |
فعلى الإنسان أن ينتبه لنفسه، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال: "كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يسأل عن الشيء فيقول: إن هذا لفي الزبر الأولى".
"كان ابن عباس يسأل عن الشيء" طاووس يذكر عن ابن عباس أنه كان يسأل عن الشيء فيقول: "إن هذا لفي الزبر الأولى" هل معنى هذا أنه على اطلاع في الكتب المنزلة الأولى، أو على أنه مما كتبه في أول الأمر وحفظه وضبطه، كما يدل على ذلك الحديث الذي يليه؟ فلا شك أن ما يحفظه الإنسان ويكتبه في أول الأمر أضبط مما يحفظه في آخر الأمر، ويكتبه في آخر الأمر، والأمر محتمل أنه يسأل عن الشيء فيقول: هذا موجود في كتب الأنبياء السابقين، كما جاء في آخر سورة الأعلى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [(14-16) سورة الأعلى] بعده؟
طالب: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [(18) سورة الأعلى].
نعم {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [(18-19) سورة الأعلى] يعني مثل هذا، أو يكون المراد أنه في الزبر يعني الكتب، الكتب المتقدمة التي كتبها في أول الأمر، وهي في الغالب أضبط وأتقن مما يكتب في آخر الأمر، بعد أن يتطرق له النسيان، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا حفص بن غياث قال: حدثنا عاصم عن أبي عثمان قال: قلت له: "إنك تحدثنا بالحديث فربما حدثتناه كذلك، وربما نقصت، قال: عليكم بالسماع الأول".
نعم هذا حديث عن أبي عثمان النهدي "عن أبي عثمان" هو النهدي عبد الرحمن بن مل، بتثليث الميم "قال: قلت له: "إنك تحدثنا بالحديث فربما حدثتناه كذلك" يعني أعدته علينا مرة ثانية وثالثة ورابعة، نعم "وربما نقصت" يعني وربما زدت، يعني ليس من عندك، لكن جمل في الحديث، يكون الحديث مشتملاً على الجمل ينشط الإنسان فيحدث به كاملًا، الحديث مكون من أربع جمل يحدث به كاملًا، وأحيانًا يحدث بطرفه، جزئه، ربعه، نصفه، لا سيما إذا كان ما يتركه لا يترتب عليه فهم ما ذكره، هذا جائز عند أهل العلم تقطيع الحديث والاقتصار على جزء منه جائز لكن بشرط ألا يكون آخره متعلق بأوله، أو ترتب فهم أوله المذكور على المحذوف، فإذا جئنا إلى آية النساء مثلًا، وكان الحديث عن الأمانة لك أن تقول: يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [(58) سورة النساء] وتقف، لك ذلك، ولا يلزمك أن تقول: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [(58) سورة النساء] كما أنه إذا كان الحديث عن العدل لا يلزمك أن تقول: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [(58) سورة النساء] بل يكفي أن تقول: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [(58) سورة النساء] فتأتي بما تحتاجه من الحديث شريطة أن يكون مستقل المعنى، كامل المعنى، فربما زاد المحدث وربما نقص، لكن ما يزيد من كيسه من عنده، لا، ولا ينقص شيئًا المذكور بحاجته، لكن يقول: "عليكم بالسماع الأول" الذي أديناه في وقت نشاط الذهن؛ ولذا أنس بن مالك لما طالت به الحياة، عُمّر بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- أكثر من ثمانين سنة، لما طالت به الحياة قال: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا، لا شك أن الإنسان يضعف في آخر عمره، وينسى بعض الشيء، لكن عليك بما سمعته منه أولًا، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس قال: حدثنا ليث عن عدي بن عدي عن الصنابحي عن معاذ -رضي الله تعالى عنه- قال: "لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عمره فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وعن علمه ما عمل فيه؟".
نعم هذا الخبر عن معاذ موقوف عليه، هو جاء بالمرفوع بأسانيد بمجموعها تدل على أن له أصلًا، صححه بعضهم: ((لا تزول قدم ابن آدم)) المقصود الجنس، جاء في الرواية الأخرى: "قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟" عمرك ماذا صنعت فيه؟ العمر المدة التي مكثتها في هذه الحياة، هل أنفقتها وصرفتها فيما يرضي الله -جل وعلا-؟ أو فيما يغضبه؟ أو في المباح والإكثار منه؟ ولم تلتفت إلى ما ينفعك في الآخرة؟ لا بد من السؤال عن عمره فيما أفناه، ماذا صنعت في هذه المدة؟ مدة بقائك في الدنيا، والعمر إذا لم يفنَ فيما ينفعه في الآخرة فلا قيمة له، يعني كون الإنسان يستمر السبت الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء، ثم الأسبوع الثاني كذلك، ما فيه جديد، مثل هذا حياته وعدمه واحدة، إذا لم يكتسب ما يقربه إلى الله -جل وعلا-، ولذا يقول الشاعر:
عمر الفتى ذكره لا وطول مدته |
| وموته خزيه لا يومه الدانيج |
فحقيقة بعض الناس بين الناس يأكل ويشرب ويروح وأتي ويبيع ويشتري وهو في حكم الأموات، يعني ما يزداد من الله قربًا، هذا إذا لم يكن الأموات أفضل منه؛ لأنه يزداد من الله بعدًا، وبعض الناس وهو ميت في التراب -في القبر- وهو حي بين الناس يفيدهم وينفعهم، بعض الناس يجري عليه عمله مئات السنين، وبعض الناس تكتب عليه أوزار الناس؛ لأنه تسبب فيها مئات السنين، كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [(4) سورة الليل] ما شاء الله مؤلف هذا الكتاب وغيره من المؤلفين الآن متوفى له ما يقرب من اثنا عشر قرن، وكتابه يتداوله الناس ويقرؤونه ويفيدون منه، مثل مؤلف هذا الكتاب، وغيره من الأئمة، لكن الكتب تتفاوت نفعها، ماذا تتصور للإمام البخاري من الأجور؟ نعم، وبعض الناس يؤلف الكتاب في عشرين مجلدة كبيرة، ومن نعمة الله عليه قبل غيره أن الأرضة أكلت الكتاب من أوله إلى آخره ما أبقت ولا ورقة، من نعمة الله عليه قبل غيره؛ لأن الكتاب فيه طوام، وهو شرح للبخاري، لكن على الإنسان أن يحرص أن ينفع نفسه أولًا، ومن ولاه الله أمانته وجيرانه، وأقاربه، ومعارفه وجماعته، ثم ينتشر علمه بين الناس، ومن دل على هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه.
"وعن جسده فيما أبلاه؟" جسده فيما أبلاه، الجسد ليس ملكًا لك، تقول: أنا حر، ما أنت بحر، أنت عبد مذلل لله -جل وعلا-، ها الجسد لا بد أن يمتثل هذه العبودية، ولا بد أن يسخر لهذه العبودية، أما تبلي جسدك وتعرض نفسك للمهالك وتقول: أنا حر، أبدًا لا تستطيع أن..، لو قطعت أصبع من أصابعك حرام عليك، وبهذا يتجه القول بمنع التبرع بالأعضاء؛ لأن الإنسان لا يملك من جسده شيء.
"وعن جسده فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟" من أين؟ من أين جاء السؤال؟ بعض الناس يلهث المسكين ما يستفيد من أمواله، يوجد تجار يملكون مئات بل المليارات مئات الملايين أو أكثر من ذلك، ليل نهار أمام هذه الشاشات ارتفع الدولار، نقص اليورو، زاد كذا، نقص كذا، ارتفع الين، وإذا ارتفع شيء أكل حبة، وإذا نزل شيء أكل حبة، لماذا؟ وأمواله من بنوك وربا ومشاكل، ثم بعد ذلك يقتسمها الورثة يتنعمون ويتلذذون، وقد يدخل بعضهم بها الجنة، وهو مآله إلى الحساب، من أين؟ من أين اكتسبت؟ "وعن ماله من أين اكتسبه؟" يعني وفيما أنفقه؟ لا بد أن ينفق، الزكاة ركن من أركان الإسلام "وعن علمه ما عمل فيه" نعم، هذا أشد من المال، المال تسأل من أين جاءك هذا؟ من أين أتاك؟ إلى أين ذهب بك؟ وانتهيت، لكن العلم، هل أخذت القرآن ونمت عنه؟ هل أخذت القرآن وسفهت مع الناس؟ هل هجرت القرآن؟ هل عملت بالسنة؟ هل كذا؟ هل كذا؟ نعم، لماذا تعلمت؟ والله تعلمت لأنفع نفسي وأنفع غيري، لا، كذبت، تعلمت ليقال: عالم، وقد قيل، حصل خلاص، الذي تريده حصل في الدنيا، لكن الآن أول من تسعر به النار، نسأل الله السلامة والعافية، ومثله الذي ينفق، بعض الناس جواد ينفق، هات، أي مشروع هاته، مستعد، ماذا فعلت بمالك؟ والله أنفقته في سبيلك، لا، أنفقته ليقال: جواد، فيكون الثاني ممن تسعر به النار، والمجاهد في سبيل الله الثالث.
تصوروا أن بعض التجار يكتب الشيك يفرح أنه يأتيه أحد، لكن يصير بمجمع من الناس، جماعة تحفيظ القرآن يحتاجون..، خذ هذه مائة ألف، قدام الناس، قدام زملائه وأقرانه التجار وكذا، هل أعطى هذا الشيك ليكون قد سن السنة الحسنة ليتبرع الناس؟ إذا طلع ماسك الشيك دخل من داخل وكلم على البنك احجزوا الشيك لا يصرف، يعني هذه مصائب، ويوجد -ولله الحمد- من تجار المسلمين من فيه خير، من يبذل لله -جل وعلا-، من يسارع، من يعمر المساجد، من يدعم حلق القرآن، من *(كلمة غير مفهومة عند الدقيقة 26:12) بعض مجالس العلم يوجد -ولله الحمد-، لكن بالمقابل يوجد أمثال هؤلاء، كما أنه يوجد من العلماء العاملين المجاهدين الأتقياء الأبرار الربانيين، يوجد أيضًا من يتعلم ليقال: عالم، فليحرص الإنسان على نجاة نفسه، يحرص الإنسان أشد الحرص على نجاة نفسه، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا الفضل بن دكين قال: أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: "لأن يعيش الرجل جاهلًا خير له من أن يفتي بما لا يعلم".
هذه مشكلة، بعض الناس تورط، سموه الناس عالمًا، وقصدوه للفتيا، يشق عليه إذا جاءه شخص وهو ما يعرف مسألة يقول: لا أعلم، ثم يأتيه ثان يقول: لا أعلم، ما مقعدك وأنت لا تعلم، هذا يشق عليه، ومن أثقل شيء على النفس مثل هذا، خلاص لما تورط صار بنصف الطريق ما يسعفه ينكسر، فعلى الإنسان أن يسعى في خلاص نفسه، فـ"لأن يعيش الرجل جاهلًا" جاهل "خير له من أن يفتي الناس بما لا يعلم" لأن العلم من أمور الآخرة، لا بد أن يكون مطلوبًا بنية خالصة، وأن لا يجرؤ على الفتيا من غير علم، وعيشة الجاهل لا شك أنها قد يسلم من كثير من الشرور التي يتلبس بها بعض من ينتسب إلى العلم؛ ولذا يقول الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-: "لأن يعيش الرجل خلف أذناب البقر -يعني فلاح مزارع- خير له من علم مثل علم فلان أو فلان"، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان يقال: أزهد الناس في عالم أهله".
نعم وهذا ظاهر "كان يقال: أزهد الناس في عالم أهله" وفي بعض الألفاظ: "وجيرانه" والسبب في ذلك أن الناس البعيدين عنه يحرصون عليه؛ لأنه يرونه دائمًا متماثل أمامهم متماسك، بينما أهله وجيرانه يطلعون منه على أشياء قد تنزل قيمته عندهم بسببه، وأيضًا كثرة المجالسة تزيل الهيبة، كثرة المجالسة مع الشخص تزيل الهيبة، فإذا زالت الهيبة خفت قيمة الرجل عند هذا الشخص، لكن من نظر إلى الأمور بحق، وأعطاها حقها، ووازن بين ما يسمعه من هذا العالم، وما يسمعه من غيره، لا شك أنه يقصد هذا العالم، ولو كان من أقرب الناس إليه، لكن هذا كثير يعني قل أن تجد من أولاد العلماء من يعنى بوالده ودروس والده، ويحرص عليها، ويلازمه ملازمة تامة، هذا قليل نادر؛ ولذا تجدون أقل القليل من الرواة من يقول: حدثني أبي عن جدي، إنما يحدث البعيد عن البعيد، هذا الغالب، يعني يندر جدًّا أن يوجد سلسلة بهذه الطريقة، اللهم إلا سلاسل معروفة ثلاث أو أربع أو خمس بالكثير، وإذا رويت رويت أحاديث قليلة يعني ما هي..، ما تدل على أنه لزمه ملازمة تامة، نعم، والواقع يشهد بذلك، ترون عيال المشايخ ترونهم أزهد الناس بوالدهم، والله المستعان، نعم.
طالب:....... وابنه وحفيده.
نعم المؤلف هذا وابنه وحفيده من أهل العلم، والله المستعان، يوجد الآن من بعض العلماء ممن أولاده سبعة كلهم حملوا العلم، لكن لو رأيت بعين البصيرة وجدت جلهم قد تلقوا العلم عن غيره، لكنهم من أهل العلم، نعم.
حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش قال: قال لي مجاهد: "لو كنت أطيق المشي لجئتك".
هذا من باب التواضع في العلم من الكبير للصغير يقول الأعمش: "قال لي مجاهد: "لو كنت أطيق المشي لجئتك" يعني لأخذت عنك، وأخذ الكبير عن الصغير فيه تربية، فيه تربية للطلاب، يعني لما تجد عالمًا كبيرًا جالسًا في حلقة من هو دونه لا شك أنك تجل هذا العالم الجالس الذي تواضع للأخذ عمن هو دونه، وأيضًا تحتقر نفسك، تزدري نفسك، أنت تفرط في هذا العلم، وهؤلاء الكبار جاءوا ليأخذوا هذا العلم، فلا شك أن هذا من باب التربية للطلاب، أن يجلس العالم وإن كان ليس بحاجة إلى ما عند هذا الصغير، نعم وإن كان لا يخلو مجلس من فائدة، لكن من باب تربية الطلاب، فعلى طالب العلم أن يعنى بهذا، وأن يجلس لسماع العلم من كل أحد، لكن إذا جاءت المفاضلة فالأخذ عن الكبار أولى، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا إسماعيل عن ابن عون أن محمدًا كره كتاب الأحاديث في الأرضين".
نعم الكتابة في الأرض، تكتب حديث على الأرض نعم، لا شك أن هذا امتهان للحديث، أو تكتب اسم من أسماء الله -جل وعلا-، أو آية من الآيات هذا امتهان، فكره محمد بن سيرين كتابة الأحاديث في الأرضين، منهم من قال: في الكراريس، لكن واضح يعني كراهة الكتابة في الأرض؛ لأن الأرض تداس وتهان، فينبغي أن تصان، إذا أراد الإنسان أن يعبث وهذه طريقة موجودة عند كثير من الناس أو يتعلم الخط ويتفنن فيه ويكتب على الأرض يكتب أي كلام عادي، لا يكتب أحاديث ولا آيات، ولا ما فيه لفظ الجلالة؛ لأن هذه ينبغي أن تحترم وتوقر وترفع عن مستوى الأرض، كثير من الناس إذا جلس..... يخطط بأصبعه أو بعود أو بشيء، مثل هذا يترفع عما فيه ذكر الله -جل وعلا-، نعم، وأما كتابة العلم في الكراريس فكرهها جمع من السلف، ثم بعد ذلك أجمعوا على أنها من أفضل العمل، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عباد بن العوام عن الشيباني عن الشعبي قال: "كان يؤخذ العلم عن ستة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان عمر وعبد الله وزيد -رضي الله تعالى عنهم- يشبه علمهم بعضهم بعضًا، وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان علي وأُبي والأشعري -رضي الله عنهم- يشبه علمهم بعضهم بعضًا، وكان يقتبس بعضهم من بعض، قال: فقلت له: وكان الأشعري إلى هؤلاء؟ قال: كان أحد الفقهاء".
نعم هذا الشعبي يقول: "كان العلم يؤخذ عن ستة من الصحابة، والآن يجمع النظائر بعضهم إلى بعض، ونص على هؤلاء الستة من باب التمثيل، وإلا فعلماء الصحابة فيهم كثرة، ومن يروي الحديث منهم أيضًا كثر، ومن يفتي الناس فيهم كثرة أيضًا، استوعبهم ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إعلام الموقعين، هم علماء الأمة، أما يؤخذ العلم عن ستة من الصحابة فقط؟ لا، لكن هو يريد أن ينظر يجمع، هؤلاء يشبه بعضهم بعض، وهؤلاء يشبه بعضهم بعضًا، يمكن ثلاثة آخرين..، وعشرة آخرين يشبه بعضهم بعضًا، لكن اقتصر على التمثيل بهؤلاء "كان يؤخذ العلم عن ستة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وهذا لا يفيد الحصر، "فكان عمر وعبد الله -بن مسعود-، وزيد -بن ثابت- يشبه علمهم بعضهم بعضًا" متقارب علمهم بعضهم من بعض، ينحون منحًا معين في تقرير المسائل، وفهمها، واستنباطها "وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان علي" والثلاثة الآخرون "يشبه... بعضهم بعضًا" علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، "والأشعري" أبو موسى الأشعري "يشبه علمهم بعضهم بعضًا" كمشابهة الثلاثة الأولين بعضهم لبعض، "وكان يقتبس بعضهم من بعض، قال: فقلت له" يعني كأنه تضم أبو موسى الأشعري لعلي بن أبي طالب وأُبي؟ كأنه جعل شأنه أقل، قال: "وكان الأشعري إلى هؤلاء؟" يعني يمكن أن يضم إلى هؤلاء؟ نعم، "قال: كان أحد الفقهاء" كان أحد الفقهاء، يعني أنت ما تقدره قدره، ولا بلغك من علمه ما بلغك، لكن نحن نعرفه بلا شك، مقدار الرجال يعرفها الرجال، وقد يخفى عليك من أمر هذا العالم ما يبين لغيرك، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري عن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد: "إنك تحدثنا أحاديث معجبة، وإنا نخاف أن نزيد أو ننقص فلو اكتتبناه، قال: لن نكتبكم ولن نجعله قرآنًا، ولكن احفظوا عنا كما حفظنا".
نزيد أو ننقص، نزيد أو ننقص، بعدما أحفظ عنك.
يقول: "عن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد -الخدري-: "إنك تحدثنا أحاديث معجبة" يعني نعجب منها، تأتينا بجديد يعني، تأتينا بشيء جديد لا نجده عند غيرك، فمثل هذا يحتاج إلى تدوين، يعني العلم الذي تجده عند شخص ولا تجده عند غيره، احرص عليه ودونه واكتب؛ لأنه يفوت، أما العلم المشاع الذي وجد عند فلان، وفلان وفلان من الناس هذا لو فاتك من فلان أخذته من فلان "وإنا نخاف أن نزيد أو ننقص" نزيد أو ننقص، يعني مع طول الوقت؛ لأن الحفظ خوان، إذا اعتمدنا على الحفظ لا نأمن أن نزيد في هذا العلم وننقص "فلو اكتتبناه" يعني تملي علينا نكتب "فقال: لن نكتبكم" لن أملي عليكم لتكتبوا أبدًا "ولن نجعله قرآنًا" لا نشبه الحديث والأخبار بالقرآن الذي يكتب "ولكن احفظوا عنا كما حفظنا"، وهذا من طريق أبي سعيد الذي روى حديث: ((لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، ومن كتب غير القرآن فليمحه)) هو راوي هذا الحديث، وكان الخلاف في الكتابة معروفًا، ثم أذن بها وأجمع الناس على جوازها، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله الموعد، كنت رجلًا مسكينًا أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني)) فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممتها إلي فما نسيت شيئًا سمعته بعد".
أبو هريرة -رضي الله عنه- حافظ الأمة قد يتعرض مثل هذا للاتهام، يعني كيف حفظت شيئًا وأنت ما أسلمت إلا في السنة السابعة من الهجرة قبيل الوفاة النبوية ومع النبي -عليه الصلاة والسلام- من أسلم قبلك بعشرين سنة وما حفظ ما حفظت؟ من أين جئت بهذا العلم؟ يتهم بكثرة الحديث، لكن بسبب الدعوة النبوية، والحرص الشديد، وبذل الأسباب ونفي الموانع أدرك أبو هريرة ما أدرك، وأنتم عاصرتم وقرأتم وسمعتم أن من أهل العلم من صار من بحور العلم في زمن يسير، وبعضهم من استمر العقود ما أدرك شيئًا يذكر، هذه هبات وأعطيات من الله -جل وعلا-، الإنسان ما يأخذ بيده، لكن عليه أن يبذل السبب.
"إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله الموعد" يعني بيني وبينكم، إن كنت كذبت عليه فسوف يعاقبني، وإن كنتم كذبتم علي واتهمتموني فسوف يعاقبكم "والله الموعد، كنت رجلًا مسكينًا أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني" بهذا يقال: إن التقلل من الدنيا أفضل من التكثر لمن يريد العلم "على ملء بطني، وكان المهاجرون -أصحاب الأموال- يشغلهم الصفق بالأسواق" بيع وشراء، متى يفرغون لطلب العلم؟ "وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم" أهل زروع، وقل مثل هذا في أهل العقارات، مثل أهل الصنائع، مثل أهل الوظائف المشغلة، هذه تشغلهم أعمالهم عن تحفظ الحديث، وهو لا يذم بذلك المهاجرين ولا الأنصار، إنما يبين الواقع، والشغل بالتجارة في الأسواق أو في الأموال والحروث والزروع والضياع....، هذا لا يذم بل مع النية الصالحة يصبح عبادة، وهذا أمر لا بد من القيام به في الأمة، لا بد من القيام بما تحتاجه الأمة، لكن هو يريد أن يوضح موقفه "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني)) فبسطت ثوبي" بادر وبسط ثوبه، "فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممتها إلي -يعني الثوب- فما نسيت شيئًا سمعته بعد".
ببركة هذه الدعوة النبوية صار لا ينسى شيئًا، والله المستعان، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب قال: "قال رجل لمطرف: أفضل من القرآن تريدون؟ قالوا: لا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا".
نعم يقول: "حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب -بن أبي تميمة السختياني-: "قال رجل لمطرف -بن عبد الله بن الشخير-: أفضل من القرآن تريدون؟" تريدون أفضل من القرآن؟ تجلبون هذه الكتب، وتشترون، يعني يمكن أن يقال لأي شخص يعتني بالعلم، وعنده كتب كثيرة، تريدون أفضل من القرآن؟ يا أخي يكفيك المصحف، يعني ماذا تشتري، أربعين خمسين تفسيرًا وعندك المصحف؟ يكفي يا أخي، تريد أفضل من القرآن؟ ما فيه "قالوا: لا" ما فيه شيء أفضل من القرآن، لكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن يعيننا على فهم هذا القرآن، قد يقول قائل: التفاسير كلام عربي واضح كله يكفي، نقول: نعم، لكن من يستطيع أن يستخرج كنوز القرآن، ويعينه على فهم القرآن إلا من أهل العلم الموثوقين، سواءً كانوا من المتقدمين أو من المتأخرين، يقول: "قالوا: لا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا" نعم يعيننا على فهم القرآن، وهو سواءً كان موجودًا أو مفقودًا، مدونًا علمه في الصحف والكتب، نعم، فكون الإنسان يعنى بالكتب لا يعني أنه ليست عنايته بالقرآن إنما يعتني بالقرآن، ويشتري هذه الكتب من أجل فهم القرآن، ومن أجل فهم السنة، ومن أجل أن يعينه هذا على فهم النصوص، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا أبو خلدة، قال: سمعت أبا العالية يقول: "حدث القوم ما حملوا قال: قلت: ما حملوا؟ قال: ما نشطوا".
نعم، وهذا الخبر عن أبي العالية -رحمه الله- "يقول: "حدث القوم ما حملوا" يعني ما كان عندهم استعداد للحمل، عندهم استعداد لأن يحملوا العلم، أما ترى وجوههم كلها ما عندهم استعداد، الذي ينام، والذي يتشاغل وكذا، اتركهم لوقت آخر، تخولهم بالتعليم "حدث القوم ما حملوا، قلت: ما حملوا؟ قال: ما نشطوا" يعني صار عندهم استعداد لقبول الدرس، أما إذا كان ما عندهم استعداد، لذلك الذي يأتي من الدوام مثلًا، يطلع من الدوام ثنتين ونصف افترض أن المسألة في الرياض يحتاج إلى أن يصل البيت إلى ثلاث ونصف تقول: تعال عندنا درس، تعال، انظر له أصعب كتاب، الله المستعان، يا أخي دعه يرتاح وينبسط ويأتيك بنفس يعني مقبلًا، نعم هذه الأوقات لها ناس ما عندهم دوام مثلًا اجعل درس العصر، لكن عندك درس العصر للموظفين هذا صعب، فلا بد من تخول الطلاب في العلم وفي الموعظة والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يتخولهم، كان يتخولهم في الموعظة، وهذا العلم لا بد أن يؤخذ بانشراح صدر ليكون مقبولا، لا يمل الناس بتحديثه، نعم.
فقط تنبيه على التصحيف الموجود هو أبو العالية وليس أبا علية، كما هو موجود في السند رقم ثمانية وتسعين.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن عن شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا الأحوص يقول: كان عبد الله -رضي الله تعالى عنه- يقول: "لا تملوا الناس".
نعم وهذا مثله، "لا تملوا الناس" بحيث لا تتركون فرصة يرتاحون فيها ويستجمون فيها، يعني تجعل درسًا بعد صلاة الصبح، ثم درس ثاني بعده مثلًا بساعة، إذا انتهى هذا تحضر له درسًا ثانيًا، ثم ثالثًا ثم رابعًا، هذا لا شك أنه يمل الناس، والدورات العلمية المكثفة التي فيها في كل يوم دروس متتابعة وحفظ من هذا، وفهم من هذا، وشرح لهذا على طول اليوم، لا شك أنها تمل الناس، لكن لاعتبار قصر مدتها، أسبوع يتحمل الإنسان، خلاص ينقطع للعلم لمدة أسبوع؛ لأنه يعرف أنه بعد الأسبوع الثاني يرتاح، أو أسبوعين، أو شهر على الكثير، لكن يكون العام كله بهذه الطريقة، من درس إلى درس، الضحى فيه ثلاثة دروس، الظهر درس أو درسين، العصر درسين، المغرب وبعد العشاء درس، هذا يمل الناس، يمل الناس، فعلى هذا طوال العام ينبغي أن يكون درسًا أو درسين في اليوم، أما في الدورات المكثفة يتحمل الناس لمدة أسبوع، أسبوعين، ثلاثة أسابيع إلى شهر بالكثير، يأخذ الإنسان أربعة دروس خمسة دروس في اليوم لمدة ساعة.
إذا وجد الإنسان همة ونشاط من نفسه على سبيل الخصوص أو اتفق مع مجموعة من زملائه فيهم هذه الهمة، لا بأس، النووي كان عنده اثنى عشر درسًا في اليوم، لكن الناس يتفاوتون، ويوجد من الناس من يقرأ الكتب خمس عشرة ساعة متواصلة، وجدت هذه الهمة، ووجد هذا النهم، ووجدت هذه الرغبة، وانتهى من زمن المجاهدة وصار يتلذذ بالعلم، الله يقويه نعم، وقل مثل هذا في سائر العبادات، مثل هذا في سائر العبادات، شخص يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة، الفرائض سبع عشرة، الوتر إحدى عشر، الرواتب ثنتا عشر، ولا يزيد على ذلك، هذا على خير كثير، ويقول ابن القيم: "من طرق الباب أربعين مرة يوشك أن يفتح له" لكن إذا قال: أنا أزيد، أنا عندي أوقات زادت، وأتلذذ بالصلاة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) أنا أصلي باليوم والليلة مائة ركعة، نقول: الله يقويك، وجد من يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة، وبالمقابل وجد من يقول: مستحيل يصلي ثلاثمائة ركعة؛ لأنه يحسب ويضرب ثلاثمائة ركعة في ثلاث دقائق، أو في دقيقتين ستمائة دقيقة يعني كم؟ عشر ساعات واقف يصلي، يا أخي تقيس الناس على نفسك؟ يعني بعض الناس إذا سمع أن بعض الناس يأكل ذبيحة قال: هذا مستحيل، ما هو بصحيح، وهو موجود، فيقيس الناس على نفسه إذا أكل له فخذ دجاجة شبع، يا أخي هذه الأمور، أمور توفيق من الله -جل وعلا-، تقدر تقول لي: إن واحد بجلسة واحدة جلس مع طلوع الشمس وهذا معروف ما أذن الظهر إلا وهو خاتم للقرآن، تقول له: مستحيل؟ يعني حصل محاورة بين اثنين من كبار أهل العلم، واحد من المشايخ يقول: يقرأ القرآن في يوم، قال: لا ما يمكن، يقول الثاني: يمكن يا أخي هذا مجرب معروف، فالإنسان الذي يقيس الأمور على نفسه لا شك أنه يحكم مسبقًا وهو ما يدري عن الناس، فلا شك أن الذي عنده رغبة ويستطيع مثل هذا العمل ويتلذذ فيه أكثر، الله أكثر، أكثر من العمل الصالح، والإكثار من التعبد ليس ببدعة كما يقول بعضهم، ليس ببدعة في الأمور المطلقة، لا تتعبد بشيء ما شرعه الله، لكن عندك نص: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا)) صم يا أخي، لكن لا تحمل على نفسك على شيء تمله ((مه عليكم من الدين ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) لكن الذي يتلذذ بالعبادة وجد من يتلذذ بها من سلف الأمة إلى يومنا هذا، وهو على خير -إن شاء الله تعالى-، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا شريك عن سماك عن جابر بن سمرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنا إذا انتهينا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس أحدنا حيث ينتهي".
نعم هذا الحديث يذكرون أنهم كانوا إذا انتهوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يحدث أصحابه في المسجد أو في غيره يجلسون، يجلس أحدهم حيث ينتهي به المجلس، وهذا الأدب الشرعي، ما يتخطى رقاب الناس ويؤذيهم، ويجلس بينهم، أو لا بد أن يجلس بجانب الشيخ، أو بجانب العالم، لا يا أخي، ولو كان من علية القوم أو من كبارهم، لا، يجلس حيث ينتهي به المجلس، نعم إن احترمه غيره كما هو المطلوب والمرغب فيه؛ لأنه أكبر فقام عن مجلسه أو توسع له، الأمر لا يعدوه، أما أن يقام شخص من مكان..، من سبق إلى شيء فهو أحق به، تنتهي حيث ينتهي بك المجلس، لكن إذا آثرك أحد في مجلسه فاقبل هديته، نعم.
حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عمرو بن شعيب قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره أن يوطأ عقبه، ولكن عن يمين وشمال".
يقول: "حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عمرو بن شعيب" وقف السند هنا، وعمرو بن شعيب دون التابعين، فالخبر معضل، نعم "قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره أن يوطأ عقبه" يعني يمشي الناس وراءه، "ولكن عن يمين وشمال" عن يمين وشمال، وهو مروي بإسناد متصل عن عمرو بن شعيب على الجادة عن أبيه عن جده، مخرج عند الحاكم وغيره، ولا شك أن المشي خلف الإنسان جاء فيها ما جاء من السلف، أنه ذل للتابع، وفتنة للمتبوع، فإذا كان الناس عن يمينه وعن شماله فذلك المطلوب، نعم.
طالب:.......
الخلاف في سماع شعيب من جده.
طالب:.......
لا عمرو ما فيه إشكال أنه ليس بتابعي، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة عن عطاء بن السائب قال: "كان أبو عبد الرحمن يكره أن يسأل وهو يمشي".
من أبو عبد الرحمن؟ هذه كنية أكثر من واحد من الصحابة، نعم، الغالب إذا أطلق أنه ينصرف إلى ابن مسعود.
يقول: "كان أبو عبد الرحمن يكره أن يسأل وهو يمشي" يكره أن يسأل وهو يمشي، كراهة تنزيه، لا شك أن كون الإنسان يعلم ويفتي وهو على أكمل هيئة، ذلك المطلوب، لكن إذا احتيج إلى الفتوى وهو قائم وهو قاعد وهو مضطجع وهو يمشي لا بأس -إن شاء الله تعالى- {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} [(191) سورة آل عمران]، {يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} فإذا كان هذا في الذكر فالفتوى من باب أولى، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد الرحمن عن عبد الله بن المبارك عن رياح بن زيد عن رجل عن ابن منبه قال: "إن للعلم طغيانًا كطغيان المال".
هذا الخبر عن وهب بن منبه وهو منقطع أيضًا، بل فيه راو مجهول، ضعيف الخبر، لكن معناه في الواقع ما يشهد له، في الواقع ما يشهد له "إن للعلم طغيانًا كطغيان المال": نعم {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [(6 - 7) سورة العلق] وبعض الناس يطغى إذا حصّل شيئًا من العلم، وذكره الناس فيه، تجدون بعض من ينتسب إلى العلم حياته وعيشته وطريقته وتعامله مع الناس مثل التجار بل مثل الملوك، يحتقر بعض الناس ويزدريهم وينهر بعض الناس، حياته لا تختلف كثيرًا عن حياة أرباب الدنيا، لكن عالم الآخرة ليس كذلك، العالم الذي يريد بعلمه وجه الله والدار الآخرة ليس كذلك، لا يطغى، وإذا رأى أنه علم، إذا رأى أنه علم فقد جهل، كمن رأى أنه استغنى فقط طغى، والله المستعان.
فعلى العالم وطالب العلم أن يتواضع بعلمه، والعلم الذي لا يدل على التواضع هذا ليس بعلم، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا معن بن عيسى قال: حدثنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن واثلة -رضي الله تعالى عنه- قال: "إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم".
نعم واثلة بن الأسقع يقول: "إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم" يكفيكم من أن نحدث بالمعنى، ورواية الحديث بالمعنى يجيزها جمهور أهل العلم شريطة أن يكون المحدث عارفًا بمدلولات الألفاظ، وما يحيل المعاني، لا بد، أما شخص لا يعرف مدلولات الألفاظ، ولا يعرف ما يحيل المعاني قد يقلب المعنى إذا أراد أن يحدث بالمعنى، لكن لا بد أن تتوفر الشروط للعالم الذي يستطيع أن يؤدي المعنى باللفظ غير المسموع، على أن من أهل العلم كابن سيرين من لا يرى الرواية بالمعنى، يقول: إذا كنت لا تحفظ الحديث بلفظه لا تحدث به، ولا شك أن مثل هذا أحوط، لكن الحاجة داعية إلى التحديث بالمعنى، وكتب الأئمة شاهدة في ذلك، فالقصة الواحدة تروى بألفاظ مختلفة، فدل على جواز الرواية بالمعنى وعليه عمل الأئمة، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا معن قال: حدثنا معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "كان إذا حدث بالحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: اللهم إلا هكذا أو كشكله".
وهذا من باب الاحتياط في الرواية؛ لأن الإنسان لا يضمن أن يأتي بالحديث على وجهه، فيأتي بلفظ يدل على تحريه، فيقول: هكذا، أو مثل هذا، أو نحو هذا، أو شكل هذا، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، أو بمعناه، يأتي بلفظ يدل على تحريه، وأنه لا يضمن أن هذا اللفظ هو المسموع، المؤدى هو المسموع المتحمل، لا يلزم؛ لأن الرواية بالمعنى جائزة، لكن إذا بين للسامع أن هذا لا يضمن أنه اللفظ برئ من العهدة. نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا معن قال: حدثنا أبو أويس ابن عم مالك بن أنس قال: "سمعت الزهري يقول: "إذا أصبت المعنى فلا بأس".
وهذا أيضًا مثلما يقول به جماهير أهل العلم في جواز الرواية بالمعنى بشرطها، لا تتاح الفرصة لمن لا يعرف المعاني كما يحصل من بعض العوام يسوق لك أحاديث ما تدري من أين جاءت؟ نعم، وقد سمع حديثًا حرفه وصحفه وأداه على فهمه يفهم من الحديث شيئًا ثم يعبر عنه، وهو ليس من أهل العلم، مثل هذا يَضيع ويُضيع، فالرواية بالمعنى وإن أجازها جمهور أهل العلم إلا أنها لها شروط:
أولًا: إذا استحال الإتيان باللفظ، لكن معك كتاب بين يديك صحيح البخاري فتقول: روى البخاري -رحمه الله- ما معناه كذا، ما يجوز، الآن ما يستحيل عليك أن تأتي باللفظ، أيضًا إذا نقلت من مصنف من كتاب إلى آخر، لا يجوز لك إلا أن تنقل باللفظ؛ لأن جواز الرواية بالمعنى إنما هي لحاجة، حينما لا يستطاع اللفظ تجوز الرواية بالمعنى بشرطها، لكن يبقى أنه لا بد أن يكون الراوي عالمًا بما يحيل المعاني، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- والناس يسألونه يقول: "لولا آية أنزلت في سورة البقرة لما أخبرت بشيء، فلولا أنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [(159) سورة البقرة]".
نعم لولا هذه الآية التي فيها الوعيد الشديد على من كتم العلم لكان للعلماء مندوحة ألا يعلموا ولا يفتوا، ولا يبينوا للناس، لكن هذه الآية عظّمت من شأن الكتمان، لولا آية أنزلت في سورة البقرة، فأبو هريرة كأنه يضيق ذرعًا بمن يقول له: أكثرت يا أبا هريرة، أكثرت من الحديث، بعد أن أبدى عذره قال: لولا هذه الآية ما حدثت بكلمة: "لولا آية أنزلت في سورة البقرة لما أخبرت بشيء، فلولا أنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [(159) سورة البقرة]" نسأل الله السلامة والعافية، وقد يحتاج إلى البيان فيجبن العالم عن البيان، ويتفق ويتواطأ الناس على عدم البيان خوفًا على أنفسهم، هذا الوعيد الشديد الذي يؤكد أنه لا بد من البيان للناس، لا بد من البيان لهم، وبالمقابل تجد من يتصدى ويتصدر ويبين على غير هدى، فهناك لا شك إفراط وتفريط، لا يجوز الكتمان إذا تعين البيان، وأهل العلم يقررون بالنسبة له -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، هذا بالنسبة للنبي -عليه الصلاة والسلام- فيكيف بغيره؟ إذا احتيج إليه لا بد من البيان، لكن إذا لم يحتج إليه ففيه سعة؛ لأن البيان فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا ابن فضيل عن أبيه قال: "كنا نجلس أنا وابن شبرمة والحارث العكلي والمغيرة والقعقاع بن يزيد بالليل نتذاكر الفقه فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر".
السهر مكروه وكان -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث الصحيح يكره النوم قبلها يعني صلاة العشاء، والحديث بعدها، والسنة الإلهية أن الليل سكن، والنهار معاش، لكن السمر في العلم جائز ولا شيء فيه، بل قد يستحب، ويطلب إذا كان أهيأ من النهار فهذه طريقة السلف، الأصل أن الليل سكن، لكن إذا جلس للتحديث والمسامرة بالعلم ومذاكرته فهذا من أفضل الأعمال؛ لأنه أفضل من قيام الليل.
يقول: "كنا نجلس أنا وابن شبرمة والحارث العكلي والمغيرة والقعقاع بن يزيد بالليل نتذاكر الفقه" الأحكام، يستنبطون من النصوص، أحكام شرعية ويتذاكرونها "فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر" في الليل، نعم العلم، العلم من أوغل فيه له لذة وله متعة، وينسي، يعني لو قيل: إن بعض الناس يمكن يجرى له عملية جراحية وهو يتذاكر مسألة ما هو ببعيد، كما أنها فعلت، قطعت رجل من يصلي ولا يدري، فواحد من العلماء في القرن الماضي في ليلة زفافه، ليلة زواجه لما دخل على المرأة ماذا تذكر؟ مسألة، تذكر مسألة تفسير آية، أشكل عليه تفسيرها فنزل التفاسير من تفسير إلى تفسير إلى أن أذن الفجر، ليلة العرس.
طالب: بعد ما دخل أو قبل يا شيخ؟
لا، عادة ما دخل على المرأة، تذكر هذه المسألة فنزل، ماذا تظن المسألة عشر دقائق ربع ساعة وهو طالع، لا، الكتب، إذ التفتيش فيها متعة، فضلًا عن الإفادة فيها.
يقول: كنا "نتذاكر الفقه فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر" سبحان الله، أذن، نعم، ومر علينا وعلى غيرنا يعني لما كان الإنسان يقرأ الكتب الآن شغلنا عن القراءة، حقيقة ما ينظر إلى الساعة يتمنى أنها تتعطل ليضحك على نفسه أن الزمن فيه بقية، نعم، ويفاجأ بالأذان، يفاجأ بقرب موعد أو شيء، فلا شك هؤلاء يتذاكرون ربما لم يقوموا حتى يسمعوا النداء لصلاة الفجر، قد يقول قائل: لماذا؟ علم، هذا علم ثقيل من يطيقه؟ لا، العلم يحتاج إلى مجاهدة، إذا تعدى مرحلة المجاهدة خلاص لذة الآن، يعني مثل ما يتلذذ الناس على فرشهم، ومثل ما يتلذذ أهل التجارة بمكاسبهم وأرباحهم، ومثل ما يتلذذ أهل الصيد بصيدهم، وأهل اللهو بلهوهم يتلذذ أهل العلم بعلمهم، وأهل القيام بقيامهم، وأهل الصيام بصيامهم، يعني الذي يبكي عند الوفاة، ما الذي يبكيه؟ يبكيه فوات قيام الليل وصيام الهواجر، الله المستعان، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن عبد الله بن يزيد يعني الصهباني عن كميل بن زياد عن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: "إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زمانًا كثير خطباؤه، والعلماء فيه قليل".
يقول عبد الله وإذا أطلق ينصرف إلى ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "إنكم في زمان كثير علماؤه" العلماء كثير تجد من يفتيك بالجواب الصحيح "قليل خطباؤه" الصحابة ترى الخطباء فيهم قليل، والتابعين وعموم سلف الأمة الكلام فيهم قليل، كلامهم قليل، يعني تجلس عند العالم الكبير تظنه عيي ما يعرف يتكلم، أيضًا العلماء الراسخون الآن إذا صففت أحدهم إذا أردت يتكلم عن موضوع وإلا عن شيء يمكن تنقد عليه، لكن إذا جاء سين جيم خذ العلم، نعم، وتجد الشاب من الشباب الذي تعلم الخطابة والكلام يمكن عنده استعداد يتكلم ساعة ساعتين ما يقف، لكن علم السلف غير، كلام قليل، فهم للنصوص على المطلوب، وتصور صحيح دقيق للمسائل، وتصوير.
هنا يقول: "إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زمانًا كثير خطباؤه" سيأتي الناس الكلام فيهم يكثر جدًّا، وهذا واقع "والعلماء فيه قليل" والعلماء فيه قليل، هذا الواقع، يعني تجد المسألة لا تجد من يفتيك في المسألة التي من عضل المسائل أو من..، إلا القليل النادر، بينما مستعد يخطب لك عن أي موضوع تريده، فقط اقترح، اقترح، ولا يحتاج إلى تحضير ولا مراجعة كتب، ويمتطي المنبر ويتكلم بما شئت، لكن إذا جاء السؤال والجواب ما فيه، بعكس طريقة السلف، والله المستعان نعم.
طالب: له حكم الرفع هذا؟
نعم له حكم الرفع باعتبار أنه حديث عن مستقبل، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن مجاهد قال: "لا بأس بالسمر في الفقه".
نعم عرفنا أن السهر مكروه، وإذا ترتب عليه ترك واجب صار محرمًا، الذي يسهر ومن جراء السهر تفوته صلاة الفجر، هذا يحرم عليه السهر، إذا كان عادة وديدنًا له كلما سهر فاتته الصلاة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يجب عليه أن ينام، لكن إذا ترتب عليه ما دون ذلك من ضعف في قيام الليل فهو مكروه، يبقى أنه إذا ترجحت المصلحة واستغل هذا السهر فيما يرضي الله -جل وعلا-، وفيما يقرب إليه صار مطلوبًا؛ ولذا قال: "عن مجاهد: لا بأس بالسمر في الفقه" وترجم الإمام البخاري في كتاب العلم: باب: السمر في العلم، فالعلم مطلوب، والنبي -عليه الصلاة والسلام- فعله، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن الحسن بن عمرو عن إبراهيم النخعي قال: "من طلب شيئًا من العلم يبتغي به الله -عز وجل- آتاه الله -عز وجل- به ما يكفيه".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الأثر عن إبراهيم النخعي يقول: "من طلب شيئًا من العلم" والمقصود به العلم الشرعي المورث لخشية الله -عز وجل-، المتلقى من نصوص الوحيين، "يبتغي -بذلك وجه الله- -عز وجل-" لا يريد به عرضًا من عرض الدنيا، ولا يرائي به "آتاه الله -عز وجل- به" بسبب هذا العلم "ما يكفيه" من أمور دينه ودنياه، يوصله إلى المراد من أقرب طريق بالنسبة لأمور الدين، وبالنسبة لأمور الدنيا هذا الذي جعل الآخرة نصب عينيه، يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، ويرزقه من حيث لا يحتسب، يأتيه ما يكفيه بحيث لا يحيجه إلى الناس.
وقد يقول قائل: إننا نرى كثيرًا من طلاب العلم، أو من أهل العلم منهم بأمس الحاجة إلى ما في أيدي الناس؛ لأنهم انقطعوا للعلم الشرعي، وغفلوا عن تحصيل أسباب المعيشة، فاحتاجوا إلى الناس.
نقول: نعم قد يبتلى الإنسان بالحاجة والعوز إلى ما عند الناس، وقد يبتلى بزيادة الأموال، فالدنيا ليست هدفًا للمسلم فضلًا عن العالم وطالب العلم، بل صرح بعضهم أن العالم إذا رؤي في عيشته سعة وزيادة، لا شك أن هذا سببه نقص في دينه؛ لأن منهم من يقول: "إذا رأيت العالم موسعًا عليه في أمر دنياه فاتهمه" لكن لا يلزم هذا، هذا ليس بلازم، لكن وجود الأموال وعدمها ابتلاء من الله -جل وعلا-، ويبتلى به العالم وغير العالم، الصادق وغير الصادق، العابد وغير العابد، يبتلون بزيادة الدنيا لينظر في مدى شكرهم، كما أنهم يبتلون بالحاجة والفاقة لينظر مدى الصبر عندهم، وعلى كل حال من يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن أبي يزيد المرادي قال: "لما حضر عبيدة الموت دعا بكتبه فمحاها".
هذا الخبر عن عبيدة بن عمر السلماني لما دنت وفاته وظهرت الأمارات على دنو أجله دعا بكتبه فمحاها، عبيدة السلماني من الرواة الأثبات من الثقات، "دعا بكتبه فمحاها" السبب في ذلك؛ لئلا يعتمد عليها ويترك الحفظ، وكان السلف يحذرون من الكتابة؛ لأن من يعتمد على الكتابة لا شك أنه يضعف حفظه، وقد يكون في هذه الكتب من الأحاديث الضعيفة التي لا تثبت نسبتها إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من أجل أن يعرفها، فالأحاديث الصحيحة مدونة، والأحاديث الضعيفة مدونة، والموضوعات أيضًا مدونة، من أجل أن تعرف؛ لئلا يختلط الصحيح بغيره، وهذا من باب معرفة الشر لا للشر لكن ليتقى، تدون الأحاديث الضعيفة والموضوعة من أجل أن يتقيها المسلم ويعرف ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- مما لم يثبت، فقد يكون من هذا النوع في كتب عبيدة فخشي أن يغتر به ناس فيرونه فيما بعد مروي منسوب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فيتلقونه بالقبول، والضعيف إنما يرويه أهل العلم ويكتبونه والأحاديث الموضوعة وغير الصحيحة إنما تعرف فتتقى، وهكذا ينبغي لكل عالم أو طالب علم عنده مكتبة كبيرة أو صغيرة تحتوي على كتب فيها مخالفات لا سيما العقدية، وفيها شر يتعدى إلى طلاب العلم، فمثل هذا إن كان شرها أكثر من نفعها هذه تحرق ولا كرامة، وإن كان فيها نفع كبير وفيها ضرر ويخشى أن تؤثر على طلاب العلم، مثل هذه يكتفى بالتنبيه عليها، يكتب عليها أن هذا الكتاب فيه مخالفات عقدية فيه بدع، فيه كذا، ولا يلزم إتلافه، وقد كان أئمة الدعوة يوصون بإحراق بعض الكتب؛ لأن نفعها معدوم، والضرر منها متحقق، وهكذا كتب الشرك أو كتب السحر أو غيرها تتلف ولا كرامة، لكن كتب البدع التي فيها ما ينفع وفيها الضرر هذه ينبه عليها؛ لأن اليوم مسألة الإتلاف قد لا يكون حلاًّ؛ لأن المطابع التي طبعت هذا الكتاب طبعت عشرات الألوف.
لما كان البلد يتداول كتابًا واحدًا، يتجه إحراقه والخلاص منه، لكن الآن البلد كل طالب علم عنده نسخة من كتاب كذا، وفيه بدع، لكن يكتفي بالتنبيه عليه، وإذا كان طالب العلم مكثرًا من الكتب التي من هذا النوع، لا سيما من يحتاجها للرد عليها، يصنع ختم مكتوب عليه: (هذا الكتاب فيه مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة فليحذر) ويختم على هذه الكتب، وبهذا -إن شاء الله تعالى- يبرأ من العهدة، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن ابن عبد الله قال: قال عبد الله -رضي الله تعالى عنه-: "رحم الله من سمع منا حديثًا فرواه كما سمعه، فإنه رب محدث أوعى من سامع".
نعم هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود يرويه عنه ابنه أبو عبيدة يقول: "رحم الله من سمع منا حديثًا فرواه كما سمعه" يعني حفظه عنا، فرواه كما سمعه "فإنه رب محدث أوعى من سامع" وهذا فيه تحذير، وفيه ترغيب، فيه ترهيب وفيه ترغيب، ترهيب من المسارعة إلى نقل الأقوال دون فهم لها، أو على فهم يخالف مراد القائل، وكم حُرف من قول من محب مشفق ينقل القول على أساس أنه ينتفع به الآخرون وهو ما فهمه أصلًا، نعم ما فهمه، "وهل آفة الأخبار إلا رواتها" ينقل قول عن فلان وعن علان أنه قال كذا، وفي الحقيقة ما قال، لكن هذا فهم منه أنه قال، فروى على حسب فهمه، ولذا يقول: " فرواه كما سمعه" لا يتصرف في لفظه ولا في معناه "فإنه رب محدث أوعى من سامع" هذا فيه أيضًا حث على نقل العلم، ينقل العلم من السامع إلى من يبلغه عنه، فقد يكون المبلغ أوعى وأحفظ من المبلغ، وهذا الخبر ثبت مرفوعًا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ((فإنه رب مبلغ أوعى من سامع)) وفي هذا يقرر أهل العلم أنه وإن كان العلم بالنسبة للسلف أكثر وفي الخلف أقل، وفهمهم أدق، فهم السلف أدق وأصح، إلا أنه قد يوجد في المتأخرين من يفهم فهمًا دقيقًا صحيحًا في بعض المسائل أفضل ممن سمعها من قبله، وعلى كل حال هذا الخبر فيه حث للرواة وطلاب العلم على التبليغ، وهو فيه أيضًا حث لهم على التحري والتثبت في النقل وفي الفهم، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- قال: "العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه".
وهذا الحديث -هذا الخبر- عن أبي الدرداء، ويروى مرفوعًا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو بشواهده مقبول بالجملة "العلم بالتعلم" يعني ما يولد الإنسان عالمًا إلا بالتعلم، والتعلم تفعل، يعني يأتي بالتدريج، كما أن الحلم والأناة والرفق والتؤدة تأتي بالتمرين والتدريج وقهر النفس على هذا، وقسرها على ذلك، فقد يكون الإنسان مجبولاً على الحلم كما جبل الأحنف وغيره، لكن قد يكون مجبولًا على الغلظة والشدة وسوء الخلق، ويأمل أن يكون حليمًا، يأمل أن يكون رفيقًا لينًا، وقد جبل على خلاف ذلك، يتخلق بالحلم، يتخلق بالرفق والأناة، ثم تصير سجية له وطبعًا له، فإذا حاول وجاهد نفسه حصل له ما يريد -إن شاء الله تعالى- لا سيما إن صدق في اللجأ إلى الله -جل وعلا-.
"ومن يتحر الخير يعطه" التحري -التثبت- أمر لا بد منه للمسلم، يتحرى الخير ويتحسس مواطن الخير، فيسلك هذه الموطن، ويتتبعها، فيوفق لها، "ومن يتوق الشر يوقه" نعم من توقى..، ما زج بنفسه في أمور لا يدرك أبعادها، يتحرى في كل ما يسمع، وفي كل ما يرى، وكل ما يفعل، وكل ما يقول، فإذا تحرى وقاه الله الشر وأهله، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزعراء عن أبي الأحوص عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "إن أحدًا لا يولد عالمًا، والعلم بالتعلم".
نعم وهذا كسابقه، العلم ما فيه أحد يولد وهو عالم، يولد المرء وهو ساذج ما عنده شيء، لا يعلم شيئًا، ثم بعد ذلك تتكون هذه العلوم شيئًا فشيئًا ببذل السبب والاجتهاد في ذلك حتى يكون عالمًا، ولا يوجد أحد ولد عالمًا، قد يقول قائل: الله -جل وعلا- يلقي في روع الإنسان ما ينفعه، وكما علم آدم الأسماء كلها، كما أنه -جل وعلا- علم آدم الأسماء كلها، هل تعلمها آدم؟ علمه الله -جل وعلا-، لكن هذه أمور على خلاف الأصل، وعلى خلاف العادة، جعلها الله -سبحانه وتعالى- من خصائص آدم، وإلا ينتظر الإنسان عمره كله ما يطلب العلم يقول: لا أبدًا الذي علم آدم يعلمني، هذا ما هو بصحيح، إذًا لا تتزوج وانتظر الولد، إن كان الله كاتبًا لك ولدًا يصير لك ولدًا وما تزوجت، هذا الكلام ما هو بصحيح، لا بد أن يتعلم ليكون عالمًا، لا بد أن يتزوج ليكون أبًا وهكذا، فلا بد من بذل السبب.
"والعلم بالتعلم" يعني يأتي بالتدريج، مع الإخلاص لله -جل وعلا-، وأخذه على الطرق المعروفة عند أهل العلم، ويتكون شيئًا فشيئًا كنمو بدن الإنسان، وعقل الإنسان، وكنمو النبات، ونمو ينمو، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير عن أبي سنان عن سهل الفزاري قال: قال عبد الله -رضي الله عنه-: "اغدُ عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا، ولا تكونن الرابع فتهلك".
"اغد عالمًا" يعلم الناس الخير، أو طالب علم، متعلم يغدو ويروح إلى حلق العلم والذكر ليفيد من علم العلماء "أو مستمعًا" إذا كنت لست من أهل العلم ولا من طلابه استمع للخير والفضل، ومسألة الاستماع اليوم متاحة -ولله الحمد- ومتيسرة بالإمكان أن يصلي الإنسان في المسجد ويجلس يستمع العلم والذكر والخير يكتب له الأجر، وحلق الذكر هي رياض الجنة، فإذا جلس الإنسان من أجل أن يستفيد ولو لم يكن متعلمًا معه كتاب ويعلق، لو كان عاميًّا لا يقرأ ولا يكتب، يمر به شيء يفهمه ويستفيد منه، إن لم يستزد علمًا فإنه على أقل الأحوال أنه ما دام في روضة من رياض الجنة والملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، والاستماع متيسر في المسجد، في البيت، في السيارة، والإنسان على فراشه يستمع من خلال إذاعة القرآن -ولله الحمد- هذه الإذاعة المباركة فيها علوم كثيرة، وفيها برامج نافعة لعوام المسلمين، اليوم الآن ما فيه أحد له عذر، إذا كان في السابق لا تتيح له ظروفه المعيشية أن يجلس عند العلماء، وفاته كما يقال القطار، قطار التعلم، وبيته ما فيه أحد يعلمه، الآن ما فيه عذر، كل بيت فيه من الذكور والإناث بالإمكان أن يعلم هذا الشيخ الكبير السن، أو هذه المرأة كبيرة السن التي لا تحفظ شيئًا من القرآن، يجلس وتمسكه البنت أو الولد ويلقنونه تلقين ولماذا متعجلين عليه؟ يكفيه أنه يأتيه أجله وهو يزاول ويعاني حفظ كتاب الله -جل وعلا-، والله المستعان.
"ولا تكونن الرابع" لأنه إن لم تكن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا يعني معنى الرابعة معرض، الرابع هو المعرض عن دين الله لا يعلمه ولا يتعلمه ولا يحاول أن يسمعه، هذا معرض، وقد دخل ثلاثة نفر على النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو في المسجد يحدث أصحابه فجلس اثنان وانصرف الثالث ثم قال: ((ألا أخبركم بخبر النفر الثلاثة: أما الأول فأوى فآواه الله، وأما الثاني: فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض فأعرض الله عنه)) نسأل الله العافية؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- هو المعلم، والذي أوى هو المتعلم، والذي استحيا وجلس استمع، ونتصور الرابع هو المعرض الذي يهلك، نسأل الله العافية؛ لأنه أعرض فأعرض الله عنه، نسأل الله السلامة والعافية، نعم.
"حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن عثمان بن غياث عن أبي السليل قال: "كان رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث الناس فيكثر عليه فيصعد فوق بيت فيحدثهم".
نعم هذا إذا كثرت الجموع عند العالم، وقد حصل لبعض الصحابة كما هنا: "كان رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث الناس" هذا حصل لجمع من الصحابة عند ابن عباس، عند ابن مسعود، عند غيرهما من الصحابة كثرة الجموع فاحتاج ابن عباس إلى المترجم، المستملي الذي يبلغ الناس الحديث، يعني إذا افترضنا أن الشيخ هنا ولا نتصور مكبرات صوت ولا غيرها، يجلس الشيخ في المسجد أو في مكان متسع فتكثر عليه الجموع يمتلأ المسجد والساحات والشوارع والبيوت المجاورة أحيانًا، كيف يبلغهم الشيخ؟ كيف يبلغهم؟ اتخذ أهل العلم المستملين، المستملي: هو الذي يبلغ كلام الشيخ، يجلس واحد هناك عند الباب يسمع الشيخ يبلغ أولئك، سمعه شخص عند الباب الثاني يبلغ من وراءه وهكذا، وقد يكون في المجلس الواحد عشرة من المستملين إذا كثر العدد وهنا "كان رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث الناس فيكثر عليه -يكثر عليه الحضور- فيصعد فوق بيت فيحدثهم" لأنه إذا كان من علو ويطل عليهم يسمعهم؛ ولذا اتخذ المنبر؛ لأن الذي..، بحيث يراه الناس كلهم، لا شك أن الرؤيا تساعد على السماع، أما الذي لا يرى الشيخ ولو كان قريبًا منه قد لا يسمع صوته؛ لأن من الأمور القولية والفعلية ما يستدل ببعضها على بعض؛ ولذا جاء عن الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم كانوا يتجهون إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يخطب بوجوههم، كما عند الترمذي والحديث مختلف فيه.
على كل حال الرؤيا تساعد على البيان، فإذا صعد على بيت، على سطح بيت وحدثهم سمعوا؛ ولذا شرع الأذان في المنارة، والخطبة على المنبر، من أجل تبليغ الناس، وابن عباس -رضي الله عنهما- عرض على أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي أن يجلس عنده يترجم له، يعني يبلغ كلامه، يبلغ كلامه للذين لا يسمعونه، وهذه سنة متبعة عند أهل العلم، حتى كثر الجموع في القرن الثاني والثالث إلى أن بلغوا ألوف، كيف يبلغون إلا بهذه الطريقة؟ والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
"