التعليق على تفسير سورة الذاريات من تفسير الجلالين (03)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول الجلال المحلي في نصيبه من تفسير الجلالين، يقول -رحمه الله تعالى-:
{وَفِي الْأَرْضِ} [(20) سورة الذاريات] من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها آيات دلالات على قدرة الله -سبحانه وتعالى- ووحدانيته {لِّلْمُوقِنِينَ} [(20) سورة الذاريات].
وفي الأرض من جميع ما على وجهها من الجبال والرمال والسهول والوعور والنباتات بأنواعها آيات، جمع آية، وهي ما يدل على عظمة الله -جل علا-، وأنه -جل وعلا- هو المتفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، وأنه هو المستحق للعبادة، لكن آيات لمن؟ آيات لجميع الخلق هذا هو الأصل، لكن هل من مدكر؟ هل من متعظ؟ هل من معتبر؟ هل من مستدل؟ ولذا جاء تعظيم التفكر والاعتبار والنظر في مخلوقات الله وآياته، للدلالة بذلك على وحدانيته، فهدى الله أقواماً امتثلوا ما أمروا به ونظروا في ملكوت السماوات والأرض {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [(190) سورة آل عمران] لكن من؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} [(191) سورة آل عمران] أهل الغفلة ليس لهم نصيب من ذلك، ولذا تجد كثير من الناس هذا الأمر لا يرفع به رأساً، وهو من أعظم ما يثبت الإيمان في القلب، ومن أعظم ما يزيده في النفس، فمن أعظم ما يزيد الإيمان الذي جاءت الأدلة على أنه يزيد وينقص من أعظم ما يزيده التفكر في آيات الله، في مخلوقاته، في آياته، فيما أنزله على خلقه ليعتبروا ويدكروا ويتعظوا، وكما قال الله -جل وعلا- عن القرآن: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر] يعني لا يتسنى لجميع الناس أن يتعظوا ويعتبروا وينظروا، لكن الموفق من وفقه الله -جل وعلا- لاستعمال ما ركب فيه من هذه الحواس التي تعينه على ما أرداه الله -جل وعلا-، فكم من بصير أعمى، وكم من أعمى بصير، الأعمى بإمكانه أن ينظر، بإمكانه أن يتفكر بعين البصيرة، وكم من أعمى يتقلب في فراشه خوفاً من ربه، وتعظيماً له، وكم من بصير ينظر يميناً وشمال لكنه لا يستفيد شيئاً، والله المستعان.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "{وَفِي الْأَرْضِ} [(20) سورة الذاريات] من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها" كل ما على وجه الأرض يدل على عظمة الله -جل وعلا-، يدل على أنه لا شريك له، بل هو المتوحد المتفرد "آيات دلالات على قدرة الله -سبحانه وتعالى- ووحدانيته" الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، لكنها آيات للموقنين، آيات للموقنين، ليست لكل أحد الذي في قلبه اليقين التام والتصديق بما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، اليقين والإيمان الثابت الراسي في القلب، الراسخ هذا هو الذي ينفع صاحبه، ومن أعظم ما يعين على ذلك مثل ما ذكرنا النظر في آيات الله، في مخلوقاته العظيمة، وفي آياته، وما أنزله على رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "قراءة القرآن على الوجه المأمور به، "قراءة القرآن على الوجه المأمور به" يعني ليست مثل قراءتنا الذي يهمنا فيها أن ننهي الحزب المقرر الذي قرره الإنسان على نفسه اليومي، يهمه أن ينتهي، لكن القراءة على الوجه المأمور به هي التي تورث القلب من الإيمان واليقين مثل ما قال شيخ الإسلام مما لا يوجد عند غيره، عند غير هذا الشخص الذي قرأ القرآن بالتدبر والترتيل، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
فتدبر القرآن إن رمت الهدى |
| فالعلم تحت تدبر القرآنِ |
من أعظم ما يثبت الإيمان في النفس، ويزيد اليقين في القلب هو قراءة القرآن على الوجه المأمور به، مع النظر في آيات الله وملكوته، يقول الشيخ حافظ -رحمه الله تعالى-:
وبالتدبر والترتيل فاتلوا كتاب الله |
| لا سيما في حندس الظلمِ |
في حندس الظلم، وجاء في الحديث: ((المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة، والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة)) وليس المراد فيما يظهر -والله أعلم- أن المسر بالقرآن الذي يقرأه بحيث لا يسمع، إنما يقرأه بحيث لا يرى، بحيث لا يرى لتتم المطابقة في التشبيه، الممدوح المتصدق الذي لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وأما كون الإنسان يقرأ القرآن بين الناس وإن كانوا لا يسمعون لفظه، هذا لا شك أنه معرض، معرض للخدش، للرياء، بخلاف من يقرأ القرآن كما قال الشيخ: "لا سيما في حندس الظلم" وقد يحتف بهذا الأمر المفوق ما يجعله فائقاً فيتصدق علانية ليقتدى به، كما في حديث: ((من سن سنة حسنة)) كما أن الذي يقرأ القرآن في السر وهذا هو الغالب من أحواله قد يعرض لقراءته علناً ما يجعله أفضل من قراءته في السر لا سيما إذا كان ممن يقتدى به، وحجة كثير من طلاب العلم حينما يقال لهم: لا نراكم تقرؤون القرآن؟ يقولون: ما نشوف شيوخنا يقرؤون القرآن، ما يدرون أن لهم نصيب وافر من قراءة القرآن، ومن القيام بالقرآن في الليل، لكن أيضاً هؤلاء الشباب لا بد لهم من قدوات، فإذا رأوا الشيخ يتقدم إلى الصلاة ويقرأ القرآن، ويتأخر بعد الصلاة ويقرأ القرآن اقتدوا به، فيضم إلى أجر قراءته القرآن أجر الاقتداء والاستنان به، وإن كان الأصل خلاف ذلك، لكن يبقى أنه كما قرر أهل العلم أنه يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً، والمرجوح ما يجعله راجحاً، فالصدقة السر هي الأصل، والقراء في السر هي الأصل، لكن قد يكون بالنية الصالحة من أجل الاقتداء به يؤجر على الجهر بالشيء وعلى إعلان الشيء إضافة إلى أجره الأصلي أجر من يقتدي به ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) ونحن نرى الكبار من الشيوخ لا يُقرِئون القرآن، يقرئون العلوم من الحديث والفقه والعقيدة وسائر العلوم ولا نراهم في أيامنا الأخيرة يقرئون القرآن، كان الشيوخ الكبار أول ما يبدأ بالقرآن، فتجد كثير من طلاب العلم يأنف من إقراء القرآن، يقول: هذه وظيفة معلمي الصبيان، أو الكتاتيب أو ما أشبه ذلك، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) والله ما نشوف للشيخ فلان درس في القرآن، قد يقرأ عليه في التفسير لكن ما عنده درس في القرآن، فينبغي أن يتخطى هذا الأمر، وإن كان تلقين الحروف وتصويب وتصحيح القراءة قد يحصل ممن دون الطبقة العليا، لكن ينبغي أيضاً أن يكونوا قدوات، يعني سمعت عن أساتذة في الجامعة دكاترة في الأحساء يقرئون القرآن ويلقنون القرآن وهذه منقبة حقيقةً يعني، صحيح أنها اندرست عندنا لكنها منقبة لهم، وما المانع أن يكون بداية الدرس تسميع وحفظ للقرآن وتصحيح للقرآن وشرح لبعض مفرداته؟ في أول الدرس ثم بعد ذلك تقرأ العلوم الأخرى؛ لأن القرآن ينبغي أن يكون منطلق لكل عالم وكل متعلم، ففيه كل ما يحتاجه طالب العلم، لكننا تربينا على غير هذا مع الأسف، وجعل القرآن لأناس يتخصصون به ويعتنون به، لكن القرآن هم كل مسلم، وقاسم مشترك لجميع المعلمين والمتعلمين، ما يمكن أن يستغني عنه أحد.
ثم قال: "{وَفِي أَنفُسِكُمْ} [(21) سورة الذاريات] آيات أيضاً" في الأرض آيات، في الأرض: خبر مقدم، جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره كائن أو مستقر، خبر مقدم آيات مبتدأ مؤخر، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم الخبر، يعني تأخيره يسوغ الابتداء به.
ونحو عندي درهم ولي وطر |
| ملتزم فيه تقدم الخبر ج |
{وَفِي أَنفُسِكُمْ} [(21) سورة الذاريات] وهو أيضاً خبر مقدم أو متعلق بمحذوف خبر مقدم، آيات: تقدير المبتدأ محذوف مقدر "آيات أيضاً من مبدأ خلقكم إلى منتهاه، وما في تركيب خلقكم من العجائب" {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [(21) سورة الذاريات] يعني من الغفلة أن يطلب الإنسان الشيء البعيد ويترك القريب، يطلب وينظر إلى الشيء البعيد والذي بين يديه يتركه لا ينظر في خلقه، لا يتفكر في خلقه، ليرى العجب العجاب.
ابن القيم -رحمه الله- أفاض في هذه المسألة في (مفتاح دار السعادة) وذكر وظائف الجسم، وأعضاء الجسم، ومفاصل الجسم، يقول: جفن العين هذا ما فائدته؟ يعني لو كانت العين مكشوفة تصور ويش يصير الوضع؟ والحر والبرد والرياح تهبها، لا يقدر قدر هذا الجفن إلا من فقده، الناس يعني أشبه ما يكون بالمساحة مساحة الزجاج تجدها باستمرار تمسح، وإلا تراكمت عليها المكروبات والجراثيم وغيرها، وتعرض للحر والبرد والرياح، فتأثرت لكنها محفوظة محمية بهذا الجفن، وذكر شيء لا يخطر على البال، فعلى طالب العلم أن يعنى بمثل هذه الأمور؛ لأنها مما يثبته ويزيد في يقينه، يعني في كل عضو كل سلامى من جسد الإنسان كل مفصل من المفاصل ثلاثمائة وستون مفصل، كل واحد يحتاج إلى صدقة؛ لأنها نعم تحتاج إلى شكر، تصور لو أن أصبعك الصغير لا تستطيع أن تثنيه كم تتأذى بهذا الأصبع؟ فكيف بالرجل؟ كيف باليد لو كانت ممدودة هكذا لا تستطيع ثنيها؟ كيف بالرقبة لو كانت لا تستطيع أن تلتف يمين ولا شمال ولا ترفع رأسك ولا تخفضه؟ أمور على الإنسان أن يتفكر بها، وينظر فيها بعين الاعتبار، وأن يشكر هذا الخالق المنعم الرازق الذي تفضل عليه بهذه النعم الكثيرة، يعني لو أن إنساناً أصيب بعرق نابض ما هنأ له عيش، لا يهنأ له عيش، ولا يطيب له عيش، فهذه أمور كلها تحتاج إلى شكر، كل نعمة من هذه النعم تحتاج إلى شكر، ولو أن إنساناً عبد الله -جل وعلا- منذ التكليف إلى أن مات بعد أن عمر مائة سنة كل هذه العبادة لا تساوي نعمة من النعم، فلو وضعت في ميزان ووضع في مقابلها نعمة البصر أو السمع ما قامت لها، ولذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لن يدخل أحدكم عمله الجنة)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)) فدخول الجنة برحمة الله -جل وعلا-، لكن كما قال أهل العلم: المنازل بالأعمال، أما الدخول فهو برحمة الله -جل وعلا-، وإلا لو حوسب الإنسان كما ذكرنا في الدرس السابق: ((من نوقش الحساب عذب)) أياً كان، كما جاء في الحديث الصحيح.
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [(21) سورة الذاريات] "تبصرون ذلك فتستدلون به على صانعه وقدرته" يعني الاعتبار بما في النفس وما تحويه من بدن وجسد مركب من لحم ودم وعظم وعصب وشعر وظفر، كل هذا إنما يعرفه من وفقه الله -جل وعلا- من يزاول مهنة الطب، ولذا نجد عند الأطباء من خصائص الأعضاء ومعرفة فوائد هذه الأعضاء ما لا نجده عند غيره، وأدرج بعض المفسرين من المعاصرين بعض هذه الأمور متلقاة من علم الطب، فعلى الإنسان أن يهتم بهذا الموضوع؛ لأنه يزيد في إيمانه ويرسخ يقينه، قد يقول قائل: اليقين والإيمان الحمد لله موجود، لكن تجده موجود في وقت السعة، لكن ابحث عنه في وقت الضيق خله يحصل لك حادث وإلا مصيبة وإلا لولدك أقرب الناس إليك، وأحب الناس إليك أدنى شيء تشوف اليقين وين يروح؟ كثير من المسلمين كلامه دعوى، فإذا جاءت المضايق وجاءت أوقات الامتحان وجدته صفراً، وحصل لنا ولغيرنا مثل هذا، فما وجدنا شيء في وقت الضيق، لماذا؟ لأن الكلام في الغالب لا يتجاوز اللسان إلى القلب، هذه مشكلتنا، والله المستعان.
تجد -ما شاء الله- بعض الناس يعني وجدنا، يعني واحد من المشايخ عنده محاضرة بعد صلاة العشاء وتنتهي في الحادية عشرة، وكنت على موعد معه الساعة الحادية عشرة مع نهاية المحاضرة، وجلسنا عنده إلى وقت متأخر، ونرجو أن يكون هذا السمر وإن كنا نتذرع بذلك وهذا السهر فيما ينفع -إن شاء الله تعالى-، نعم هو بالنسبة لذلك الشخص السمر معه ينفع بلا شك، فلما خرجنا منه الساعة الواحدة والرجل لم يتغير من وضعه شيء على عادته في جده وفي أسئلته وفي تبسطه على عادته، فبعد أن خرجنا منه بعد ربع ساعة قال لنا واحد من الإخوان: أتدرون ما الذي حصل للشيخ؟ قلنا: والله ما ندري عن شيء، قال: ابنه الأكبر وقع بين يديه مغماً عليه، فذهب به إلى المستشفى وأدخل العناية المركزة ولا يشعر بشيء، والأطباء يقولون: ما ندري ويش اللي فيه؟ يعني أمر لا يطاق يعني في تقديرنا، وما تعودناه وما تربينا عليه، يعني لو أن الولد يصاب بأدنى شيء قلق الإنسان، وألغى كثير من ارتباطاته، والله العظيم إن هذا الواقع، وآخر ولده بكره يصدم ويموت بحادث ونزوره ونعزيه ونواسيه والله إنه أثبت منا وأصبر، وثالث وهو من الأطباء قبل أقل من شهر ولده حافظ للقرآن وإمام مسجد يخرج من بيته فيحصل عليه حادث ويموت، ونأتي لتعزيته حقيقة إن كانت أيامه كلها على هذا الوضع فهو سعيد، يعني في اليوم الذي مات فيه ولده أو من الغد إن كان هذا وضعه في أيامه العادية في أيام سروره فالرجل سعيد، هذا اليقين، لكن أين هو إذا وجدت مثل هذه المضايق؟ كثير من الناس ينسى، ينسى اليقين، وينسى الدين كله، ثم تجده من أبلغ الناس إذا وعظ، وتجده في هذا المجال صفر، يعني هذا جربناه في أنفسنا قبل الناس يعني، يعني طلبة علم تقول له: وين يا فلان؟ أين ما تعلمت؟ لا يحير جواب، والله المستعان.
يقول: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [(21) سورة الذاريات] "ذلك فتستدلون به على صانعه وقدرته" والبصر كما يكون بالعين يكون أيضاً بالبصيرة، بالتفكر بالإمكان أن يتفكر الإنسان ويعتبر ويتعظ وهو تحت الأغطية في فراشه، يتأمل ويتدبر، ثم بعد ذلك إن فاضت عينه من بعد هذا الاعتبار وهذا التذكر فهنيئاً له ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عينه)) "فتستدلون به على صانعه وقدرته"
{وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ} [(22) سورة الذاريات] "أي المطر المسبب عنه النبات الذي هو رزق" في السماء الرب -جل وعلا- {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} [(16) سورة الملك] الرب -جل وعلا- في السماء، و(في) هذه بمعنى (على) ومنه ينزل كل خير وكل رزق، لا يختص ذلك بالنبات إنما كل الرزق من عند الله -جل وعلا- ينزل من جهة العلو، من جهة..، من الرب -جل وعلا-، وهنا يقول: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ} [(22) سورة الذاريات] "أي المطر" هذا تفسير للعام ببعض أفراده، لماذا؟ لأن رزق مفرد مضاف وهو من صيغ العموم، جميع الرزق في السماء "أي المطر المسبب عنه النبات الذي هو زرق" فهو تفسير للعام ببعض أفراده.
{وَمَا تُوعَدُونَ} [(22) سورة الذاريات] "من المآب والثواب والعقاب أي مكتوب ذلك في السماء" مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب في اللوح المحفوظ، والأمر به من لدن الله -جل وعلا-، وهو في السماء، وإن كان الرزق المباشر بعد نزول الأمر به من السماء يكون في الأرض؛ ليسهل تناوله من قبل المخاطب.
{فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} [(23) سورة الذاريات] يقسم الرب -جل وعلا- بنفسه، وهو رب السماء والأرض، لا رب غيره، ولا إله سواه، وأقسم بنفسه في مواضع، وأقسم بغيره كما تقدم بالذاريات وما عطف عليها، وأمر نبيه أن يقسم به، أمر نبيه أن يقسم به على البعث في ثلاثة مواضع: في يونس: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [(53) سورة يونس] وفي سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [(3) سورة سبأ] وفي التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [(7) سورة التغابن] ثلاثة مواضع أمر الله نبيه أن يقسم، والقسم معروف شأنه وحكمه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كثيراً ما يقسم على الأمور المهمة ويحلف من غير استحلاف، مما يدل على جوازه في الأمور المهمة، أما في غيرها فجاء النهي عنه {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ} [(224) سورة البقرة] لا تجعل القسم على يمينك في الأشياء التافهة التي لا قيمة لها.
{فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ} [(23) سورة الذاريات] أي رزقكم، وما توعدون، إلا أنه قال: "أي ما توعدون" فورب السماء والأرض أنه أي ما توعدون، وعود الضمير على جميع ما تقدم من الرزق وما يوعدون أولى؛ لأنه متعقب لأكثر من جملة، وما يتعقب جمل سواءً كان في مثل هذا الموضع القسم، أو الاستثناء، أو الوصف يعني عوده إلى جميع ما تقدم إن أمكن هو الأصل، وإذا منع منه مانع حمل على البعض دون ما منع منه مانع، كما في قول الله -جل وعلا- في آية القذف في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(5) سورة النــور] فالاستثناء متعقب لثلاث جمل، حكم بها على القاذف {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [(4) سورة النــور] هذا الحكم الأول، هل يتناوله الاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(5) سورة النــور]؟ لا، لا يتناوله الاستثناء لوجود مانع؛ لأنه حق آدمي لا تسقطه التوبة {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(5) سورة النــور] أما وصف الفسق فيرتفع بالتوبة اتفاقاً، ويبقى الخلاف في {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النــور] فمع هذا التأبيد قال بعض أهل العلم أنه لا تقبل شهادته مطلقاً ولو تاب، ولو ارتفع عنه وصف الفسق، ومنهم من قال: إنه لا يوجد ما يمنع من قبول شهادته إذا ارتفع الوصف المانع من قبول الشهادة وهو الفسق، وهنا: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ} [(23) سورة الذاريات] الضمير يعود على ما قال المؤلف -رحمه الله-: "أي ما توعدون" ولا مانع من أن يعود على ما تقدم، إنه أي رزقكم وما توعدون أيضاً {لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [(23) سورة الذاريات] حق صدق، كلام أصدق من تكلم، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [(122) سورة النساء] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} [(87) سورة النساء] لحق: لصدق، يقول هنا: {مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [(23) سورة الذاريات] يعني هل يماري أحد في أن فلاناً من الناس الذي تكلم من دون مانع، تكلم أمامه هل يماري أحد في أنه ينطق؟ يعني لو افترضنا شخص عنده درس ويتكلم، لو قال واحد لجاره: أتظن الشيخ أخرص ما يتكلم؟ كيف؟ بماذا نصفه؟ بأي شيء؟ نقول: مجنون، أنت ما تسمع؟ {مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [(23) سورة الذاريات] يعني هذا لا يماري فيه أحد، وهذا في الأصل أن الإنسان ناطق لكن قد يوجد أخرص لكن هذا ما يخرم القاعدة، الأصل في الإنسان أنه ناطق، لكن إذا وجد عارض وجد مانع في نوادر من الناس وفي قلة، هؤلاء لا يلتفت إليهم {مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [(23) سورة الذاريات] يقول: "برفع مثل صفة" صفة لحق، لحقٌ مثلُ ما أنكم تنطقون، يقول: "برفع مثل صفة، وما مزيدة" وما مزيدة، يعني لو رفعت ما تأثر الكلام، وأما زيادتها فلفائدة عظيمة وهي دعامة للكلام تقوي الكلام، لا يقال: إن في القرآن ما يجوز حذفه، فالقرآن مصون من الزيادة والنقصان، كثيراً ما يعبر أهل العلم عن مثل هذا بقولهم: (ما) صلة، صلة يعني من باب التأدب؛ لأن القرآن محفوظ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر] مصون من الزيادة والنقصان، لو قيل بزيادة حرف أو نقص حرف كفر نسأل الله السلامة والعافية؛ لأن الأمة أجمعت على أن هذا القرآن المحفوظ بين الدفتين هذا لا يقبل الزيادة ولا النقصان، وتكفل الله -جل وعلا- بحفظه، بخلاف الكتب السابقة التي استحفظ أهلها عليها، فلم يحفظوها، غيرها وبدلوا وحرفوا وزادوا ونقصوا قدموا وأخروا، لكن كتابنا محفوظ، وكثير من طلاب العلم يستشكل أن يقال في كتب التفسير (ما) زائدة، ويتأدب بعضهم فيقول: (ما) صلة، يعني تشبيهاً لها بصلة الموصول التي لا محل لها من الإعراب.
يقول: "وبفتح اللام مركبة مع (ما)" مركبة مع (ما) والتركيب المزجي يقتضي فتح الجزأين، مثل أحد عشر، بعلبك مثلاً ثلاث عشرة، ثلاثة عشر أربعة عشر تركيب مزجي هذا، فإذا ركبت مع (ما) فتحت، صارت مثلما، مثل كلما "المعنى مثل نطقكم في حقيقته، أي معلوميته عندكم ضرورة صدوره عنكم" يعني مثل ما ذكرنا، إن الإنسان التي ليست به علة ولا آفة وينطق نطقاً واضحاً مفهوماً معروفاً على ما تعارف عليه الناس في كلامهم لو قال الإنسان: والله فلان أبكم، قيل: مجنون، هذا القائل مجنون، لا يعي ما يقول، والتشبيه بالنطق، التشبيه بالنطق ما قال: مثل ما أنكم تسمعون؛ لأن السمع أمر خفي، السمع أمر خفي، وأما النطق فهو ظاهر، النطق ظاهر يسمع ينتقل من قائله إلى غيره، أما السمع فهو آلة تلقي، يعني يمكن يجلس شخص بجوارك لمدة ساعة لكنك لا تخاطبه فلا تدري هل هو يسمع أو لا يسمع؟ وقد تخاطبه ولا يرد عليك لأمر من الأمور ولا تجزم بأنه لا يسمع، بينما الذي يتكلم لا يتردد أحد في أنه يتكلم.
يقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [(24) سورة الذاريات] هل أتاك "خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-" خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو استفهام تقريري، وتكررت قصة إبراهيم -عليه السلام- مع ضيفه من الملائكة في مواضع من القرآن، ومن أبسطها ما جاء في سورة هود.
{هَلْ أَتَاكَ} [(24) سورة الذاريات] يعني يا محمد، وأحياناً يأتي أسلوب القرآن في مثل هذا معبراً عنه بالرؤية، معبراً عنه بالرؤية، لماذا؟ لأنه أمر مقطوع به، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يره بعينه، لكنه بلغه بخبر من يقطع بخبره وهو الله -جل وعلا-، ولذا يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [(6) سورة الفجر] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل] النبي -عليه الصلاة والسلام- ما أدرك هذه الحوادث وهذه الوقائع، لكنها بلغته بطرق قطعية كأنها مشاهدة، فعبر عنها بالرؤية، وهنا يقول -جل وعلا-: {هَلْ أَتَاكَ} [(24) سورة الذاريات] يعني يا محمد، خطاب للنبي -عليه الصلاة والسلام-، {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [(24) سورة الذاريات] مكرمين؛ لأن إبراهيم -عليه والسلام- من أشرف الخلق، بل هو أفضلهم بعد محمد -عليه الصلاة والسلام-، هو الذي تولى خدمتهم بنفسه، وهم أيضاً ممن أكرمه الله -جل وعلا- بأن جعلهم من الملائكة، فهم مكرمون من جهتين، من جهة أن الله -جل وعلا- كرمهم فجعلهم من الملائكة، وأيضاً خدمهم النبي -عليه الصلاة والسلام- إبراهيم بنفسه، ما وكل خدمتهم إلى أحد، وهكذا ينبغي أن يفعل بالضيف، ينبغي أن يكرم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) وبعض الناس لا يهتم بضيفه، يكل خدمة الضيف إلى الخدم أو إلى غيره، فلا يتولى ذلك بنفسه، نعم إذا كان مشغول بأمور هامة، بأمور لا يستطيع التنصل منها هذا معذور، لكن إذا لم يكن ثم شغل فعليه أن يكرم ضيفه.
يقول: "وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة" يعني المسألة ذكرها المفسرون، منهم من قال: اثنا عشر ومنهم قال: عشرة، ومنهم من قال: ثلاثة، لكن المتفق عليه "منهم جبريل" ولذا قال: "منهم جبريل" يعني موجود في الأقوال كلها، في الأقوال كلها ونص عليه هو.
"{إِذْ} ظرف لحديث ضيف"، {دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا} [(25) سورة الذاريات] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا} [(23-24) سورة الذاريات] جمع دخلوا واو الجماعة دخلوا يعود إلى ضيف، وضيف مفرد، ما قال: إذ دخل، قال: المكرمين ما قال: المكرم، وضيف مصدر يصدق على الواحد والاثنين والجمع، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد، مثل طفل {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [(67) سورة غافر] ما قال: أطفال، كذلك حمل، كذلك جنب، (إذ) يقول: "ظرف لحديث ضيف" إبراهيم، (إذ) يعني وقت، دخلوا عليه على إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فقالوا: سلاماً، أي هذا اللفظ، قال: سلامٌ أي بهذا اللفظ، قالوا: سلاماً، قال: سلام، يعني رد التحية بلفظها، والأفضل نعم أن ترد يعني بأحسن منها؛ لأن الذي يقول: وعليكم السلام، عشر حسنات، والذي يقول: ورحمة الله، عشر، وبركاته عشر، يعني ثلاثين، فكونها ترد بأفضل هذا الأفضل، هذه مسألة، الأمر الثاني: أنه في بعض المواضع ما في رد، ما في رد، ما قال: سلاماً في سورة الحجر؟ في سورة الحجر؟
طالب:.......
نعم؟
طالب:.......
لا {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا} [(52) سورة الحجر]؟
طالب:......
لا، ما في، ما في رد، أما سورة هود فيها رد، سورة هود فيها الرد، قالوا: سلاماً قال: سلام {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} [(51-52) سورة الحجر] ما في رد، فهل يمكن أن يقول قائل: إن إبراهيم -عليه السلام- ما رد؟ إبراهيم -عليه السلام- رد، والواقعة واحدة، ولا يلزم النقل في كل واقعة، ما دام نقل في موضع واحد لا يلزم النقل في كل موضع، وفي كل حادثة، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما سلمت عليه أم هانئ، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، قال: ((مرحباً بأم هانئ)) سلمت عليه فاطمة قال: ((مرحباً بابنتي)) هل نقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما قال: وعليكم السلام ما رد؟ أو نقول: ما دامت النصوص محفوظة فيها الرد فلا يلزم نقل الرد، ما هو ما يلزم الرد، لا يلزم نقل الرد في كل مناسبة، كما عندنا هنا، الرد مقطوع به، لكن كونه لا ينقل في موضع لا يعني أنه لم يرد، يعني في حديث الثلاثة الذين دخلوا وسلموا ما رد، النبي -عليه الصلاة والسلام- ما نقل أنه رد، هل نقول: إنه ما رد؟ وهل في مندوحة ألا نرد؟ لا، ما في مندوحة عن الرد، يعني إذا شككت في الشخص يعني الأمر بيدك، يعني إذا غلب على ظنك أنه ليس ممن يسلم عليه شرعاً الأمر بيدك، لكن إذا سلم لا بد أن ترد، ولو غلب على ظنك أنه ممن لا يستحق الرد، يعني رد قال: السلام عليكم وأنت ما تدري هو مسلم وإلا كافر؟ الكلام إذا غلب على ظنك أنه مسلم تقول: وعليكم السلام، إذا غلب على ظنك أنه كافر ما ترد عليه بنفس التحية تقول: وعليكم، لكن لا بد من الرد، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ} [(94) سورة النساء] المقصود أن الرد لا بد منه، وهنا نقول: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- رد على أم هانئ، ورد على فاطمة، ورد على الثلاثة، لكن ما يلزم نقله، إذا ثبت هذا بنص صحيح ففي بقية المواضع لا تلزم، وإن كان بعض أهل العلم يقول: إن مرحباً تكفي في الرد، بعضهم يقول: إذا قلت: مرحباً خلاص يكفي، ما تقول: وعليكم، ما يلزم تقول: وعليكم السلام.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا} [(25) سورة الذاريات] أي هذا اللفظ {قَالَ سَلَامٌ} أي هذا اللفظ"
يقول العلماء: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة، أبلغ من سلام الملائكة لماذا؟ قالوا: لأن سلام الملائكة مصدر، والمصدر ينوب مناب فعله، والجملة الفعلية لا تدل على الدوام والثبوت كالجملة الاسمية، فسلام إبراهيم -عليه السلام- جملة اسمية، سلام الملائكة جملة فعلية، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام والاستمرار بخلاف الفعلية.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
{قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [(25) سورة الذاريات] لا نعرفهم قال ذلك في نفسه" أنكرهم، لا يعرفهم، ولا يدري من أي بلد جاءوا، ولا إلى أي قبيلة ينتمون، وليس ثم قرينة تدل على أنهم من البلد الفلاني أو من القبيلة الفلانية، أو من الإقليم الفلاني، يعني كما جاء في حديث جبريل لما جاء يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل عليه رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، لا يعرفه منا أحد، ما فيه دليل ولا قرينة تدل على الجهة التي جاء منها، هؤلاء رآهم فأنكرهم، لا يدري من أي بلد جاءوا؛ لأنك إذا قابلت شخص هناك ما يدل عليه، تدري والله إن هذا الشخص جاء من مصر مثلاً، وهذا جاء من الشام، وهذا جاء من العراق، وهذا جاء من خراسان، في دلائل وقرائن أنت تستدل بها على ذلك، لكن هؤلاء ما في أي قرينة تدل على انتمائهم إلى بلد أو قبيلة أو أي ما يمكن أن ينتمي إليه الإنسان، أنكرهم في نفسه، قال: والله هذولا أناس ما أدري ويش هم؟ ما في ما يدل عليهم، ثم أنكر أيضاً مسألة عدم أكلهم مما قدمه لهم من الطعام.
{قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [(25) سورة الذاريات] لا نعرفهم قال ذلك في نفسه، وهو خبر مبتدأ مقدر أي هؤلاء" قوم منكرون، أي هؤلاء قوم منكرون.
{فَرَاغَ} [(26) سورة الذاريات] فراغ: مال يعني بسرعة وخفية، والروغان إنما يقال إذا كان فيه سرعة وخفاء، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [(26) سورة الذاريات] سراً، انسل من بينهم سراً، لماذا؟ لأنه يخشى أن يعرفوا ماذا يريد، ثم يمنعونه من تقديم ما يجب للضيف، يعني لو قام من المجلس كما يفعل بعض الناس، قال: عن إذنكم يا الإخوان لحظة، ها وين تبي؟ وين تبي؟ اقعد، عن إذنكم بس، يعني هذا نوع من الإعلان، لكن لو قال: عن إذنكم لحظة با طلب لكم أكل وإلا شيء هذا نوع أشد من الإعلان، نعم، فيخشى في مثل هذه الحالة أن يقولوا: لا أبداً لا تأتي بشيء، فإبراهيم -عليه السلام- راغ سراً، انسل من بينهم ليحضر ما يكرمهم به، وهذه غاية في الكرم، وهذه غاية في الكرم.
{فَرَاغَ} [(26) سورة الذاريات] يعني "مال إلى أهله سراً" {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [(26) سورة الذاريات] هذا وصف العجل "وفي سورة هود {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [(69) سورة هود] أي مشوي" جاهز للأكل، قد يقول قائل: إنه تأخر عليهم وتركهم حتى شوى العجل، أو الله أعلم كيفية شي هذا العجل، المقصود أنه جاء به مشوي وجاهز، وصنيعه كله يدل على زيادة في الكرم، يعني يوجد من الناس من يطلع الضيف على ما يريد ليمنعه، وقد يصرح بذلك، ومنهم من يخفي أمر هذه الضيافة إلى حد لا يشعر به، يعني شخص نزل عليه ضيوف في محله التجاري، وجلسوا عليه وتحدث، جلسوا إليه فتحدث معهم فأخذ الدفتر، دفتر الديون وما له وما عليه وتأبطه وخرج موهماً هؤلاء الضيوف أنه يذهب ليأتي بأموال من محل أو كذا، وقال: عن إذنكم أنا أريد مشوار، فذهب واشترى لهم ما يستحقون من ضيافة من الذبيحة ودخلها المطبخ ورجع بدفتره، يعني هذا يوهم الضيوف بأي شيء؟ أنه يريد أن يتابع عمله التجاري، هذا أيضاً كرم، هذا نوع من أنواع الكرم الزائد على ما يفعله الناس، فكون الإنسان يخفي ما يريد لا شك أن هذا زيادة في الكرم، ومن هذا النوع بل من أعظم ما يدخل في هذا النوع صنيع إبراهيم -عليه السلام-، يعني هذا الشخص الذي تأبط الدفتر دفتر القيودات ما له وما عليه، ومر المحل الفلاني والثاني إلى أن غاب عن أعينهم ذهب ليجهز لهم ما يحتاجون من طعام؛ لئلا.. لأن بعض الناس يظهر للناس ماذا يريدوا على شان يقولوا: والله ما تجيب شيء، والله ما تتكلف، وهذا يحضر لهم بحيث لا يشعرون، وهذا ما صنعه إبراهيم -عليه السلام- من جنسه، بل من أعظم ما..، لأنه راغ بخفية ومسرع، وشوى لهم العجل عاد سواءً بنفسه أو بأمره هذه أمور مطوية، يعني تفاصيلها ما ذكرت.
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [(27) سورة الذاريات] (ألا) عرض، يعني في بداية الأمر قربه إليهم، ما قال وضعه في مجلس ثاني يسمونه المجلط، وقال: تفضلوا على شان ما يكلفهم، وهم في أماكنهم قربه إليهم، هذا أيضاً نوع من إكرام الضيف، لم يكلفهم القيام إليه إنما قربه إليهم، (ألا) هذا عرض، هذا عرض، ما قال: كلوا، أمر؛ لأن العرض لا سيما في مبدأ الأمر أفضل من الأمر الصريح، ثم بعد ذلك إذا ترددوا أمر، وقد يضطر إذا رأى أن عدم الأكل من باب الخجل ومن باب الاستحياء منه يصر على أن يأكلوا، لكن هنا قربه إليهم {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [(27) سورة الذاريات] "عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا" {فَأَوْجَسَ} [(28) سورة الذاريات] أضمر في نفسه منهم خيفة، أنكرهم في الأول؛ لأنه لا يعرفهم، في الأخير لما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة؛ لأن العادة جرت أن الذي لا يأكل من الطعام الذي يقدم هذا قد بيت شيء، والعرب ما زالوا إلى يومنا هذا يدركون مثل هذا الأمر، وأنه إذا جاء وأكل خلاص انتهى، يعني ما في شر المسألة، وأنه إذا مالح انتهى الإشكال، يعني إذا أكل من عندهم، أما إذا لم يأكل فالمسألة فيها شيء، فإما أن يكون قد بيت شراً، أو بيت طلباً ملحاً أنه ما يأكل حتى يحقق له هذا الطلب، ولذا أوجس: أي أضمر في نفسه خيفة، قالوا: لا تخف إنا رسل ربك، الملائكة لا يأكلون، لكن في محاورات بعض العامة شخص قدم لضيوفه من لحم البقر بعض المجتمعات ما تأكل لحم البقر، ما يأكلون لحم البقر يرونه يعني لحم مفضول، أو بعضهم يستنكف من أكله، وهذا موجود يعني ما يأكل لحم البقر، بعض العامة ما يأكل لحم البقر، فلما قيل له: ما لقيت إلا لحم البقر تقدمه لضيوفك؟ ما هو معروف عندكم في البلد أن من الناس من لا يأكل لحم البقر؟! معروف بكثرة يعني، المقصود أنه قال له: ما وجدت تقدم لضيوفك إلا لحم البقر؟ قال رد عليهم فقال: لو يوجد أفضل من لحم البقر لقدمه إبراهيم -عليه السلام- لضيوفه، وهم أكر الضيوف ملائكة، فقال الآخرة هذا محاورة لا تستند إلى دليل لكنها تدل على شيء من النباهة، وإن كانت خلاف ما يدل عليه النص، قال الثاني المحاور: أثبت أنهم أكلوا ونقول: أفضل شيء، لما شافوه لحم بقر تركوه، هذه سرعة بديهة لكنها مخالفة للنص، هؤلاء ملائكة ما يأكلون، ملائكة، فهذا أراد أن يستدل به على تفضيل لحم البقر، والثاني أراد أن يستدل بالواقعة على أن لحم البقر مفضول وليس بفاضل، وهذه المفاضلة ليست من أهل علم، ولا وجدت في نص، يعني كلام عوام، لكنها تدل على أن في العامة من لديه نباهة وسرعة بديهة، ولا تدخل في مدلول الآية لا من قريب ولا من بعيد، لكنها بالمناسبة يعني تذكر "عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا" {فَأَوْجَسَ} [(28) سورة الذاريات] أضمر في نفسه منهم خيفة {قَالُوا لَا تَخَفْ} [(28) سورة الذاريات] أمنوه وطمأنوه "لا تخف إنا رسل ربك" إنا رسل ربك، يعني من الملائكة {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [(75) سورة الحـج] "إنا رسل ربك {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [(28) سورة الذاريات] بغلام عليم "ذي علم كثير، وهو إسحاق كما ذكر في سورة هود" يعني من وراء إسحاق يعقوب ومن وراء إسحاق يعقوب، هنا يقول في سورة هود: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [(71 سورة هود] البشارة بإسحاق لأنه لما يقول هنا: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [(28) سورة الذاريات] ويقول المفسر: إسحاق، الذي لا يربط الآيات بعضها ببعض يقول: كيف يمال إلى أن المبشر به إسحاق ثم يذهب ذهنه إلى الذبيح وأنه إسماعيل، وأن هناك قول متلقى من أهل الكتاب وأن الذبيح إسحاق، لا، هذا نص، بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، هذه البشارة غير مسألة قصة الذبيح.
"وهو إسحاق كما ذكر في هود {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} سارة" أو سارَّة بالتخفيف والتشديد عند أهل العلم {فِي صَرَّةٍ} [(29) سورة الذاريات] صيحة" لما سمعت هذه البشارة امرأة عجوز عقيم تناهز المائة تسعين سنة أو تسعة وتسعين سنة يقال: يبشر بغلام؟ {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [(29) سورة الذاريات] في صيحة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} لطمت وجهها امرأة عجوز عقيم يبشر زوجها {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [(28) سورة الذاريات] يعني شيء ما ذكره أهل التفسير لكن يلوح للإنسان من خلال النص أن سبب ما صنعت أنها ما دامت عجوز عقيم المرأة لها سن ينقطع عندها فيه الحمل، والرجل ليس له سن ينقطع فيه، فلعلها توقعت أنه بشر بغلام يمكن يكون من غيرها، ما في ما يمنع، يعني لو أن رجلاً من الموجودين عمره سبعين سنة، وامرأته عمرها خمسة وستين سنة ما رزقوا بأولاد ثم رأى في الرؤيا من يقول له: إنه يولد لك ولد، وأولت على هذا أنه يولد له ولد، اتفق العابرون على أنه يولد له ولد، الرجل يفرح بهذه الرؤية، لكن هل المرأة تفرح بهذه الرؤيا؟ نعم؟ ما تفرح؛ لأن لعلمها أنها أيست من الحمل، فلا بد أن يكون الولد من غيرها، فهي لا تفرح بمثل هذه الرؤيا، والله أعلم.
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} [(29) سورة الذاريات] سارة {فِي صَرَّةٍ} يعني "صيحة، حال، أي جاءت صائحة" أي جاءت صائحة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} لطمته {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} يعني أنا عجوز عقيم لم ألد، يعني "لم تلد قط، وعمرها -كما قالوا-: تسع وتسعون سنة، وعمر إبراهيم مائة سنة، أو عمره مائة وعشرون وعمرها تسعون سنة" لكن يمكن أن تكون المائة تقابل الخمسين عندنا أو أقل؛ لأن أعمارهم تطول، وإبراهيم -عليه السلام- اختتن وعمره ثمانون بالقدوم، اختتن وعمره ثمانون سنة، فلا يعني أن تركيب أجسام المتأخرين على مثل تركيب أجسام المتقدمين، لكن ما ذكرته هو مجرد استرواح، يعني هذا يوجد فيما بيننا أن المرأة العقيمة الآيسة إذا بشر زوجها جزمت بأنها من غيرها وهي تكره الضرة، تبقى عقيم هي وزوجها أفضل من أن يتزوج عليها ثانية وتلد أولاد، هذا لا يسرها.
{قَالُوا كَذَلِكَ} [(30) سورة الذاريات] أي مثل قولنا في البشارة {قَالَ رَبُّكِ} يعني إحنا مجرد رسل نبلغ عن الله -جل وعلا-، يعني هذا ليس من تلقاء أنفسنا، ليس من عندنا هذا، إنما البشارة من الله -جل وعلا- على ألسنة هؤلاء الملائكة.
{قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ} [(30) سورة الذاريات] في صنعه {الْعَلِيمُ} بخلقه" وهذا يجعل الإنسان لا ييأس من أي علة تصيبه، العقيم لا ييأس يدعو {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} [(89) سورة الأنبياء] والمريض بأي مرض ولو قرر الأطباء أنه لا علاج له لا ييأس ((ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله)) وإن كان بعض الأطباء أحياناً يجرءون ويقولون: هذا لا علاج له، مرضك هذا ما في علاج أصلاً، ما يوجد له علاج، نقول: لا فيه علاج، ما في داء إلا وله دواء، إلا وله شفاء بإذن الله -جل وعلا-، لكن علمه من علمه، وجهله من جهله، لكن لو الإنسان حينما يذكر هذه الأمور ويجزم يقول: على حد علمي والله أعلم، فتيئيس الناس وتقنيطهم من هذا الأمر لا شك أنه غير وارد، مع أن النص بخلافه، وبالمقابل أيضاً من قبله المريض، واحد يقرر الأطباء وعمره أكثر من خمسة وسبعين سنة تقريباً ويقرر الأطباء أن فيه سرطان في الكبد، وتعداها إلى غيرها، وأن أيامه محدودة، لكن من يبلغ هذا المريض ذكر ذلك لأقرب الناس إليه، من أجل إيش؟ من أجل أن يستعد يتصدق يتوب، يستغفر، يقبل على الله -جل وعلا-، يكثر من الذكر، يكثر من كلمة التوحيد، فلما قيل له: لعلك يا فلان -هو عقيم- لعلك يا فلان تتصدق وأنت في خير وعافية، يعني الأمراض هذه لا تقرب ولا تبعد، يعني كم من مريض عاش طويلاً وكم من صحيح مات فجأة، فمن نصيحتي لك أنك تتصدق، والرجل يعرف وضعه منتهي، لكنه الأمل، قال: والله ما عندي إلا شيء يسير إذا خرجت من المستشفى با أعالج عن العقم، يعني كل له خطابه من الشرع، هذا المريض في هذا الوضع يعني عليه أن يتدارك يعني مهما كان، ما دامت العلامات واضحة يعني يتدارك ويتصدق ويكثر من الذكر ونوافل العبادة، وأيضاً الطبيب عليه أن لا يؤيس المريض من الشفاء، ومع ذلك هذا من جهته يقبل على الله -جل وعلا- وذاك من جهته يطمئن ويبين له أن هذه الأمراض ليس معناها أنها النهاية مقرونة بهذا المرض أو بذاك المرض، وليس طول العمر مقرون بالصحة أبداً.
قال: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} [(30) سورة الذاريات] لأن الخطاب للمثنى {قَالُوا كَذَلِكَ} أي مثل قولنا في البشارة {قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ} [(30) سورة الذاريات] في صنعه {الْعَلِيمُ} بخلقه" قال إبراهيم -عليه السلام-: {فَمَا خَطْبُكُمْ} [(31) سورة الذاريات] يعني ما شأنكم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}؟ يعني ما الأمر الذي جئتم من أجله؟ أنتم أناس لا نعرفكم وقدمنا الطعام ولا أكلتموه؟ ما شأنكم؟ ماذا تريدون؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [(32) سورة الذاريات] إلى قوم مجرمين كافرين، يريد قوم لوط، يعني ومع الكفر الجريمة الشنعاء الفاحشة العظمى اللواط، وذكر القرطبي في تفسير سورة هود أن الله -جل وعلا- جرت عادته وسنته الإلهية أنه لا يؤاخذ بالشرك فقط، لا بد أن يكون هناك معصية يختصون بها، وتشاع بينهم ولا ينكرونها فيما بينهم، ولذلك تجد أن الذي يركز عليه في قصة قوم لوط هي الفاحشة، وقوم شعيب التطفيف، وقوم كذا عندهم كذا، وقوم كذا عندهم معاصي يتواطئون عليها، ويتداولونها بينهم ولا ينكرها بعضهم على بعض، فبها يستحقون تعجيل العقوبة، أما العذاب الأمدي الأبدي السرمدي هذا من أجل الشرك، معروف أن المشرك خالد مخلد في النار، لكن لا تعجل لهم العقوبة بسببه، إنما يعجل لهم العقوبة في أمر يختصون به من المعاصي الشنيعة من الكبار يتداولونها بينهم ولا ينكرها بعضهم على بعض، وإذا عمت الفاحشة استحقوا تعجيل العذاب، فنسأل الله تعالى السلامة والعافية.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [(33) سورة الذاريات] من طين مطبوخ بالنار، الطين معروف أنه لين، وإذا ضرب الإنسان قد لا يتأثر به مثل ما يتأثر في حالة ما إذا ضرب بشيء صلب، وهذا طين مطبوخ بالنار، نسأل الله العافية {مُسَوَّمَةً} [(34) سورة الذاريات] معلمة، مسومة معلمة، يعني عليها علامات، كل حجر عليه علامة أنه لفلان، عليه علامة أنه أرسل على فلان، حتى قال بعضهم: إنه مكتوب عليه اسم من أرسل إليه معلمة عليها اسم من يرمى به عليها اسم من يرمى به عند ربك {مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} [(34) سورة الذاريات] ظرف لها، يعني وضعت عليها العلامات وهذه السمات عند الله -جل وعلا-، الذي عاقبهم بها، ظرف لها {لِلْمُسْرِفِينَ} [(34) سورة الذاريات] بإتيانهم الذكور مع كفرهم، مع كفرهم بالله -جل وعلا-، وهذه الفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين، ما سبقهم بها أحد من العلامين، إتيان الذكور نسأل الله العافية، وخلاف للفطر السليمة، حتى قال الوليد بن عبد الملك وهو خليفة، وبيوت الخلفاء تجمع، تجمع الأحرار والعبيد والخدم والناس متفاوتون في الأذواق وفي الديانات، تجمع بيوت الخلفاء، ومع ذلك يقول الوليد بن عبد الملك: "لولا أن الله -جل وعلا- ذكر اللواط في كتابه ما صدقت أن ذكراً يعلو ذكراً" هذه الفطر السليمة تأباه وتنفر منه.
{فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا} [(35) سورة الذاريات] أي في قرى قوم لوط {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من أجل إهلاك الكافرين؛ لأنهم لو لم يخرجوا لهلكوا معهم؛ لأن العقوبات إذا نزلت عمت، عمت الصالح ومن يستحق ومن لا يستحق، ثم بعد ذلك يبعثون على نياتهم، لكن الله -جل وعلا- أنقذ لوطاً وابنتيه ومن آمن به على خلاف بين أهل العلم في العدد، لكن لوط وابنتيه أنقضهم الله -جل وعلا- فقال: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا} [(35) سورة الذاريات] أي في قرى قوم لوط {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من أجل، لأجل إهلاك الكافرين، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [(36) سورة الذاريات] أخرجنا، يعني أرادنا إخراج من كان فيها من المؤمنين؛ لتنزل العقوبة على هؤلاء المجرمين {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [(36) سورة الذاريات] وهم لوط وابنتاه وصفوا بالإيمان والإسلام أي هم مصدقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات، أي هم مصدقون بقلوبهم، هذا هو الإيمان، عاملون بجوارحهم الطاعات هذا هو الإسلام، يعني اتفق فيهم الوصفان: الإيمان والإسلام، يعني هل يقول قائل: إننا أردنا إخراج من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا أحد من المؤمنين وإنما وجدنا بيت من المسلمين؟ هل يمكن أن يقال هذا؟ وهو بيت لوط وفيه ابنتيه؟ لا يمكن، وإنما هذا دليل لمن يقول: بأن الإيمان والإسلام شيء واحد، ومعروف أن الإيمان مرتبة فوق مرتبة الإسلام، والإحسان فوق الإيمان لكن هنا الإيمان والإسلام شيء واحد؛ لأن البيت موصوف بالإيمان وموصوف بالإسلام، وكل مؤمن مسلم، لكن ليس كل مسلم مؤمناً، والإيمان والإسلام إذا اتحدا افترقا وإذا افترقا اتحدا، وعلى هذه القاعدة يعني هذه الآية تخرج عن هذه القاعدة، يعني في حديث جبريل لما سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان عرف الإسلام بحقيقة تختلف عن الإيمان، وعرف الإيمان بحقيقة تختلف عن الإسلام، لكن لما افترقا وجاء في حديث وفد عبد القيس السؤال عن الإيمان عرفه قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته)) عرف الإيمان بأركان الإسلام في حديث عبد القيس عرف الإيمان بأركان الإسلام فدل على أن الإسلام والإيمان شيء واحد إذا افترقا، يعني إذا ذكر الإسلام يدخل فيه الإيمان، إذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، لكن إذا اجتمعا في نص واحد فالإسلام يحمل على الأعمال الظاهرة، والإيمان يحمل على الأعمال الباطنة أعمال القلب.
وهنا اجتمعا وإلا افترقا؟ اجتمعا، فهل نقول: إن الإيمان هنا في الآية الأولى شيء والإسلام شيء آخر؟ أو نقول: هما شيئان واجتمع هذان الشيئان في هذا البيت الإيمان والإسلام؟ اجتمعا في هذا البيت؟
قال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [(36) سورة الذاريات] وهم لوط وابنتاه وصفا بالإيمان والإسلام، أي هم مصدقون بقلوبهم وهذا هو الإيمان عاملون بجوارحهم الطاعات، والتصديق لا يكون مساوٍ للإيمان من كل وجهة، يعني ليس الإيمان هو التصديق من كل وجه، نعم حقيقة الإيمان اللغوية هي التصديق لكن حقيقته الشرعية زيد فيها، زيد فيها كما قرر ذلك شيخ الإسلام في كتابه الإيمان، وهكذا كل الحقائق اللغوية تقر في الشرع لكنها يزاد عليها قيود وضوابط {وَتَرَكْنَا فِيهَا} [(37) سورة الذاريات] أي بعد إهلاك الكافرين، تركنا في هذه القرى بعد إهلاك الكافرين قوم لوط، الكفار المرتكبون للفاحشة المصرون عليها {آيَةً} [(37) سورة الذاريات] علامة على إهلاكهم، علامة على إهلاكهم من وجود الأنقاض ووجود آثار هذا التعذيب فيه علامة معتبر مدكر لمن يمر بها، آية لكن لمن؟ كثير من الناس يمر على المواطن، مواطن العذاب لكنها لا تحرك فيه ساكناً، بل بعض الناس يذهبوا إليها من أجل النزهة، وقد جاء النهي عن دخول هذه الأماكن إلا باكين أو متباكين، إنما تدخل للاعتبار والادكار، وبعض الناس يتخذها أماكن للنزهة.
يقول: {وَتَرَكْنَا فِيهَا} [(37) سورة الذاريات] بعد إهلاك الكافرين {آيَةً} أي علامة على إهلاكهم لمن؟ {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [(37) سورة الذاريات] فلا يفعلون مثل فعلهم، فلا يفعلون مثل فعلهم، فعلى الإنسان أن يعترف ويعتبر ويدكر ويزدجر وينظر في مثل هذه الآيات؛ لأنه ليس المراد بهذا قوم لوط، وليس المراد بعاد ولا ثمود ولا الأمم المعذبة كلها، ولا المقصود فرعون في هذه القصص، ليس المقصود فيها فرعون، وليس المقصود قوم لوط، كما قال عمر -رضي الله عنه-: "مضى القوم، انتهوا، "مضى القوم ولم يرد به سوانا، من أجل إيش؟ {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [(37) سورة الذاريات] ننظر في الأسباب التي من أجلها عذبوا فنجتنب هذه الأسباب، إذا كنا نخاف مثل هذا العذاب الأليم لا بد أن نعتبر، يعني ننظر في أحوال الأمم الماضية لماذا عذبوا؟ عذبوا من أجل كذا، إذاً ليش؟ لماذا ذكرت قصصهم في القرآن؟ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [(111) سورة يوسف] {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [(111) سورة يوسف] يعني ما أنزلت هذه القصص من أجل أن يتحدث بها في المجالس، مثل قصص ألف ليلة وليلة وعنترة بن شداد أو فلان وعلان، لا، هذا {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [(111) سورة يوسف] لا بد من اعتبار، لا بد من الادكار، يعني الآن نعيش أشياء، ونعيش مخالفات، ونعيش أمور، اشتهرت بين المسلمين من غير نكير، ألا نعتبر، ألا ندكر، يعني لو قرأنا في أسباب سقوط الأندلس مثلاً، في الجزء السادس من نفح الطيب، وطبقناها على واقع المسلمين في كثير من البلدان، السنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل، السنن الإلهية ليس لها تبديل ولا تغيير، وجدت الأسباب التي عذب بها أي قوم يعذب بها غيرهم، يعني لا يوجد أناس بينهم وبين الله -جل وعلا- صلة غير أن يحققوا ما خلقوا من أجله كما سيأتي {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [(38) سورة محمد] فلا بد من النظر في أسباب هلاك الأمم، لماذا أهلكوا؟ فنجتنب هذه الأسباب، وكونه يكثر بعض المعاصي التي عذبت بها الأمم السابقة، يعني أين عقول الناس؟! يعني يوجد من يزاول هذه الفاحشة في بلدان المسلمين، وسجلات المحاكم فيها الشيء الكثير، ويطلع عليها من يطلع ممن له أمر أو نهي، ثم بعد ذلك لا يحرك ساكن، هذا معقول؟! يعني نستحق عقوبة بهذا، لا بد من الأخذ على أيديهم وأطرهم على الحق، لا بد من تنفيذ شرع الله فيهم، لا بد من قطع دابرهم؛ لئلا يقضى على الجميع، وقل مثل هذا إذا كثر الزنا، إذا كثرت السرقة، كثر الربا، وفشا الربا، هناك عقوبات مرتبة على هذه الفواحش، لكن المسألة إذا كانت خفية ما يطلع عليها أحد، ومسائل فردية ونادرة هذه لن يخلو منها مجتمع من المجتمعات، وليس... العصمة يعني متصورة في أي مجتمع، فالمخالفات اليسيرة وقعت في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن الشأن في كون هذه الأمور تكثر تصير ظواهر، هذا الإشكال، ولا يوجد من ينكر هنا تستحق العقوبة، والسنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل.
{لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [(37) سورة الذاريات] فلا يفعلون مثل فعلهم".
اللهم صل وسلم بارك على عبدك ورسولك محمد.
"