أحكام الحج

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فرضية الحج:

إن الحج إلى بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام إجماعاً، لا يختلف أهل العلم في كونه ركن، وقد الله -جل وعلا-: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران] فشأن الحج عظيم، فهو أحد أركان الإسلام، وأحد دعائمه العظام، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) متفق عليه، من حديث ابن عمر، وتفرد مسلم -رحمه الله تعالى- بتقديم الصيام على الحج، ولذا بنا الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترتيب كتابه على تقديم الحج على الصيام، بناء على الرواية المتفق عليها، والأكثر من أهل العلم يقدمون الصيام على الحج، والرواية بذلك عن ابن عمر صحيحة، حتى إنه اُستدرك عليه، فرد على المستدرك، لما قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" قيل له: صوم رمضان والحج، قال: وصوم رمضان والحج، قيل له: الحج وصوم رمضان، قال: لا، صوم رمضان والحج، مع أن تقديم الحج ثابت عنه في الصحيحين وغيرهما.

حكم من أنكر وجوب الحج:

وعلى كل حال من أنكر وجوبه كفر إجماعاً، ومن تركه فهو على خطر عظيم مع القدرة عليه؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران] ويستدل بهذا مع نصوص جاءت في التشديد والتأكيد بالنسبة لمن ترك الحج وهو قادر عليه، جعل بعض أهل العلم يقولون: بكفر من لم يحج مع الاستطاعة، وجاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه كتب إلى الأمراء في الآفاق: "أن انظروا من كانت له جدة فلم يحجوا، فاضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".

وجاء مرفوعاً من حديث أبي ذر وأبي هريرة وأبي أمامة وغيرهم، عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من كان ذا جدة فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو إن شاء نصرانياً)) له طرق كثيرة تدل على أن له أصلاً، كما قال الحافظ ابن حجر، وإن بالغ ابن الجوزي فأورده في الموضوعات؛ لكن الجمهور على أنه ضعيف، ليس بالموضوع، وليس بالصحيح، وابن حجر يقول: كثرة طرقه تدل على أن له أصلاً.

وعلى كل حال هو ركن اتفاقاً، وتاركه على خطر عظيم، ولو لم نقل بكفره كقول الجمهور؛ لكنه مفرط، شأن الحج عظيم، وجاء في الترغيب فيه أحاديث كثيرة جداً، ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) وجاء أيضاً: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) وهو واجب على الفور على القول المحقق عند أهل العلم، وإن قال كثير من أهل العلم أنه على التراخي؛ لكن جاءت النصوص التي تدل على أنه على الفور، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لما فرض عليه الحج في السنة التاسعة على القول المحقق عند الإمام البخاري وابن القيم وغيرهما أنه فرض في السنة التاسعة، وحج النبي -عليه الصلاة والسلام- في السنة العاشرة، نعم قد يقول قائل: لو كان على الفور لحج في السنة التاسعة، بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- في السنة التاسعة أبا بكر، ثم أردفه بعلي -رضي الله عنه- من أجل أن يبلغ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يطيق هذه المناظر، ولذا أخر الحج وهو واجب على الفور من أجل ذلك.

وكثير من المسلمين الآن مع الأسف الشديد أنه بطوعه واختياره من غير أي داعٍ ينظر إلى العورات، من خلال وسائل الإعلام، لا يلزم أن تكون العورات المغلظة؛ لكن هي عورة على كل حال، المرأة بالنسبة للرجل عورة، والأمر أعظم من ذلك، ويذكر أمور يُستحى من تخيلها فضلاً عن ذكرها، يستحي الرجل السوي الذي على الفطرة من مجرد التصور فضلاً عن سماع أخبارها، أو تصورها، أو الكلام فيها، والله المستعان.

إذا عرفنا هذا، وقلنا: أن الحج واجب على الفور، فإن من استطاع أن يحج ولم يحج آثم، يأثم إذا أخر الحج من غير عذر، ومع الأسف أنه توجد أعذار واهية تؤخر من أجلها هذه الشعيرة، أو الفريضة في العام الماضي قيل لبعضهم: لم لا تحج؟ قال: والله السنة هذه ربيع -مع الأسف الشديد أن نسمع مثل هذا الكلام بين المسلمين- وقبل ذلك قيل له: لم لا تحج؟ قال: والله تسليم البحث بعد الحج مباشرة، لا أستطيع أن أحج، ومثل هذه الأعذار، حرص الصحابة على أداء هذه الشعيرة مع النبي -عليه الصلاة والسلام- شيء لا يخطر على بال، امرأة يبدأ الطلق بها، طلق الولادة يبدأ بها من بيتها، وتخرج لتحج مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، إجابة لندائه ونداء الله -جل وعلا-، ومع ذلكم تلد في المحرم، في الميقات بعد مسافة عشرة كيلو، بيوت المدينة يراها حديد البصر، هذا من حرصهم -رضوان الله عليهم- على إبراء الذمة من الواجب، وامتثالاً للمسارعة والمسابقة التي أمر الله بها -جل وعلا-، والإنسان لا يدري ماذا يعرض له؟ وإذا كان المستطيع الذي أنعم الله عليه بالصحة والعافية والمال ولم يحج ولم يفد إلى الله -جل وعلا- كل خمس محروم، فكيف بمن ترك الفرض المكمل المتمم لدينه؟

تعريف الحج:

إذا عرفنا هذا، فالحج: هو قصد بيت الله الحرام لأداء النسك، والعنوان -عنوان المحاضرة- (الحج) كبير جداً ولذا لا أدري متى أبدأ؟ ولا أدري كيف أبدأ؟ ولا أدري كيف أنتهي؟ العنوان كبير جداً، فأحكام الحج ألفت فيه المجلدات، ومن أنفع ما كتب فيها كتاب المناسك من المجموع للنووي، ويقع في المجلد السابع والثامن من الكتاب، أحكام مفصلة، وتفاريع، وتصوير دقيق لكثير من الفروع بأدلتها، ومن ذلكم أيضاً المغني لابن قدامة يذكر الأحكام والخلاف والأدلة يستفاد منه، وهناك منسك كان مشهوراً بين طلاب العلم، ثم ترك لطوله، وفيه شيء من التكرار الملل لطلاب العلم اليوم هو منسك الشيخ ابن جاسر، اسمه (مفيد الأنام) في جزئين، وهناك مناسك تعتمد على الدليل، مثل منسك الشيخ ابن باز، ومنسك الشيخ الألباني، وغيرهما، والموضوع ثري، والمصادر والمراجع كثيرة جداً، والنصوص متوافرة، وكتب السنة فيها الشيء الكثير من بيانه -عليه الصلاة والسلام- بفعله وقوله لما أمر الله به -جل وعلا-.

شروط الحج وأركانه ومحظوراته وسننه:

الحج له شروط، وله أركان، وله واجبات، وله سنن، وفيه محظورات –ممنوعات-، فمن شروطه: الإسلام فغير المسلم لا يجب عليه الحج، ولا يصح منه، وكونه يشترط في وجوبه الإسلام لا يعني أن الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة، بل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ومنه الحج، وإذا كان الكافر لا يؤمر به حال كفره فما معنى خطابه بهذا الفرع أو بغيره من الفروع؟ وغير الحج لا يطالب بقضائه إذا أسلم بمعنى أنه لو أسلم وعمره سبعون سنة ما يقال له: عليك أن تصلي صلاة خمسة وخمسين سنة، أو تصوم خمسة وخمسين شهر، لا، أما بالنسبة إلى الحج -هذا إذا كان مستطيعاً وقت كفره ثم أسلم غير مستطيع لا يكلف به كغيره من العبادات- وكونه مكلف به، مطالب به، أنه يزاد في عذابه على عذاب كفره، وإلا فالإيمان شرط من تصحيح العبادات {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ} [(54) سورة التوبة] فالكفر مانع من قبول الأعمال، الكافر لا يصح منه العبادة حال كفره، ولا يطالب بها إذا أسلم، وإنما تكليفه من باب زيادة عذابه، وقد قال الله -جل وعلا-: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [(42-44) سورة المدثر] المقصود أنهم ذكروا فروع، فدل على أنهم مخاطبون في قول عامة أهل العلم.

فالإسلام شرط من شروط الحج، والتكليف: الحج لا يجب على الصبي ولا على المجنون، إن حج الصبي حال صباه صح حجه؛ لكنه لا يجزئ عن حجة الإسلام، فإذا بلغ عليه أن يحج حجة أخرى، وقد رفعت امرأة صبياً للنبي -عليه الصلاة والسلام- فقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر)) فيصح حجه، ويلزمه ما يلزم المكلف من الإتمام، والتبعات مما يرتكبه من محظورات، اللهم إلا ما لا يستطيعه، والمجنون لا يصح منه الحج، وكذلك الرقيق حجه لو حج صحيح؛ لكنه كالصبي لا يجزئ، ولا يجب عليه؛ لأنه مشغول بخدمة سيده فلا يجب عليه الحج أثناء رقه، فلو حج أثناء الرق وهو مكلف؟ عليه حجة أخرى كالصبي، وإن قال بعض أهل العلم أنه يختلف عن الصبي باعتبار أنه تصح منه العبادات كالصلاة والصيام وغيرها، وفي المسألة حديث، لا يخلو من مقال، أن من حج وهو صبي أو رقيق فبلغ أو عتق فعليه حجة أخرى.

المقصود أن وجوب الحج من شرطه الحرية، يقولون: إذا بلغ الصبي، وعتق الرقيق، وأفاق المجنون بعرفة صح حجهم فرضاً، عندنا ركن تقدم قبل الأهلية، نعم لأن من أركان الحج الإحرام، والمراد به نية الدخول في النسك، فإذا أحرم وهو صبي وحجه نفل ما دام صبياً، ثم بلغ بعرفة، قالوا: تجزئ عن حجة الإسلام، ينقلب نفله فرضاً، والنية في الحج عندهم تختلف عن نية سائر العبادات؛ لأنه يمكن تحويلها، بخلاف من أحرم بنفل الصلاة، ثم أراد أن يقلبها فرضاً، ما تنقلب، وعند الحنابلة أنه إذا شرع في الصلاة، ثم بلغ في أثنائها فإنه تلزمه الإعادة؛ لأنه مضى جزء منها غير فرض، إنما هو نفل؛ لكن ما عرف عنه -عليه الصلاة والسلام- ولا عن أحد من صحابته أنه أمر أحداً صلى نفلاً، ثم بلغ في أثناء الصلاة، مع أن إثبات البلوغ في أثناء الصلاة يعني دونه خرط القتاد، وما يدريك أنه بلغ في هذه اللحظة، إلا إذا عرف أنه ولد في الدقيقة كذا من يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ثم على تمام الخامسة عشرة يكون قد بلغ، وهذا فيه عنت، يعني ملاحظة هذه الأمور الدقيقة ليست من مقاصد الشرع، فيها مشقة، وفيها عنت، وما عرف أن أحداً أمر بإعادة الصلاة لأنه بلغ في أثنائها.

قلنا: من الشروط: الإسلام، والتكليف الشامل للبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، المستطيع يلزمه الحج يجب عليه الحج وغير المستطيع لا يجب عليه، لقول الله -جل وعلا-: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [(97) سورة آل عمران] وجاء تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة، الحديث جاء من طرق، وكلها لا تسلم من مقال، واستطاعة كل شخص بحسبه، يعني لا تلزم الراحلة لكل شخص، المكي مثلاً الذي يستطيع أن ينتقل بين المشاعر من غير مشقة، لا تلزمه الراحلة لتكون شرطاً على قدرته على الحج، بل عليه أن يحج، ولذا قالوا: القدرة بالمال والبدن، والمال من أجل النفقة، لا بد منه، ولا يحج مثل الذين يدعون التوكل، يتوكلون على الله ولا يتزودون، ثم بعد ذلك يعيشون عالة على الناس، وسئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن بر الحج؟ فقال: ((إطعام الطعام)) ما قال: التسول، وبعض الناس تجد عنده ما يغنيه عن الناس، ثم ينزل ضيفاً على فلان أو على فلان، أو على جهة حكومية، ويزاحم المستحقين، وقد أغناه الله -جل وعلا- عن هذا وهذا، خلاف ما يتطلبه الحج من الإنفاق، إطعام الطعام، وإفشاء السلام.

وعلى الإنسان أن يحج من ماله الحلال، فإذا لم يكن مستطيعاً ببدنه إن استطاع بماله وجب عليه أن ينيب، "إن فريضة الله بالحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة" يعني لا يستطيع ببدنه، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) وفي حديث أبي رزين قال: ((حج عن أبيك واعتمر)) فالذي لا يستطيع بنفسه يستطيع بولده، أو بماله يلزمه أن ينيب، لكن إن عوفي بعد النيابة، أناب من يحج عنه، ثم عوفي بعد ذلك، صار يستطيع أن يحج بنفسه، هل يلزمه أن يحج أو تكفي هذه الحجة التي نيب عنه فيها؟ الحنابلة يقولون: تكفي لأنه لا يجب في الإسلام إلا حجة واحدة، ولو أوجبنا عليه أن يحج بنفسه لأوجبنا عليه حجتين، وكثير من أهل العلم يقولون: لا تكفي لأنه لما عوفي عرفنا أنه غير ميئوس منه، والنيابة إنما هي في الميئوس منه.

يزيد المرأة من الشروط المحرم: فلا تسافر المرأة بغير محرم، إذا لم تجد محرم، وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد، فإنه لا يلزمها الحج بنفسها، والمحرم جاء في النصوص الصحيحة الصريحة بوجوبه ولزومه في جميع الأسفار الطويلة والقصيرة، وجاء النهي عن السفر بدون محرم مسيرة ليلة، ومسيرة يوم، ومسيرة ثلاث، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم بإطلاق، فدل على المدة ليست مقصودة، فبمجرد ما يوجد الوصف الذي هو السفر، والسفر والسفور والإسفار والبروز هو مجرد الخروج من البلد، الشروع في السفر، وعلى هذا إذا قلنا: أن هذا مشترط بالنسبة للحج فكيف بغيره من الأسفار؟ أسفار النزهات مع الأسف أن يوجد نساء مع سائق في البرية، في رحلة نزهة، ويلاحظ هذا، ويوجد مع الأسف الشديد كثير هذا في الطالبات والمدرسات أن تسافر مع غير محرم، وهذا داخل في النصوص، وما عند الله لا ينال بسخطه، ولا يحملنكم استعجال الرزق على أن تطلبوه بسخط الله، فإن ما عند الله لا ينال بسخطه، ويكثر السؤال عن هذا، لا سيما بالنسبة للمدرسات، يسافرن مجموعة من النساء على قول عند بعض أهل العلم أن المرأة تسافر مع مجموع النسوة مع الأمن في الطريق، ومع أمن الفتنة، ثم بعد ذلك يضطر السائق أن لا يقف في الطريق حتى يصل المقصد، المدرسة، ولو بعد طلوع الشمس، ويترتب على هذا تأخير صلاة الصبح إلى أن يخرج وقتها، ويسألون عن حكم تأخير صلاة الصبح عن وقتها، ظلمات بعضها فوق بعض، وإذا أردنا النتائج الشرعية لا بد أن نسلك المقدمات الشرعية، تسافر المرأة بدون محرم، ثم يقول السائق: أنا لا أستطيع أن أقف في الطريق علينا خطر، لا بد أن لا نقف إلا في المدرسة، أصل المقدمة التي تريد بنا الحكم عليها ليست شرعية، فالنتيجة حتماً ليست شرعية.

المقصود على المسلم أن يتقي الله -جل وعلا- ذكراً كان أو أنثى، فإذا توافرت هذه الشروط فالحج واجب على ما تقدم، فهو ركن من أركان الإسلام، لا يجوز تأخيره، ومن قال من أهل العلم أنه على التراخي؛ لأنه عندهم فرض سنة ست، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يحج إلا سنة عشر، قالوا: لا يلزم على الفور مع العزم على أدائه؛ لكن القول المحقق أنه واجب على الفور، وجاء الأمر بتعجيله، قلنا: له شروط، هذه هي الشروط، وله أركان، أركانه الإحرام، والمراد به: نية الدخول في النسك، فإذا سافر مريد الحج من بلده ووصل الميقات المحدد له شرعاً، والنبي -عليه الصلاة والسلام- حدد المواقيت، فجعل لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً، والخلاف في ذات العرق، هل جاء تحديدها لأهل المشرق لأهل العراق ومن كان في جهتهم هل هو مرفوع أو هو من اجتهاد عمر -رضي الله تعالى عنه-؟ ورفعه يصح إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لكنه ليس في القوة بمثابة المواقيت الأخرى التي ثبتت بالحديث الصحيح.

وعلى كل حال توقيته من قبل عمر صحيح، ورفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- صحيح، ولا يبعد أن يكون من موافقات عمر، يكون عمر ما عرف أو ما بلغه النص المرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فاجتهد فحدد لهم ذات عرق، فوافق اجتهاده النص المرفوع، وليس هذا ببدع، فموافقات عمر -رضي الله تعالى عنه- كثيرة، إذا وصل إلى الميقات مريد الحج فإنه حينئذ يتجرد من المخيط، ويغتسل، ويلبس ثياب الإحرام الإزار والرداء، ثم بعد ذلك ينوي النسك الذي يريده من الأنساك الثلاثة، إما الحج فقط، أو الجمع بين الجمع والعمرة، أو العمرة فقط على أن يحج إذا حل منها ليكون متمتعاً، والأنساك عند الجمهور كلها جائزة الثلاثة؛ لكن من ساق الهدي فالقران في حقه أفضل، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- له أن يتمتع أو ليس له أن يتمتع من ساق الهدي؟ هل يلزمه أن يقرن؟ ولو قال: أريد أن أفرد؟ أنا لست معتمر؟

طالب:.........

لا سوق الهدي لك أن تسوق الهدي وأنت في الرياض، ويصل مكة ويذبح هناك، لو ساق الهدي تطوع ما في إشكال؛ لكنه يمنع من التحلل قبل أن يبلغ الهدي محله، فلا يتمتع حينئذ، إنما لو قال: أريد أن أفرد أسوق الهدي وأفرد، ما فيه ما يمنع؛ لأنه سوف يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، إن قرن كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أفضل؛ لكن التمتع الاصطلاحي الذي مفاده أن تفصل بين الحج والعمرة بالحل، كل الحل فهذا متعذر بالنسبة لمن ساق الهدي، ولذا تأسف النبي -عليه الصلاة والسلام- على سوق الهدي، وقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)) فمن ساق الهدي الأفضل في حقه القران، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن لم يسق الهدي فالأفضل في حقه التمتع؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، أما إذا تصور أن شخصاً لا يريد أن يزيد على ما أوجب الله عليه من حج وعمرة، يقول: أنا لا أريد أن أتنفل لا بحج ولا بعمرة، إنما أريد أن أعتمر عمرة واحدة، وأن أحج حجة واحدة، فهذه الصورة هي التي نقل عليها شيخ الإسلام أن الإفراد أفضل اتفاقاً، لماذا ليأتي بالحج بسفرة مستقلة، ويأتي بالعمرة بسفرة مستقلة، هذه المسألة مفترضة في شخص يقول: لن أحج إلا مرة واحدة، ولن أعتمر إلا مرة واحدة، فكونه يسافر من بلده إلى مكة ليؤدي العمرة الواجبة عليه، ثم يسافر ليؤدي الحجة الواجبة عليه، أو العكس هذا أكمل وأفضل اتفاقاً، فيما نقله شيخ الإسلام، يعني أيهما أفضل أن يسافر للعمرة ثم يسافر للحج أو العكس، أو يسافر سفرة واحدة للحج والعمرة فيتمتع؟ السفرتين أفضل، وهذا الذي نقل عليه شيخ الإسلام اتفاقاً، أما من أراد أن يعتمر عمرة مفردة في رمضان مثلاً، أو في شوال أو في القعدة أو في محرم ثم يسأل في المحرم يقول: أفضل لي أتمتع وإلا أفرد؟ نقول: تمتع لأنك بهذا تكون اعتمرت مرتين، أما من قال: أنا لا أريد أن أزيد على ما أوجب الله علي، فكونه يأتي بالنسكين في سفرين أفضل

طالب:........

إيه لا، لا، {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [(196) سورة البقرة] قال بعض الصحابة: تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، والمراد بذلك أن تنشئ له السفر من بلدك.

إذا وصل الميقات، ونوى الدخول بالنسك، بعد أن تجرد واغتسل وتطيب، وصلى، ثم بعد ذلك نوى، لبى بما يريد من الأنساك، إن كان مفرداً قال: لبيك حجاً، وإن كان متمتعاً قال: لبيك عمرة، وإن كان قارناً قال: لبيك حجاً وعمرة، الصلاة للإحرام عامة أهل العلم على مشروعيتها للإحرام، ويقول النووي: إنه لا يعلم خلافاً إلا ما يحكى عن الحسن البصري، أنه قال: ليس للإحرام صلاة، وجاء في الحديث الصحيح: ((صل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة)) فأمر بالصلاة، ولا شك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أحرم بعد الصلاة؛ لكن الصلاة التي صلاها قبل إحرامه هي صلاة الظهر، صلاها ركعتين، ثم أحرم بعدها، واختلفوا في وقت إهلاله، فنية الدخول في النسك هذا الركن، والإحرام من الميقات واجب من واجبات الحج، على ما سيأتي، يعني لو تجاوز الميقات، ونوى الدخول في النسك من مكة، قلنا: هذا الركن، وتركت واجب من واجبات الحج، ما تركت ركن، ومن ترك واجب يأتي حكمه.

إذا صلى سواء كانت فريضة وإلا نافلة في قول عامة أهل العلم نوى الدخول في النسك، وأهل بما شاء من الأنساك الثلاثة بعد الصلاة، وإذا استقلت به راحلته، وإذا علا على شرف البيداء، وجاء في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أهل من عند المسجد، وجاء أيضاً أنه أهل عند الشجرة، وجاء أيضاً أنه أهل حينما استوت به راحلته، وجاء عنه أيضاً أنه أهل حينما علا على شرف البيداء، والجمع بين هذه الروايات جاء في حديث ابن عباس عند أبي داوود والحاكم، قال: أهل النبي -عليه الصلاة والسلام- من عند المسجد، فسمعه أناس يهل فنقلوا، وأهل لما استوت به دابته فسمعه أناس فنقلوا، وأهل حينما علا على شرف البيداء فسمعه من لم يسمعه قبل فنقل، وبهذا يكون الجمع بين الروايات المختلفة أنه أهل في هذه المواضع كلها، وكلٌ نقل ما سمع، وابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يقول: "بيداءكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما أهل لما علا عليها، إنما أهل من عند المسجد، وعلى كل حال كلٌ نقل ما سمع، وكلها صحيحة.

جاءت الروايات المختلفة في إهلاله -عليه الصلاة والسلام-، وبأي الأنساك أهل؟ فجاء عنه أنه أهل مفرداً، وصح عنه أنه تمتع، يقول الصحابي: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتمتعنا معه، والقول المرجح الصحيح من خلال الروايات المفصلة المفسرة أنه حج قارناً، وأنه لم يتمتع؛ لأنه ساق الهدي، ولم يفرد؛ لأنه لبى بهما جميعاً، فكيف يجاب عن رواية التمتع؟ وعن رواية الإفراد؟ من قال: حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قارناً هذا هو الأصل، وهو الذي استقر عليه أمره -عليه الصلاة والسلام-، وهو ما فعله على الحقيقة، ومن قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد نظر إلى المعنى الأعم للتمتع، إن التمتع فيه الجمع بين النسكين في سفرة واحدة، هذه حقيقة التمتع، ومعناه الأعم يشمل التمتع الاصطلاحي، ويشمل القران؛ لأن من قرن بين النسكين في سفرة واحدة ترفه بترك أحد السفرين، فهو متمتع من هذه الحيثية، ومن قال: تمتع هذا مراده، لا أنه فصل بين الحج والعمرة كما يفعل المتمتع تمتعاً اصطلاحياً، على ما أمر به النبي -عليه الصلاة والسلام- صحابته، ومن قال: أنه حج مفرداً فمراده أن أعماله -وقد حج قارناً- لا تختلف عن أعمال المفرد، الآن لو حج زيد وعمرو معاً خرجوا من الرياض، ووصلوا إلى المحرم، ثم لبى زيد بالإفراد وعمرو بالقران، ثم ذهبا جميعاً -إن شاءا- إلى البيت، وطافا للقدوم، وسعيا بعده، أو مباشرة ذهبا إلى عرفة، واحد مفرد وواحد قارن، ثم بعد ذلك ينزلون مزدلفة، ثم منى، ثم يرمون، ثم يفيضون يطوفون ويسعون ولا فرق بين عملها البتة إلا في الهدي، فمن قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج مفرداً، رأى أن أعماله كأعمال المفرد، سواء بسواء، القارن لا يختلف عن المفرد إلا في الهدي، إلا عند الحنفية الذين يلزمونه بهديين، وإلا على قول الجمهور لا فرق بين عمل القارن وعمل المفرد، فكما أن القارن إذا أراد أن يطوف للقدوم وهو سنة، ثم يسعى بعده سعي الحج، ثم بعد ذلك يطلع إلى منى وعرفات، ثم مزدلفة، ثم منى، ثم ينزل لطواف الإفاضة للرمي وطواف الإفاضة وأعمال يوم العيد، والمفرد مثله سواء بسواء.

والأنساك الثلاثة جائزة عند جمهور العلماء كلها، ويختلفون في الأفضل، ومنهم من يوجب التمتع؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر به أصحابه، أمرهم به، وأكد وشدد، وتأسف على سوقه الهدي، فدل على أنه أفضل من غيره، وقد أوجبه بعضهم، ومنهم من يرى، وقد نقل عن بعض الصحابة، أن الفسخ فسخ الحج إلى العمرة خاص بهم في تلك السنة، لأنهم أحرموا بالحج فأمرهم أن يفسخوا إلى العمرة، وقالوا: لا يجوز للإنسان أن يلتزم بشيء ينوي الدخول في شيء ولا يتمه، بل ينتقل منه إلى غيره؛ لكن لما قام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((بل لأبد الأبد)) فدل على أن المحرم له أن ينتقل إلى الأعلى من الأنساك دون العكس، فمن أحرم مفرداً، ثم لما وصل البيت وجد فيه فرصة أن يجعلها عمرة، ويتحلل منها ثم يحرم بالحج يوم التروية، كما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أصحابه هذا أكمل، له ذلك ما لم يكن حيلة، ما لم يكن عمله حيلة، كيف يكون عمله حيلة؟ يحرم مفرد أو قارن ولم يسق الهدي، ثم لما وصل البيت قال: النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة نحن نريد أن نجعلها عمرة، فيلبي بالعمرة ويطوف ويسعى ويقصر ثم يلبس ثيابه، ويقول: أنا الآن حللت من الإحرام الحل كله، ما الذي يلزمني بالحج، وأنا الآن حلال، يعني لو لم يكن هذا حيلة يعني لو أن شخصاً جاء بنية التمتع من بلده، وأحرم ابتداء بالعمرة، يعني هذه تختلف عن قلب النية، أحرم بعمرة ابتداء من الميقات، وطاف وسعى وقصر، رأى الزحام الشديد، أو أتصل عليه أهله قالوا: نحن بحاجة إليك، ضرورة ملحة، لا بد أن تحضر، ثم رجع إلى بلده، ما الذي يلزمه بالحج؟ فيما يلزمه؟ حل الحل كله، الحنابلة يلزمونه بأن يحج عن هذه السنة؛ لأنه جاء بهذه النية؛ لكن هل مجرد النية الناهزة له من بيته تكفي لإلزامه بالإتمام؟ يعني خرج للحج من الرياض مثلاً وصل الطائف ورجع، قال: ما أنا بحاج، من يلزمه؟ يعني ما بعد لبى، في أحد يلزمه بالحج؟ ما في أحد يلزمه بالحج، وهذا يقول: أنا حللت الحل كله، ما الذي يلزمه بالحج؟ نقول: إن كان عمله حيلة أحرم بحج أو قارن ثم قلبها عمرة ليتنصل من الحج ويرجع، نقول: لا، لا يجوز؛ لأنك انتقلت من الأعلى إلى الأدنى؛ لكن تنتقل من الأدنى إلى الأعلى كما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- صحابته هذا صحيح.

طالب:..........

إذا لبى بأحد الأنساك، ووصل البيت فإن كان قد لبى بالعمرة يقطع التلبية بمجرد رؤية البيت؛ ويبدأ بالطواف للعمرة، وإن كان قد لبى بالحج أو قارناً فإنه يطوف للقدوم -إن شاء- وهو سنة، والذي لبى للعمرة يطوف طواف العمرة، وهو ركن، فإذا انتهى من الطواف سواء كان المتمتع أو المفرد أو القارن للقدوم، وسعى بعده سعي الحج، وأما المتمتع يطوف للعمرة ويسعى للعمرة، وهما ركنان من أركان العمرة، إذا حصل الطواف للقدوم من القارن والمفرد أو للعمرة من المتمتع وانتهى منه على الوجه الشرعي بأن وصل إلى الركن الذي فيه الحجر فقبله أو استلمه بيده، وقبل يده، أو أشار إليه، بما معه من محجن أو غيره، وكبر مع ذلك، وجعل البيت عن يساره، وجاء بالأذكار الواردة، وطاف على البيت سبع مرات، يكبر كلما حاذى الركن، وقد جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كلما حاذى الركن كبر، إن تيسر له أن يستلم الركن اليماني استلمه، وإلا فلا يشير إليه، يستلمه ويستلم الركن الذي فيه الحجر؛ لأنهما على قواعد إبراهيم، وأما الركنان الشاميان فلا يستلمان؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، كلما حاذى الركن كبر، يفتتح طوافه بالتكبير، ويختتمه بالاستلام والتكبير، كنا نطوف مع النبي -عليه الصلاة والسلام- فنستلم الركن الفاتحة والخاتمة، النبي -عليه الصلاة والسلام- كلما حاذى الركن كبر، فدل على أنه يختم طوافه بالتكبير، ثم بعد ذلك يصلي ركعتي الطواف، خلف المقام، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما طاف للقدوم صلى الركعتين، بعد أن قرأ قول الله -جل وعلا-: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] وجعل المقام بينه وبين البيت، صلى ركعتين قرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [(1) سورة الكافرون] والثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [(1) سورة الإخلاص] وفي هذا الطواف -سواء كان للعمرة أو للقدوم- يسن الرمل والاضطباع، الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى، والاضطباع في جميع الطواف، ويرمل من الركن إلى الركن، وسبب المشروعية قول المشركين في عمرة القضاء: يقدم محمد وأصحابه، وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- صحابته بالرمل وهو الإسراع في المشي، مع تقارب الخطى ليري المشركين قوتهم، لا بد من إغاظة المشركين بمثل هذا، وفي عمرة القضاء مشى بين الركنين؛ لأن المشركين لا يرونه في جهة الحجر، وأما في حجة الوداع فقد استوعب الطواف بالرمل من الركن إلى الركن، وهذا هو الذي استقر عليه الأمر، ثم بعد الركعتين يرجع فيستلم الحجر، ثم بعد ذلك يخرج إلى الصفاء؛ ليسعى سعي العمرة إن كان متمتعاً، وسعي الحج إن كان مفرداً أو قارناً -إن شاء-، وإن أخره -أعني المفرد والقارن- إن أخرا السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة لهم ذلك، وإن تركا طواف القدوم فلا شيء عليهما؛ لأنه سنة، كما تقدم، ثم بعد ذلك إذا وصل إلى الصفاء قرأ قول الله -جل وعلا- قال كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((نبدأ بما بدأ الله به)) أو ابدأ، وفي رواية: (( ابدأوا أمر بما بدأ الله به)) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} [(158) سورة البقرة] ثم يستقبل البيت، ويهلل ويكبر ويدعو ثلاثاً، ثم يشرع في السعي إذا انصبت قدماه في بطن الوادي بين العلمين سعى سعياً شديداً، ثم يمشي بقية الشوط إلى أن يرقى إلى المروة، ويفعل فيها نظير ما فعل في الصفا، ومن الصفا إلى المروة شوط والرجوع من المروة إلى الصفا شوط آخر، خلافاً لمن قال: إن الذهاب والإياب شوط واحد؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- بدأ بالصفا وانتهى بالمروة، كيف ينتهي بالمروة والذهاب والإياب شوط واحد؟ لا يمكن فدل على أن الذهاب شوط، والرجوع شوط آخر، فإذا انتهى من السعي يبقى المفرد والقارن على إحرامه، ولا يقصر من شعره، وأما المتمتع يقصر من شعره، ويلبس ثيابه، ويحل الحل كله، فإذا كان يوم التروية أهل بالحج، المتمتع، وخرجوا جميعاً إلى منى، فصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكثوا حتى تطلع الشمس، ثم دفعوا إلى عرفة، ثم إن وصلوا إلى نمرة قبل الزوال، النبي -عليه الصلاة والسلام - وجد القبة قد ضربت له بنمرة، لما زالت الشمس رحلت له القصوى، فدفع إلى بطن عرنة، فخطب بها، وصلى الظهر والعصر جمع تقديم، بعد الخطبة، بأذان واحد وإقامتين، ثم دخل إلى الموقف بعرفة ووقف على ناقته....... الجبل عند الصخرات، استقبل القبلة والناس بين يديه -عليه الصلاة والسلام- ما زال واقفاً يدعو ويذكر الله، ويجيب عما يسأل عنه، ويأتسي به الناس، ويقتدون به، إلى أن غربت الشمس، وتحقق من مغيبها -عليه الصلاة والسلام-.

والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به، وأركان الحج: الإحرام نية الدخول في النسك والوقوف بعرفة، والثالث: طواف الإفاضة، والرابع: السعي، أربعة أركان للحج، ثم يقف بعرفة يدعو ويذكر الله -جل وعلا-، ويستغل هذا الوقت العظيم المبارك، الذي ينزل فيه من الرحمات ما لا يكون في غيره، وجاء في الحديث عند ابن ماجه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سأل الله -جل وعلا- أن يغفر لأهل الموقف، فقال الله -جل وعلا-: "قد فعلت إلا المظالم" يعني حقوق العباد، وفي المزدلفة بعد صلاة الصبح لما وقف على المشعر ودعا لأمته بعموم المغفرة، فقال: "قد فعلت" وهذا ذكره الحافظ ابن حجر شاهداً لحديث ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ويرى أن المغفرة تعم الكبائر والصغائر، وحديث ابن ماجه فيه ضعف، وأما تكفير الحج وغيره من العبادات للصغائر فأمر مستفيض في النصوص، أولاً: اجتناب الكبائر كفيل بتكفير الصغائر، {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [(31) سورة النساء] ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان)) وجاء أيضاً ((والعمرة إلى العمرة، كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر))، وفي رواية: ((ما لم تؤتَ كبيرة))، ولذا المرجح عند الجمهور أن هذه الأعمال على أنها أعمال عظيمة وجليلة لا تكفر الكبائر، بل الكبائر لا بد لها من توبة، أو رحمة أرحم الراحمين، فمرتكب الكبيرة تحت المشيئة، أما تكفير الكبائر بمجرد فعل هذه الأعمال لا، لا تكفر إلا الصغائر، وليس معنى هذا أن الإنسان يعتمد على مثل هذه النصوص، أحاديث الرجاء، ويسترسل في فعل المنكرات، واقتراف الكبائر والجرائم، ثم يقول: أحج وأرجع من ذنوبي كيوم ولدتني أمي، قد يقوله بعض الناس، ولذا جاء عند البخاري في كتاب الرقاق: ((من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، دخل من أي أبواب الجنة الثمانية، ولا تغتروا)) لا نغتر بنصوص الوعد، ونترك نصوص الوعيد، بعض الناس يسمع مثل قوله -عليه الصلاة والسلام- رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويقول الله -جل وعلا- غفور رحيم، ونحج وتحط عنا الأوزار، لكن من يضمن له أن يُوفق لترك ما اشترط للمغفرة، ((من حج فلم يرفث ولم يفسق)) من يضمن لهذا أن يوفق في ترك الرفث والفسوق، جاء في حديث ابن عباس: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) فالشخص الذي يحفظ نفسه في أيام الرخاء، يحفظ في حال الشدة؛ لكن الشخص الذي ديدنه وعادته وعمره كله مشغول بالقيل والقال، والوقوع في أعراض الناس، واللغو والرفث والفسوق والمجون والجدال العقيم، ثم بعد ذلك يقول: الحج أربعة أيام لو الإنسان يخيط الفم بالإبرة والخيط، أربعة أيام نستطيع، والله ما يستطيع ولا ساعة؛ إن تيسر له أحداً يأتي إليه وإلا هو ذهب يدور الناس، ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) أما إذا جاءك الأخيار، أهل التحري والتثبت، تستثقل مجالسهم، وتقول: أنا أريد أن أحفظ نفسي في أيام الشدة، لا، لا يمكن، كل إنسان حريصاً على أن تغفر ذنوبه؛ لكن ما الذي يوقع الناس عشية عرفة بالغيبة، إلا أنهم طول العام على هذا، هذا ديدنهم، فلا يوفقون لحفظ الأوقات الفاضلة، من طلاب العلم مع الأسف الشديد من يهجر القرآن، ويكون نصيبه من التلاوة إن جاء قبل الإقامة بخمس دقائق فتح المصحف وإلا ما هي إلا في رمضان، ثم بعد ذلك في العشر الأواخر يعتكف في أقدس البقاع ويترك الأهل والمال، وجميع الأعمال، يذهب إلى مكة ويعتكف في العشر الأواخر أو المدينة، من أجل إيش اعتكف؟ من أجل أن يتعبد، ويفعل ما يقربه إلى الله -جل وعلا- لكنه في طول العام مفرط في حق القرآن، هاجر للقرآن، هل يوفق لقراءة القرآن؟ هذا يا إخوان رأينا من يجلس من صلاة العصر في مكان إلى أن يؤذن المغرب فيفطر ويطلع خلال ساعتين كم يقرأ من القرآن يفتح القرآن دقيقة دقيقتين، ثم يمل، ما تعود، ثم تلفت يمين وإلا يسار، يطبق المصحف، ثم يضعه بجانبه، ثم يفعل ذلك مرة ثانية، ثم يمل، يتلفت لعل الله -جل وعلا- أن ييسر له من يوسع صدره على ما قال، إن جاءوا وإلا هو ذهب يبحث عن الناس، ترى هذا الحاصل يا إخوان، إنما يوجد من طلاب العلم -ولله الحمد- من يختفي في مكان بحيث لا يرى؛ لكي يقرأ ما قرره وحدده من القرآن؛ لأن هذا ديدنه طول عمره، وفي الحديث: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) تظن أنك توفق وتعان وأنت طول العام مفرط، لا، ما يمكن.

فعلى الإنسان أن يحفظ نفسه، وإذا كسب شيئاً من الأعمال عليه أن يحافظ عليها؛ لئلا يكون مفلساً كما في الحديث الصحيح: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: ((المفلس من لا درهم له ولا متاع)) وهذه حقيقة شرعية للمفلس، في باب الحجر والتفليس، المفلس ما عنده دراهم، أو تكون ديونه أكثر من أمواله، قال: ((المفلس من يأتي بأعمال)) وفي رواية: ((أمثال الجبال)) من صلاة، وصيام، وصدقة، وأمر بمعروف، وجهاد، وغيرها من الأعمال الصالحة، أمثال الجبال، ثم بعد ذلك يأتي مبذر ومبعثر لهذه الأعمال، يأتي وقد ضرب هذا، شتم هذا، أخذ من مال هذا، انتهك عرض هذا، فعل كذا، يأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، إلى آخره إلى أن تنتهي، فإن انتهى ما عليه من المظالم، وإلا أخذ من سيئاتهم، ونكتت عليه، هذا المفلس حقيقة، فالإنسان إذا كسب شيئاً من الأعمال الصالحة عليه أن يحافظ عليها.

يقف بعرفة، وعرفنا أن الوقوف بعرفة هو الركن الثاني من أركان الحج، إلى أن تغرب الشمس، وعليه أن يستغل هذه الأوقات، ويوجد من يفرط في هذه الأوقات من ينام في الأوقات الفاضلة طول العام تجده فعلاً يغلب عليه النوم في وقت النزول عشية عرفة، الذي شغل وقته طول العام بالقيل والقال كذلك، وبعض الإخوان لا سيما في الحملات الجماعية تجدهم يشغلون هذا الوقت الذي هو أنفس الأوقات بترتيب الناس في الباصات، وأنت يا فلان، قم يا فلان، أنت رقم كذا، أنت كذا، إلى أن تغيب الشمس، هذا أيضاً حرمان، يعني الأمور يمكن أن ترتب بأقل من هذا؛ لكن منهم في ليلة مزدلفة يوقظون الناس من الساعة الحادية عشرة، باقي كم على الصبح؟ بقي ست ساعات، نعم، ويوقظونهم ويصفونهم في الباصات، والناس نيام قدامهم، ما هم ماشيين أيضاً، لكن العجلة طبع لكثير من الناس، فيحرم الحجاج بهذه الطريقة من استغلال هذه الأوقات، فعلى من تولى حملة أو تعهد للناس بالحج أن ييسر لهم أمور عبادتهم، ويمكنهم ويعينهم على ما يقربهم إلى الله -جل وعلا-، ويمكنهم من فعل السنن، فضلاً عن الواجبات والأركان، وبعضهم يتسمح ويترخص، والسنن هذه في الغالب يعني قد يقال: أنها في مثل هذه الظروف التي نعيشها، وقد لا تتيسر لكثير من الناس؛ لكن على المسلم أن يحرص عليها، إذا حرص عليها ولم يتمكن من فعلها كتبت له، الآن الواجبات بدأوا يترخصون ويتساهلون فيها، والتساهل لا نهاية له، إذا تساهلت في المستحبات يجرك هذا إلى التساهل في الواجبات، ثم بعد ذلك تتساهل بما فوقها، وقل مثل هذا في فعل المباحات، من استرسل في فعل المباحات تجره إلى المكروهات؛ لأنه يعود نفسه على أشياء لا تتيسر له في كل وقت، إلا بطريق فيه ما فيه، لا يقال: حرام، ثم بعد ذلك يتجاوز، يقول: مكروه ما فيه إثم سهل، ثم بعد ذلك إذا لم يجدها إلا في طريق فيه شبهة قوية يرتكبها ثم بعد ذلك يتجاوز إلى المحرم، ولذا عرف من عادة السلف في هذه الأمة أنهم يتركون تسعة أعشار الحلال خشية أن يقعوا في الحرام، وهذه هي الشبهات التي يتقيها الإنسان من أجل إيش؟ أن يجعل بينه وبين ما حرم الله -جل وعلا- حاجز، يجعل حاجز لئلا ينتهك ما حرم الله -جل وعلا-، وهنا يكون الاستبراء للدين والعرض.

إذا غابت الشمس دفع إلى مزدلفة بسكينة، النبي -عليه الصلاة والسلام- دفع بعد أن تأكد من مغيب الشمس، دفع وقد شنق للقصواء الزمام، يعني رد الحبل الذي تقاد به إليه بقوة، بحيث لا تسرع، ويشير إلى الناس بيده اليمنى السكينة السكينة، ومن نظر إلى الناس حال انصرافهم، وجد خلاف السنة، وجد الهوج والطيش والسرعة الجنونية، وأبواق السيارات والحوادث، كل هذا من شؤم مخالفة النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم بعد ذلك إذا وصل مزدلفة يصلي المغرب والعشاء جمعاً بأذان واحد وإقامتين، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما صلى نام اضطجع حتى أصبح، يعني حتى طلع الصبح، ولذا يستنبط بعضهم من هذا أنه لم يوتر في تلك الليلة؛ لكن لعلها الوتر هذا مما لم يذكره جابر للعلم به، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يترك الوتر لا سفراً ولا حضراً، وخفي على جابر -رضي الله عنه- أنه رخص لبعض الناس، ولم يذكره جابر، فلعل هذا مما فاته، لما أصبح قام -عليه الصلاة والسلام- استيقظ، وصلى الصبح في أول وقتها، ثم وقف في المشعر الحرام الجبل الذي يسمونه قزح، وقف يدعو، ويذكر الله -جل وعلا- إلى أن أسفر جداً، وقبل طلوع الشمس دفع إلى منى، يجوز للضعفة أن ينصرفوا من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل، فقد استأذنت سودة أن تنصرف فأذن لها، وأسماء باتت تلك الليلة ترقب القمر وتصلي، إلى أن غاب ثم دفعت، قبل طلوع الصبح، قبل صلاة الصبح.

فالدفع من مزدلفة بعد منتصف الليل يجوزه الجمهور؛ لأنه مكث غالب الليل، وأما بالنسبة للضعفة فلا إشكال فيه، وأما المستطيع فالأفضل له الاتباع، بأن يصلي صلاة الصبح بمزدلفة، ويقف عند المشعر، ويذكر الله حتى يسفر، وقبل أن تطلع الشمس من باب مخالفة المشركين يدفع قبل أن تطلع الشمس، المشركون لا يدفعون حتى تطلع الشمس، ويقولون: "أشرق ثبير كيما نغير" ثم إذا وصل منى بادر برمي الجمرة، ولا يزال يلبي، ومنهم الملبي، ومنهم المكبر، ولا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا، فإذا بلغ الجمرة -جمرة العقبة- وهي الأخيرة بالنسبة لمنى، وهي حد بين مكة ومنى، ومنهم من يقول: أنها من مكة، ومنهم من يقول: إنها من منى، فإذا بلغها قطع التلبية، ورماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف، يكبر مع كل حصى، حصى الخذف مثل حب الباقلاء بين الحمص والبندق، حصيات صغيرة، ورفعا النبي -عليه الصلاة والسلام- بيده الكريمة، وقال: ((بمثلها فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) ويلاحظ من بعض الحجاج –لجهلهم- من يرمي بالأحجار الكبيرة، ومنهم من يرمي بالنعال، ومنهم من يأخذ العصا ويجلد الشاخص ويسبه ويشتمه، زاعماً أنه هو الذي فرق بينه وبين زوجته، يسمعون الشيطان الشيطان، الاتباع الاتباع، فإذا رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق شعره، نحر الهدي إن كان معه هدي، أو ممن يلزمه الهدي من متمتع وقارن، وحلق شعره، حل له كل شيء إلا النساء، على خلاف فيما يحصل به التحلل الأول، هل يحصل بالرمي فقط؟ وهل يشترط أن يكون معه الحلق أو لا؟ مسألة خلافية بين أهل العلم ولكل من القولين أدلته، وهو الأحوط أن لا يحل حتى يحلق، ثم بعد ذلك يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الإفاضة، وهو الركن الثالث، ويسعى بعده المتمتع سعي الحج، والقارن والمفرد إن لم يكونا سعيا بعد طواف القدوم، والسعي ركن من أركان الحج عند الجمهور، خلافاً للحنفية، لا يتم الحج إلا به، وبهذا تكون أركان الحج قد تمت، وحل له كل شيء حتى النساء، بعد أن أدى الأركان الأربعة، ورمى وحلق.

أعمال يوم النحر على الترتيب الرمي، ثم النح، ثم الحلق، ثم الطواف والسعي، هذه الأعمال -أعمال ذلك اليوم- هذا الترتيب هو الأفضل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها كذلك؛ لكنه سئل عمن رمى قبل أن يحلق، ومن حلق قبل أن يرمي، ومن نحر قبل أن يحلق، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: ((افعل ولا حرج)) فيجوز تقديم بعضها على بعض؛ لكن الأفضل ترتيبها على ما أثر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما أفاض طاف، صلى الظهر بمكة، ثم أتى زمزم، ووجد بني عبد المطلب يسقون، وحثهم على السقي، سقي الحجيج، لما فيه من عظيم الأجر، ولولا أن يغلبهم الناس على سقايتهم لنزع معهم -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن كل مسلم يريد أن يقتدي بالنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لكن لما لم يفعل هان الأمر، واستقلوا به، واختصوا به، ثم بعد ذلك رجع إلى منى ثم صلى بهم الظهر ثانية -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه وجدهم لم يصلوا فصلى بهم، وهذا هو الجمع بين الحديثين الصحيحين، أحدهما يقول: صلى الظهر بمنى، والآخر يقول: صلى الظهر بمكة، وهو محمول على هذا أنه صلى بمكة ثم أعادها نفلاً بالنسبة له بمنى، وبات بمنى ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، والمبيت بمنى من واجبات الحج، كما أن الرمي والحلق من واجبات الحج، الركن لا يتم الحج إلا به، لا بد من الإتيان به، والواجب عند عامة أهل العلم يجبر بدم، اعتماداً على قول ابن عباس: "من ترك نسكه فليرق دماً".

يبيت ليالي التشريق الحادي عشر، والثاني عشر إن تعجل، والثالث عشر إن تأخر، ويرمي في الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس؛ فكانوا يتحينون الزوال، والنبي -عليه الصلاة والسلام- رمى يوم العيد ضحى، وأيام التشريق بعد الزوال، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) فالجمهور على أنه لا يصح الرمي إلا بعد الزوال، ويذكر عن عطاء وطاووس أنه يجوز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق كلها، وأبو حنيفة يجوزه يوم النفر للحاجة؛ لكن المرجح قول الجمهور، وهو الذي عليه الدليل يرمي الجمرات الثلاث، يرمي الصغرى بسبع حصيات، ثم يرمي الوسطى، إذا رمى الصغرى يكبر مع كل حصاة، ثم يسهل قليلاً، ثم يدعو طويلاً بعدها، ثم يرمي الوسطى كذلك، ثم يدعو بعدها طويلاً، ثم يرمي العقبة فلا يقف بعدها، في اليوم الأول والثاني إن تعجل اكتفى بهذا، على أن يخرج من منى قبل غروب الشمس، وإن تأخر رمى الثالث كذلك، والنبي -عليه الصلاة والسلام- تأخر، والله -جل وعلا- يقول: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [(203) سورة البقرة] قوله: {لِمَنِ اتَّقَى} يعود على المتأخر أو على المتعجل؟

طالب:........

يتعقب الجملتين، الجار والمجرور تعقب جملتين، من تعجل ومن تأخر، فهل تعود إلى الجملة الأخيرة فقط أو تتعلق بالجملة الأولى فقط أو إلى الجملتين معاً؟

طالب:........

نعم إلى الجملتين، هذا مطرد وإلا غير مطرد؟ نعم غير مطرد، يعني هناك وصف واستثناء، يتعقب جمل، هل يعود إلى الأخيرة فقط أو إلى الجميع؟ أو إلى الأخيرة والتي قبلها فقط دون الأولى؟ أو إلى أي شيء؟ هل هناك ضابط يضبط هذه الأمور؟ المثال الواضح مثلاً في القذف حد القاذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(4-5) سورة النــور] الاستثناء يعود إلى الجمل الثلاث؟ أو إلى الأخيرة فقط؟ أما كونه يرفع الحد {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يعني لا تجلدوهم ثمانين هذا لم يقل به أحد، فلا يعود إلى الجملة الأولى، وكونه يعود إلى الجملة الأخيرة اتفاق، الخلاف في الجملة الوسطى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} فمن تاب بعد القذف توبة نصوح بشروطها تقبل شهادته أو لا تقبل؟ هذا محل الخلاف وعندنا {لِمَنِ اتَّقَى} [(203) سورة البقرة] هل يعود إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجملتين؟ يعني اشتراط التقوى هل الأولى به من تأخر أو من تعجل؟ أو هما معاً كلهم لا بد من التقوى؟ كلهم، نعم صحيح، كل منهم مطالب بالتقوى، وعلى هذا يكون معنى الآية: أن من تعجل في يومين وقد اتقى الله -جل وعلا- في حجه لا إثم عليه، يعني ارتفع الإثم عنه بهذا الحج الذي اتقى الله فيه، ومن تأخر فزاد ثالثاً، واتقى الله في حجه فقد ارتفع عنه الإثم، وحينئذ من خلال هذه الآية يظهر تفضيل التأخير أو التعجل؟ أو ما يظهر شيء؟ ما يظهر شيء، لأن من تعجل واتقى الله -عز وجل- ارتفع عنه الإثم، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن تأخر واتقى الله -جل وعلا- فلا إثم عليه، ارتفع عنه الإثم على حد سواء؛ لكن تفضيل التأخير من فعله -عليه الصلاة والسلام-، وما كان الله أن يختار لنبيه إلا الأفضل، فالتأخير أفضل لأن الله -جل وعلا- اختاره لنبيه، وأما الآية فتدل على أن الإثم مرتفع عن الحاج إذا اتقى الله -جل وعلا-، سواء تعجل أو تأخر، وتكون الآية حينئذ بمعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) وبهذا يكون الحج قد ترتبت عليه آثاره من المغفرة، إذا ارتفع عنه إثمه فقد غفر له بهذا الشرط الذي هو التقوى، والصيام الذي يباعد الله به وجه صاحبه عن النار سبعين خريفاً هو الذي يورث التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] يعني ما الفائدة من حج تنتهك فيه المحرمات، ويتطلع فيه إلى الغرات، أو صيام لا يصان عن الكذب والغيبة والنميمة والبهت وأكل أموال الناس؛ والوقوع في أعراضهم، نعم، ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) وما الفائدة من صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فالعبادة التي تترتب عليها آثارها، وتمحى بها الذنوب هي المصاحبة للتقوى، نعم هذه الأعمال إذا أديت ولو ارتكب صاحبها محرماً لا يتعلق بأصل الحج، ولا بشرطه، العبادة صحيحة، بمعنى أنها مسقطة للطلب، لا يؤمر بإعادتها، وكذلك الصلاة، وكذلك الصيام، عبادات مسقطة مجزية، مسقطة للطلب؛ لكن هل تترتب عليها آثار؟ هي مقبولة عند الله -جل وعلا-؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة] الشخص الذي يرجع من صلاته بعشرها مثلاً، هل يرجى بمثل هذه الصلاة أن تكفر ما بينها من الذنوب؟ العبادات المكفرة هي التي يؤتى بها على الوجه المطلوب.

شيخ الإسلام يقول: شخص يصلي بصلاة لا يرجع إلا بعشر أجرها، هذه إن كفرت نفسها بركة، يكفي أنها تكفر نفسها، والله -جل وعلا- إنما يتقبل من المتقين، والمراد بنفي القبول هنا نفي الثواب المرتب على العبادة، لا نفي الصحة، الصلاة صحيحة، فلا يؤمر بإعادتها، وقل مثل هذا في الصيام والحج وغيرها من العبادات.

إذا انتهى فعليه أن يطوف للوداع، فهو واجب من واجبات الحج، ثبت الأمر به، بعد أن أتم الحج، وخُفف عن الحائض والنفساء، وأعفين من طواف الوداع، وهذا دليل على وجوبه، إذ لو كان سنة لما احتاجت الحائض والنفساء أن يخفف عنهم، وليس بركن؛ لأن الركن لا يعفى عنه أحد، فدل على أنه واجب من واجبات الحج، وكونه -عليه الصلاة والسلام- يأمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة، اعتمر النبي -عليه الصلاة والسلام- عُمَر، ولم يثبت عنه أنه أمر بالوداع بعد العمرة، دل على أنه من واجبات الحج دون العمرة، وهذا قول الأكثر، وهو الظاهر.

فإذا طاف للوداع سافر، ورجع إلى أهله، بعد أن حرص على أداء الحج على الوجه الشرعي بشروطه وأركانه وواجباته وسننه؛ وحرص على أن يكون حجه مبروراً، ثم بعد ذلك تكون حاله بعد الحج أفضل من حاله قبله؛ ليكون ذلك برهاناً على بر هذا الحج، وقبوله من عند الله -جل وعلا-، بعض الناس يسعى بعد طواف القدوم، وهو مفرد أو قارن، ثم لا يبقى عليه إلا طواف الإفاضة، والسعي انتهى منه يؤخره إلى قرب مغادرته إلى أهله ويكتفي به عن طواف الوداع، وهذا صحيح؛ لأنه لا حد لآخر وقت طواف الإفاضة، وإن كان السنة أن يكون في يوم العيد؛ لكن إن أخره واكتفى به عن طواف الوداع أجزأه على أن ينوي به طواف الإفاضة، وتدخل العبادة الصغرى بالكبرى، كما هي القاعدة المقررة عند أهل العلم.

بعض الناس يكون عليه طواف وسعي، مثل المتمتع، ويريد أن يؤخر الطواف والسعي إلى وقت مغادرته ويكتفي به عن طواف الوداع، والأصل أن يجعل آخر عهده بالبيت، والبيت المراد به الكعبة، والسعي ليس من البيت، والمقرر أن المسعى خارج المسجد، فضلاً عن البيت، البيت المراد به الكعبة، فهل يقدم السعي ويؤخر الطواف ليكون آخر عهده بالبيت؟ أو يطوف ثم يسعى ويخرج؟ أو يلزمه أن يطوف للوداع؟ الأصل أن يطوف للإفاضة، ثم يسعى للحج، ثم يوادع هذا الأصل؛ لكن إذا كان طواف الإفاضة ما حصل إلا بشق الأنفس، هل يلزم بإعادة الطواف؟ نقول: يتجاوز الله -جل وعلا- لقرب عهدك بالبيت، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ما أمر عائشة لما طافت وسعت للعمرة، ما حفظ أنه قال: وادعتي أو ما وادعتي؟ أو نقول له كما جاء في حديث أسامة بن الشريك: "سعيت قبل أن أطوف" قال: ((افعل ولا حرج)) يقدم السعي ثم يطوف للإفاضة ويمشي، هنا الترتيب لا شك أنه أكمل، وجمع من أهل العلم يرون أن السعي لا يصح إلا بعد طواف، من شرط صحة السعي أن يقع بعد طواف، ولو مسنوناً، وعلى هذا نقول: رتب، تطوف للإفاضة وتسعى، إن كان فيه متسع تطوف للوداع وإلا فلقرب العهد الله -جل وعلا- يعفو عنك، وليحرص المسلم إذا عاد من حجه أن يبرهن على أن حجه مقبولاً مبروراً بأن تكون حاله بعد ذلك أفضل من حاله قبل.

يا إخوان عنوان المحاضرة كبير جداً، يحتاج إلى محاضرات؛ لكن لمّ الأطراف بهذه المدة اليسيرة لعله يكفي، والمناسك موجودة مطبوعة ومسجلة ومسموعة ومفصلة من قبل أهل العلم، يعني كل شيء متيسر، ولله الحمد.

طالب........

إيه هذا من قبل الصحابة، إذا فهم الصحابي، هذا الذي ذكرته أنا، أن بعض الصحابة فهم أنها لهم خاصة.

طالب........

صحيح مسلم، (لنا خاصة) هذا فهم الصحابي، أنها لهم خاصة، (بل لأبد الأبد) هذا من قوله -عليه الصلاة والسلام- وين أنت؟ هذه تحتاج إلى......

طالب........

هذه في  الحج.

طالب........

هذه للحج، لو أجيب عليها تحتاج إلى مجلد؛ لكن الوقت ضيق.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.