كتاب الصلاة (27)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجَمَعين.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا وارفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا وعملًا، اللهم اغْفر لنا ولشيخنا، قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-:

"بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي المَقَابِرِ.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»".

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ ورسولِهِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصَحْابِهِ أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-:

"بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي المَقَابِرِ".

كراهية الصلاة في المقابر، والكراهية مع النهي الذي الأصل فيه التحريم، يراد بها كراهة التحريم، وإطلاق الكراهة على التحريم مستفيض شائع في النصوص، فقد يستغل من يستغل مثل هذا اللفظ أو مثل هذه الترجمة من صحيح البخاري على الكراهة التي اصطلح عليها المتأخرون من أنها كراهة تنزيه بحيث لا يأثم فاعلها، والحقيقة أنها كراهة تحريم، «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا».

والمنع من الصلاة في المقابر؛ لأنها وسيلة إلى الشرك، قال بعضهم: إنها لما اشتملت عليه من دماء الموتى وصديدهم، وفرَّقوا بين ما كانت المقبرة منبوشة أو غير منبوشة، المقبرة المنبوشة لا شك أنها اختلطت بالدم والصديد، وغير المنبوشة كأنها مغطاة، النجاسة هذه التي يزعمونها كأنها مغطاة فلا إشكال فيها.

والنظر في هذه المسألة لا من جهة النجاسة الحسية، وإنما النظر فيها إلى نجاسة الشرك المعنوية، وهذه من وسائله، وجاء التشديد في ذلك، ولو كانت المسألة من مسألة نجاسة أولًا المسلم لا ينجس بالموت، عموم الآدمي لا ينجس بالموت، والمسلم من باب أوْلى، فالقول بأن العلة النجاسة الحسية الناشئة عن نجاسة الأموات وصديدهم هذا قولٌ لا وجه له، وهو معروفٌ عند الشافعية، ولذلك يفرقون بين المقبرة المنبوشة فتمنع الصلاة فيها، وغير المنبوشة فلا مانع من الصلاة فيها.

ولكن العلَّة الحقيقية للمنع من الصلاة في المقابر، واتخاذ القبور في المساجد ليس لهذا، وإنما الأمر أعظم من ذلك، الأمر يتعلق بأصل الدين وهو الاعتقاد، ومن أراد أن يعرف حقيقة الحال فلينظر ما هو موجود في كثير من أقطار المسلمين من وجود القبور في المساجد، إلى أن وصل الأمر إلى الطواف بهذه القبور، ودعاء الأموات، وسؤالهم الحاجات الذي هو الشرك الأكبر؛ لأن هذه الوسائل لا شك أنها تفضي إلى أعظم من ذلك، والعلماء شدَّدُوا في هذا الباب؛ لما يأول إليه مما يناقض أصل الدين من الشرك الأكبر.

كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي المَقَابِرِ.

قال -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

"حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ" ابن مسرهد.

قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى" وهو القطان.

"عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ" مولى ابن عمر.

"عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِىَ الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ»".

يعني بعض صلاتكم، وجاء البيان في الحديث الصحيح «أَفْضَلَ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ»؛ لأن بعضهم رأى أن هذا النص يتناول بعض المكتوبات، وهذا كلام ليس بصحيح، الأصل في الصلاة حيث ينادى بها، وهي المساجد بالنسبة للمفروضات، وأما النوافل فيُجعل منها في البيوت مما تترتب عليه المصالح الكثيرة التي منها عدم تشبيهها بالقبور أو المقابر التي لا يصلى فيها، وفيها اقتداء بالنساء والذراري بمن يصلي عندهم من أولياء أمورهم، فيتعلمون الصلاة منهم، بحيث لو كان الشخص لا يصلي في بيته شيئًا لا إشكال، كثير من النساء لاسيما قبل وقتنا هذا الذي شاع فيه العلم والتعليم، وتساوى فيه الرجال والنساء، قبل كان يعيش الناس في جهل، لكن من حكمة الشارع أن أمر بجعل بعض الصلاة في البيوت من أجل الاقتداء، ومعرفة الصلاة بالقدوة. والتعليم بالعمل أبلغ من التعليم بالقول.

اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ، وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»".

هذا دليلٌ على أن القبور المراد بها المقابر كما ترجم البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ- وجاء في اللفظ من ألفاظ الحديث بلفظ المقابر، الإمام البخاري ترجم الصلاة في المقابر، «وَلاَ تَجْعَلُوهَا قُبُورًا» أو «لاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»، القبر المعروف الذي هو الحفرة التي يُدفن فيها الشخص ليست محلًّا للصلاة، وبعضهم يميل إلى أن اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تعطِّلوها عن الصلاة، وتعطيل الصلاة تعطيلٌ للذكر، والذي يذكر الله كالحي، والذي لا يذكر الله كالميت، جنح إلى مثل هذا، وهو مأخذٌ بعيد.

نعم.

"قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

قَوْلُهُ: بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ.

اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا" أَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْعِبَادَةِ، فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةً، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ»، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَحكم مَعَ ذَلِك بِصِحَّتِهِ الْحَاكِم وابن حِبَّانَ".

وقد عُرِفَا بالتساهل -رَحِمَهُمُا اللَّهُ- ومادام في السنن ورجاله ثقات فأقل أحواله الحسن، وأما تصحيح الحاكم وابن حِبَّان فلما عُرف عنهما من التساهل، الحاكم وابن حِبَّان.

"قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ وَعُبَيْدُ الله هُوَ بن عُمَرَ الْعُمَرِيُّ قَوْلُهُ: "مِنْ صَلَاتِكُمْ" قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ النَّوَافِلُ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صِلَاتِهِ»".

«إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ» إذا قضى وانتهى وفرغ من الفريضة، فليجعل من صلاته في بيته، يعني النافلة، وأصرح منه: «أَفْضَلَ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ» دلَّ على أن المكتوبة تُصلى حيث يُنادى بها في المسجد.

"قُلْتُ: وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: اجْعَلُوا بَعْضَ فَرَائِضِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ؛ لِيَقْتَدِيَ بِكُمْ مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ نِسْوَةٍ وَغَيْرِهِنَّ".

والاقتداء يحصل بالنوافل.

"وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الرَّاجِحُ، وَقَدْ بَالَغَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ".

يعني النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ-.

"فَقَالَ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْفَرِيضَةِ".

نعم؛ للنصوص الصريحة الدَّالة على أن الفريضة في المسجد، والتشديد في حضور الجماعة معروف في النصوص الصحيحة الصريحة.

"وَقَدْ نَازَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْقَبْرِ لَا فِي الْمَقَابِرِ".

لفظ مسلم: «وَلاَ تَجْعَلُوهَا مَقَابِر»، بلفظ الترجمة.

"قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْمَقَابِرِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِر»، وَقَالَ ابن التِّينِ: تَأَوَّلَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ، وَتَأَوَّلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا فِيهِ النَّدْبُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ؛ إِذِ الْمَوْتَى لَا يُصَلُّونَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَكُونُوا كَالْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَهِيَ الْقُبُورُ".

قَالَ: فَأَمَّا جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ أَوِ الْمَنْعِ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ، قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَلَا فَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ اسْتِنْبَاطِهِ".

قريبًا تقدَّم، قريبًا ليس ببعيد.

طالب: في باب نبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانه مسجدًا.

أيْ نعم.

الطالب: قوله: "وما يكره من الصلاة في القبور"‏‏ يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين، حديث رأى عمر أنس.

ورأى عمر أنس بن مالك، يصلي عند قبرٍ فقال له: القبر القبر، قريبًا تقدَّم، ثلاثة أبواب أو أربعة، لكن طول العهد؛ لأن المدَّة طالت أكثر من خمسة أشهر.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِلْمَطَالِعِ: إِنَّ تَأْوِيلَ الْبُخَارِيِّ مَرْجُوحٌ.

النهاية لابن الأثير، والمطالع؟

طالب: .....

رددناه كثيرًا لكن، وقد طبع أخيرًا.

طالب: .......

لابن قرقول، وطُبع أخيرًا، وإن كان أصله طُبعَ قديمًا في مصر والمغرب الذي هو مشارق الأنوار للقاضي عِياض.

"قال: وَالْأَوْلَى قَوْلُ".

إِنَّ تَأْوِيل.

"إِنَّ تَأْوِيلَ الْبُخَارِيِّ مَرْجُوحٌ، وَالْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أنَّ الْمَيِّتَ لَا يُصَلَّى فِي قَبْرِهِ، وَقد نقل ابن الْمُنْذِرِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَقْبَرَةَ لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَالْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: يَحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ وَطَنًا لِلنَّوْمِ فَقَطْ لَا تُصَلُّونَ فِيهَا فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَالْمَيِّتَ لَا يُصَلِّي".

كُلَّ هذه التأويلات خلاف الظاهر.

"وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: حَاصِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ".

التُّورْبَشْتِيُّ له شرحٌ على المشكاة، مُحقق رسائل، وطبع منه جزء قديمًا.

"حَاصِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ فَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْمَاضِيَةَ، وَرَابِعُهَا يَحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي بَيْتِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ، وَبَيْتَهُ كَالْقَبْرِ.

 قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ».

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى فِي الْبُيُوتِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ دُفِنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ.

 قُلْتُ: مَا ادَّعَى أَنَّهُ تَأْوِيلٌ هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ جَعَلَ النَّهْيَ حُكْمًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْأَمْرِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى رَدِّهِ تَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ.

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يموتون.

 قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابن ماجه مَعَ حَدِيث ابن عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ»، وَفِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ الصَّحَابِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضَيَ الله عنه- أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: فَأَيْنَ يُدْفَنُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَبَضَ اللَّهُ فِيهِ رُوحَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَالَّذِي قَبْلَهُ أَصْرَحُ فِي الْمَقْصُودِ.

الذي قبله على ما قيل فيه من ضعف أصرح في المقصود، وهو أيضًا مرفوع.

"وَإِذَا حُمِلَ دَفْنُهُ فِي بَيْتِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَمْ يَبْعُدْ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَّجَهٌ؛ لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ رُبَّمَا صَيَّرَهَا مَقَابِرَ، فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةً، وَلَفْظُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ»، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

نعم، قالوا للخروج من الإشكال قالوا: إنَّ دفنه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في بيته من خصائصه، وهذا ليس به شيء.

طالب: عفا الله عنك، مَا مُرادُهُ: "وَلَا سِيَّمَا إِنْ جَعَلَ النَّهْيَ حُكْمًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْأَمْرِ"؟.

الحديث مشتمل «اجْعَلُوا»، «وَلاَ تَتَّخِذُوا»، إذا كان الحكم في النهي «وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»، منفصلًا عن قوله: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ»، هذا أمر وهذا نهي..

طالب: يراد ......

وَلَا سِيَّمَا إِنْ جَعَلَ النَّهْيَ حُكْمًا مُنْفَصِلًا.

طالب: حُكْمًا مُنْفَصِلًا عن الأمر.

طالب: هي مرتبطة ......

طالب: يرد يا شيخ على صاحب النهاية، إِنَّ تَأْوِيلَ الْبُخَارِيِّ مَرْجُوحٌ.

نعم.

الطالب: نعم، ردَّ عليه قال: من ادَّعى أنَّه تأويل هو ظاهر لفظ الحديث.

صح، صاحب النهاية والمطالع، قالا: إنه تأويل، تأويل البخاري مرجوح، لكن ردَّ عليه بأن هذا ظاهر اللفظ.

قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-:

"بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ.

وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَرِهَ الصَّلاَةَ بِخَسْفِ بَابِلَ.

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ»".

قال -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:

"بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ".

في مواضع الخسف هو الذهاب والحفر في الأرض، هذا الخسف، والعذاب أعم من الخسف، وهو من عطف العام على الخاص.

الصلاة في مواضع الخسف لا شك أن هذه مواضع غضب من غضب الله- جَلَّ وعلا-، ولا يُصلى فيها؛ لأنها إن لم تصاحب ما أشار إليه النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من البكاء، خُشيَ من أن يصيب الداخل والمصلي ما أصاب أولئك، لاسيما وأنه يرى عذاب الذين ظلموا ولم يتأثر قلبه، ولم يخشع، ولم يلتفت إلى ربه! هذا قلبٌ قاسٍ، مستحق للعقوبة، نسأل الله العافية، فمثل هذا يبعث على حضور القلب، والخشية لله تعالى، وخوف العذاب الذي عُذِّب به هؤلاء الظلمة، فإن لم يتأثر فهو ظالمٌ لنفسه بلا شك، ويستحق العذاب حينئذٍ.

ويُذكر أن عليًّا -رضي الله عنه- وفيه ضعف، وهو ظاهر من تصديره بصيغة التمريض "كَرِهَ الصَّلاَةَ بِخَسْفِ بَابِلَ".

بابل: ناحية في العراق، وينسب إليها السحر المعروف، الوارد في الآية، في آية البقرة {..بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ..}[البقرة:102].

قال -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

"حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ".

المعروف بابن أبي أويس، ابن أخت مالك.

"قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ".

والجادة أن الإمام مالكًا لا يُحدِّثُ أحدًا، ولا يقرأ على أحد، بل يُقرأ عليه، فتبعًا لذلك الصيغة المناسبة أن يقول: أخبرني مالك.

الطبعة الأصلية قال: حدثني مالك، من الصيغ، مع أن البخاري ما يُدقق في هذه الصيغ، ما يدقق، ليس مثل مسلم أو غيره من الأئمة الذين يُفرِّقون بين صيغ الأداء بدقة، وعلى كل حال المعنى واضح.

"قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ»".

وجاء النعي على مَنْ دخل بيوتهم وسكن مساكنهم، {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ..}[إبراهيم:45]، يعني أين القلوب؟! ترى مكانًا عُذِّب فيه أناس؛ بسبب بعدهم عن الله- جَلَّ وعَلَا-، وارتكابه لحرماته، وتركه لأوامره وعُذِّبوا؛ لأن الإنسان قد يَغْفُل، لكن إذا حصلت العقوبة، ولم يحضر القلب فلا شك أن هذا القلب ميِّت، وجاء أحاديث وآثار في آخر الزمان تدلُّ على أن الناس يُعاقبون بالمسخ والخسف على مستوى الأفراد والجماعات، ومع ذلك يوجد من لا يتأثر، ولا يرفع بذلك رأسًا.

وقد ذكر ابن القيِّم في إغاثة اللهفان أن الرجلين يذهبان إلى معصية فيُمسخ أحدهما خنزيرًا، ويمضي الثاني إلى معصيته، نسأل الله العافية، هذا ميِّت.

وما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ.

الميت لو تجرحه بفأس ما تأثر، فهذا مثله: وما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ.

"«لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»".

يعني مع التأثر والخشية لله -جَلَّ وعلا- والخوف من عقابه أن يصيبك ما أصابهم، فليزم من ذلك أن تبكي من خشية الله.

"«فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ»".

لماذا لم تكونوا باكين؟! هل لما يوجد عندكم من غفلة؟!.

"«إِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ»".

لماذا لم يكونوا باكين؟ يعني الغفلة، قد يكون من الغفلة، يَعْزب القلب، والذهن لا يحضر، ثم لا يبكي الإنسان، وهذا في الأزمان المتأخرة كثيرٌ جدًّا، بخلاف عصر السلف، عصر السلف حضور القلوب والخشية من عذاب الله وعقابه حاضر، ولكن في الأزمان الأخيرة إلى أن يصل الأمر إلى ما قال ابن القيِّم، قد يدخل الإنسان في الصلاة ويخرج منها ما عقل منها شيئًا، بعض الناس ما ينتبه إلا إذا بكى الإمام، ينتبه أنه يصلي، ولا قبل ولا بعد ما فيه.

ولذا جاء في الحديث أنه «ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل»، يعني إذا حضر قلبه، وعقل من صلاته ما عقل هذا محل الأجر، وماعدا ذلك فما له أجر عليه.

إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ»".

احذروا؛ لأنها إذا ماتت القلوب حصل الظلم للنفس، والظلم موجِبٌ للعقوبة.

طالب: في لفظ  .....

يعني لو وجد زلزال في مكان معناه أننا لا ندخل هذا المحل؟ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هجر المكان الذي حضر فيه الشيطان، الذي حضر فيه الشيطان ونام فيه عن صلاة الصبح، فلمَّا قام -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- انتقل من المكان وقال: إنه حضر فيه الشيطان، فمثل هذه الأماكن التي ينالها شيءٌ من الشؤم بسبب التقصير والمعصية لا شك أنه مظنة، لكن لا يجزم بهذا.

طالب: ......

قلنا: إن الكراهة في عُرف السلف لا تعني الكراهة في اصطلاح المتأخرين، {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:38]، ماذا فيه من الذنوب والمعاصي؟

طالب: كبائر الذنوب.

إيْ، عظائم، وفيه الشرك.

طالب: ......

هو الأصل أن المكان طاهر، والنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كما سيأتي «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»، فما الذي يخرج هذه الأماكن من عموم الحديث؟ هذه النصوص، تخرجها من عموم الحديث، وكما سيأتي في الشرح عِندَ ابن عَبْد البر وابن حجر أنَّ الخصائص لا تقبل التخصيص، سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

"بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ.

أَيْ: مَا حُكْمُهَا.

وَذِكْرُ الْعَذَابِ بَعْدَ الْخَسْفِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ.

قَوْلُهُ: "وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا".

هَذَا الْأَثر رَوَاهُ ابن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُحِلِّ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ فَمَرَرْنَا عَلَى الْخَسْفِ الَّذِي بِبَابِلَ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى أَجَازَهُ أَيْ: تَعَدَّاهُ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُصَلِّيَ فِي أَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: ثَلَاثَ مِرَارٍ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَسْفِ".

يعني ليس الخسف ثلاث مرات، وإنما كرر الكلام ثلاث مرات.

"لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا خَسْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَفْظُهُ: نَهَانِي حَبِيبِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ؛ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّائِقُ بِتَعْلِيقِ الْمُصَنِّفِ مَا تَقَدَّمَ.

وَالْمُرَادُ بِالْخَسْفِ هُنَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {..فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ..}[النحل:26].

ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ النُّمْرُوذَ بْنَ كَنْعَانَ بَنَى بِبَابِلَ بُنْيَانًا عَظِيمًا يُقَالُ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ كَانَ خَمْسَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِمْ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ حَرَّمَ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ بَابِلَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عَلِيٍّ ثَابِتًا فَلَعَلَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا وَطَنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَقَامَ بِهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ فِيهَا، يَعْنِي: أَطْلَقَ الْمَلْزُومَ وَأَرَادَ اللَّازِمَ، قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِعَلِيٍّ؛ إِنْذَارًا لَهُ بِمَا لَقِيَ مِنَ الْفِتْنَةِ بِالْعِرَاقِ.

قُلْتُ: وَسِيَاقُ قِصَّةِ عَلِيٍّ الْأُولَى يُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابن أبي أويس بن أُخْتِ مَالِكٍ قَوْلُهُ: «لَا تَدْخُلُوا»، كَانَ هَذَا النَّهْيُ".

يعني لو وجد خسف في صحراء ليس فيها أحد، "بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ"، لو يوجد خسف في براري وقِفار ما فيها أحد.

طالب: هل هذا عذاب؟

ماذا؟

الطالب: كونه عذابًا.

الشيخ: لا، نحن قلنا: والعذاب من باب عطف العام على الخاص، كما قال الحافظ.

الطالب: لكنه قال: هو من جملة العذاب.

الخسف من جملة العذاب نعم، لكن افترض أنَّ هذا الخسف في صحراء ليس حولها أحد، ولم يُرتب على ظلم، ولا على معصية، ما يحصل؟ يحصل، يحصل، لكن هل مثل هذا الذي لم يُرتب على عذاب يتناوله النصُّ أو لا يتناوله؟

طالب: لا يتناوله.

لماذا؟

عموم الترجمة في مواضع الخسف.

طالب: .....

لا شك أن الحديث يدلُّ على أن المراد الخسف المرتب على ذنب، بمعنى أنه عقوبة، وعموم الترجمة "بَاب الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ" يعني من باب إطلاق اللفظ على المراد الشرعي منه، الذي هو المرتب على عقوبة.

الطالب:

"قَوْلُهُ: «لَا تَدْخُلُوا»، كَانَ هَذَا النَّهْيُ لَمَّا مَرُّوا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحِجْرِ دِيَارِ ثَمُودَ فِي حَالِ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى تَبُوكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ابن عُمَرَ بِبَعْضِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ»، بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، قَوْلُهُ: «إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»، لَيْسَ الْمُرَادُ الِاقْتِصَارَ فِي ذَلِكَ عَلَى ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ، بَلْ دَائِمًا عِنْدَ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا الِاسْتِقْرَارُ فَالْكَيْفِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَطْلُوبَةٌ فِيهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ ألْبَتَّةَ، قَالَ: ابن بَطَّالٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الصَّلَاةِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَوْضِعُ".

بل أمرهم النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أن يُكفِؤا القدور، لما أخذوا من مياه ثمود وعجنوا فيه العجين أمرهم النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أن يُكفِؤا هذه القدور.

"قَالَ ابن بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الصَّلَاةِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَوْضِعُ بُكَاءٍ وَتَضَرُّعٍ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ مُطَابَقَةِ الْحَدِيثِ لِأَثَرِ عَلِيٍّ.

قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ؛ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ تَرْكُ النُّزُولِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَنَّعَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ، وَلَمْ يُصَلِّ هُنَاكَ كَمَا صَنَعَ عَلِيٌّ، فِي خَسْفِ بَابِلَ".

قنع رأسه يعني: طأطأه.

"وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ بِخَاتَمٍ وَجَدَهُ بِالْحِجْرِ فِي بُيُوتِ الْمُعَذَّبِينَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَلْقِهِ فَأَلْقَاهُ. لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، وَسَيَأْتِي نَهْيُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُسْتَقَى مِنْ مِيَاهِهِمْ فِي كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".

إن شاء الله، الله المستعان.

"قَوْلُهُ: لَا يُصِيبُكُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ، وَيَجُوزُ الْجَزْمُ عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ وَهُيَ أَوْجَهُ، وَهُوَ نَهْيٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُصِيبَكُمْ أَيْ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ".

لو استمر على الإعراب الأول وأن لا نافية، وأن النفي يأتي مرادًا به النهي، وحينئذٍ يكون أبلغ من النهي الصريح ما احتاج إلى أن يحمله على المعنى الثاني ثم يتأوله، نعم.

"وَوَجْهُ هَذِهِ الْخَشْيَةِ أَنَّ الْبُكَاءَ يَبْعَثهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ فِي أَحْوَالٍ تُوجِبُ الْبُكَاءَ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أُولَئِكَ بِالْكُفْرِ مَعَ تَمْكِينِهِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِمْهَالِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ إِيقَاعِ نِقْمَتِهِ بِهِمْ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ فَلَا يَأْمَنُ الْمُؤْمِنُ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.

وَالتَّفَكُّرُ أَيْضًا فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْكُفْرِ، وَإِهْمَالِهِمْ إِعْمَالَ عُقُولِهِمْ، فِيمَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِهِ وَالطَّاعَةَ لَهُ، فَمَنْ مَرَّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيمَا يُوجِبُ الْبُكَاءَ اعْتِبَارًا بِأَحْوَالِهِمْ فَقَدْ شَابَهَهُمْ فِي الْإِهْمَالِ، وَدَلَّ عَلَى قَسَاوَةِ قَلْبِهِ، وَعَدَمِ خُشُوعِهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَجُرَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْعَمَلِ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ قَالَ: كَيْفَ يُصِيبُ عَذَابُ الظَّالِمِينَ مَنْ لَيْسَ بِظَالِمٍ؟! لِأَنَّهُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ ظَالِمًا فَيُعَذَّبَ بِظُلْمِهِ".

ولا يلزم من وصفه بالظالم أن يكون ظالمًا للناس، بل ظلمه لنفسه يدخله تحت هذا الوصف، نعم.

"وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ، وَالزَّجْرُ عَنِ السُّكْنَى فِي دِيَارِ الْمُعَذَّبِينَ، وَالْإِسْرَاعُ عِنْدَ الْمُرُورِ بِهَا، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهم..}[إبراهيم:45]".

اللهم صلِّ على محمد.

الطالب:

قال البُخَارِي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-:

"بابُ الصَّلاةِ في البِيْعَةِ:

وقال عمر -رضي الله عنه-: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور"، وكان ابن عباس-رضي الله عنهما-: يصلي في البِيَعَةِ إلَّا بِيعَةً فيها تماثيل.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ، ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ، أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ»".

عندنا في الثبط في الطبعة البولاقية، مكتوب بالضبطين، وأنَّ الثبط بالفتح.

طالب: .....

بالضبطين معًا، أولئك هذه الإشارة، إذا قلنا يرجع إلى المخاطبة قلنا: أولئك، وإذا قيل: أولئكَ قومٌ، هؤلاءِ قومٌ، فيصح على الوجهين.

قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-:

"بابُ الصَّلاةِ في البِيْعَةِ".

وهي معبد النصارى، ومثلها الكنيسة.

"وقال عُمَرْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إنَّا لا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ".

وفي بعض الروايات: كنائسهم.

"من أجل التماثيل التي فيها الصور".

يعني من أجل التماثيل التي هي الصور، فتكون حينئذٍ الصور بالجر؛ لأنها بدل من التماثيل، ويجوز فتحها بإضمار يعني أو أعني أو الاختصاص، وأما الضم وهو أضعفها فعلى أن التي فيها الصور جملة مستقلة.

"وكان ابن عباس-رضي الله عنهما- يصلي في البِيَعَةِ إلَّا بِيعَةً فيها تماثيل".

لأنها داخلة في عموم «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»، أما إذا وجد المانع من هذه التماثيل وهذه الصور فلا.

قال:

"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ".

سَلَام أو سَلَّام؟

طالب: سَلَّام.

قالوا: إن الأصل في هذا اللفظ التشديد إلا في موضعين.

طالب: ابن سَلَام الصحابي.

الصحابي سَلَام، وأبو هذا شيخ البخاري.

وطُبع رسالة صغيرة فيها التفريق بين التشديد والتخفيف بالأسماء، وهي من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.

"قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ".

طالب: سليمان بن عبد الرحمن.

من؟

الطالب: سليمان بن عبد الرحمن.

عَبْدَةَ ابن؟ الآن عبدة اسم أم لقب؟

طالب: لقب.

واسمه؟

الطالب: سليمان.

لا، هو معبَّد؛ نقول: عابد، تقول: سليمان! أو ما تعرفه؟

ماذا قال القسطلَّاني؟

طالب: .............

ماذا؟

طالب: ........عبدة هو ابن سليمان.

ابن، لكن ما هو بسليمان.

لا، بشرح ثانٍ ماذا يقول؟

طالب: عبدة: بفتح العين وسكون الموحدة، واسمه عبد الرحمن.

عبد الرحمن، اسمه عبد الرحمن، نعم.

طالب: عن هشام بن عروة.

"عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ".

ابن الزبير.

"عَنْ -خالته- عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ، ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ".

وهم نصارى، الحبشة نصارى.

"يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ".

قال: "فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ".

ذكرت أمُّ سلمة ما رأت في هذه الكنيسة من الصور، ومازالوا يتوارثون هذه الصور إلى يومنا هذا، ويُصوِّرون المسيح -عَلَيْهِ السَّلام-، ويصورون أمَّهُ البتول زورًا وبهتانًا.

"فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُولَئِكِ»".

يا أمّ سلمة.

قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ، أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ»".

شك، والمعنى متقارب.

بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ»".

وجاء أيضًا «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى»، كما سيأتي, وفي رواية: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».

طالب: أصل الصور......

من أين أخذت هذا؟

الطالب: الصور......

هذا الأصل في الفعل، لكن الذي توارثوا عليه فيما بعد يلزم أن يكون هذا المكان فيه قبر؟ ما يلزم، ما يلزم.

مع الأسف أن الكثير في بلاد المسلمين اتخذوا في المساجد من القبور أكثر مما اتخذه غيرهم، وبرَّروا لهذه القبور وجودها، ولا تكاد تجد في بعض الأقطار مسجدًا ليس فيه قبر، قالوا: إذا دخلت السين في الشين أبرز قبر محي الدين، ما معى الكلام؟ ما معناه؟ قالوا: إذا دخل سليم في الشام العثماني أبرز قبر محي الدين بن عربي، وهو موجود عندهم. على كلِّ حال هذه فتنة ما سلم منها إلا القليل، وكانت موجودة في بلادنا وفي غيرها من بلاد المسلمين إلا أن ظهرت دعوة الإمام المجدد- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-.

وقالوا: إن فيه جهودًا في مصر لإخراج القبور من المساجد، ونجحت في كثير منها، ثم قام بعض المفتونين من المتنفذين المنتسبين إلى العلم، وهم في غاية البعد عنه بإعادتها، نسأل الله العافية، وألَّف في ذلك رسالة، وللغماري رسالة في بناء المشاهد على القبور، واسمها "إحياء المقبور في حكم بناء المشاهد على القبور" وتساءل في أولها أنَّ بناء المشاهد والبنايات على القبور، أورد سؤالًا هل هو سُّنَّةٌ مأثورة عن سلف الأمة أو بدعة مهجورة أحياها من يسمون بالقرنيين؟ ويقصد بذلك أهل نجد، نسبة إلى قرن الشيطان، وهو رجلٌ مفتون صاحب بدع مغلَّظة، منها القبورية، وعنده أشياء ثانية لا يحسن ذكرها، والله المستعان.

"فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ، أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ»".

يعني في العادة في أصل الفعل، أنه موجود فيه هذا، ثم بعد ذلك تتابع الناس عليه ولو تخلَّى الأصل.

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

"قَوْلُهُ: "بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْبِيعَةِ" بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ مَعْبَدٌ لِلنَّصَارَى، قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الْبِيعَةُ صَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ، وَقِيلَ: كَنِيسَةُ النَّصَارَى، وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْبِيعَةِ الْكَنِيسَةُ، وَبَيْتُ الْمِدْرَاسِ".

ذكرنا أن كلها معابد يُعبد فيها غير الله جَلَّ وعَلَا، نعم.

"وَالصَّوْمَعَةُ وَبَيْتُ الصَّنَمِ وَبَيْتُ النَّارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: "وَقَالَ عُمَرُ إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ" وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ "كَنَائِسَهُمْ"، قَوْلُهُ: "مِنْ أَجَلِ التَّمَاثِيلِ" هُوَ جَمْعُ تِمْثَالٍ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ بَيْنَهُمَا مِيمٌ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّورَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالصُّورَةُ أَعَمُّ.

قَوْلُهُ: "الَّتِي فِيهَا" الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَالصُّوَرِ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ التَّمَاثِيلِ أَوْ بَيَانٌ لَهَا".

"من أجل التماثيل التي فيها الصُّوَرِ".

طالب: لو كان الصور أعم.

أين؟

الطالب: يقول: من أجل التماثيل جمع تمثال، يقول: وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّورَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالصُّورَةُ أَعَمُّ.

التمثال يُصنع على هيئة شكل معين، والصورة أعم من أن تكون للتمثال أو غيره، على كل حال الأمر سهل.

"قَوْلُهُ: "الَّتِي فِيهَا" الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكَنِيسَةِ وَالصُّوَرِ، بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ التَّمَاثِيلِ أَوْ بَيَانٌ لَهَا أَوْ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ بِالرَّفْعِ، أَيْ: أَنَّ التَّمَاثِيلَ مُصَوَّرَةٌ، وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا لِلتَّمَاثِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: وَالصُّوَرُ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ صَنَعَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى طَعَامًا وَكَانَ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَجِيئَنِي وَتُكْرِمَنِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّا لَا ندخل كَنَائِسَكُمْ؛ مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا يَعْنِي التَّمَاثِيلَ".

كأنه دعاه إلى زياته في الكنيسة.

"وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ رِوَايَتَيِ النَّصْبِ وَالْجَرِّ أَوْجَهُ مِنْ غَيْرِهِمَا".

التي هي الرفع، نعم.

"وَالرَّجُلُ الْمَذْكُورُ مِنْ عُظَمَائِهِمُ اسْمُهُ قُسْطَنْطِينُ، سَمَّاهُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَّعَةَ بْنِ رِبْعِيِّ عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَخْرَجَهَا".

سين أم شين؟

الطالب: شين.

طالب: عندنا سين.

الشيخ: إيْ هي سين.

طالب: .............

ماذا؟

طالب: ....

والله ما أدري هذا، يراجع.

"قَوْلُهُ وَكَانَ ابن عَبَّاسٍ وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ، وَزَادَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَمَاثِيلُ خَرَجَ فَصَلَّى فِي الْمَطَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَنْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ.

قَوْلُهُ: "حَدثنَا مُحَمَّد" هُوَ ابن سَلام كَمَا صرح بِهِ ابن السكن في روايتيه، وَعَبده هُوَ ابن سُلَيْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: «بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا»، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى نَهْيِ الْمُسْلِمِ عَنْ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَنِيسَةِ، فَيَتَّخِذَهَا بِصَلَاتِهِ مَسْجِدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الأصل الطهارة، الصلاة صحيحة على الأصل؛ لعموم «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»، ولكن إذا وجد مانع من الصلاة فيها من نجاسة أو شرك ظاهر، بحيث يُدعى المخلوق من دون الله أو فيها صور وتماثيل فإن مثل هذا يلزم اجتنابه.

طالب: .......

أين السائل؟ ماجد.

الطالب: نعم.

لماذا أنت بعيد، قرب الكرسي.

الطالب: ...... في الرد عليه، إلا أن الحكمة يا شيخ من النهي في الصلاة في بيعة إذا وجد فيها صور، ومادام أنها إذا صحت الصلاة، فما الحكمة من المنع إذا وجدت الصور، مادام صحت الصلاة في نفس الوقت؟

تدري أن النهي يقتضي الفساد مطلقًا عند جمع من أهل العلم أو لا تدري؟

الطالب: ....

وبعضهم يقول: إن النهي إذا عاد إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه بطل الفعل وإلا فلا.

طالب: وإذا كان لأمرٍ خارج.

إذا عاد إلى أمر خارج فهذه المسألة معروفة عند أهل العلم.

على كل حال أنت لا تلزم من قال بالبطلان بما تعتقده، ويترجح عندك.

طالب: ........

الشيخ: نعم، الدخول في مكان المعصية. فيها أشياء كثيرة، يعني أن الإنسان ينفتن، ولو لم يكن في بادئ الأمر، الضرر ظاهرًا، لكن قد ينفتن إما في أول مرة أو في الثانية، أو إذا استمر على ذلك.

قال الإمام البُخَاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-:

"بَابٌ.

حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ الله عنْهُمَا- قَالاَ: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الُمسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»".

قال -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى-:

"بَابٌ".

كذا من غير ترجمة، والمقرر عند أهل العلم أنه إذا وجدت باب بدون ترجمة، أنه تابعٌ للباب الذي قبله، وأنه كالفصل منه.

"حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ".

هو الحَكَمُ بْنِ نَافِع.

"قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ".

ابن أبي حمزة.

"عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ الله عنْهُمَا- قَالاَ: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم".

نزل به الموت أو علاماته، بعض الروايات: نُزِلَ به.

"نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَفِقَ".

يعني أخذ وشرع.

"يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ".

يغطي بها وجهه؛ لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في النزع لا شك أنه يوعك وعكًا شديدًا، فيغطي وجهه.

"فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا".

يصيبه من ضيق النفس بواسطة هذه الخميصة التي يطرحها على وجهه، يغتم بها، وهذا معروف، إذا وجد عند الإنسان أدنى أثر فيغطي وجهه من أجل أن يرتاح من رؤية من حوله، ثم بعد ذلك يحصل له ما يحصل من الغم والكتمة، ثم يزيله.

"طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ".

على هذه الحال، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

"«لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى»".

وفي رواية: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى»، والمراد من قاتل هنا اللعن، وهو الطرد من رحمة الله.

"«لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.

لئلا تتخذ أمَّته القبور مساجد، وقد وقع ما حذَّر منه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، ونهى عن الغلو فيه، وإطرائه، ووقعوا في مثل ما وقعت فيه النصارى، «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ».

"«اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا".

لا شك أن اليهود هم الذين ابتدعوا هذه البدعة، ولهم أنبياء، واتخذوا قبورهم مساجد، لكن يرد على قوله: والنصارى. النصارى ليس لهم أنبياء إلا عيسى -عَليْهِ السَّلام- ولم يُقْبَرْ، فقالوا: «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، للمجموع المذكور من اليهود والنصارى، من المجموع المذكور الذي يصدق على بعضه دون بعض، ولا مانع من ذلك، وفي بعض الروايات: «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ»، فالأنبياء لليهود، والصالحين للنصارى، منهم من يقول: إن النصارى لهم أنبياء كالحوارين يوحى إليهم، وعلى قول ابن حزم، وأن في النساء من الأنبياء ست من النسوة، ولكن القول مرجوح، مهجور.

على كل حال المعنى ظاهر، والواقع يوضح المراد.

"يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا".

ومع ذلك وقعت أمته في كثير من أقطارها وبلدانها فيما حذر منه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، ويزو قبر البدوي كل سنة سبعة ملايين شخص، ويزو الحسين على مدار العام أمَّة بل أمم، ومن ذهب وشاهد يشوف الطواف، يطوفون على القبور، والله المستعان.

ثم قال بعد ذلك:

"حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الُمسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»".

قاتل الله اليهود، وليس فيه من الإشكال ما في اللفظ السابق، وأما النصارى فهم كذلك، لكن ليس لهم نبيٌّ مقبور.

ذكرنا في مناسباتٍ كثيرة قريبة وبعيدة عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو من الآخذين عن الإمام مالك، من خواصِّهِ، وأنه من حُفَّاظِ الحديث، ولكنه كان لا يُحدِّث، فرأى في النوم من يقول: ليقم أهل العلم، فقاموا، وقام معهم، قيل له: اجلس، قال: أنا معهم في الطلب، ومعهم في الرواية، قال: لكنهم نشروا ولم تنشر، ومن تلك الساعة أخذ ينشر الحديث بقوة، والله المستعان.

"قَوْلُهُ بَابٌ.

كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَسَقَطَ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ كالفصل من الْبَاب، فَلهُ تعلق بِالْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الزَّجْرُ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مَذْمُومٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَصْوِيرٍ أَمْ لَا.

قَوْلُهُ: "لَمَّا نَزَلَ" كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْمَوْتُ وَلِغَيْرِهِ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ، "وَطَفِقَ" أَيْ: جَعَلَ وَالْخَمِيصَةُ كِسَاءٌ لَهُ أَعْلَامٌ، كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: "فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ" أَيْ: فِي تِلْكَ الْحَالِ، يَحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَتْ فِيهِ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَمْرَ الْكَنِيسَةِ الَّتِي رَأَتَاهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِمَ أَنَّهُ مُرْتَحِلٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، فَخَافَ أَنْ يُعَظَّمَ قَبْرُهُ كَمَا فَعَلَ مَنْ مَضَى، فَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ إِشَارَةً إِلَى ذَمِّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلَهُمْ.

قَوْلُهُ: "اتَّخَذُوا" جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِمُوجِبِ اللَّعْنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَا سَبَبُ لَعْنِهِمْ فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ اتَّخَذُوا.

قَوْلُهُ: "يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا".

يعني لأنهم اتخذوا.

قَوْلُهُ: "يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا" جُمْلَةٌ أُخْرَى مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، كَأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حِكْمَةِ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ.

 وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذِكْرُ النَّصَارَى فِيهِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَهُمْ أَنْبِيَاءٌ بِخِلَافِ النَّصَارَى فَلَيْسَ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَبِيٌّ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَهُ قَبْرٌ.

 وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءٌ أَيْضًا، لَكِنَّهُمْ غَيْرُ مُرْسَلِينَ كَالْحَوَارِيِّينَ، وَمَرْيَمَ فِي قَوْلٍ أَوِ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: "أَنْبِيَائِهِمْ" بِإِزَاءِ الْمَجْمُوعِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءُ وَكِبَارُ أَتْبَاعِهِمْ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جُنْدَبٍ: «كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ».

وَلِهَذَا لَمَّا أَفْرَدَ النَّصَارَى فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، وَلَمَّا أَفْرَدَ الْيَهُودُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ قَالَ: «قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ»، أَوِ الْمُرَادُ بِالِاتِّخَاذِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاعًا وِاتِّبَاعًا، فَالْيَهُودُ ابْتَدَعَتْ وَالنَّصَارَى اتَّبَعَتْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّصَارَى تُعَظِّمُ قُبُورَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تُعَظِّمُهُمُ الْيَهُود.

ما تعرض له أحد من الشراح أبدًا، لماذا لم يتعرض له الشراح؟

اللهم صلِّ على محمد.