كتاب الرجعة من سبل السلام (11)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
قال -رحمه الله تعالى- في سُبُلِ السلام، في باب العدة والإحداد، من كتاب الرجعة:
"الحديث الثامن:
وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ. فَأَمَرَهَا، فَتَحَوَّلَتْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ) مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ".
مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ، يعني: من البناء للفاعل إلى البناء للمفعول، وهو فعل مبني للمجهول.
"(عَلَيَّ) أَيْ: يَهْجُمُ عَلَيَّ أَحَدٌ بِغَيْرِ شُعُورٍ".
نعم؛ لأن البيت غير حصين. ومع صلاح المجتمع في ذلك الوقت، تخشى على نفسها. ويوجد من يُفرِّط من المسلمين في هذه الأزمان، من غير خشية أن تُقْتَحَم بيوتهم على نسائهم وذراريهم، فتجد السور نازلًا، بعض الناس يجعل السور مترًا ونصفًا، وبعضهم يجعل الباب يكشف عما في البيت، وهذا موجود، موجود بكثرة، يعني ليس نادرًا في المسلمين اليوم. تجد الباب زجاجيًّا أو شبه زجاجي. المرأة إذا كانت في فناء البيت تكنس أو تغسل، تُرى، وإن لم تُرَ في التفصيل، لكنها تُرى. ومثل هذا الأمر لا شك أنه يُغري من يقتحم البيوت، وهم موجودون الآن بسبب المُغريات، بسبب البُعد عن دين الله -جلَّ وعلا-، وبسبب أيضًا المُثيرات. فتجد الإنسان يُعين الشيطان، ويُعين الأشرار على نفسه وأهل بيته.
هذه في عصر النبوة، في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام- خَشيَت أن يُقتحَم عليها البيت. مع أن البيوت إلى وقتٍ قريب لا يُمكن اقتحامها؛ لأن الأفنية داخل البيوت، والسور مرتفع إلى آخر البناء، تجد البيوت من دورين، وسطح، المحيط بالشارع مُرتفع، يُضفي على الدور الأول والثاني والسطح، تجد ارتفاعه عشرة أمتار، والفناء داخل البيت، ولا شك أن هذا هو المناسب واللائق بين المسلمين، أستر وآمن، ومع ذلك خَشيَت أن يُقتحَم عليها.
والآن مع هذا التفريط الذي نعيشه، الأسوار منخفضة، والأبواب زجاجية، وبعضهم يجعل نصف السور على هيئة مثل الشبك، "بلوك" مُخرَّقًا، ويُمكن أن يُرى ما في داخل البيت، ويُفرطون في مثل هذا، ثمَّ بعد ذلك إذا وقع -كما يقال الفأس في الرأس- ذهب يولول، ويشتكي، وحصل وفعل.
أنت المُفرِّط، والله المُستعان. فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه، ويحتاط لنسائه، ويحتاط لعِرضه، ويحتاط لماله، والله المُستعان.
"(فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَةَ، وَحُكْمِ مَا أَفَادَهُ، وَلَا وَجْهَ لِإِعَادَةِ الْمُصَنِّفِ لَهُ.
الحديثُ التاسع:
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تُلْبِسُوا".
تُلَبِّسوا أو لا تُلْبِسُوا؟
طالب: عندي بالفتح والسكون.
تُلْبِسُوا، يعني من اللبس؟
طالب: هذا الموجود عندي.
ماذا عندك؟
طالب: لا تُلْبِسُوا.
تُلْبِسُوا، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ} [الأنعام: 82] يعني: يخلطوا، هل هو من اللَّبس الذي هو الخلط؟
لبس كذا بكذا، أي: خلطه، لَبَسَ بخلاف لَبِسَ، لَبِسَ الثوب. وهناك أيضًا التلبيس الذي هو التشويش، لبَّس علي في صلاتي، يعني: شوَّش علي. فهل المراد هذا أو ذاك؟
المقصود أن المسألة واضحة: لا تُلبِسوا، يعني: لا تخلطوا علينا سُنة النبي، أو لا تشوشوا علينا السُّنَّة.
"لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالِانْقِطَاعِ".
يعني: هل العِدَّة مربوطة بالزوج، أو مربوطة بالزوجة؟ والطلاق هل تعلقه بالزوج أو تعلقه بالزوجة؟ طلاق العبد كم؟
طالب: .......
تطليقتان.
وعدة الأمة؟
طالب: .......
قُرءان.
لكن هذه أم ولد، تثبُت حريتها بموته، والحكم مُعلقٌ بها ومنوطٌ بها، فعدتها: أربعة أشهر وعشر، وزوجها حر.
"وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالِانْقِطَاعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، قَالَه الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ، فَقَالَ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: رَأَيْت أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ سُنَّةٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا؟ وَقَالَ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا إنَّمَا هِيَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ عَنْ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَمَةٌ خَرَجَتْ عَنْ الرِّقِّ إلَى الْحُرِّيَّةِ.
وَقَالَ الْمُنْذِرُ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ عَمْرٍو مَطْرُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو رَجَاءٍ الْوَرَّاقُ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَهُ عِلَّةٌ ثَالِثَةٌ هِيَ الِاضْطِرَابُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَدْ رَوَى خِلَاسٌ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ عَنْ عَمْرٍو، وَلَكِنَّ خِلَاسَ بْنَ عَمْرٍو قَدْ تُكَلَّمَ فِي حَدِيثِهِ، كَانَ ابْنُ مَعِينٍ لَا يَعْبَأُ بِحَدِيثِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ: يُقَالُ إنَّهَا كِتَابٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رِوَايَةُ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ، ذَهَبَ إلَى مَا أَفَادَهُ حَدِيثُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّاصِرُ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَآخَرُونَ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَلَا مُطَلَّقَةً فَلَيْسَ إلَّا اسْتِبْرَاءُ رَحِمِهَا، وَذَلِكَ بِحَيْضَةٍ تَشْبِيهًا بِالْأَمَةِ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ".
يعني: يموت عنها سيدها أو يبيعها، فتُستبرأ حينئذٍ بحيضة.
"وَقَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَلَهَا السُّكْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَلَا بِأَمَةٍ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْأَمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْرَأَ رَحِمُهَا بِعِدَّةِ الْحَرَائِرِ، قُلْنَا: إذَا كَانَ الْمُرَادُ الِاسْتِبْرَاءُ كَفَتْ حَيْضَةٌ؛ إذْ بِهَا يَتَحَقَّقُ بَرَاءةُ الرَحِم.
وَقَالَ قَوْمٌ: عِدَّتُهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ؛ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي، وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ: عِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ تَشْبِيهًا بِعِدَّةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةٍ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ، وَالْجَامِعُ زَوَالُ الْمِلْكِ.
قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا".
الكتاب اسمه: بداية المُجتهِد، والصنعاني يُسميه: نهاية المُجتهِد، في جميع الكتاب. يعني مرَّ ذكره مرارًا، وسيمر، واسمه عند المؤلف: نهاية المُجتهِد، مع أن التسمية هذه خاطئة، إنما هو بالنسبة للمُجتهِد بداية، يعني: كتاب في مجلدٍ لطيف، هذا يُسمى نهاية المجتهد؟
لا، التسمية ليست بصحيحة، إنما هو للمُجتهِد بداية، وللمُقتصدِ نهاية، يعني الذي يكتفي به سيكفيه.
"قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، أَيْ: فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ مُتَرَدِّدَةُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، فَأَمَّا مَنْ شَبَّهَهَا بِالزَّوْجَةِ الْأَمَةِ فَضَعِيفٌ وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَنْ شَبَّهَهَا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، انْتَهَى.
قُلْت: وَقَدْ عَرَفْت مَا فِي حَدِيثِ عَمْرٍو مِنْ الْمَقَالِ، فَالْأَقْرَبُ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْحُكْمِ، وَعَدَمُ حَبْسِهَا عَنْ الْأَزْوَاجِ، وَاسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ".
هذه أم الولد، الأصل فيها أنها أمة، فتُعامل على هذا الأساس أنها أمة. لكنها بموت سيدها تنتقل من الرق إلى الحرية، وانتقالها بموت سيدها، فهل ثبتت لها هذه الحرية قبل موته أو بعده؟
طالب: بعده.
بعده، إذًا تُستبرأ كاستبراء الأمة؛ لأن الموجب ما ثبت إلا بعد موت سيدها.
والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.