كتاب الجنائز من المحرر في الحديث - 03
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي- يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
بابٌ في الصلاة على الميت
عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟»، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصلَّ عليهم، رواه البخاري.
وعن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم»، الحديث متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وله: صلى رسول الله على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودِّع للأحياء والأموات.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعترف بالزنى، فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى شهد على نفسه أربع مرات فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أبك جنون؟» قال: لا، قال: «أحصنت؟» قال: نعم، فأمر برجمه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فرَّ فأُدرِك فرُجِم حتى مات، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- خيرًا، وصلى عليه، هكذا رواه البخاري من رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال، ولم يقل: يونس وابن جرير عن الزهري: فصلى عليه، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وقالوا: ولم يصل عليه، وصححه الترمذي، وهو الصواب، والصحيح عن معمَر كرواية غيره عن الزهري، والله أعلم.
وروى مسلم في حديث الغامدية من رواية بريدة: ثم أمر بها فصلى عليها ودُفنت.
وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: أُتيَ النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلِّ عليه، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابًّا ففقدها النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، فقال: «أفلا كنتم آذنتموني؟» قال: فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره، فقال: «دلوني على قبره»، فدلوه فصلى عليها ثم قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة، إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم»، متفق عليه، واللفظ لمسلم، وآخر حديث البخاري: فصلى عليها.
وعن بلال العبْسي عن حذيفة أنه كان إذا مات له ميت قال: لا تؤذنوا به، لا تؤذنوا به أحدًا إني أخاف أن يكون نعيًا، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النعي، رواه أحمد، وهذا لفظه، وابن ماجه والترمذي وحسنه.
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله تعالى فيه».
وعن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة- رضي الله عنها- لما توفي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأُنكِرَ ذلك عليها فقالت: والله لقد صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه رواهما مسلم وقال سهيل بن دعد: هو ابن البيضاء، وأمه بيضاء.
وعن سمرة بن جندب قال: صليت وراء النبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها وسطها، متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج به من المصلى فصف بهم وكبَّر عليه أربع تكبيرات، متفق عليه. ولمسلم عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن أخًا لكم إن أخًا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه» يعني النجاشي.
وله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد يكبِّر على جنائزنا أربعًا، وإنه كبر على جنازة خمسًا فسألته فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكبرها، وزيد هو ابن أرقم.
وعن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فقال: ليتعلموا أنها سنة، رواه البخاري."
حسبك، يكفي.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "بابٌ في الصلاة على الميت، بابٌ في الصلاة على الميت"، انتهى الكلام في التكفين والتغسيل، ومما يجب للمسلم، بل من حقوقه على إخوانه أن يصلوا عليه، وهذه من فروض الكفايات.
"عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الرجلين، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد"، هذا بالنسبة للتكفين يجمع بينهما في الثوب الواحد، يعني في الكفن الواحد، وهذا يحتمل معنيين:
الأول: أنه يلف الرجلين بثوب واحد، يلف الرجلين بثوب واحد، ويكون هذا أوفر لكثرة القتلى، فإنه قتل في يوم أحد سبعون من خيار الصحابة -رضوان الله عليهم -، ولا شك أن الاشتغال بسبعين، وتجهيز سبعين، وتكفين سبعين، هذا يشق، فيجمع بين الرجلين من القتلى من هؤلاء السبعين في ثوب واحد، هذا الاحتمال الأول أن الاثنين يلفان في ثوب واحد من غير فاصل. والاحتمال الثاني، وهو الأظهر والأولى أن الثوب الواحد يقطع ويقسم بين الاثنين، يعني كفن الواحد يقسم بين اثنين، فيستر به ما يمكن ستره، ثم بعد ذلك يوضع على الباقي من جسده ما يستره من حشيش ونحوه، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- بحمزة وغيره في ثوب واحد، ذكرنا الأن الاحتمال الأول أن الاثنين يدرجان ويلفان في ثوب واحد، فتكون بشرة أحدهما تلامس بشرة الآخر، وهذا فيه حقيقة بعد، وفيه شيء من النكارة، لكن كون الثوب الواحد الذي الأصل فيه أنه لميت واحد يقسم بين اثنين، ويدرج كل واحد فيما قسم له إن كفى فبها ونعمت، وإن لم يكفِ سترت العورة ووري الباقي بما يستره من حشيش ونحوه.
هذان الاحتمال ذكرهما أهل العلم، وهكذا يفعل في مثل هذه الظروف، يعني في الحروب، وفي أوقات الوباء التي يكثر فيها الموت، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يجير المسلمين من ذلك، لا يتمكنون من حفر القبور التي هي بعدد هؤلاء الأموات، وقد لا يتمكنون من إحضار الأكفان التي تكفي لهؤلاء الأموات، وإنما يدرجونه فيما يستطيعون من قطع من القماش التي تواري ما يمكن مواراته، ويدفنون، يدفن في القبر الواحد أكثر من واحد، وفي أوقات الحروب، وأوقات الوباء والأمراض العامة هذه تحفر المقابر الجماعية، تحفر المقابر الجماعية التي يدفن في الحفرة منها الواحدة منها أكثر من ميت.
"ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟»" لا شك أن هذه مزية لحامل القرآن، والمقصود به الحافظ الأكثر حفظًا للقرآن، وإن كان أهل العلم يختلفون في حديث أبي مسعود البدري: يؤم القوم أكثرهم أو أعلمهم بالقرآن، أو أكثرهم قرآنًا، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، منهم من يقول: أعلمهم بالقرآن يعني أكثرهم أخذًا له وحفظًا له، ولو خفي عليه أحكامه، وإنما هو مجرد حافظ، وهذا هو المناسب للفظ الحديث، بدليل أنه قال بعد ذلك: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، وأحكام الصلاة جُلُّها في السنة، وليست في القرآن، هناك أوامر عامة ومجملة جاءت في القرآن، لكن تفصيلها جاء في السنة، منهم من يقول: أعلمهم أو أقرأهم لكتاب الله يعني أعلمهم بأحكام القرآن، ومن ذلكم أحكام الصلاة، فالمراد بالأقرأ هو الأفقه، وهذا قول كثير من أهل العلم؛ لأن المصلي يحتاج إلى معرفة أحكام الصلاة أكثر مما يحتاجه من حفظ القرآن.
وهنا يقال: هل يقال: إن أكثرهم أخذًا للقرآن يعني أكثرهم حفظًا له ولو لم يكن عالمًا بمعانيه، عالمًا بأحكامه؟ هذا هو الظاهر من لفظ: أكثرهم أخذًا للقرآن، وفي حديث عمر بن سلمة الذي تقدم الذي يؤم قومه وهو في سن التمييز في السادسة أو السابعة قال: فنظروا فوجدوني أكثرهم أخذًا للقرآن، يعني حفظًا، وإن لم يكن أعلمهم بأحكامه فالمراد أيهم أكثر للقرآن، يعني أيهم أكثر حفظًا.
ابن القيم -رحمه الله- حينما يتكلم عن أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته يقول: هم أهل العناية به تلاوة وتعلمًا وتعليمًا، وإن لم يحفظوه، وليس في هذا تزهيد بالحفظ، لا، الحفظ شأنه عظيم، يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق في درج الجنة كما كنت تقرأ في الدنيا، معلوم أنه في الجنة في درجة ليس بين يديه مصحف، إنما هذا للحفاظ.
المقصود أن أيهم أكثر أخذًا للقرآن، ظاهر اللفظ يدل على الأكثر حفظًا، وإن كان من له عناية بالقرآن يناله من الشرف من شرف هذا الكتاب العظيم، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [سورة الزخرف:44] يعني لشرف لك ولقومك بقدر عنايته بالكتاب، وأما من اقتصر على مجرد الحفظ فهو وإن نال الشرف العظيم في أن يكون في جوفه كتاب الله، لكنه بقدر علمه وعمله وتعلمه وتعليمه للقرآن تكون منزلته عند الله تعالى، «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، «أيهم أكثر أخذًا للقرآن» قلنا: إن ظاهر اللفظ أن المراد به أكثر حفظًا.
"فإذا أشير له إلى أحدهما" قيل هذا أكثر قدمه، قدمه إلى القبلة، "فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد" يعني إلى جهة القبلة، وجعل الثاني وراءه وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» يعني على هؤلاء قتلى أحد شهيد عليهم، شهداء قتلوا في المعركة، «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة».
"وأمر بدفنهم في دمائهم، وأمر بدفنهم في دمائهم" بمعنى أنهم لم يغسلوا، وأدرجوا يعني دفنوا في ثيابهم، لم يغسلوا، ولم يصل عليهم، هذا حكم الشهيد، شهيد المعركة يدفن من غير تغسيل ولا صلاة؛ لأن التغسيل يزيل الأثر المحبوب عند الله -جل وعلا-، وهو الدم، والشهيد يأتي القيامة بدمه اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فهذا الأثر مما ينبغي المحافظة عليه، فلا يغسل الشهيد، ولا يصلى عليه؛ لأن الصلاة شفاعة من المصلين، والشهيد قد غفر له كل شيء إلا ما استثني من ذلك الدين وشفاعة المصلين للمصلى عليه من أموات المسلمين لا تتناول الدين، يعني من باب أولى إذا كان الشهيد يكفر عنه كل خطيئة ارتكبها إلا الدين، فمن باب أولى غيره وإن شفع له إخوانه هذا شهيد المعركة هذا حكمه، لا يغسل، ولا يصلى عليه هناك أيضًا من حكم له بالشهادة بالنص الصحيح، لكنه لم يقتل في المعركة فهذا شهيد قال أهل العلم: إنه شهيد في الآخرة فقط، يعني من حيث الثواب والأجر، لكن أحكامه في الدنيا تختلف عن أحكام شهيد المعركة، بمعنى أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه كما صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- على المرأة التي ماتت في نفاسها على ما سيأتي، والمرأة تموت بجمع، يعني في النفاس في حال الولادة شهيدة، كما أن المبطون والمطعون والحريق والغريق وما أشبه ذلك، كلهم شهداء، لكن هؤلاء شهادتهم في الآخرة دون الدنيا.
"لم يصل عليهم" حينما دفنوا أو قبل الدفن لم يصل عليهم، إنما سيأتي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع لهم، وبهذا نعلم أن الشهيد لا يصلى عليه ولا يغسل.
قال- رحمه الله-: "وعن عقبة بن عامر- رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يومًا" يعني في آخر حياته، "فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت" صلى على قتلى أحد، لم يصل عليهم لما قتلوا في وقت القتل، لم يصل عليهم كما في الحديث السابق، لكنه في آخر حياته بعد ثمان سنين صلى عليهم كالمودع لهم، بعضهم يقول: إن هذه الصلاة -ممن لا يرى الصلاة على الشهيد- يقول: إن هذه الصلاة صلاة لغوية، دعا لهم، دعا لهم، وهنا يقول: صلاته على الميِّت هذا يرفع احتمال أن تكون الصلاة لغوية، يعني مجرد الدعاء، ولا يمنع أن يكون وإن كان على بعد أن المراد الصلاة اللغوية التي هي الدعاء الذي يدعى به للميت، بمعنى أنه ذهب إليهم في محل دفنهم وقال: اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم.. هذا دعاء صلاة لغوية أيضًا هذه الصلاة اللغوية يصلى بها ويدعا بها على الميت، فيستقيم قول من يقول: إن الشهيد لا يصلى عليه، وفيه نصوص صحيحة صريحة يشكل عليه هذا الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على قتلى أحد صلاته على الميت. نقول: هذا يرفع احتمال أن يكون المراد الصلاة اللغوية، وإنما هي صلاة الجنازة الشرعية المعروفة بتكبيراتها وقراءتها والتحلل منها، وهذا هو ظاهر اللفظ صلاته على الميت.
لكن لقائل أن يقول، ممن لا يرى الصلاة على الشهيد، أن يقول: إنه صلى عليهم صلاة لغوية كما يصلي على الميت، يعني كما يدعو للميت.
وهذا وإن كان محتملاً إلا أنه خلاف الظاهر، خلاف الظاهر، وعلى هذا اختلف أهل العلم، فالجمهور على أن الشهيد لا يصلى عليه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- دفن قتلى أحد من غير صلاة عليه، وجاء بذلك أكثر من حديث.
منهم من يقول: أنه يصلى عليه كغيره، يصلى عليه كغيره، وهذا معروف عند الحنفية بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على قتلى أحد في هذا الحديث صلاته على الميت، لكن نقول: هذه صلاة توديع، صلاة توديع، وأما الصلاة المشروعة الواجبة للميت فإنها بالنسبة للشهيد لا يصلى عليه.
"ثم انصرف إلى المنبر" انصرف إلى المنبر، يعني خطبهم بعد أن صلى على قتلى أحد، اتجه إلى المنبر، اتجه إلى المنبر وخطب، وكان مما جاء في خطبته -عليه الصلاة والسلام-: «إني فَرَط لكم، وأنا شهيد عليكم، إني فَرَط لكم، وأنا شهيد عليكم»، الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الحديث السابق شهيد على قتلى أحد، وهو أيضًا على أمته كذلك شهيد -عليه الصلاة والسلام-.
"الحديثَ" بالفتح، ومحلها من الإعراب النصب بفعل مقدَّر أكمل الحديثَ، أو اقرأ الحديثَ.
"متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وله صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين، بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات".
نعم، النبي -عليه الصلاة والسلام- ودع الأحياء في حجة الوداع، ودع الأحياء، وودع الأموات بصلاته عليهم هذه الصلاة التي هي صلاة وداعٍ، وإن لم تكن الصلاة الواجبة للميت على المسلمين.
قال -رحمه الله-: "وعن جابر -رضي الله عنه- أن رجلاً من أسلم" ماعز بن مالك الأسلمي، أن رجلاً من أسلم هو ماعز بن مالك الأسلمي، "جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فاعترف بالزنى، فاعترف بالزنى" فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى أقر على نفسه بالزنى أربع مرات، وتثبت النبي -عليه الصلاة والسلام-، كل ذلك من أجل أن يدرأ عنه الحد؛ لأنه جاء مقبلاً تائبًا منيبًا نادمًا، وهذا يختلف وضعه عن وضع أهل الجرائم والسوابق، يختلف، هذا جاء تائبًا فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «لعلك قبَّلتَ، لعلك قبَّلْت»؛ لأن الزنى أعم من الإيلاج، الزنى الكامل، فالأطراف تزني، العين تزني، والأذن تزني، والبصر، وغير ذلك كما جاء في الحديث، «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»، لعله سمع مثل هذا الحديث فقبل أو غمز أو نظر أو شيء من ذلك، فأطلق عليه الزنى؛ لشمول الحديث.
فقال: لا، فاعترف بأنه زنى كما يفعل رجل من امرأته حلالاً، ثم قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أبك جنون؟»، أبك جنون؛ لأن المجنون لا يقبل اعترافه، «أشربت خمرًا؟» وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «استنكهوه» يعني شموه هل شرب خمرًا أو شيئًا؛ لأنه يلقن الرجوع ولا يرجع، يقدم نفسه للقتل، لكن هذا دليل على صدق التوبة، وشهد له النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد أن تم رجمه بأنه ينغمس في أنهار الجنة، وأي فضل أعظم من ذلك؛ لأن بعض الناس يسمع القصة يقول: هذا مسكين يستر الله عليه، ويأتي يفضح نفسه، ويمكن من الحياة ويأتي يقضي على نفسه بالموت. «إنه لينغمس الآن في أنهار الجنة»، والحدود كفارات، الحدود كفارات للجرائم والمنكرات.
على كل حال هذا الحاصل، لكن قد يقول قائل: إذا حصل من الإنسان شيء من ذلك فهل الأولى أن يستتر، أو يقدم نفسه؟
النبي -عليه الصلاة والسلام- لقَّنه وانصرف عنه وأعرض عنه مرارًا، فدل على أن الاستتار بستر الله لاسيما إذا صحت التوبة وإلا عذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا، لكن إذا صحت التوبة بشروطها فعلى الإنسان أن يستتر بستر الله لاسيما إذا كان من أهل الخير والفضل وحصلت منه هفوة أو زلة، هذا يتوب بينه وبين ربه، ولذلك أعرض عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-، سأل قومه عنه، عن عقله قالوا: ما علمنا عليه إلا أنه وفيُّ العقل من صالحينا، وَفِيُّ العقل من صالحينا، لما استنفد النبي -عليه الصلاة والسلام- جميع ما يمكن أن يدرأ عنه الحد قال: لا، «أبك جنون؟» قال: لا، قال: «هل أحصنت؟» قال: نعم، يعني وطئت امرأة في نكاح صحيح، هذا هو المحصن، وهذا هو الثيب المحصَن.
ومن قوله: «هل أَحصَنْتَ؟» يدل على أن الرجل يقال له: محصِن، والمرأة محصَنة، وإن كان الإحصان يقع من الطرفين للآخر، فالرجل يكون محصَنًا بزوجته، والمرأة تكون محصَنة بزوجها، لكن مثل هذا الخبر أحصنت وفي قوله: {مُّحْصِنِينَ} [سورة النساء:24]، وقوله: {مُحْصَنَاتُ} [سورة النساء:24]، فدل على أن اسم الفاعل للذكر، واسم المفعول للأنثى، كما هو المطابق للواقع، والمحصَن والثيب من وطأ بنكاح صحيح من وطأ بنكاح صحيح، نعم المحصَن الثيب حده الرجم، ما حفظ أن النبي -عليه الصلاة والسلام- على ما سيأتي في الحدود أن النبي أمر به فجلد ثم رجم، لا، ما حفظ هذا أمر به فرجم.
«اذهبوا به فارجموه» ما قال: اجلدوه ثم ارجموه، وقد جاء في حديث عبادة بن الصامت كما سيأتي في الحدود: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم، جلدة مائة والرجم»، فيجمع على البكر بين الجلد والتغريب، ويجمع على الثيب بين الجلد والرجم القضايا الخمس التي حصلت في عصره -عليه الصلاة والسلام- ما حفظ فيها أنه أمر بالجلد قبل الرجم، لكن حديث عبادة صريح وصحيح ومحكَم، وكون الجلد لا يذكر في جميع المناسبات لا يلزم إذا ثبت بخبر تقوم به الحجة، لا يلزم أن ينقل الحكم في جميع المناسبات، ولذا المرجح أنه يجلد ثم يرجم، يجلد ثم يرجم، وإن لم يذكر في مثل هذه القصة، ولا في قصة الغامدية، ولا في قصة العسيف ولا في غيرها من القصص، علي- رضي الله عنه- كما في البخاري جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، فدل على أنه يُجمَع على الزاني المحصَن بين الجلد والرجم.
"قال: نعم، فأمر به فرجم بالمصلى" لا بد من الاستفصال، لا بد من الاستفصال؛ لئلا يقع الخطأ، هذه القصة قصة ماعز فيها استفصال عن جميع ما يحتمله الوضع من وجوه، فعلى القاضي أن يستفصل، يورد جميع الاحتمالات؛ لئلا يغفل عن احتمال مؤثر في الحكم، فيقع الخطأ في حكمه.
فأمر به فرجم بالمصلى مصلى الجبانة التي يصلى فيها على الجنائز، "فلما أذلقته الحجارة، فلما أذلقته الحجارة" أصابته وذاق شدتها وقوتها على بدنه، "فرَّ" هرب، "فأُدرك" يعني لحقوه، "فرجم حتى مات، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- خيرًا" لما مات قال: «إنه لينغمس الآن في أنهار الجنة»، وصلى عليه، وصلى عليه" هذه رواية معمر كما في صحيح البخاري فيها التنصيص على الصلاة عليه.
فيه دليل على أن المقتول بحد أنه يصلى عليه، ولما صلى النبي- عليه الصلاة والسلام- على الغامدية قالوا له: أتصلي عليها وقد زنت؟! قال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم»، فدل على أن المرجوم المقتول بحد لاسيما إذا جاء تائبًا منيبًا صالحًا في نفسه ليس من أهل الجرائم ولا من أهل السوابق فإن هذا يصلي عليه الإمام على ضوء هذه الرواية، رواية معمر، ورواية الأكثر ليس فيها هذه الزيادة: وصلى عليه، وحكم عليها بعض أهل العلم بالشذوذ؛ لأن الأكثر لم يذكروا هذه الجملة: فصلى عليه.
قال: "هكذا رواه البخاري من رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: فصلى عليه"، رواية الأكثر عدم ذكر هذه الزيادة، وهذا الصنيع مما تتباين فيه أنظار المحدِّثين، فمنهم من يقول: هذه زيادة من معمر، ومعمر ثقة، زيادة من معمر، ومعمر ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة لاسيما وقد خرجها البخاري في صحيحه، ومنهم من يقول: إنها معارضة لرواية الأكثر، حيث سكتوا عنها، ولو كانت محفوظة لذكروها، فيحكم عليها بالشذوذ، وقد فعل جمع من الحفاظ فقالوا: إنها شاذة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصل عليه، ورواية أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي: نفوا الصلاة عليها قالوا: ولم يصل عليها، يعني الروايات في الصحيحين وغيرهما رواية معمر أثبتت الصلاة، ورواية غيره ممن هو مثله في الحفظ وأكثر منه من حيث العدد لم يذكروها، وعدم الذكر لا يقتضي عدم الوجود، عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، يعني في رواية الجماعة في الصحيح عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، إنما ذكر العدم عدم الصلاة في رواية أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي حيث قالوا: ولم يصل عليه، ولم يصل عليه.
على كل حال هذا مما يخضع للاجتهاد، فإن رأى الإمام أن هذا الشخص صاحب سوابق وصاحب جرائم، وقتل في حد، أو رجم بزنى، ولم يأت تائبًا إنما شهد عليه فمثل هذا لا يصلي عليه الإمام، ولا يصلي عليه أهل الفضل؛ زجرًا له وردعًا لمن يعمل مثل عمله على ما سيأتي في بعض القصص، وأما إذا جاء تائبًا منيبًا، ورأى الإمام أن مثل هذا توبته هدمت ما اقترفه من ذنب فصلى عليه فالأمر إليه، فالمسألة اجتهادية لاسيما في صحيح البخاري أن النبي- عليه الصلاة والسلام- صلى عليه.
قال: "وصححه الترمذي وهو الصواب، وهو الصواب" يعني عدم ذكر الصلاة عليه هو الصواب، أو نفي الصلاة عليه هو الصواب، هذا كلام المؤلف، "والصحيح عن معمر كرواية غيره عن الزهري، والله أعلم" يعني الخلاصة أن معمرًا اختلف عليه في إثبات الصلاة وفي عدم ذكرها، فعنه رواية وهي التي صدر بها المؤلف روايات الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى عليه، وفي رواية عنه عن معمر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصل عليه، فحفظ عنه الإثبات والنفي، والنفي يوافقه عليه غيره، فهو أرجح عند جمع من أهل العلم، لكن مثل ما قلنا: إن المسألة بمثل هذا التفصيل يزول الإشكال، يعني مثل ماعز الذي قدَّم نفسه للحد والقتل وجاء تائبًا منيبًا، وينغمس في أنهار الجنة وإقامة الحد عليه محت ما عليه من ذنوب، لا شك أن مثل هذا لو صلى عليه الإمام ترغيبًا في مثل فعله من التوبة والندم التوبة الصادقة والندم على ما مضى، لا يوجد ما يمنع منه، إن شاء الله تعالى.
قال: "وروى مسلم في حديث الغامدية من رواية بريدة" سيأتي حديث الغامدية بالتفصيل ومثله حديث الجهنية، الجهنية امرأة من غامد، وامرأة من جهينة، وهل هما قصتان حادثتان أو حادثة واحدة؟
بعض الشراح يقول: غامد بطن من جهينة، غامد بطن من جهينة، فعلى هذا تكون القصة واحدة، لاسيما للتشابه الكبير في سياق القصتين، ومنهم من يقول: لا، هما قصتان، إحداهما لامرأة غامدية، والأخرى لامرأة من جهينة.
"وروى مسلم في حديث الغامدية من رواية بريدة، ثم أمر بها، ثم أمر بها"، يعني فرجمت "فصلى عليها ودفنت"، فصلى عليها في بعض الروايات فصُلِّيَ عليها الرواية التي معنا صريحة في أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى عليها، ودليل رجحان هذه الرواية أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قيل له: أتصلي عليها وقد زنت؟! قال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم»، وفي رواية: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكس، لو تابها صاحب مَكس»، فدل على أن المكوس من الموبقات، ومن عظائم الأمور، ثم أمر بها وصلي عليها ودفنت،، وهذا شاهد لرواية معمر أن المقتول حدًّا يصلي عليه الإمام إلا إذا رأى أن المصلحة في عدم الصلاة عليه.
قال: "وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قتل نفسه، أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قتل نفسه بمشاقص"، المشقص هو النصل نصل السهم المحدد قتل نفسه به، نسأل الله العافية بهذا المحدَّد كالسكين والمخْيَط، وما أشبه ذلك، هذا المحدد الذي ينفذ في البدن، نسأل الله السلامة والعافية.
"أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلِّ عليه" الإمام لا يصلي على قاتل نفسه، كما أنه لا يصلي على الغالّ الذي يأخذ من الغنيمة قبل قسمتها؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «صلوا على صاحبكم»، وهنا لم يصلِّ على من قتل نفسه، وقتل النفس من عظائم الأمور، فإذا كان تمني الموت جاء النهي عنه فإن مباشرة الموت للنفس من عظائم الأمور، ومن قتل نفسه بشيء جاء به يوم القيامة، من قتل نفسه بسم فإنه يأتي وسمه في يده يتحساه، ومن قتل نفسه بحديدة، ومن قتل نفسه بالتردي من جبل وما أشبه ذلك فإنه يفعل به يوم القيامة كذلك.
ولا يعلم في النصوص ما يدل على مباشرة الإنسان قتل نفسه على أي حال من الأحوال، لم يرد في النصوص ما يدل على أن الإنسان يباشر قتل نفسه، قد يوجد في النصوص ما يدل على التسبب، قد ينغمس الإنسان بين الصفين، ويغلب على ظنه أنه يقتل، هذا لا مانع منه، جاء ما يدل عليه، قد يدل على شيء يتمكن من يريد قتله من قتله، يتسبب في ذلك، لكن أن يباشر ذلك لا يوجد في النصوص ما يدل عليه، ففي قصة الغلام تسبب، ليست مباشرة، وتسبب في قتل نفسه، وسيقت في شرعنا وإن كانت في شرع من قبلنا سيقت مساق المدح، لكن مع ذلك هو لم يباشر قتل نفسه، فمباشرة قتل النفس حرام؛ إذ لا يوجد في النصوص ما يدل عليها مهما كان المبرر، مهما كان السبب، مهما كان الداعي، نعم قد يتسبب في قتل نفسه، لكن يباشر قتل نفسه لا يعلم في النصوص ما يدل على ذلك.
هذا الذي قتل نفسه بالمشاقص، النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصل عليه، فدل على أن الإمام لا يصلي على من قتل نفسه، المنتحر هذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يصلي عليه الإمام، هو مسلم لم يخرج بذلك عن دائرة المسلمين، فيصلي عليه عموم المسلمين، لكن الإمام وأهل الفضل ونوابه، نواب الإمام لا يصلون عليه، وكذلك الغالّ الذي يأخذ من الغنيمة قبل قسمتها لا يصلي عليه الإمام، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «صلوا على صاحبكم» الذي عليه الدين، الذي عليه دين لما قدم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- كما تقدم قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أعليه دين؟» قالوا: نعم، قال: «صلوا على صاحبكم» فلما ضمن الدين صلى عليه -عليه الصلاة والسلام-، وكان هذا في أول الأمر قبل الفتوح، النبي -عليه الصلاة والسلام- ضمن الديون بعد الفتوح، وبعد أن وسع الله على المسلمين ضمن الديون في بيت المال. ولا يعني هذا أن الإنسان ينهمك في الديون، ويستغرق فيها، ويتخبط في أموال الناس ثم يقول: ديوني تسدد من بيت المال، هذا ليس بصحيح، لكن من استدان لضرورة، لمعيشته، لأكله، لقوت، ولده، مثل هذا يتحمل عنه.
أما من أسرف وأساء في استعمال الأموال وأخذ أموال الناس فإن هذا لا يدخل في مثل هذا الحديث، ما يقال: هذا والله يسدد عنه من بيت المال.
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابًّا" التردد هل هي ذكر أو أنثى، ولذا جاءت الضمائر مرة للمذكر ومرة للمؤنث؛ لأن الراوي لا يدري، شك هل هي امرأة سوداء، أو شاب، أن امرأة سوداء، وهذا الاختلاف سواء كان ذكرًا أو أنثى هذا لا يؤثر في الحكم، هذا لا أثر له في الحكم، ولا يترتب عليه أثر في حكم الحديث، الحديث صحيح مخرج في الصحيحين وغيرهما، يعني هل التردد من الراوي دليل على عدم ضبطه للقصة، وحينئذ يكون له أثر في صحة الخبر؟
يعني كما يُتردد في تمييز الراوي بين المهملين، يعني إذا قال: حدثنا محمد أو حدثنا سفيان أو حدثنا حماد لم نستطع أن نميز محمدًا من شيوخ البخاري. على كل حال كلهم ثقات، لم نميز المراد بسفيان هل هو ابن عيينة أو الثوري، كلهم ثقات، أينما دار فهو على ثقة، وهنا الحكم لا يختلف سواء كانت القصة لشاب أو لامرأة سوداء.
"أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابًّا، ففقدها النبي -صلى الله عليه وسلم"- أو فقده "فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات" أو ماتت، فقال: «أفلا كنتم آذنتموني؟» أي أعلمتموني، آذنتموني يعني أعلمتموني، وهذا النوع من الإيذان والإعلام لا شيء فيه، ولا يدخل في النعي الذي جاء النهي عنه، على ما سيأتي، لا يدخل في النعي، مجرد الإخبار بموت الميت من أجل أن يسارع في تجهيزه، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، والمسارعة بسداد ديونه، وإعلام أقاربه وأصحابه ومحبيه؛ ليصلوا عليه، مجرد هذا الإعلام لا شيء فيه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «أفلا كنتم آذنتموني؟» مجرد هذا الإعلام لا إشكال فيه، وسيأتي ما يدل على النهي عن النعي، ونعى النبي -عليه الصلاة والسلام- النجاشي على ما سيأتي، فإلى هذا الحد لا إشكال فيه، مجرد الإخبار بموت الميت لمقصد صحيح لا إشكال فيه، ولا يدخل في النعي الذي جاء النهي عنه.
"قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره" ماتت بليل، فكرهوا أن يزعجوا النبي -عليه الصلاة والسلام- بالليل، ويخرجوه من بيته في الظلام ليصلي عليها أو عليه؛ لأنها ليست بذات شأن، وهذا موجود في الناس إلى اليوم، يعني إذا مات أحد من علية القوم أو من الملأ سهل أن توقظ النائم وتخبره بهذا الخبر، يسهل عليك وعلى النائم أيضًا، يسهل، لكن لما يموت من أطراف الناس ومن آحادهم توقظ النائم؟ هذا موجود في نفوس الناس إلى اليوم، لكن هذه لها فضل، أو هذا الشاب له مزية، الذي يقم المسجد، يخرج القمامة والكناسة من المسجد، هذا ينبغي أن يعتنى ويشاد به ويرفع من شأنه؛ ليقتدى به.
"فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره فقال: «دلوني على قبره» أو قبرها، على الاحتمالين، فدلوه على القبر، فصلى عليها، فصلى ... دليل على الصلاة، صلاة الجنازة خاصة في المقبرة، والصلاة على القبر لمن لم يصل عليه قبل الدفن يصلي على القبر، يصلي على القبر، ولا تدخل صلاة الجنازة في النهي عن الصلاة إلى القبور، وفي المقبرة، «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها»، في حديث أبي مرثد عند مسلم: «لا تصلوا إلى القبور».
قد يقول قائل: هذا صلى إلى قبر، والحديث متفق عليه، نقول: هذا خاص بصلاة الجنازة، ولا يتناول غيرها من الصلوات، فالصلاة في المقبرة باطلة؛ للنهي عنها، أما صلاة الجنازة فيصلى على القبر، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على هذه المرأة السوداء، أو على هذا الشاب، وصلى على البراء بن معرور لما مات والنبي -عليه الصلاة والسلام- بمكة، فلما جاء بعد شهر صلى عليه، فيصلى على القبر، وثبت ذلك في أكثر من قصة، في أربع قصص أو خمس للنبي- عليه الصلاة والسلام- صلى على القبر.
ويختلفون في الحد المؤقت في الصلاة على القبر؛ فمنهم من يرى أنه لا حد له؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين، ومنهم من يقول: إنه متى علم به وقدر على الصلاة عليه يصلي طالت المدة أو قصرت، ومنهم من يحد ذلك بشهر، وهذا هو المعروف عند الحنابلة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على البراء بن معرور بعد شهر من دفنه، ولا يجيزون الزيادة على ذلك، لكن الحديث ليس فيه ما يدل على التحديد، وأنه لو كانت المدة أكثر من شهر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يصلي عليه، فبمجرد ما يعلم الإنسان بموته ودفنه ويتمكن من ذلك بأن كان غائبا ثم حضر أو مريضًا ثم شفي أو ما أشبه ذلك، وزال المانع فإنه يصلي عليه.
ثم قال: «إن هذه القبور»، قال -عليه الصلاة والسلام-: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة» دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي سلمة أن ينوِّر الله له في قبره، أن ينور الله له في قبره، فالقبور لا شك أنها مظلمة، الأصل فيها أنها مظلمة، نعم قد ينور للمرء بحسب أعماله الصالحة، لكن الأصل في القبور أنها ليس فيها شيء من وسائل الإضاءة، فهي مظلمة، هذا الأصل فيها، لكن ينور على المسلم بدعاء المسلمين، ومن باب أولى دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-، كما حصل لأبي سلمة، وينور على العبد المسلم، ويفسح له في قبره على حسب أعماله الصالحة.
«إن هذه القبورَ» المعرفة إذا جاءت بعد اسم الإشارة تعرب بدلًا أو بيانًا واسم الإشارة منصوب على أنه اسم إن فيقال: «إن هذه القبورَ مملوءة ظلمة»، يعني في جميع نواحيها مظلمة، يعني ما فيها جزء منها فيه نور وجزء كلها مملوء ظلمة «ظلمة على أهلها» ظلمةً من يعربها؟ مملوءةٌ خبر إنّ، ظلمة مملوءة اسم مفعول يعمل عمل فعله.
طالب: .............
إعرابها.
طالب: .............
تحول اسم المفعول إلى فعل ويحوَّل فعل مبني..
طالب: .............
مفعول به..
طالب: .............
ما أسمع..
طالب: .............
لا، ما تجيء نائب فاعل نائب فاعل القبور القبور مملوءة مُلئت القبور ظلمة.
طالب: .............
ماذا؟ حال؟
طالب: .............
لا لا.
طالب: .............
كيف؟
طالب: .............
تمييز أم تفسير أو سمها ما شئت على طريقة المتقدمين، يسمونها تفسيرًا، وأساليب المتأخرين تمييز.
«على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم» يعني بدعائي وشفاعتي لهم، لما صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- لا شك أن القبر بدلًا من أن كان مظلمًا صار فيه نور، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم، منهم من يقول: إن هذه الجملة مدرجة.
قال: "متفق عليه، واللفظ لمسلم، وآخر حديث البخاري: فصلى عليها"، ما فيها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة، ما فيه فقالوا هذه مدرجة، مقتضى الإدراج ألا تكون من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، يعني مقتضى الإدراج الزيادة في الخبر المرفوع أنها ليست من قوله -عليه الصلاة والسلام-، وقد تكون مدرجة مأخوذة من حديث آخر، وإن كان مرفوعًا وإلا فاللفظ صريح في اللفظ؛ لأن هذه القبور مملوءة ظلمة هذا لا يستطيع أن يقوله أحد برأيه، وقوله -عليه الصلاة والسلام- «وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم» هذا صريح بأنه من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، فإن كانت مدرجة مزيدة في هذا الخبر من خبر آخر صحيح من قوله -عليه الصلاة والسلام- فهذا لا مانع من الحكم عليها بالإدراج لاسيما وأن رواية البخاري لا توجد فيها هذه الزيادة، وأما القول بأنها مدرجة، يعني مزيدة من الراوي فلا؛ لأن اللفظ صريح في الرفع.
قال -رحمه الله-: "وعن بلال العبسي عن حذيفة أنه إذا مات له ميت قال: لا تؤذنوا به أحدًا" لا تخبروا أحدًا إذا مات له ميت، قال: لا تؤذنوا به أحدًا لا تعلموا به أحدًا، لا تخبروا به أحدًا. "إني أخاف أن يكون نعيًا"، وهذا من مزيد الاحتياط من حذيفة- رضي الله عنه وأرضاه-.
"إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النعي"، في الحديث السابق «أفلا كنتم آذنتموني؟» وهنا يقول إذا مات الميت قال: لا تؤذنوا به أحدًا، لا تخبروا أحدًا، وهذا لا شك أنه مزيد احتياط، وإلا فمجرد الإخبار بموت الميت لمقصد صحيح لا شيء فيه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «أفلا كنتم آذنتموني؟»، ونعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فدل على أن مجرد الإخبار لا يدخل في النعي المنهي عنه.
"إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النعي" النعي المنهي عنه هو ما كان موجودًا في الجاهلية، وتوارثه بعض المسلمين من رفع الصوت بالخبر بموت الميت في المجامع والمحافل وأفواه السكك والأبواب، وبعضهم يعلنه في الأماكن المرتفعة، ويعددون المحاسن، ويرفعون أصواتهم، هذا النعي الذي كان يستعمله أهل الجاهلية، وهو الذي فيه النعي، أما مجرد الإخبار لمقصد صحيح؛ ليجتمع الناس للصلاة عليه، وليبادروا في تجهيزه، والصلاة عليه، ودفنه، وليحضر الغائب من أهله وذويه ومحبيه، ويبادَر بسداد ديونه فهذا لا إشكال فيه.
طالب: .............
نعم؟
طالب: ...........
النعي في الجرائد الأمور بمقاصدها، يعني إذا كان المقصود بذلك التفاخر والتباهي أن فلانًا مات، وأعلن عنه بصفحة كاملة، وما أشبه ذلك فهذا يدخل في المنهي عنه، وأما إذا كان لإخبار الغائبين ممن له أو عليه حق له فمثل هذا يرجى أن لا يكون له بأس، لكن يكتفى من ذلك بقدر ما يتحقق به الهدف، يعني تعرف أن الإعلانات في مقابل الصفحة الواحدة بألوف مؤلفة، والخبر يمكن أن ينشر بسطر أو سطرين، والحاجة تقدر بقدرها.
"رواه أحمد، وهذا لفظه، وابن ماجه والترمذي وحسنه.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من رجل مسلم يموت، ما من رجل مسلم يموت»".
والرجل في حكمه المرأة؛ لأن النساء شقائق الرجال، وأحكام النساء مثل أحكام الرجال إلا فيما جاء الدليل بتخصيص الرجل به أو المرأة، وإلا فالحكم واحد.
«ما من رجل مسلم» هذا قيد له أثر، فالكافر لو صلى عليه الملايين ما استفاد، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء:48]، الكافر لا ينفعه من يصلي عليه، المشرك لا يغفر ذنبه ولو شفع له من شفع، ولو شفع له من شفع.
«ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً» يعني يصلون عليه، الصلاة شفاعة، دعاء المسلمين لأخيهم الذي مات شفاعة له، «فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله تعالى فيه» لا يشركون هذا سبب من أسباب المغفرة، لكن على ألا يوجَد مانع يمنع من قبول هذه الشفاعة، المسلمون يدعون لأخيهم الميت، ويدعون للأحياء، والمسلم يدعو لنفسه، ويدعو لمن يحب، هذه أسباب، فإذا انتفت الموانع ترتب الآثار على الأسباب، وإذا وجدت الموانع فإنها لا تترتب عليه الآثار، كما في الحديث الذي أوردناه سابقًا، وذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب، هذه كلها أسباب، لكن وجد المانع، مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له. استبعاد لوجود المانع، وهذا إذا وجد منه ما يمنع من قبول هذه الشفاعة فإنها لا تترتب عليها آثارها.
«ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله تعالى فيه»، وجاء مائة، وجاء ثلاثة صفوف، يعني من صلى عليه ثلاثة صفوف، ويستحب بعض أهل العلم أن يصف الناس ثلاثة صفوف في الصلاة على الجنازة، يصفون ثلاثة صفوف؛ ليتحقق ما جاء في الخبر الذي ذكرناه آنفًا، وإن كانوا مائة، وصفهم ثلاثة صفوف، فتوافرت فيهم جميع النصوص، هم أربعون فأكثر، وبلغوا المائة، وثلاثة صفوف، يعني يكون الأمر أرجى إن شاء الله تعالى، بعضهم يقول: لو كانوا ستة يصفون ثلاثة صفوف، كل صف فيه اثنان، لكن صلاة الجنازة صلاة، والأمر بإتمام الصف الأول فالأول، فلا يقاوم مثل هذا ما جاء في تسوية الصفوف، وفي جمعهم على صف واحد كما هو الأصل، لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله تعالى فيه.
وقال: "عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه"، ادخلوا به المسجد، الأصل أن الصلاة تكون في الجبانة التي هي مصلى الجنائز خارج البلد، لكن عائشة- رضي الله عنها- تريد ألا تبعد عن بيتها، ولا تتحمل هذه المشقة حتى تخرج من المدينة لتصلي، قالت: مروا به المسجد؛ لأصلي عليه، فكأنه أنكر عليها، قالت: فأنكر ذلك عليها.
"ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر ذلك عليها"؛ لأنه معروف مصلى الجنائز خارج المدينة، "فقالت: والله" تستدل على صنيعها، وتؤكد ذلك باليمين، "والله لقد صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابني بيضاء" سهل وسهيل "ابني بيضاء في المسجد، سهيل وأخيه" سهل، والبيضاء وصف، واسمها دعد كما قال المؤلف، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي، يعني حين ينسب الرجل لأمه؛ لكونها أشهر من أبيه، هي أشهر من أبيه، فينسب إليها.
صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو حامل أمامة، حامل أمامة بنت زينب، أبوها أبو العاصم بن الربيع، فإذا كانت الأم أشهر عند الناس، والأب لا يتأثر بذلك، فلا مانع من النسبة إلى الأم.
والله لقد صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابني بيضاء، هذا وصف لها، واسمها كما يقول المؤلف دعد، والبيضاء وصف لها، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي.
"رواهما مسلم وقال: سهيل بن دعد هو ابن البيضاء، وأمه بيضاء"، ففي هذا دليل على جواز الصلاة على الميت في المسجد، والعلماء يختلفون في حكم الصلاة على الميت في المسجد؛ فمنهم من يرى أنه لا مانع من الصلاة على الميت في المسجد؛ لهذه الأحاديث، لاسيما إذا أمن تلويث المسجد، إذا أمن التلويث، أما إذا كان فيه هناك احتمال لأن يخرج من الميت شيء يلوث المسجد فإنه لا يصلى عليه في المسجد.
وعلى كل حال الأدلة صحيحة صريحة في جواز الصلاة على الميت في المسجد، ولا مانع منها إن شاء الله تعالى.
"وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: صليت وراء النبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأة ماتت في نفاسها، صليت وراء النبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها وسْطها" وسْطها في المحسوسات يقولون: وسْط، يعني فيما له طرفان يكون وسْط، وفي المعنويات وسَط، صليت وراء النبي -عليه الصلاة والسلام- على امرأة ماتت في نفاسها، من ماتت في النفاس بأثر الولادة جاء ما يدل على أنها شهيدة، يعني ماتت بجُمْع هذه شهيدة، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى عليها، والحديث متفق عليه، فدل على أن الشهيد ما عدا شهيد المعركة الذي جاء الدليل على أنه لا يصلى عليه، وإن جاء النص على تسميته شهيدًا فإنها يصلى عليها، فكل الشهداء يصلى عليهم ما عدا قتيل المعركة.
فقام عليها وسطها، دل على أن المرأة في الصلاة على المرأة يقوم الإمام في وسطها، يكون بإزاء وسط المرأة، وأما بالنسبة للرجل فبإزاء رأسه أو صدره، بإزاء رأسه، والمرأة في وسطها، وإذا وجد جنائز مختلطة من رجال ونساء يقدم الرجال، وتكون رؤوسهم محاذية لبعض، وأوساط النساء محاذية لرؤوس الرجال، فإذا قام الإمام بإزاء رؤوس الرجال يكون قد قام بالتالي بإزاء أوساط النساء، بإزاء أوساط النساء، وأي جزء صار الإمام بإزائه من رجل أو امرأة صحت الصلاة، لكن هذا هو الأولى، هذا هو الأولى.
"متفق عليه، واللفظ للبخاري".
قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي" نعى النجاشي يعني أخبر بموته، "في اليوم الذي مات فيه"، النعي هنا يراد به الإخبار، ومجرد الإعلام بموته، نعى النجاشي، النجاشي لقب على كل من ملك الحبشة كما يقال لمن يملك مصر قبل الإسلام يقال له: فرعون، والذي يملك الروم يقال له: قيصر، والذي يملك الفرس يقال له: كسرى، والذي يملك اليمن يقال له: تُبَّع، وهكذا، هذه ألقاب ثابتة عندهم، والنجاشي الذي نعاه النبي -عليه الصلاة والسلام- الرجل الصالح الذي صار ردءًا للمسلمين لما ضيق على المسلمين بمكة هاجروا إل الحبشة مرتين، فآواهم النجاشي، ومنعهم ممن أراد أذيتهم، وأسلم، فلما مات النجاشي هذا، واسمه أصحمة، أصحمة بن أبحر، هذا النجاشي المسلم لما مات نعاه النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخبر بموته في اليوم الذي مات فيه، مع بعد المسافة بين الحبشة وبين المدينة.
وفي هذا علم من أعلام النبوة، حيث أخبر بوفاته من دون وسائل الاتصال، الآن إذا حصل الخبر بأقصى المشرق يعلم به في الوقت نفسه من هو بأقصى المغرب، ولا عجب في ذلك وجود وسائل الاتصال قربت هذا، لكن في وقته -عليه الصلاة والسلام- ليس فيه شيء من ذلك، وإنما أخبر من قبل الوحي، أخبر بذلك فأخبر به في اليوم الذي مات فيه.
"وخرج بهم إلى المصلى" خرج بهم إلى المصلى هذا يستدل به من يقول: إن الميت لا يصلى عليه في المسجد، لكن ما خشيه القائل من تلويث المسجد لا يمكن أن يتصور في الحديث الذي استدل به على أن الميت لا يصلى عليه في المسجد، فالنجاشي في الحبشة كيف يتصور منه أنه يلوث المسجد؟ فيستدل بخبره على عدم الصلاة في المسجد، إنما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وخرج بهم إلى المصلى؛ من أجل أن يكثر العدد، من أجل أن يكثر العدد، حتى جاء في بعض الروايات أن الراوي قال: وكنت في الصف الثالث، معروف أن هذه صحراء، فدل على أن هناك جموعًا غفيرة صلت على هذا الرجل الصالح.
"وخرج بهم إلى المصلى فصلى بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات" كبر عليهم أربع تكبيرات، ففي هذا دليل على مشروعية الصلاة على الغائب، مشروعية الصلاة على الغائب، النجاشي جسده بالحبشة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بالمدينة، وبينهما آلاف الأميال، وصلى عليه وهو غائب، فاستدل به من يقول: إن الميت الغائب يصلى عليه، ويطردون هذا في كل غائب يمكن أن يصلى عليه، ومن أهل العلم من يرى أن هذا خاص بالنجاشي، فمات كثير من الصحابة في غيبة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يثبت أنه صلى على واحد منهم، فلا يصلى على الغائب مطلقًا.
القول الأول أنه يصلى على الغائب مطلقًا؛ استدلالاً بالخبر، والثاني القول الثاني أنه لا يصلى على ميت غائب مطلقًا؛ لأنه لم يحفظ أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على أحد ممن مات في غيبة عنه إلا النجاشي، وهذا خاص به، ومنهم من يقول: يصلى على الغائب إذا لم يصلَّ عليه في بلده؛ لأن الحبشة بلاد نصارى ليست بلاد مسلمين، وإن كان الحاكم مسلمًا، وهذا يراه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: إذا مات الميت في بلد لم يصل عليه فيه فإنه يصلى عليه صلاة الغائب، واستظهره ابن حجر، إلا أنه قال: لم أجد نصًّا يدل على أنه لم يصل عليه في بلده، وهذا اختيار شيخ الإسلام- رحمه الله-، ومنهم من يقول: يصلى على الغائب في اليوم الذي مات فيه وما بعد ذلك فإنه لا يصلى عليه في اليوم الثاني أو الثالث، لا يصلى عليه، انتهى سنة فات محلها، ومنهم من يقول: يصلى على الغائب إذا كان في جهة القبلة، إذا كان في جهة القبلة، وهذا اختيار ابن حبان، ترجم في صحيحه: إذا مات الغائب في جهة القبلة فإنه يصلى عليه؛ أخذًا من قصة النجاشي في اليوم الذي مات فيه، هذا جمود مع هذه القصة؛ لأنه نص عليه أنه صلي عليه في اليوم الذي مات فيه كونه في جهة القبلة، النجاشي في جهة القبلة بالنسبة للمدينة، وفي جهة القبلة بالنسبة للمدينة، وهذا ظاهر؛ لأن المدينة في الجهة الشمالية الشرقية بالنسبة لمكة، والحبشة في الجهة الجنوبية الغربية، فإذا صلى المصلي بالمدينة يستقبل الكعبة، وبالضرورة تكون الحبشة في جهة القبلة، صحيح هذا استنباط دقيق، لكن لا ينفي ما عداه.
عندنا حكم شرعي ثبت بهذا الحديث، فلا نجمد على ما ورد في القصة ولم يرد ما يدل على اختصاص من مات وهو في جهة القبلة، ولذا يقول أهل العلم بالنسبة للقولين الأخيرين: إنه يصلى عليه في الموت الذي مات فيه أنه يصلى عليه في جهة القبلة أن هذا جمود على قصة النجاشي، وليس في الخبر ما يدل على نفي ما عداه.
كبَّر عليه أربعًا يدل على أن التكبيرات على الجنازة أربع، وجاءت أدلة كثيرة مختلفة من ثلاث تكبيرات إلى تسع، من ثلاث تكبيرات إلى تسع، لكن الأكثر الأربع. ابن عبد البر- رحمه الله- يقول: واختلفت الروايات في تكبيرات الجنازة، أو ما ورد في تكبيرات الجنازة من ثلاث إلى تسع، ثم اتفقوا على الأربع، عمر -رضي الله عنه وأرضاه- جمع الصحابة فاختار الأربع، واتفقوا على ذلك.
"وكبر عليه أربع تكبيرات. متفق عليه.
ولمسلم عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أخًا لكم قد مات»"، نعم كونه أخًا يدل على أنه مسلم، والصلاة عليه أيضًا تدل على إسلامه، فلا إشكال في إسلامه، لكن هل يعد صحابيًّا؟
لا، لا يعد صحابيًّا؛ لأنه لم ير النبي -عليه الصلاة والسلام- هو مات مؤمنًا به، فهو مسلم، لكن لم ير النبي -عليه الصلاة والسلام- فليس بصحابي، وإنما يعد في طبقة كبار التابعين المخضرمين «إن أخًا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه». "يعني النجاشي.
وله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد يكبِّر على جنائزنا أربعًا، وإنه كبر على جنازة خمسًا، وإنه كبر على جنازة خمسًا، فسألته فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكبرها".
هذا في صحيح مسلم يكبر خمسًا، زيد هذا هو ابن أرقم تكبيرات الجنازة مثل ما قلنا: الآثار والأخبار فيها مختلفة، فجاءت التكبيرات الأربع وهي أكثر، وجاء خمس، وجاء سبع، وجاء أكثر من ذلك، وجاء أقل إلا أنه في الأخير اتفقوا على الأربع، كما قال ذلك ابن عبد البر.
"قال: وعن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فقال: ليتعلموا أنها سنة". أو لتعلموا أو ليعلموا أنها سنة هذه التكبيرات الأربع يتلو كل تكبيرة منها ذكر، فبعد التكبيرة الأولى التي هي التحريم بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة كما جاء في حديث ابن عباس، وقبل قراءة الفاتحة يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم تبعًا للأمر الإلهي {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [سورة النحل:98]، ويبسمل، يقرأ البسملة، يقرأ البسملة، ثم بعد ذلك يقرأ الفاتحة كما في حديث ابن عباس، لكن هل يستفتح؟ يقرأ دعاء الاستفتاح أم ما يستفتح؟ طالب: .............
لماذا؟
طالب: .............
مبني على التخفيف في حديث أبي هريرة: أرأيت سكوتك بين التكبيرة والقراءة في الصلاة ما تقول؟ قال: أقول: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي..» الحديث في الصلاة، الجنازة صلاة أم ليست صلاة؟
صلاة يشترط لها جميع ما يشترط للصلاة، يشترط لها جميع ما يشترط، ألا تدخل في عموم حديث أبي هريرة؟ نعم، قال أهل العلم: إنها مبنية على التخفيف، فلا استفتاح، فلا استفتاح، ويحمل ما جاء في حديث أبي هريرة على الصلوات المعهودة ذات الركوع والسجود، مع أن عموم الخبر قد يتناول صلاة الجنازة، إلا أنها لما كان مبناها على التخفيف، رأى أهل العلم أنه لا استفتاح لها.
"طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب فقال: ليتعلموا أنها سنة".
سنة تقابل البدعة، يعني أنها مشروعة، وطريقة مأثورة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أو تقابل الواجب؟
طريقة مأثورة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقول الصحابي: سنة أو من السنة أو سنة نبيكم -عليه الصلاة والسلام- له حكم الرفع عند أهل العلم، ولا يعني أنه يريد السنة الاصطلاحية الحادثة التي يقابل بها أهل العلم الواجب، بمعنى أنه لا يأثم بتركها، ولذا يقررون أن الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة، فهي سنة، يعني طريقة للنبي -عليه الصلاة والسلام- معروفة عنه مأثورة، فبعد التكبيرة الأولى يقرأ فاتحة الكتاب، وبعد التكبيرة الثانية يصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبعد التكبيرة الثلاثة يدعو للميت، وبعد التكبيرة الرابعة يسلم على ما سيأتي في تفصيل ذلك، إن شاء الله تعالى.
"