شرح نخبة الفكر (07)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هنا نبدأ بالدرس:

الفسق:

الوجه الخامس من أوجه الطعن في الراوي وهو الفسق: والفسق في لغة العرب الخروج، تقول: فسقت الرطبة من قشرها لخروجها منه، والفويسقة الفأرة لخروجها من جحرها على الناس لأجل المضرة، يقال: فسق يفسق فسقاً بالكسر وفسوقاً فجر وخرج عن الحق، ورجل فُسَق وفسيق دائم الفسق.

والفسق في الشرع: الخروج عن طاعة الله -عز وجل-، فالكافر فاسق لخروجه عما ألزمه العقل واقتضته الفطرة السليمة، قال الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(55) سورة النــور]، وقال -جل وعلا-: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} [(18) سورة السجدة] فقابل الإيمان به والعاصي بما دون الكفر يقال له: فاسق، قال تعالى في شأن القاذف: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(4) سورة النــور] والمراد بالفاسق هنا المتلبس بمعصية دون الكفر؛ لأن الكلام في الراوي المسلم، واختلف الفسق الذي يتلبس به الفاسق إلى قسمين فالفساق نوعان:

فساق بالتأويل: يعني هناك الفاسق المتأول، وهم طوائف المبتدعة، وهذا القسم سيأتي الكلام عليه قريباً -إن شاء الله تعالى-، والفاسق غير المتأول، وهو المراد هنا المخل بشيء من أحكام الشرع من ترك واجب، أو ارتكاب محرم، وهذا القسم قد اتفق العلماء على عدم قبول روايته؛ لأن الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمانة ودين، والفسق يبطلها، لاحتمال كذب الفاسق على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن العربي: "من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعاً؛ لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة تبطلها"، وقال الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [(6) سورة الحجرات] هذه الآية تدل على عدم تصديق الفاسق في خبره، وصرح تعالى في موضع آخر بالنهي عن قبول شهادة الفاسق، وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(4) سورة النــور] ولا خلاف بين العلماء في رد شهادة الفاسق وعدم قبول خبره، وقال ابن حبان في المجروحين: "ومنهم -يعني الضعفاء- المعلن بالفسق والسفه وإن كان صدوقاً في روايته؛ لأن الفاسق لا يكون عدلاً والعدل لا يكون مجروحاً، ومن خرج عن حد العدالة لا يعتمد على صدقه، وإن صدق في شيء بعينه في حاله من الأحوال إلا أن يظهر عليه ضد الجرح حتى يكون أكثر أحواله طاعة الله -عز وجل-، فحينئذٍ يحتج بخبره، فأما قبل ظهور ذلك عنه فلا".

الوهم:

الوجه السادس: وما زلنا في اللف الذي ذكره الحافظ، حيث لف الأنواع العشرة، ثم ينشرها بعد ذلك بذكر أنواع علوم الحديث التي تتبع هذه الوجوه، الوجه السادس من أوجه الطعن في الراوي: الوهم، يقال: وهم بكسر الهاء غلط، وقد توهم الشيء تخيله وتمثله، سواءً كان في الوجود أو لم يكن، ويقال: وهم إليه يهم وهماً ووهماً ذهب وهمه إليه، والوهم من خطرات القلب والجمع أوهام، ويقال: وهمت في كذا وكذا فأنا أوهم وهماً إذا سهوت.

اصطلاحاً: هو رواية الحديث على سبيل التوهم، أي بناءً على الطرف المرجوح المقابل للظن، وبيان ذلك أن المعلوم إما أن يستقر في الذهن من غير تردد أو بتردد، فالأول يسمى العلم وسبق الكلام عليه، الثاني: إما أن يكون راجحاً أو مرجوحاً أو مساوياً. فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم والمساوي هو الشك.

والوهم عند الحكماء قوة جسمانية للإنسان محلها آخر التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات، قوى جسمانية يقول: محلها آخر التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات، هذه قوة غير العقل تدرك، قوة مدركة، ولذا توجد في الحيوانات، هذه القوة هي التي تحكم في الحيوان بأن الذئب مهروب منه، وأن الولد معطوف عليه، غير العقل، ولذا تجد بعض الحيوانات أو سائر الحيوانات فيها هذه القوة، تهرب مما يضرها، وتعطف على الولد، وتطلب ما ينفعها، وهي أيضاً موجودة حتى في المجانين الذين لا عقول لهم من بني آدم، هذه موجودة هذه القوة المدركة

فإذا كان الوهم هو الغالب على رواية الراوي ترك حديثه، أما الوهم اليسير فإنه لا يضر ولا يخلو عنه أحد، قال ابن المهدي: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه".

مخالفة الثقات:

الوجه السابع من أوجه الطعن في الراوي مخالفة الثقات: والثقات جمع ثقة، والثقة مصدر قولك وثقت به فأنا أثق به ثقة وأنا واثق به، وهو موثوق به، وهي موثوق بها، وهم موثوق بهم، ويقال: فلان ثقة، وهي ثقة، وهم ثقة، وقد تجمع فيقال: ثقات في جماعة الرجال والنساء، وثق به ثقة ووثوقاً ائتمنه، ووثقت فلاناً إذا قلت أنه ثقة فهو موثوق.

والثقة في الاصطلاح: من جمع بين صفتي العدالة والضبط وسبق الكلام عليهما، فمن خالف الثقات لا شك أنه ليس بثقة؛ لأن موافقة الثقات هي المقياس لمعرفة ضبط الراوي.

ومن يوافق غالباً بالضبطِ

 

فضابط أو نادراً فمخطِ

لمعرفة ضبط الراوي لا شك المقياس موافقة الثقات، والذي يخالفهم يحكم عليه بعدم الثقة والضبط، يقول ابن الصلاح: "يعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعرفين بالضبط والإتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة -ولو من حيث المعنى- لروايتهم، أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذٍ كونه ضابط ثبتاً، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه، وهذه المخالفة على ما تقدم تفصيله إن كانت من ثقة فحديثه شاذ، وإن كانت من ضعيف فحديثه يسمى المنكر، وتقدم شرح ذلك عند قول الحافظ: "فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ ومقابله الشاذ، ومع الضعف فالراجح المعروف ومقابله المنكر".

والمقصود هنا مخالفة الثقات، الإكثار من مخالفة الثقات، أما وقوع مخالفة الثقات النادر هذا يحكم على حديثه بالشذوذ لكنه لا ينزل عن درجة الثقات، المقصود بالمخالفة الكثيرة.

 الجهالة:

الوجه الثامن من أوجه الطعن في الراوي الجهالة: والجهل والجهالة نقيض العلم، يقال: جهله يجهله جهلاً وجهالة، وجهل عليه أظهر الجهل كتجاهل وهو جاهل، والجمع جُهُل وجُهْل وجهال وجُهَّل وجهلاء، والجهل على أضرب ثلاثة: خلو النفس من العلم وهذا هو الأصل.

الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.

والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل.

من اتصف بضرب من هذه الأضرب الثلاثة يقال له: جاهل، فإذا سئل الإنسان عن شيء وقال: لا أدري، هذا جاهل في هذه المسألة، من اعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه هذا جاهل، لكن جهله أشد، هذا الذي يسمى بالجهل المركب، هذا يجهل لكن إذا سئل ما يقول: ما أدري، يجيب، يجيب خطأ، هذا هو الجهل المركب، والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، إذا كان الوجه الصحيح للعمل أو صنع هذه الآلة كذا فعملها على غير الوجه الصحيح يسمى جاهل، فإذا ذهبت بسيارتك إلى من تظنه يعرف، تظنه مهندس، نعم، ثم أخذ يتخبط في إصلاح هذه السيارة، وأنت لا تعرف شيئاً في صناعة هذه السيارة تنتقده، بل يصلح شيئاً تعرف أنه جديد في السيارة، تعرف أنه جاهل في هذه الصنعة، يعني ليس الجهل خاص بالأقوال الجهل يدخل الأفعال، ولذا جعلوا الثالث من أضرب الجهالة: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، يعني لو جئت بسيارة ودخلتها على المهندس تقطع مثلاً هو بدأ يفكك يبي يغير الصفاية مثلاً، وأنت الآن قبل دقائق مغيره جديد، هذا يعرف وإلا ما يعرف؟ نعم، هذا لا يعرف، يعني لو قدر أن سيارة مثلاً فيها رجة، تدخلها على ورشة ثم يأخذ يتخبط يتخرص وكل شيء يفكه وما يدرك، هذا جاهل، لكن العالم صاحب الورشة الذي بعده، تأتي ثم ينظر، يكفيه شم الخطأ، يقول: غير الكفر الأمامي تروح الرجة، هذا ما فك شيء ولا استعمل شيء، تغير الكفر وتروح الرجة، هذا جاهل وإلا عالم؟ هذا عالم بالصناعة، فالجهل والعلم يعني معرفة الشيء على ما هو به هذا علم، واعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، أو صنع الشيء على خلاف ما حقه أن يصنع كل هذا جهل.

عرفنا أن الجهل يقال للجهل البسيط هو الشخص الذي لا يدري إذا سألته عما وراء هذا الجدار قال: والله لا أدري هذا غيب، هذا جاهل صحيح، لكن الجاهل بسيط، لكن الذي يقول: وراء هذا الجدار نساء، وهو ما في أحد، نعم، هذا جاهل مركب، هذا لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

قال حمار الحكيم يوماً
أنا جاهل بسيط
               

 

لو أنصف الدهر كنت أركب
وصاحبي جاهل مركب

يعني الحمار جاهل بسيط ما يدري، لكن ما يفتي الناس ويضلهم بغير علم، والله المستعان.

والمراد هنا الراوي المجهول وهو عند أهل الحديث كما في النزهة من لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معين، يرى الخطيب البغدادي أن المجهول من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد.

اعترض ابن الصلاح على كلام الخطيب بقوله: "قد خرج البخاري حديث جماعة ليس لهم إلا راوٍ واحد"، يقول: "منهم مرداس الأسلمي لم يروِ عنه غير قيس بن أبي حازم، كذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد منهم ربيعة بن كعب الأسلمي لم يروِ عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن، وذلك مصير منهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً برواية واحد عنه"، هؤلاء هم الوحدان الذين ليس لهم إلا راوٍ واحد، ويأتي ذكرهم في مجهول العين.

على كل حال أجاب النووي عن هذا الاعتراض -عن اعتراض ابن الصلاح على كلام الخطيب- بقوله: "والصواب نقل الخطيب، ولا يصح الرد عليه بمرداس وربيعة فإنهما صحابيان مشهوران، والصحابة كلهم عدول، فلا يحتاج إلى رفع الجهالة عنهم بعدد الرواة، أما غير الصحابة فأقل ما يرفع الجهالة عن الواحد منهم أن يروي عنه اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم".

روى الخطيب بسنده عن يحيى بن معين أنه قال: "إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة"، لكن قد ترتفع الجهالة برواية واحد إذا كان من النقاد الذين لا يروون إلا عن الثقات كالإمام مالك وشعبة بن الحجاج غيرهما.

أقسام المجاهيل:

أقسام المجاهيل: يختلف المجاهيل في قوة الجهالة وضعفها، ولذا قسم العلماء المجهول إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مجهول الذات: وهو الراوي الذي لم يصرح باسمه أو بما يدل عليه، لم يصرح باسمه أو بما يدل عليه، إذا قيل: حدثني رجل أو قال بعضهم، نعم، هذا مجهول، وجهالة الذات لها سببان: عدم التصريح باسم الراوي، وهذا النوع يسمى المبهم، الثاني: كثرة نعوت الراوي فيشتهر بشيء منها فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض فيظن أنه راوٍ آخر فيحصل الجهل به، هذا المشهور بين الناس باسمه فيكنى، فإذا قيل: حدثني أبو الخطاب قال: قال أنس بن مالك، من أبو الخطاب هذا؟ نعم؟

طالب:......

قتادة، نعم، قتادة، لكن كثير من الناس يجهل هذه الكنية فيوقعه هذا التصرف في جهل هذا الراوي، وهو مشهور علم من الأعلام.

حكم رواية مجهول الذات:

حكم رواية مجهول الذات: لا تقبل رواية مجهول الذات حتى يصرح الراوي عنه باسمه، أو يعرف اسمه بوروده من طريق آخر مصرح فيه باسمه، لا سيما إذا كان يشترك معه في الاسم الذي أوقع الجهالة، يشترك معه أكثر من واحد وفيهم الثقة وغير الثقة.

قال الحافظ ابن حجر: "ولا يقبل حديث المبهم ما لم يسم؛ لأن شرط قبول الخبر عدالة راويه، ومن أبهم اسمه لا يعرف، فكيف تعرف عدالته؟ وكذا لا يقبل خبره ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح"، يعني إذا قال الراوي: حدثني الثقة، لو أبهم بلفظ التعديل ولم يسمه قال: حدثني الثقة، كما يقوله كثيراً الإمام مالك، أو حدثني من لا أتهم كما يقوله بعضهم، لا يكفي، لا بد أن يسمي هذا الراوي؛ لأنه قد يكون ثقة عنده وهو عند غيره غير ثقة، فيقارن بين هذه الأقوال.

الإمام الشافعي قال: حدثني الثقة، وأحياناً يقول: حدثني من لا أتهم، ويريد بذلك إبراهيم بن أبي يحيى، وجماهير الأئمة على تضعيفه وضعفه شديد، فلا يكفي التعديل مع الإبهام.

ومبهم التعديل ليس يكتفي

 

به الخطيب والفقيه الصيرفي

أكثر أهل العلم على عدم الاعتداد بالتعديل مع الإبهام فإذا سماه قال: حدثني فلان وهو ثقة لا بأس، يقبل قوله ما لم يعارض بقول أقوى من قوله، من أهل العلم من يرى أن التعديل على الإبهام ملزم لمن يقلد هذا الإمام فإذا قال مالك: حدثني الثقة لزم المالكية العمل بخبره؛ لأنهم يقلدونه في الأحكام فليقلدوه في تعديل الرواة.

إذا قال الشافعي: حدثني الثقة لزم الشافعية كلهم الذين يقلدون الإمام الشافعي أن يقبلوا خبر هذا الثقة ولو مع الإبهام، وهذا فرع من مسألة تقليد الأئمة.

القسم الثاني: مجهول العين، وهو الراوي الذي ذكر اسمه، الأول ما ذكر الاسم مجهول الذات، ما ذكر اسمه هو المبهم والمهمل الذي لا يستطاع الوقوف على اسمه، ويشاركه جمع من الرواة الضعفاء، فيما ذكر به من كنية أو اسم، مع عدم البيان الكافي، هذاك سميناه مجهول ذات، يعني لا يوجد في كتب علوم الحديث تسميته بمجهول الذات، لكن حقيقته مجهول ذات، ذاته مجهولة، الثاني: مجهول العين، وهو الراوي الذي ذكر اسمه وعرفت ذاته لكنه مقل في الرواية، فلا يكثر الأخذ عنه، فلم يروِ عنه إلا راوٍ واحد، مجهول العين الذي يعرف اسمه، أبو محمد عبد الله بن سعيد مثلاً، أبو محمد عبد الله بن سعيد بن عمرو الأنصاري مثلاً، هل هذا ذاته مجهولة؟ لا، معلومة ذاته، لكن عينه مجهولة، وهذا مجرد اصطلاح، قد يكون معروف بين الناس، معروف يصلي مع الناس إذا قيل من أبو محمد عبد الله بن سعيد الأنصاري؟ قيل: فلان الذي بيته بجوار فلان معروف، لكنه مقل في الرواية، مقل في الرواية، لم يروِ عنه سوى راوٍ واحد، وتسميته مجهول العين مجرد اصطلاح وإلا عينه معروفة وذاته معروفة، قد يقول أبو حاتم: فلان ابن فلان من المهاجرين الأولين مجهول، يعني لكونه مقل في الرواية، وتسمية هذا النوع بمجهول العين مجرد اصطلاح وإلا فعينه معروفة كما بينا، حكم رواية مجهول العين: اختلف العلماء في رواية مجهول العين من حيث القبول والرد على أقوال نقتصر منها على أهمها:

الأول: أنه لا يقبل مطلقاً واختاره أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم.

الثاني: أنه يقبل مطلقاً وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام، وعزاه النووي لكثير من المحققين.

القول الثالث: التفصيل فإن كان الراوي المتفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأمثالهم كمالك نجم السنن، فإن مثل هذا يقبل إذا كان المتفرد بالرواية عنه ممن لا يروي إلا عن ثقة، فإنه يقبل وإلا فلا.

القول الرابع: فيه تفصيل أيضاً: فإن كان مشهوراً في غير العلم كأن يكون مشهوراً بالزهد كمالك بن دينار أو النجدة فإنه حينئذ يقبل وإلا فلا، اختاره ابن عبد البر.

إذا كان قاضي من قضاة المسلمين قاضي مثلاً وما حفظ فيه جرح ولا تعديل، وروى عنه واحد، يعني ما ذكر فيه قول لا جرح ولا تعديل، إنما ذكر هو من القضاة، الغالب أن القضاة عدول، مع رواية هذا الواحد يمشي، لكن إذا كان أمير، نعم كان عاملاً لفلان على البصرة مثلاً، وليس مشهور بالرواية روى عنه واحد هو داخل في حيز مجهول العين تقبل روايته وإلا لا؟ نعم؟ هذا حكمه يتبع من ولاه، فإن كان الذي ولاه عمر بن عبد العزيز مثلاً تميل النفس إلى كونه ثقة صح وإلا لا؟ لأن مثل عمر بن عبد العزيز لا يولي إلا ثقة، لكن إذا كان من ولاه معروف بالفسق مثلاً فإن هذا تميل النفس إلى عدم توثيقه حتى ينص الأئمة على توثيقه.

القول الخامس: تفصيل أيضاً: وهو إن زكاه أحد أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبل وإلا فلا، وهو اختيار أبي الحسن بن القطان وصححه ابن حجر، ولعله أرجح الأقوال وأعدلها، وبهذا نخرج من قضية الوحدان الذين خرج لهم البخاري ومسلم في الصحيحين، قد يقول قائل: يوجد مثل هؤلاء المجاهيل في الصحيحين، نقول: نعم، تخريج البخاري توثيق عملي، يعني تخريج البخاري للراوي ومسلم كذلك توثيق عملي لهذا الراوي، وهذا التوثيق مع رواية واحد يكفي في تعديل هذا الراوي، وهو القول الخامس إن زكاه أحد أئمة الجرح والتعديل سواءً كانت التزكية قولية أو فعلية كرواية أحد الشيخين عنه مع رواية واحد عنه قبل وإلا فلا، وهذا اختيار أبي الحسن بن القطان الفارسي المعروف، إمام من أئمة الحديث، وصحح هذا القول ابن حجر ولعله أعدل الأقوال.

القسم الثالث: مجهول الحال: وهو من عرفت عينه برواية اثنين عنه، عرفت ذاته بذكر اسمه كاملاً بما يتميز به عن غيره، وعرفت عينه برواية اثنين عنه ولم يوثق فلا يعرف بعدالة ولا بضدها، ومجهول الحال نوعان هما:  مجهول العدالة ظاهراً وباطناً، والثاني: مجهول العدالة باطناً لا ظاهراً، وهو المستور.

عرفنا أن مجهول الحال معروف العين، مكثر من الرواية يروي عنه أكثر من واحد، قد يروي عنه عشرة أشخاص، لكن نبحث في كتب الرجال لا نجد كلام لأهل العلم في هذا الراوي، هل هو ثقة أو غير ثقة، هذا مجهول الحال، وجهالة الحال نوعان: جهالة للعدالة ظاهراً وباطناً، وجهالة العدالة باطناً لا ظاهراً، يعني ظاهره عدل لكن باطنه؟ العدالة الباطنة التي تحتاج فيها إلى أقوال المزكين لا يعرف عنه شيء.

حكم رواية النوع الأول: مجهول العدالة ظاهراً وباطناً، ظاهراً وباطناً: يعني المسألة مفترضة في شخص يريد أن يدرس إسناد حديث لراوي ما رآه، وحينئذٍ هو لا يعرف عن عدالته لا الباطنة ولا الظاهرة، والنوع الثاني: مجهول العدالة باطناً لا ظاهراً هو يراه، قد يكون ممن يصلي معه في المسجد هو في ظاهره ملتزم، لم يرتكب محرم في الظاهر، وأما في الباطن فلا يدرى عنه، النوع الأول وهو مجهول العدالة ظاهراً وباطناً اختلف العلماء في روايته، فذهب الجمهور إلى أن روايته لا تقبل؛ لأن تحقق العدالة شرط في قبول رواية الراوي وهذا النوع لم تتحقق فيه العدالة، لا تقبل روايته، وهذا القول عزاه ابن المواق للمحققين، ويرى بعض العلماء قبول روايته معللاً قوله بأن معرفة عينه تغني عن معرفة عدالته، ولكن هذا القول ليس بشيء، يرى آخرون التفصيل: فإن كان الراويان أو الرواة فيهم من لا يروي إلا عن عدل قبل وإلا فلا، يعني ما نص على تعديله لكن روى عنه مالك، ومالك لا يروي إلا عن ثقة، مالك لا يروي إلا عن ثقة، هل نقول: تكفي رواية مالك لأنه لا يروي إلا عن ثقة؟ نعم رواية مالك تورث غلبة ظن لا شك؛ لأنه من أهل التحري والتثبت، لكن هل معنى هذا أن كون مالك لا يروي إلا عن ثقة... ويحيى بن سعيد القطان وجمع من أهل العلم صرحوا بأنهم لا يرون إلا عن الثقات يكفي في توثيق الراوي أو لا بد من التنصيص على توثيقه؟ حتى لو صرح بأن جميع أشياخه ثقات، لا يكفي حتى ينص على هذا الراوي بعينه؛ لأنه قد يغفل عن هذه القاعدة التي قررها، الإمام مالك -رحمه الله تعالى- روى عن أبي أمية عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ليس بثقة، وقال الإمام مالك: غرني بكثرة جلوسه في المسجد، فالإمام مالك وهو نجم السنن، وأشد الناس احتياطاً للسنة اغتر، فالراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه الجمهور من رد رواية الراوي حتى ينص على توثيقه.

وحكم رواية النوع الثاني وهو المستور: معروف العدالة ظاهراً، ظاهره العدالة لا يظهر عليه أثر من آثار الفسق هذا يسمونه المستور.

ومنهم من يطلق المستور بإزاء المجهول بجميع أنواعه، ومنهم من يطلق المستور بإزاء مجهول الحال بنوعيه، حكم رواية هذا النوع: اختلف العلماء في رواية من عرفت عينه وعرفت عدالته الظاهرة، وجهلت عدالته الباطنة وهو ما يعرف بالمستور عند بعضهم على قولين: فالجمهور على أن روايته مردودة ما لم تثبت عدالته الباطنة، وهؤلاء استدلوا بأن الفسق يمنع القبول، لكن هل هذا الراوي متصف بالفسق؟ نعم، يعني جاءك شخص بخبر أنت لا تعرف عنه شيء، أول مرة تراه، وقال لك: قدم زيد، تنظر في ظاهره ما في ولا محرم ارتكب لا حلق لحية ولا آثار شرب، ولا إسبال ولا شيء، الرجل مرضي في الظاهر تقبل خبره أو تقول: لا بد من معرفة حاله الباطنة؟ يمكن يزاول منكرات في الباطن، يمكن أنه فاسق في الباطن، لا شك أن الفسق يمنع القبول، لكن هل هذا الفسق متحقق في هذا الرجل؟ ما لم تثبت العدالة فلا يظن عدم الفسق؛ لأنه أمر مغيب عنا فكيف نقبله؟ هذا قول الأكثر، وللأمر بالتثبت في قبول الأخبار في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [(6) سورة الحجرات] قال إمام الحرمين: "الذي صار إليه المعتبرون من الأصوليين أنه لا تقبل روايته وهو المقطوع به عندنا"، وقال الرافعي: "وأطلق بعض المصنفين الاكتفاء بالعدالة الظاهرة وهو بعيد"، القول الثاني: يرى جماعة من العلماء أن رواية المستور مقبولة، وبه يقول الحنفية وابن حبان، وعللوا ما ذهبوا إليه بما يلي:

أولاً: لأن الناس في أحوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب الطعن، ولم يكلف الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كلفوا بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم.

الأمر الثاني: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يعمل بالظاهر، ويتبرأ من علم الباطن ((هلا شققت عن قلبه؟)) يعني لما قال: "لا إله إلا الله" في الظاهر، قال له الصحابي: "إنه إنما قالها معتصماً بها من السيف" قال: ((هلا شققت عن قلبه؟)) يعني عليك أن تحكم بالظاهر، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [(101) سورة التوبة] في الحديث: ((هلا شققت عن قلبه؟)) ولذا قال النووي: "الأصح قبول رواية المستور" والراجح -والله أعلم- قبول رواية المستور، يعني نحن مكلفون برد خبر الفاسق، إننا ما عندنا فسق الآن، ظاهره في العدالة ولسنا مكلفين بالحكم على الباطن، وإنما نحن مكلفون بالحكم على الظاهر، والراجح قبول رواية المستور لقوة الأدلة على قبوله، ويجاب عما استدل به أصحاب الرأي الأول: بأن سبب التثبت هو الفسق فإذا انتفى الفسق كما هنا انتفى وجوب التثبت.

بقيت مسألة وهي: أن الجهالة إذا حكم على الراوي بها، تجدون في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: سألت أبي عن فلان فقال: "مجهول" في أكثر من ألف وخمسمائة راوي قال عنه أبو حاتم: "مجهول"، وتبعه الذهبي في كثير من هؤلاء الرواة، وفي كتب الرجال كلها الحكم على كثير من الرواة بالجهالة، هل الجهالة الموجودة في هذه الكتب جرح أو هي عدم علم بحال الراوي؟ هل هي جرح أو عدم علم بحال الراوي، نعم؟ يأتي في مراتب الجرح والتعديل أن المجهول من ألفاظ الجرح، المجهول من ألفاظ الجرح، ويأتينا في النخبة قول الحافظ: ومن المهم معرفة أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً أو جهالة، فجعل الجهالة قسيم للجرح وليست منه، وليست بقسم من الجرح، يقول أبو حاتم في كثير من الرواة: "فلان مجهول، أي لا أعرفه"، فمقتضى هذا أنها عدم علم بحال الراوي، لكن مقتضى صنيعهم وإدخالهم لفظ المجهول في مراتب الجرح يدل على أنه جرح.

ما الذي يترتب على هذا الكلام؟ يترتب عليه أننا إذا درسنا إسناد ووجدنا فيه راوي قيل عنه في كتب الجرح والتعديل: "مجهول" إن قلنا: الجهالة جرح نقول: الحديث ضعيف؛ لأن فيه راوٍ مجهول، وإذا قلنا: عدم علم بحال الراوي قلنا: الحكم التوقف حتى نعرف حال هذا الراوي المجهول، فرق بين الحكم بالضعف مباشرة وبين التوقف حتى نتبين، وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان -إن شاء الله تعالى-.

البدعة:

الوجه التاسع من أوجه الطعن في الراوي البدعة: والبدعة في الأصل: اختراع الشيء لا على مثال سابق، اختراع الشيء لا على مثال سابق، يقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدع طريقة لم يسبقه إليها سابق، سواءً كانت هذه الطريقة مذمومة أو ممدوحة، وأكثر ما يستعمل الابتداع عرفاً في الذم، والله -سبحانه وتعالى- بديع السماوات والأرض، يعني هو الخالق والمخترع لهما لا على مثال سابق، فعيل: بمعنى مفعِل، أبدع فهو مبدع.

واصطلاحاً: كل ما أحدث في الدين بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، كل ما أحدث في الدين مما لم يسبق له شرعية من كتاب أو سنة فهو بدعة.

عرفها الشاطبي بأنها: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية -يعني يتعبد بها مخترعها- يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، والابتداع شامل لما تخترعه القلوب، وتنطق به الألسنة، وتفعله الجوارح، كما قرره الطرطوشي، يعني الابتداع يكون في الأقوال والعقائد والأفعال.

تقسيم البدع: بعض العلماء قسم البدع إلى قسمين: بدع حسنة، وبدع قبيحة سيئة، قال ابن الأثير: "البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه ورسوله فهو في حيز المدح" فقسم البدعة إلى ممدوحة ومذمومة، هل يوافق على هذا الكلام؟ "ما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه رسوله فهو في حيز المدح" هذا بدعة؟ هذا واقع فيما ندب....، في عموم النصوص ليس بقول مخترع.

من القسم الأول وهي البدعة الممدوحة، البدعة الحسنة قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه، نعمت البدعة هذه" رواه البخاري، فهي بدعة حسنة، ويدل على القسم الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل بدعة ضلالة)) رواه مسلم، قسم البدع العز بن عبد السلام إلى خمسة أقسام: واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة، ثم قال: "والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة"، ثم مثل لهذه الأقسام بأمثلة.

لكن الشاطبي -رحمه الله تعالى- لم يرتضِ هذا التقسيم بل رده وقوض دعائمه في الاعتصام حيث يقول: "هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة".

يقول العز بن عبد السلام: "فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة" والشاطبي يقول: "إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة"، كيف نسميها بدعة وفي قواعد الشرع وعموماته ما يدل على وجوبها؟ "ولو كان العمل داخلاً في عموم المأمور به أو المخير فيه فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين" كلام صحيح.

يعني كيف نقول بدعة واجبة بدعة مستحبة؟ من الذي أوجبها؟ إذا قلنا: بدعة واجبة من الذي أوجبها؟ إن كان الذي أوجبها الشارع ولو بالعموم يعني يشملها عموم نصوص فليست ببدعة، سبق لها شرعية من الشرع، فليست ببدعة، فإذا قلنا: إن هذه بدعة واجبة جمع بين متناقضين، إذاً كيف نجيب عن قول عمر في صلاة التراويح: "نعمت البدعة" سماها بدعة ومدحها فدل على أن من البدع ما يمدح، كيف نجيب؟ نعم؟

طالب:.......

طيب، هو سماها بدعة.

طالب:.......

بدعة لغوية، البدعة في اللغة: ما عمل على غير مثال سابق، ما عمل على غير مثال سابق، هذه عملت على غير مثال سابق؟ أو عملت على مثال سبق من فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- في ليلتين أو ثلاثة؟ وكونه عدل عنها لا رغبة عنها ونسخاً لها وإنما خشية أن تفرض.

الإجابة عن قول عمر -رضي الله عنه- حمل شيخ الإسلام ابن تيمية البدعة في قول عمر في اقتضاء الصراط المستقيم على البدعة اللغوية لا الشرعية، حيث قال في معرض رده التقسيم المذكور: "أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية: فهي ما لم يدل عليه دليل شرعي، وذلك أن البدعة –هذا كلام شيخ الإسلام- في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق"، هل صلاة التراويح عملت على غير مثال سابق ليتم ما قاله شيخ الإسلام؟ نعم؟

طيب حمل شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- البدعة في قول عمر إنما يتم لو لم يصلِ الرسول -عليه الصلاة والسلام- صلاة التراويح قبل عمر، نعم، لو لم يفعلها النبي -عليه الصلاة والسلام- قلنا: صحيح هذه الصلاة ما عملت على مثال سابق، فتصير بدعة لغوية، أو على الأقل لو لم يصلها جماعة، يعني صلاها النبي -عليه الصلاة والسلام- منفرد، وعمر جمع لها الناس فصار الابتداع في جمع الناس عليها، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- فعلها وفعلها جماعة، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فعلها على مثال سابق، وهو فعل الرسول -عليه الصلاة والسلام- وتعليله الترك بخشية أن تفرض، إذاً هي ليست بدعة لا لغوية ولا شرعية؛ لأنها من حيث اللغة لا ينطبق عليها التعريف اللغوي؛ لأنها عملت على مثال سباق، والشرعية سبقت شرعيتها من فعله -عليه الصلاة والسلام-.

الأولى بل أولى ما يقال في قول عمر: "نعمت البدعة" أن يحمل على المشاكلة في التعبير، فكأن عمر -رضي الله عنه- خشي أن يقال له: ابتدعت يا عمر، أو كأن قائلاً قال لعمر -رضي الله عنه-: ابتدعت يا عمر، فمن باب المشاكلة والمجانسة في التعبير قال: "نعمت البدعة"، في بعض الروايات: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة" فقال عمر -رضي الله عنه- على سبيل التنزل والمشاكلة: "نعمت البدعة" كما قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] السيئة الأولى سيئة بلا شك، لكن الثانية هي سيئة؟ نعم، ليست سيئة يعني معاقبة الجاني سيئة؟ إقامة الحدود سيئة؟ لا، يقول الشاعر:

قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه

 

قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا

هذا مشاكلة في التعبير ومجانسة، فالسيئة الثانية ليست بسيئة في الحقيقة، فمعاقبة الجاني حسنة للأمر به، لكنه سمي سيئة للمجانسة في التعبير والمشاكلة، وكذلك الجبة والقميص لا يتصور طبخهما، بل المقصود في حقهما الخياطة، فسمى الخياطة طبخاً للمشاكلة في التعبير، والله أعلم، هذا أولى ما يقال في كلام عمر -رضي الله عنه-.

إذا عُلم هذا فالمبتدع في اصطلاح المحدثين كما قال السخاوي -وهو مأخوذ من تعريف الحافظ للبدعة-: "من اعتقد ما أحدث في الدين بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بنوع شبهة لا بمعاندة"، وحكم رواية المبتدع سيأتي الحديث عنه حيث ذكره الحافظ -رحمه الله تعالى-.

سوء الحفظ:

والوجه العاشر من أوجه الطعن في الراوي سوء الحفظ: والحفظ يطلق على الحراسة والاستظهار، يقال: حفظت الشيء حفظاً أي حرسته، وحفظته بمعنى استظهرته وهو التعاهد وقلة الغفلة، والتحفظ قلة الغفلة في الكلام، والتيقظ من السقطة، ورجل حافظ، وقوم حفاظ وهم الذين رزقوا حفظ ما سمعوا، وقل ما ينسون شيئاً يعونه، ويطلق الحفظ على هيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، ويطلق الحفظ على هيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، يعني الحفظ يطلق على الغريزة الحافظة، كما يطلق على ضبط الشيء في النفس، ويضاده النسيان ثم هو أيضاً يستعمل في كل تفقد وتعهد ورعاية، كل هذا يقال له: حفظ، حفظ الأمانة حفظ، حفظ المتاع حفظ، حفظ المحفوظ في الصدر حفظ، والمراد به هنا ما يقابل النسيان، وهو ضبط الشيء في النفس، وسوء الحفظ قلته ورداءته.

لا شك أن الناس يتفاوتون في هذه الملكة التي هي ملكة الحفظ، يتباينون تبايناً كبيراً، فمن الناس من رزقه الله تميز في هذه الجهة فيحفظ الكلام لأول مرة، ومنهم من يحفظ من مرتين، ومنهم من يحفظ بثلاث، ومنهم من يحفظ لخمس، ومنهم من يحفظ لعشر، ومنهم من لا يحفظ ولا لمائة، لا شك أن الناس يتفاوتون، يوجد في السلف من يحفظ الكلام الكثير بمجرد سماعه، بل وجد منهم من يدخل أصبعيه في أذنيه إذا دخل السوق لئلا يحفظ كل ما يقال من خير وشر، الشعبي -رحمه الله تعالى- عرف عنه قوة الحفظ، كثير من السلف يحفظون، ووجد من يحفظ القضايا بلغاتها.

اختصم رجلان من العجم بلغتهما فطلبت البينة، طلب القاضي البينة، قالوا: ما عندنا بينة إلا شخص عربي ما ندري..، ما يفهم ويش إحنا نقول؟ فجيء بهذا العربي فسئل ماذا حصل؟ فذكر كل ما حصل حفظ، هو ما يدري إيش معناه؟ قال: هذا قال كذا ثم رد عليه هذا بكذا، وهذاك قال كذا ثم رد عليه..، حفظ، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} [(4) سورة الجمعة] يوجد في بعض تراجم الناس في كتب التراجم يقول: "ومن فضل محفوظاته كتاب الأغاني"، هذا تكميل هذا، يعني حفظ المهمات كلها وما بقي عليه إلا الأغاني فحفظه، مطبوع في أربعة وعشرين مجلد كبار، نعم، وبعض الناس يكرر الفاتحة عشرات بل مئات ولا يستطيع أن يحفظ، فيقال له: اذكر الله بدل الفاتحة، أكثر من الذكر يوجه إلى هذا، وبعض الناس يعاني من ضعف الحافظة، كم من مسلم يتمنى أن لو حفظ القرآن ولا يتيسر له ذلك، إما بسببه وانشغاله وعدم اكتراثه واهتمامه، أو بتركيبه حيث جعل الله حافظة من الضعف بحيث لا يستطيع أن يحفظ ما يريد، والناس يتفاوتون، والحفظ نعمة من نعم الله -عز وجل- على العبد، ضريبتها شكرها، شكر هذه النعمة، وألا تستعمل إلا فيما يرضي الله -عز وجل-، بعض الناس يعرض عن النعم، مثل نعمة الحفظ، لكن إيش همه؟ همه يحفظ ما ذكر في الجرائد، أو ما قيل في الأخبار، ويردده في المجالس، أو يحفظ المقطعات الغنائية، أو غير ذلك مما يضره ولا ينفعه، والله المستعان.

أقول: هذه نعمة ينبغي أن تصرف فيما خلقت له هذه النعمة، كسائر النعم شكراً للمنعم، واعترافاً بفضل ذي الفضل، يوجد الآن –ولله الحمد- من يتجه إلى الحفظ، كان الناس يظنون أن حفظ الكتب الكبيرة أساطير ما يمكن، يعني حينما تذكر في تراجم أهل العلم يظنونها من باب المبالغة، يحفظ الكتب الستة ما هو بصحيح! لكن الناس أعداء لما يجهلون، هذا ينظر في محيطه، كنا إلى عهد قريب من ينتسب إلى العلم تجد أعظم ما يطمح إليه حفظ القرآن مع البلوغ والزاد وما أشبه ذلك على هذه المتون الصغيرة، وهذا فيه خير كثير، لكن الناس لما جربوا حفظ الكتب حفظوا، وجد أن الأمة ما زالت بخير ولله الحمد.

المقصود أن هذه الملكة نعمة وهي تزيد بالتمرين، قابلة للزيادة فلا يأس، كما أنها تضعف بالإهمال، يعني شخص أهمل الحافظة سنين، ثم يريد أن يحفظ نعم بالتدريج تعود وبالتمرين تزيد، وإن كان الأصل أن قوي الحافظة قوي الحافظة، ضعيف الحافظة ضعيف، لكن هذا بإهماله تضعف حافظته، وذاك بمثابرته تزيد حافظته، فأهل العلم يذكرون طرق للحفظ فيذكرون الظروف المناسبة والأوقات المناسبة للحفظ، فيجعلون أول النهار أنسب وقت للحفظ، يعني إذا أخذ القدر الكافي من النوم واستجم ذهنه وفكره، فإنه أكثر استعداداً للحفظ من آخره بعد مزاولة الأعمال، المكان الضيق للحفظ أنسب من المكان الفسيح الواسع، الترديد والتعاهد مع الفهم يعين على الحفظ، فهم الكلام المراد حفظه يعين على الحفظ.

السلف كانوا يأخذون العلم بالتدريج، فيقرءون عشر آيات ويفهمونها ويحفظونها ولا يتجاوزونها إلى غيرها حتى يعرفوا ما فيها من علم وعمل، وذكروا في آداب المتعلم أن الإنسان إذا أراد أن يحفظ يحدد القدر الذي يغلب على ظنه أن حافظته تسعفه في حفظه، فلنقل مثلاً: خمس آيات، عشر آيات، ثم يردد هذه العشر آيات حتى يحفظها في اليوم الأول، ويجزم أنه ضبطها وأتقنها، من الغد يراجع ما حفظه بالأمس خمس مرات، ثم يحفظ نصيب اليوم حتى يجزم بأنه ضبطه وأتقنه، في اليوم الثالث يقرأ نصيب اليوم الأول أربع مرات، ونصيب اليوم الثاني بالأمس خمس مرات، ثم يأتي إلى وظيفة اليوم حتى يضبطها ويتقنها، وفي اليوم الرابع يأتي إلى نصيب اليوم الأول يراجعه ثلاث مرات، ونصيب اليوم الثاني أربع مرات، ونصيب اليوم الثالث خمس مرات، ثم بعد ذلك يأتي إلى نصيب يومه وهكذا، حتى في اليوم الخامس ينتهي من نصيب اليوم الأول، ما يراجعه خلاص ما يحتاج إلى مراجعة، في اليوم السادس نصيب اليوم الثاني ما يحتاج إلى مراجعة، في اليوم السابع نصيب.. وهكذا، يقولون: بهذه الطريقة يثبت الحفظ، وليبدأ طالب العلم بالأهم.

بالمهم المهم ابدأ لتدركه

 

وقدم النص والآراء فاتهمِ

لا بد من البداءة بالمهم؛ لئلا يضيع الوقت وأنت ما حصلت شيء، فلتكن البداءة بكتاب الله -عز وجل-، وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وما يعين على فهم هذين المصدرين.

الناس قاطبة يقررون أن الصغير أقوى في الحفظ من الكبير، وأن الحافظة تضعف كغيرها من القوى، البصر يضعف، السمع يضعف، جميع الجوارح تضعف ومنها الحافظة، والناس كلهم على هذا، والواقع يشهد له، الصغير يحفظ بسرعة، إذا كبر قليلاً ضعف، إذا كبر، إذا كبر.. إلى آخره، إلى أن تكثر مشاغله فلا يكاد يحفظ شيئاً، ثم يبدأ بعد ذلك بنسيان ما حفظ، يبدأ عاد بالمحو والإزالة.

الماوردي في أدب الدنيا والدين يقرر أن الحافظة لا تتغير، الحافظة عند الكبير والصغير لا تتغير واحدة، حافظة الإنسان هي هي من يولد إلى أن يموت، إلا إذا طرأ عليه خرف أو اختلاط أو ما أشبه ذلك، يقول: "ليست الحافظة هي التي تتغير، إنما الظروف هي التي تتغير" شخص همه نفسه فقط، ليست لديه أي التزامات، لا شك أنه يحفظ أكثر من الشخص الذي كثرت مشاغله، والشخص في أول العمر مشاغله أقل بكثير من مشاغله في منتصف عمره، أو في آخره.

يقول: الظروف هي المؤثرة على الحفظ، وليس ضعف الحافظة، لكن عامة الناس على خلاف قوله، لا شك أن قول الماوردي يبعث الأمل في النفس بمن بلغ الخمسين والستين ألا ييأس، نقول: مسألة ظروف خلاص أتجرد وأنقطع للحفظ، إيش المانع؟ ونعرف شخص حفظ القرآن بعد الخمسين، وصالح بن كيسان بدأ التعلم بعد التسعين لما بلغ تسعين اتجه إلى العلم، وقيل في سنه أقل من ذلك قيل: سبعين، وقيل: خمسين، لكن أقل ما قيل: الخمسين، فاتجه إلى حفظ السنة حتى عد من كبار الآخذين عن الزهري وعمره تسعين سنة، يعني لو قيل لواحد، قال: ما........ العمر كثر ما مضى، تعلم في هذا الوقت تعب ليس وراءه أرب، نقول: لا، ما دام بقي في العمر يوم واحد تعلم، وما يدريك، أقل الأحوال أن تدخل في الوعد: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) ما قال من صار عالماً ما يلزم، ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) ونرى في عوام المسلمين كبار السن من يئس من الحفظ ولو الشيء اليسير من القرآن فتجدهم في الأماكن الفاضلة والأزمنة الشريفة يلتفتون يمنة ويسرة، وينظرون إلى القراء بحسرة، لكن بإمكانهم أن يتعلموا، لو يحفظ كل يوم آية ويرددها ثم يضيف إليها أخرى من الغد، والآن -ولله الحمد- البيوت مملوءة ممن يقرأ ويكتب، فلو قال الجد مثلاً لحفيده: أقرأني سورة الفاتحة، ورددها عليه مراراً وسجلها له وصار يرددها يعني يحفظها، ثم السورة التي تليها وهكذا، .... عجائز في السبعين والثمانين حفظت الأجزاء، ولله الحمد والمنة، هذا موجود، عجائز كبار من النسوة التحقن بدور التحفيظ النسائية وحفظن من القرآن ما يكفيهن، أما أن يجلس المسلم يلتفت يمنة ويسرة ينظر إلى الناس وهم يقرءون بحسرة وهو محروم من هذه النعمة، بكل حرف عشر حسنات، الختمة الواحدة فيها ثلاثة ملايين حسنة، وهذا الخطاب إذا وجه للعامي فطالب العلم أولى به وأحرى.

يوجد شخص بلغ السبعين من عمره وكان له صديق ناصح له، هذا الشخص الذي بلغ السبعين لا يقرأ –أمي- ولا يكتب، وأولاده أصغرهم من بلغ العشرين، فنصحه بأن يتزوج، وأن يحفظ جزأين من القرآن، قال: وما يدريك هؤلاء الأولاد يكبرون وينشغلون في أولادهم، والزوجة تهرم وتحتاج إلى من يعولها ويخدمها وتبقى أنت بدون خادم، فلو تزوجت وحفظت لك جزأين من القرآن فالذي حصل أنه تزوج ورزق بذرية من الصغار خدموه في آخر عمره، وحفظ جزأين فكف بصره فصار يردد هذين الجزأين، هذه نعمة كبيرة من الله -سبحانه وتعالى-، يعني لو كف وهو ما يحفظ شيء، أو بلغ التسعين وهو يحتاج إلى من يعوله وأولاده في أعمالهم ووظائفهم وأولادهم وأسرهم، وزوجته بجانبه تحتاج إلى من يعولها، فعلى الإنسان أن ينتبه لنفسه ويحتاط لها، ويقدم لآخرته، ولا شك أن الدنيا مدبرة، والآخرة مقبلة، وعلينا أن نكون من أبناء الآخرة لا من أبناء الدنيا، والله المستعان.

المراد بسوء الحفظ هنا: ما يقابل النسيان، وهو ضبط الشيء في النفس، وسوء الحفظ قلته ورداءته، وسيء الحفظ هو من لم يرجح جانب إصابته على جانب خطأه، فلا يقال لمن وقع له الخطأ مرة أو مرتين: إنه سيء الحفظ؛ لأن الإنسان ليس بمعصوم من الخطأ.

وقسم العلماء سوء الحفظ إلى قسمين: الأول: لازم غير منفك للراوي في جميع حالاته ومن غير أن يعرض له أي سبب، يعني من ولادته سيء الحفظ، والثاني: طارئ على الراوي إما لكبر سنه أو ذهاب بصره أو لاحتراق كتبه التي يعتمد عليها أو غير ذلك، وهذا القسم ما يسمى بالاختلاط، نعم، بعض الناس إذا حصل له أدنى مصيبة أصيب باختلال في حفظه، نسي، فمن فقد الدراهم بعض الناس فقد مبلغ من المال فاختلط، نسي كل اللي هو حافظ، وآخر نهق حمار فاختلط، وكثير من الناس وهو يقرأ القرآن فاتح المصحف بين يديه إذا حرك الباب نسي هل هو في آخر الصفحة أو في أولها؟ واقع إلا ما هو بواقع؟ هذا واقع مع الأسف، إذا حركت النعال وإلا كان المكيف قافل ثم اشتغل يضيع كل ما عمله، والله المستعان.

والاختلاط هو عدم انتظام القول كما في الحاوي في الطب، وسيأتي الكلام على حكم رواية سيء الحفظ بنوعيه: اللازم والطارئ حيث يذكره الحافظ -رحمه الله تعالى-.

سم.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "فالأول: الموضوع، والثاني: المتروك، والثالث: المنكر على رأي، وكذا الرابع والخامس ثم الوهم إن اطلع عليه بالقرائن وجمع الطرق فالمعلل، ثم المخالفة إن كانت بتغيير السياق فمدرج الإسناد، أو بدمج موقوف بمرفوع فمدرج المتن، أو بتقديم أو تأخير فالمقلوب، أو بزيادة راو فالمزيد في متصل الأسانيد، أو بإبداله ولا مرجح فالمضطرب، وقد يقع الإبدال عمداً امتحاناً أو بتغيير مع بقاء السياق فالمصحف والمحرف".

بعد أن أنهى الحافظ -رحمه الله تعالى- أوجه الطعن في الراوي على سبيل اللف أخذ ينشر ما يتعلق بهذه الأوجه ويبينها بالتفصيل، فقال -رحمه الله تعالى-: "فالأول الموضوع" يقصد الحافظ -رحمه الله تعالى- أن حديث صاحب الوجه الأول من أوجه الطعن وهو الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمى الموضوع، وهذا الشروع منه -رحمه الله تعالى- في تفصيل ما أجمله في الأوجه العشرة.

تعريف الموضوع:

فالموضوع: اسم مفعول يقال: وضع الشيء من يده يضعه وضعاً، وموضعاً وموضوعاً حطه، ويقولون: في حسبه ضعة انحطاط ولؤم وخسة، وقد وضع الدين أي أسقطه، قال ابن دحية: "الموضوع الملصق، يقال: وضع فلان على فلان عاراً إذا ألصقه به، والوضع أيضاً الحق والإسقاط".

واصطلاحاً: هو المختلق المصنوع المفترى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمي بذلك لأن الأحاديث التي اختلقها الفسقة ساقطة ومنحطة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ هي كلام غيره، وقد استنكر العلماء على الخطابي وابن الصلاح قولهما إنه شر الأحاديث الضعيفة، الموضوع شر الأحاديث، فهم بهذه العبارة يجعلون الموضوع من الحديث، واستنكر عليهما؛ لأن الموضوع ليس من الحديث النبوي، وأفعل التفضيل إنما يضاف إلى بعضه، أفعل التفضيل إنما يضاف إلى بعضه، وقد أجيب بأنهما لم يقصدا بالأحاديث الأحاديث النبوية، بل مرادهما ما هو أعم من ذلك، وهو ما يتحدث به، ما يتحدث به يشمل ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما يضاف إلى غيره، أو سمي بذلك تجاوزاً حسب دعوى من اختلقه.

أسباب الوضع:

أسباب الوضع: الأسباب التي حملت بعض الناس على اختلاق الأحاديث وافترائها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرة جداً، لكن يمكن أن نجمل أهمهما فيما يلي:

الأول: التقرب إلى الله تعالى بوضع الحديث ترغيباً للناس في الخيرات، وترهيباً من فعل المنكرات، وهؤلاء قوم ينسبون إلى الزهد والصلاح، وهم شر أنواع الوضاعين لقبول الناس موضوعاتهم ثقة بهم، ومن هؤلاء أبو عصمة نوح بن أبي مريم، لا شك أن عامة الناس يثقون بمن يؤثر الآخرة على الدنيا، الناس يثقون به، الزاهد الذي لا نظر له في الدنيا، بل متجه بكليته إلى الآخرة، مثل هذا محل عناية من الناس يحترمونه ويقدرونه ويثقون بكلامه، فمثل هذا إذا صاحب هذا الزهد جهل وأراد أن ينفع الدين، ويفتري ويكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- من أجل أن يرد الناس إلى الدين مثل هذا يثق به الناس فصار ضررهم أشد من غيرهم.

السبب الثاني: قصد الواضع إفساد الدين على أهله، وتشكيكهم فيه وهذا إنما صدر عن الزنادقة كعبد الكريم بن أبي العوجاء ومحمد بن سعيد المصلوب.

الأمر الثالث: الانتصار للمذاهب، ولا سيما أصحاب الأهواء والبدع كالخطابية وبعض السالمية، فقد وضعوا أحاديث نصرة لمذاهبهم، أو ثلباً لمخالفهم، فقد روي عن رجل من أهل البدع رجع عن بدعته فقال: "انظروا هذا الحديث ممن تأخذون، فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً" وهذا موجود في أهل الأهواء والبدع بكثرة يستجيزون وضع الأحاديث نصرة لمذاهبهم، ويوجد مع الأسف الشديد في بعض من ينتسب إلى الفقهاء الأربعة من يضع الحديث تأييداً لمذهبه، أو تنقصاً لمذهب غيره، ذكر عن بعض الحنفية أنه إذا كان الحكم يدل عليه القياس الجلي فلا مانع من أن تركب له إسناد وتضيفه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا ضلال، نسأل الله العافية.

وضع في مثالب الأئمة: "يكون في أمتي شخص يقال له: محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس" أعوذ بالله هذا الإمام الشافعي.

بعض الجهال من المنتسبين إلى المذاهب الأخرى من باب التنافس بعض المساكين يظن أنه لا يرتفع إلا بغمط الآخرين، وإمامه ومتبوعه لا يرتفع إلا إذا تنقص الآخرين هذا الكلام ليس بصحيح، مع الأسف الشديد نجد بعض طلاب العلم إذا سئل عن بعض الناس غمطه حقه، يظن بذلك أنه يرتفع هو، لا والله، بل العكس، يرتفع لو ذكر أخاه بما يدافع به عن عرضه، ويذب عنه وينزله منزلته من غير تنقص ولا إطراء، فإذا مدح أخاه ارتفع بذلك، أعني الأمر سهل إذا كان شخص يشجع النادي الفلاني وآخر يشجع النادي الفلاني ووقع هذا في هذا عادي النفوس مجبولة على هذا، لكن ممن ينتسب إلى العلم يضع الحديث في مثالب الإمام الفلاني لأنه خالف إمامه بمسائل، أو من باب المشادة والمشاحة، ونعرف أنه في هذا الباب يقع الإنسان في الخطأ في باب المفاضلة والمشاحة، ولذا جاء النهي عن التفضيل بين الأنبياء لما قال اليهودي: "والذي فضل موسى على البشر" فلطمه مسلم، فشكاه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) وقال في الحديث الآخر: ((لا تفضلوني على يونس بن متى)) هذا متى؟ هذا في باب المشادة والمشاحة لئلا يتطرق الطرف الثاني إلى تنقص الكامل، لكن إذا سلمت المسألة من المشاحة صارت من طرف واحد لا مانع من التفضيل وإنزال الناس منازلهم، أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة] والله المستعان.

من الأسباب التي حملت الوضاعين على الوضع: الرغبة في التكسب والارتزاق كبعض القصاص الذين يتكسبون بالتحدث إلى الناس فيوردون بعض القصص المسلية والعجيبة حتى يستمع إليهم، حتى يستمع إليهم الناس ويعطوهم، وقد اشتهر بذلك جماعة منهم أبو سعيد المدائني.

الخامس: قصد الواضع التزلف إلى الخلفاء والنفاق لهم لتتسع لهم مجالسهم وتنفق سوقه عندهم.

المشكلة أن هؤلاء السمار الذين ينادمون الكبار تجدهم يتقربون إليهم بكل شيء، بكل ما يتمكنون إليه ليتمكنوا من قلوبهم ويعطوهم، يتزلفون، ومسألة الارتزاق بالدين مسألة معروفة قديماً وحديثاً، بعض الناس يرتزق وراء هذا الدين، يتكسب من ورائه، فتجده يبرر لهؤلاء الخلفاء والأمراء بعض أعمالهم المحرمة، وإن كان من أهل العلم لكنه مرتزق، يعني إذا كلم الوالي عن الربا مثلاً وانتشاره في بلد من البلدان، فجاء هذا المرتزق المتزلف فقال: النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح يقول: ((إنما الربا في النسيئة))، يعني ربا الفضل الذي تزاوله البنوك ما فيه شيء، هذا مرتزق بلا شك، وإلا لا يمكن أن ينفك ربا الفضل لا سيما ما تزاوله البنوك عن ربا النسيئة، لا يمكن، ما يمكن أن تأتي إلى البنك تقول: أعطني عشرة وأعطك إحدى عشر أو العكس، يمكن هذا؟ ما يمكن، لا بد من ربا النسيئة، نعم ربا الفضل يتصور في الأنواع الأخرى، لكن أكثر صور الربا التي تزاولها البنوك إنما هي في النقود، في الفلوس، ولا يمكن أن يأتي شخص فيقول: أعطني كذا وأعطيك أكثر أو أقل، فالتزلف إلى الخلفاء والأمراء لتتسع مجالسهم وينبسطوا إليهم، لكن الله -سبحانه وتعالى- يعامل هؤلاء على نقيض قصدهم، فمجرد ما يفهم مقصده وهدفه لا شك أنه يسقط من أعين هؤلاء الخلفاء، يعني مسئول كبير اتصل على واحد وقصده الاختبار لبعض من ينتسب إلى العلم بحضرة مجموعة من الناس وقال لهم: إني أريد أن أختبر المشايخ وأنتم تسمعون، ضغط الاسبكر وقال...، على الشيخ الفلاني وقال له: أنا أريد أن أعتمر وعندنا خدم من ذكور وإناث لكنهم غير مسلمين، فكان الجواب: ما داموا معك يا طويل العمر الحمد لله، ويش ما داموا معك تذهب إلى مكة بكفار؟ ضغط على ثاني وقال: نريد أن نعتمر ومعنا خدم غير مسلمين ولا نقدر نخليهم؟ قال: أولاً: من الذي أدخلهم جزيرة العرب، لا يجوز إدخالهم جزيرة العرب، شوف فرق الجواب عن الجواب، وهم يريدون أن يختبروا هؤلاء، ولا شك أن الثاني أرفع عندهم من الأول، وإن جاء لهم بما يريدون، فهذا المتزلف المسكين وإن ظن أنه يقرب من قلوب هؤلاء لكنهم يميزون، ليسوا ببله ما يفهمون، يفهمون، وهم ينزلون الناس منازلهم، ومن حفظ دين الله حفظه الله بلا شك، ومن ضيع الدين ضيعه الله، والله المستعان.

قصد الواضع الشهرة ومحبة الظهور حيث جعل بعضهم لذي الإسناد الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً، وجعل بعضهم للحديث إسناداً غير إسناده المشهور ليستغرب ويطلب منه سماعه، بعض الناس يركب إسناد على حديث وهو ليس له على شان يقال: إنه لا يروى هذا الحديث بهذا الإسناد إلا من طريقه، فيجتمع عليه الناس ليأخذوه منه، وهذا يقصد الشهرة، ومن قصد الشهرة ألبسه الله ثوب المذلة في الدنيا والآخرة، نسأل الله العافية، هذه أسباب دفعت أصحابها إلى تعمد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن هناك أسباب أوقعت أصحابها في الكذب من غير تعمد ولا قصد من أهمهما:

غلبة الزهد والعبادة على بعض الناس حتى جعلتهم يغفلون عن الحفظ والتمييز، حتى صار الطابع لكثير من الزهاد الغفلة.

الأمر الثاني: ضياع الكتب أو احتراقها ممن يعتمد عليها ثم بعد ذلك يحدث من حفظه فيقع الغلط في كلامه، وذلك مثل عبد الله بن لهيعة.

الثالث: الاختلاط، فقد حصل لقوم ثقات أن اختلطت عقولهم في أواخر أعمارهم، خلطوا في الرواية، وقلبوا المرويات، وذلك مثل إسماعيل بن عياش وغيره، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"
هذا يسأل يقول: تخريج البخاري ومسلم لأحاديث الوحدان هل يكفي لتوثيق الراوي إذا روى في غير الصحيحين؟

لا شك أن تخريج البخاري ومسلم للراوي توثيق وتقوية له، فرواة الصحيحين كما قرر أهل العلم جازوا القنطرة، لكن يبقى أن الاحتياط والنظر في أحاديث غير الصحيحين آكد وأقوى، فننظر في هذا الحديث الذي رواه ذلك الراوي هل ووفق عليه؟ هل خولف؟ يبقى أن ينظر له من عدة جهات، وبقدر ما عند الشيخين من الاحتياط والتحري خرجوا لرواة تكلم فيهم كما تقدم، لكنهم حينما يخرجون لمثل هؤلاء إنما ينتقون من أحاديثهم، ينتقون من أحاديثهم ولا يخرجون لهم كل ما يروون، فقد يكون الراوي ثقة وهو في حديث أضبط منه في حديث آخر، فلا بد من النظر إلى الحديث والراوي من وجوه متعددة، والله أعلم.