شرح العقيدة الطحاوية (64)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الشارح -رحمه الله تعالى-:

وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله"، وأحاديث الشفاعة صريحةٌ في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكمٌ مختصٌ بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما".

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول الشارح -رحمه الله تعالى-: "وقد دلت السنة المستفيضة"؛ لورود أحاديث كثيرة في الباب وفي هذا الشأن، تكون الأدلة المتكاثرة مُستفيضة. والمُستفيض عند أهل العلم من الحديث في مرتبةٍ متوسطة بين الآحاد والمتواتر، بل منهم من يجعل المُستفيض أحد قسمي المتواتر. وعلى كل حال، لا شك أن الأدلة إذا تكاثرت، تكون أقوى مما انفرد بها بعض الرواة. والحديث إذا صحَّ، سواء كان بإسنادٍ واحد، برواةٍ ثقات مع الاتصال، أو كان بأسانيد متعددة، يجب العمل به عند أهل العلم، ولو لم يبلغ حد التواتر، ولو لم يستفض. وعند المعارضة، التعارض بين هذه الأحاديث، لا شك أن الأقوى هو الراجح، عند أهل العلم.

قال -رحمه الله-: "وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله"" يعني: خالصًا من قلبه، على ألا يأتي بناقضٍ لها، بأن يعمل بمقتضاها، ويعرف معناها، ويعمل بمقتضاها، ولا يأتي بما يُناقضها. فإن أتى بما يُناقضها، لم تكن خالصةً من قلبه. «إن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه». وأما الذي يقولها بلسانه ويأتي بما يُناقضها ويُضادها من الشرك، فإن هذا لا تنفعه لا إله إلا الله؛ لأنه مُشرك، والله حرَّم الجنة على المُشركين. {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة:72]، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء:48]، ولو قال: لا إله إلا الله، لابد أن تكون خالصة من قلبه. ومُقتضى الخلوص من قلبه: ألا يأتي بما ينقضها.

خروج من قال: لا إله إلا الله، من النار، وإن أتى شيئًا من الكبائر، هو قول أهل السُّنَّة والجماعة، خلافًا للخوارج الذين يرونه كافرًا، إذا ارتكب كبيرة كفر، وخُلِّدَ في النار. خلافًا للمعتزلة، الذين يرونه بين المنزلتين، لكنه يخلُّد في النار ولا يخرج منها. وأحاديث الشفاعة صريحةٌ في خروج عصاة الموحدين من النار، وأنهم لا يُخلَّدون فيها، وأن هذا حكمٌ مُختصٌ بهم، لا لكل من دخل النار؛ لأنه يدخل النار من عصاة الموحدين الذين يُهذبون وينقون ويعذبون على قدر ذنوبهم، ثمَّ يُخرجون منها، ويدخلها أيضًا الكفار والمنافقون، دخول خلود، {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [سورة الحجر:48].

يقول المؤلف: "فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم" يعني: ما صار للتوحيد منزلة، ولا له مزية، لصاروا بمنزلة المسلم الذي يرتكب الكبيرة؛ لأنهم كلهم يخرجون منها، على القول بأنهم يُخرجون منها، وعلى القول بفنائها. "فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم" يعني: بمنزلة عصاة الموحدين. "ولم يختص الخروج بأهل الإيمان" قد دلت على ذلك الأدلة المُستفيضة التي أشار إليها الشارح فيما تقدم.

"وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما" الآن الذي يوقد نار لذات النار؟ أو من أجل أن يُطبخ عليها ويُستدفأ بها ويُنتفع بها؟ لا لذاتها؛ ولذلك لو أن شخصًا في مفازة، في حر الظهيرة، ولا يريد أن يطبخ شيئًا فأوقد نارًا، هل هذا من الحكمة؟ عبث هذا.

طالب: هذا الوجه ما يَرِد على مقام فناء النار.

لماذا؟

طالب: لأنهم قالوا: "تفنى بأهلها"، ما قالوا: يخرجون منها.

عدم الخروج معروف، لو خرجوا أين يذهبون؟ يذهبون إلى الجنة؟ مستحيل. لكنهم يفنون بفنائها، فناؤهم معها بالنسبة لهم نعيم.

"وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما" يعني: ليست المادة التي منها خُلقت الجنة والنار مُقتضية للخلود، لكن الله هو الذي يُبقيها. وليس لذاتهما، وإنما لنعيم من يُنعَّم بالجنة، وعذاب من يُعذَّب بالنار.

"وَقَوْلُهُ: "وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا".

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [سورة الأعراف:179]، الآية. وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال: «أوغير ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ".

وفي حديث القبضتين: قبض الله -جلَّ وعلا- قبضتين، فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي. وهما قبضتان؛ لأني سمعت من يقرأ النونية على شريط، قال: القيضتين، هذا كلام غير صحيح، خطأ.

"وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (*) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [سورة الإنسان:2-3]. وَالْمُرَادُ الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ، وَأَعَمُّ مِنْهَا الْهِدَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [سورة طه:50]".

{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [سورة الإنسان:3] هذه الآية الأولى. الثانية: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [سورة طه:50]، الهداية الثانية في الآية الثانية أعم؛ لأن الأولى خاصة بالإنسان، والثانية عامة في كل شيء، {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [سورة طه:50] كل شيء. والأولى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ} [سورة الإنسان:2]، فالثانية أعم منها. والهداية الأولى أيضًا هي هداية الدلالة والإرشاد، وأخصُّ منها: هداية التوفيق والقبول.

طالب: ...

حديث عائشة في الأطفال، والعلماء يختلفون في الأطفال عمومًا، إلى أن بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة لأطفال المسلمين أنهم في الجنة. وأما أطفال الكفار، فالله أعلم بما كانوا عاملين، ويختلف فيهم أهل العلم على أقوالٍ كثيرة، ذكرها ابن القيم في خواتيم (طريق الهجرتين).

"فَالْمَوْجُودَاتُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مُسَخَّرٌ بِطَبْعِهِ، وَالثَّانِي مُتَحَرِّكٌ بِإِرَادَتِهِ، فَهَدَى الْأَوَّلَ لِمَا سَخَّرَهُ لَهُ طَبِيعَةً، وَهَدَى الثَّانِي هِدَايَةً إِرَادِيَّةً تَابِعَةً لِشُعُورِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ".

الثاني: من اتصف بالعقل، الذي له إرادة يُميِّز بها، اتصف بالعقل. والنوع الأول: المخلوقات التي ليس لها عقول، لكنها مع ذلك مُسخَّرة، ومُدبَّرة من الله -جلَّ وعلا-. الثاني له إرادة ناتجة عن عقل. لكن هذا العقل قد يستفيد منه، ويدله على الخير، ويكفه عن الشر، وقد لا يستفيد منه، {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [سورة الأعراف:179] ما كان لهم عقول، ممن لم يرد الله به الهداية.

"ثُمَّ قَسَّمَ هَذَا النَّوْعَ. إلى ثلاثة أنواع:

1) نَوْعٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ سِوَاهُ، كَالْمَلَائِكَةِ.

2) وَنَوْعٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّرَّ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ سِوَاهُ، كالشياطين".

لكن لا يتأتى منه، الملائكة معروف أنهم لا يريدون إلا الخير، ولا يأتي منهم إلا خير. الشياطين لا يريدون إلا الشر، وقد ينتج عن هذا الشر خير، هو لا يريد إلا الشر، لكن قد ينتج عنه، عن إرادته للشر خير، من باب أنه لا يوجد شرٌ محض، بل لابد له من..، بل قد ينتج عنه آثار حميدة، كما في حديث أبي هريرة لما قال له، وجهه إلى قراءة آية الكرسي، ذاك الشيطان. الشيطان الذي قال له: اقرأ آية الكرسي ولا يقربك شيطان، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صدقك وهو كذوب».

طالب: يعني في هذا الحديث هو أراد الخير؟

هو في الأصل ما أراد إلا شرًّ، وهو مجبولٌ على الشر، لكنه نتج عن هذا الشر خير.

طالب: قال له: "ولم يزل عليك من الله حافظ".

نعم، معروف الحديث، لكن هل مجيئه إلى هذا المكان لإرادة الخير؟ ما جاء ليريد الخير، لكنه مع ذلك ما أراد الخير، نتج عن فعله خير.

"3) وَنَوْعٌ يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ الْقِسْمَيْنِ، كَالْإِنْسَانِ. ثُمَّ جعله ثلاثة أصناف".

نعم، الإنسان يأتي منه الخير ويأتي منه الشر.

"1) صنف يَغْلِبُ إِيمَانُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَعَقْلُهُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ، فَيَلْتَحِقُ بالملائكة.

2) وصنف عكسه، فيلتحق بالشياطين.

3) وصنف تَغْلِبُ شَهْوَتُهُ الْبَهِيمِيَّةُ عَقْلَهُ، فَيَلْتَحِقُ بِالْبَهَائِمِ".

التقسيم الثلاثي بالنسبة للإنسان، لا شك أنه مطابقٌ للواقع، والواقع يشهد بأن هناك صنفًا من بني آدم الغالب عليهم الخير، والشر إنما يأتي على جهة التبعية أو جهة الغفلة وما أشبه ذلك، أو غلبة النفس والشيطان، لكن الأصل فيه الخير، فهذا هو أقرب إلى الملائكة من الشياطين.

والعكس، ناسٌ أشرار، لا يأتي منهم في الغالب إلا الشر، وأهل الجرائم وأهل المُنكرات، أهل القتل، أهل مخدرات، هؤلاء في الغالب لا يصدر منهم إلا الشر، قد يصدر منهم خير، وهؤلاء هم أقرب إلى الشياطين.

وصنفٌ ثالث، سجال، الخير كثير والشر كثير، فهم للأغلب. والصنف الذي قال إنه الثالث ويمكن أن يكون رابعًا، لا يقصد لا خيرًا ولا شرًّا، وإنما توجهه الغرائز، غريزة الأكل، غريزة الشهوة في الجنس وغيره، وغيرها من الغرائز، فهؤلاء أشبه بالحيوانات.

"وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَى الْوُجُودَيْنِ: الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا بِإِيجَادِهِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا بِتَعْلِيمِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَثُبُوتِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَحْقِيقِ رُبُوبِيَّتِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

أعطى الوجودين العيني والعلمي، الوجود العيني في الأعيان بارز بحيث يُرى، وأعطى الوجود العلمي الذي يكون في الأذهان، لا في الأعيان.

طالب: ...

أين؟ هذا نوعٌ الذين هم بنو آدم.

طالب: ...

تريد فاعل الأقسام؟ الله -جلَّ وعلا- في خلقه إياهم، جعلهم ثلاثة أقسام، الله -جلَّ وعلا-خالقهم.

"وَقَوْلُهُ: "فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ" إِلَخْ".

بعد أن بيَّن لهم ما ينفعهم وما يضرهم، وبيَّن لهم السبيل إلى الجنة، وبيَّن لهم السبيل إلى النار، وجعل فيهم إرادة ومشيئة وحرية تابعة لمشيئة الله وإرادته، لكن جعل لهم نوع اختيار. بعد أن بيَّن لهم وهداهم النجدين، هداهم السبيلين والطريقين إما إلى الجنة، وإما إلى النار. بعض الناس اختار سبيل الجنة وطريق الجنة، وبعضهم بطوعه واختياره اختار السبيل الذي يؤديه إلى النار- نسأل الله العافية-. وإلا فمن الذي يمنع الجالس في بيته أو في استراحة أو في طريق الناس، والناس يمرون عليه: صلِّ يا فلان، صلِّ يا فلان، وهو جالس، وهو يستطيع أن يقوم فيتوضأ ويدخل المسجد مع الناس ويصلي معهم، من الذي منعه من ذلك؟ هل أحد أجبره على أن يجلس؟ الله -جلَّ وعلا- ما ركّب فيه القدرة على الذهاب والصلاة في المسجد، حيث يُنادى بها؟ ما جبره الله على أن يعصي، ولا جبره على أن يختار سبيل النار، ولا جبره على أن يترك الصلاة. بيَّن له الطريق وهداه السبيل، لكن هو الذي اختار.

فكونه اختار مع أن القدر السابق {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} [سورة يونس:64]، كتب عليه أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة. لكنه مع ذلك لما سيختاره فيما بعد، وليس هناك إجبار لله -جلَّ وعلا- للمخلوق على أن يسلك سبيل النار. نعم، إنما كتب له ذلك، ومع ذلك لن يخرج عن إرادة الله، لكنه باختياره اختار الطريق الموصل إلى النار، نسأل الله العافية. الله -جلَّ وعلا- بيَّن له، والله -جلَّ وعلا- عنده فضل، وعنده عدل.

أنا ذكرت مثالًا مرارًا في هذا الشأن، لو مدحت لكم كتابًا، احرصوا على إقتنائه، فخرج مجموعة من الطلاب قبل أن أنهي الكلام، خرجوا وصاروا يتخبطون في المكتبات، ما وجدوه، هل أنا ظالمٌ لهم؟ ما ظلمتهم، أنا مدحت لهم الكتاب وقلت لهم أن يذهبوا ويشتروه. بقي مجموعة، فقلت لهم: في المكتبة الفلانية، وذهبوا إلى المكتبة الفلانية واشتروه. بقي خمسة أو ستة أو عشرة، قلت: عندي لكم نسخ، هل أنا ظلمت الأولين؟ ما ظلمتهم، لكني تفضلت على النوع الثاني والثالث بزيادة فضل. ومع ذلك أنا بيَّنت الذي عليَّ، ومدحت لهم الكتاب، ولو صبروا واختاروا البقاء، لأدركوا أقل الأحوال المكان الذي يُباع فيه. لا، وممكن بعض الطلاب، قال: ما لنا حاجة بالكتاب، لا نريده ولا نحتاجه، ولا بحث ولا رفع به رأسًا، وهذا أيضًا ما ظُلِم.

"مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْنَعُ الثَّوَابَ إِلَّا إِذَا مَنَعَ سَبَبَهُ، وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَإِنَّهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [سورة طه:112]".

يعني: سبب دخول الجنة: الأعمال الصالحة، هذا سبب، {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة النحل:32] هذا سبب، وإن كان السبب الرئيس والأصل هو رحمة أرحم الراحمين؛ ولذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أحدٍ منكم يدخل الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته». ولكن الأعمال الصالحة سبب في نيل الدرجات والمنازل في الجنة.

"وَكَذَلِكَ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ سَبَبِ الْعِقَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى:30].

وَهُوَ سُبْحَانُهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ. لَكِنْ إِذَا مَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، َلَا يَمْنَعُهُ مُوجِبُ ذَلِكَ أَصْلًا، بَلْ يُعْطِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْقُرْبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَحَيْثُ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَلِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، لَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حِكْمَةٌ منه وَعَدْلٌ، فَمَنْعُهُ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ".

"فَمَنْعُهُ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ"، لكن هل هذا المنع منع إلجاء وعدم قدرة؟ طلب منه أن يعمل ولم يُركِّب فيه القدرة على ذلك العمل؟ أو فيه قدرة وبُيِّن له وهُدي إلى الحق وإلى الأعمال الصالحة فاختار غيرها؟ هذا الحاصل، خلافًا لما يقوله الجبرية، الجبرية قالوا: إن الله جبرهم، العبد مجبور، أعماله مجبورٌ عليها، وتعذيبه ظلمٌ له، نسأل الله العافية. تعذيبه ظلم؛ لأن حركته كحركة ورقة الشجر في مهب الريح، فكيف يُمنع من الشيء ويُعاقب عليه؟ هو بيّن له، والله -جلَّ وعلا- بعث الرسل {مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [سورة النساء:165]، لماذا؟ { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ} [سورة النساء:165]. ما يُمكن لأحد أن يُعذَّب ويقول: ما جاءني من شيء، {مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [سورة المائدة:19]، لا يُمكن. جاءهم من يُبيِّن لهم، لكن من اختار طريق الضلالة، فهذا بما كسبت يداه. والمصائب التي تصيب، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [سورة الشورى:30]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [سورة فاطر:45].

طالب: ...

الجبرية.

طالب: ...

ما يخالف، لكن مُفاده، مقتضاه أنه ظلم؛ ولذلك احتج بهذا القدرية وقالوا: إن العبد له الحرية الكاملة، ويفعل ما يشاء، ويريد بإرادة ومشيئة ليست تابعة لمشيئة الله؛ لئلا يُظلم.

متى ذكرنا هذا الكلام؟ يقول: ذكرتم حاشية الأبياري على حاشية الصبان على الأشموني، فهل هو مطبوع؟ يقول: هل طُبِعَ حاشية ابن الحاج على شرح المقودي على ألفية ...؟

كلها مطبوعة، لكنها قديمة، طباعتها قديمة ولا طُبِعَت حديثًا.

طالب: ...

طُبِعَ حديثًا؟ لكن طبعاتها القديمة عليها الحواشي كلها.

"وَأَمَّا الْمُسَبِّبَاتُ بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، فَلَا يَمْنَعُهَا بِحَالٍ، إِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا صَالِحَةٍ، إِمَّا لِفَسَادٍ فِي الْعَمَلِ، وَإِمَّا لِسَبَبٍ يُعَارِضُ مُوجِبَهُ وَمُقْتَضَاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي، أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ. وَإِذَا كَانَ مَنْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ مِنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وهو لم يعط ذلك ابتلاءً وابتداءً إلا حِكْمَةً مِنْهُ وَعَدْلًا. فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْحَالَيْنِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كُلُّ عَطَاءٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ عُقُوبَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ".

{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سورة النساء:40]، فالذي يؤمن بالله -جلَّ وعلا- ربًّا، خالقًا، مُدبرًا، رازقًا، يُسلِّم بمثل هذا. لكن الذي عنده نزعة إلحاد أو عناد، لا شك أنه سوف يُصر ويُعاند والنار على ما يقوله العوام: موعودة ملأى. لأن بعضهم- ولا سيما وأن موجة الإلحاد في زماننا هذا صارت عارمة، وصارت مكشوفة- يناقشون، كأنهم يرون المنة لهم، إذا استجابوا، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [سورة الحجرات:17]. تراهم يتغطرسون من علو، إذا أبدى أحدٌ من أهل العلم مناقشة، لطموه بكلامٍ مما أوحاه إليهم شياطينهم، ويظنون أنهم انتصروا، {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [سورة المؤمنون:40]، نسأل الله العافية والسلامة.

أبو بكر -رضي الله عنه- لما حصلت الردة من بعض من ارتد من العرب، كما في (الموطأ) للإمام مالك، صار يقول في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [سورة آل عمران:8]. ونسمع من الكلام من بعض أبناء جلدتنا، مع الأسف، وليسوا بالقليل، من ينزع بكلامٍ هو ردة عن دين الله. ثمَّ الذي يناقشهم، إن قال: حد المرتد القتل، انتهت المناقشة معهم، انتهى، أغلقوا الباب. فصاروا على استحياء يذكرون حد الردة من بُعد، وبعد مناقشاتٍ طويلة، ما يُقال في أول جلسة؛ كي لا تُلغى المناقشات. والضعف لا ينتُج معه حل إطلاقًا. نعم، الحكمة والموعظة الحسنة مطلوبة، لكن ما هو على حساب نصوص شرعية صحيحة، ثبتت بها أحكام، «من بدَّل دينه فاقتلوه». ما عندنا حياء في ديننا، ولابد أن نرفع رؤوسنا بديننا، ونعتز بالدين، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت:33].

لا تكون المناقشات والمحاورات على سبيل الاستحياء أو على سبيل.. لا، إنك تُبيِّن وتقول بما أوجب الله عليك، مُقتديًا بالرسل في بيانهم لأممهم، ممتثلاً أمر الله -جلَّ وعلا- وأمر رسوله، «لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النِعَم»، إذا استجاب وإلا فما عليك منه، النتائج بيد الله.

الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما استطاع أن يهدي عمه، الذي خدم دعوته، وذبَّ عنه، «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، آخر ما قال هو: "على ملة عبد المطلب"، صار في ضحضاحٍ من نار، في روايةٍ: «عليه شراكان من نار، يغلي منهما دماغه». ولولا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح، لكان في الدرك الأسفل من النار، والدرك الأسفل لمَن؟ للمنافقين، ما هو للكفار، لكن لما عَلِم وعرف الحق من قُرب، واتضحت له معالم الدين بوضوح.

ولقد علمت بأن دين محمدٍ            من خير أديان البرية دينًا

لولا المذمة أو حذار مسبةٍ             لوجدتني سمحًا بذاك مُبينًا

 هذه المعرفة من قُرب، جعلته في حُكم المنافقين، في الدرك الأسفل من النار. لكن جوزي بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- بما قدمه للإسلام وأهله من نفع، والله المُستعان.

"فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي تَصْلُحُ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [سورة الأنعام:124]. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام:53]، ونحو ذلك. وسيأتي لهذا زيادة بيانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ، مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يُوصَفُ الْمَخْلُوقُ بِهِ-  تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ، وَالتَّمْكِينِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة:286].

الِاسْتِطَاعَةُ وَالطَّاقَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْوُسْعُ، أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَتَنقَسِمُ الِاسْتِطَاعَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْوَسَطُ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: لَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ. وَقَابَلَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَقَالُوا: لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ.

وَالَّذِي قَالَهُ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ: إنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذِهِ قَدْ تَكُونُ قَبْلَهُ، لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ، وَالْقُدْرَةُ الَّتِي يكون بِهَا الْفِعْلُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ بِقُدْرَةٍ مَعْدُومَةٍ.

وَأَمَّا الْقُدْرَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ، وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَقَدْ تَتَقَدَّمُ الْأَفْعَالَ. وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [سورة آل عمران:97]".

هذه الاستطاعة وهي القدرة، يُحكى بها عمن لديه الاستطاعة، وهي مِلك الزاد والراحلة مع قدرة البدن، في أثناء الحج هذا الخطاب؟ أو قبل الحج؟ قبل الحج؛ ولذلك تكون قدرة التكليف، القدرة التي هي مناط التكليف قبل الفعل، والقدرة التي يُطالب بها في العمل في أثنائه تكون أثناء العمل. «صلِّ قائمًا»، حديث عمران بن حُصين، «فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب»، هذه القدرة يُخاطب بها قبل الشروع في الفعل؟ وهو في بيته؟ أو إذا شرع هذه القدرة والاستطاعة التي تكون مقارنة للفعل، فقد يؤمر الإنسان، أو بل هو مأمور، من لديه قدرة على الوضوء والذهاب إلى المسجد والصلاة مع الجماعة، لديه قدرة على هذا كله، هو مُخاطب بهذا، وهذه القدرة قبل الفعل والاستطاعة. لكن قد يعرض له في طريقه إلى المسجد ما ينقض هذه القدرة، بأن يسقط وينكسر، فيُحمل مرةً ثانية إلى بيته، أو غير مستطيع، ليست لديه القدرة للصلاة مع الجماعة. هذه القدرة التي هي مناط التكليف، في الأول موجودة. لكن قدرة الخطاب أثناء الفعل، والمقارنة للفعل، حصل لها مانع. فهناك قدرتان:

1) قدرة قبل، وهي مناط التكليف، وهي متوجه الخطاب.

2) وقدرةٌ أثناء الفعل.

أهل السُّنَّة يُثبتون القدرتين، ومن المبتدعة من يقول: القدرة قبل، ومنهم من يقول: القدرة مع الفعل، ولا يُثبت الأخرى. والسبب في ذلك سيأتي في كلام الشارح -إن شاء الله تعالى- قريبًا.

"فَأَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا مَنْ حَجَّ".

إذا قلنا إن القدرة هي المُقارنة للفعل، المُقارنة للفعل، {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [سورة آل عمران:97] على هذا التقدير، هو الذي حج؛ لأن القدرة قبل غير مُعتبرة، فلا قدرة ولا استطاعة إلا مع الفعل، متى نجزم بأن هذا الحاج أو هذا الرجل لديه قدرة على الحج؟ إذا حج، إذا حج عرفنا أن لديه القدرة، أما قبل الحج فما عنده قدرة، على هذا القول. فلا يُطالب بالحج إلا من قد حج، وهذا قولٌ باطلٌ عقلاً ونقلاً.

"فَلَوْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا مَنْ حَجَّ لَمْ يَكُنِ الْحَجُّ قَدْ وَجَبَ إِلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ، وَلَمْ يُعَاقَبْ أحدٌ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ! وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن:16]. فَأَوْجَبَ التَّقْوَى بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّقْوَى، لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْجَبَ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى مَنِ اتَّقَى، وَلَمْ يُعَاقِبْ مَنْ لَمْ يَتَّقِ! وَهَذَا معلوم الفساد".

وهذا معلوم الفساد بالفطرة والعقل والنص، من المُخاطب بالتقوى؟ مثل ما سبق، من المُخاطب بالحج عندهم؟ من حج. وهنا المُخاطب بالتقوى: المُتقي، وأما قبل حصول التقوى، فإنه غير مُستطيع للتقوى. إذًا ما عرفنا إنه مُستطيع، إلا لما حصلت عنده التقوى، ولا عرفنا أنه مُستطيع الحج، إلا لما حصل له الحج، وقبل ذلك ما هو مُستطيع.

"وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [سورة المجادلة:4] وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ.

وَكَذَا مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [سورة التوبة:42]. وَكَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَلَوْ كَانُوا أَرَادُوا الِاسْتِطَاعَةَ".

"وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ" ما الاستطاعة في عتق الرقبة؟ وجود القيمة ووجود الرقبة في السوق تُباع، هذه استطاعة، لكن لو وجدت القيمة ولم توجد الرقبة، فالآلات ناقصة، فلم توجد الاستطاعة. هم يقولون: حتى لو وجدت القيمة ووجدت الرقبة، أنت غير مُستطيع حتى تُعتِق، يسمونه مُستطيعًا.

الصيام الخصلة الثانية، من لم يستطع، يصوم شهرين متتابعين، متى يكون مُستطيعًا عندهم؟ إذا صام، وفرغ من الصيام، عرفنا أنه مُستطيع. والقول الحق: إذا كان قادرًا على الصيام، كما يقدر على صيام رمضان وغير ذلك، ويكون الاستعداد ومعرفة ذلك قبل الدخول فيه.

طالب: الآلات المقصود بها الوسائل؟

نعم، الدراهم ووجود المطلوب في السوق، مثل ما قلنا في الرقبة.

طالب: حين أعتق يا شيخ وعُرِفَ أنه مُستطيع، بقي ما بعد ... يعني يعتق أخرى في مفهوم ...؟

لا، انتهى، الاستطاعة المطلوبة للفعل تحققت وحصل بها الفعل، انتهى. لكن لو لم يُعتِق، إلى الآن ما ندري هل هو مُستطيع؟ والدراهم موجودة، القيمة موجودة في ملكه، والرقبة موجودة في السوق، وما ندري هل هو مُستطيع أم لا، حتى يحصل الفعل.

سبحان الله العظيم! كيف تمشي مثل هذه الأمور على أناس عندهم عقول كبيرة جدًّا؟ لأن المُتكلمين هؤلاء عندهم ذكاء، وعندهم براعة، وعندهم نظر، لكن إذا تجرد العقل من النقل ضلَّ، حكَّموا عقولهم فتاهوا.

وَكَذَا مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [سورة التوبة:42]. وَكَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَلَوْ كَانُوا أَرَادُوا الِاسْتِطَاعَةَ".

على كلامهم، {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [سورة التوبة:42]، صحيح، كلام المنافقين صحيح على كلامهم؛ لأنهم ما خرجوا، إذًا لم يستطيعوا. والله -جلَّ وعلا- كذَّبهم في ذلك القول.

"وَلَوْ كَانُوا أَرَادُوا الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ قُدْرَةِ الْفِعْلِ - مَا كَانُوا بِنَفْيِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَاذِبِينَ، وَحَيْثُ كَذَّبَهُمْ دَلَّ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَرَضَ أَوْ فَقْدَ الْمَالِ، عَلَى مَا بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [سورة التوبة:91] إِلَى أَنْ قَالَ".

لا، ما زعموا أن عدم استطاعتهم عدم خروجهم وكونهم معهم، إنما {لَوِ اسْتَطَعْنَا} بالقدرة المادية والبدنية، التي هي معروفة لدى جميع العقلاء. ولكن الله كذَّبهم؛ لأنهم يستطيعون. لكن المريض، الضعيف، هذا لا يستطيع بالفعل.

"إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [سورة التوبة:93]. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [سورة النساء:25]"

وإذا مشّوا كلامهم في الإثبات، فكيف يمشي بالنفي؟ كيف يمشي كلامهم بالنفي؟ كيف توجد الاستطاعة عندهم المقارنة للفعل المنفي؟ ممكن؟ مستحيل، نعم؛ ولذلك جاء بالنفي.

"{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [سورة النساء:25]، وَالْمُرَادُ: اسْتِطَاعَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». وَإِنَّمَا نَفَى اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ مَعَهَا.

وَأَمَّا دَلِيلُ ثُبُوتِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [سورة هود:20]. وَالْمُرَادُ نَفْيُ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ، لَا نَفْيُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ".

نفيها؛ لوجود المانع من استعمالها، وإلا فهي موجودة حقيقة. لديهم أبصار، ولديهم سمع، لكن لا يُبصرون ولا يسمعون بها. فهذه الآلات، وجودها مثل عدمها، كما قال الله -جلَّ وعلا- عن الكفار: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [سورة الأعراف:179] هي موجودة، لكن مع ذلك وجودها مثل عدمها.

"وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: "وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ"، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَا قَوْلُ صَاحِبِ مُوسَى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [سورة الكهف:67]. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [سورة الكهف:75] وَالْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةُ قُدْرَةِ الصَّبْرِ، لَا أَسْبَابُ الصَّبْرِ وَآلَاتُهُ، فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ ثَابِتَةً لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَلَا يُلَامُ مَنْ عَدِمَ آلَاتِ الْفِعْلِ وَأَسْبَابِهِ عَلَى عدم الفعل".

لأن الإنسان قد تكون لديه آلات الصبر، لكن يأتيه موقف أو مواقف، تجعل هذه الآلات تضعُف عن تحقيقه. تجد الإنسان يتحمل المشاق، ويصبر على المصائب، لكن إذا مات له ولد مثلاً، قد يعجز عن الصبر، ويتخلف الصبر، وآلات الصبر موجودة، لكن وجود مُعارض لهذه الآلات، ومع ذلك هو مُكلَّف بالصبر ومُعاقبٌ على عدمه؛ لوجود آلاته؛ لأن الله ركَّب فيه الآلات التي يستطيع بها أن يصبر، فما صبر.

ولذلك يُلام موسى -عليه السلام- بعدم الصبر على ما كان مع الخضر؛ ولذت قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «وددنا أن موسى صبر ...» يعني: حتى يُقصُّ من أخبار الخضر مزيدًا على ذلك، لكن موسى -عليه السلام- ما صبر، والله المُستعان.

"وإنما يُلام من امتنع من الفعل لتضييع قُدْرَةَ الْفِعْلِ، لِاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ، أو شغله إياها بفعل مَا أُمِرَ بِهِ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حِينَ الْفِعْلِ - يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ".

لأن قبل وبعد ضدان، ولا تصلح للضدين، القدرة، ما ندري من أين جاؤوا بهذا الطريق الذي ألزموا به أنفسهم بنتيجته؟ وإلا فالقدرة على الصلاة مثلاً، بأن يقوم ويتوضأ ويذهب إلى المسجد ويصلي مع المسلمين، هذه موجودة قدرة قبل وبعد. قلنا: قد يعرض له ما يمنع القدرة البعدية من حصول حادث مثلاً، هذا خارج عن إرادته. فآلة القدرة غير موجودة حينئذٍ، فلا يُعاقب عليها.

طالب: عزى هذا القول إلى طائفة من أهل السُّنَّة؟

نسبته إلى أهل السُّنَّة كأن شيخ الإسلام ما نسبه إلى أهل السُّنَّة، سنقرأ كلامه الآن.

"فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ، لَا تُوجَدُ بِدُونِهِ.

وَمَا قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ، وَهُوَ إِقْدَارُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ سَوَاء، فَلَا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَصَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ بِإِعَانَةٍ حَصَّلَ بِهَا الْإِيمَانَ، بَلْ هَذَا بِنَفْسِهِ رَجَّحَ الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية!"

نعم، يقول: إن الله -جلَّ وعلا- أعطى الناس كلهم من الأسباب الشيء واحد، على مستوىً واحد، فهذا رجَّح الإيمان وهذا رجَّح الكفر. وقالوا: مثال ذلك: من أعطى واحدًا من أبنائه سيفًا، وأعطى الآخر سيف، من مصنعٍ واحد، ما بينهم فرق، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق. الأب ما فرَّق بين الاثنين، وكذلك الله -جلَّ وعلا- جعل في هذا من القدرة على فعل الخير، وفي هذا من القدرة على فعل الخير، نفس المستوى، وكذلك الشر. لكن هذا اختار، وهذا اختار.

طالب: ...

كلها بتوفيق الله.

طالب: ...

كلها، لابد من التوفيق.

طالب: ...

لا، كلا القدرتين على الفعل مع الامتثال، كله بتوفيق الله -جلَّ وعلا-.

طالب: حقيقة قول إن القدرة مع الفعل، القدرة إذا وجدت لزم الفعل، هل هذا صحيح؟

نعم.

طالب: يعني هذا مبنى كلام ... شيخ الإسلام قد استدل ...

سنسمع كلام الشيخ -رحمه الله-.

طالب: استدل على تارك الصلاة، قال: لما قدر على الصلاة، وجدت القدرة ووجد الفعل، عُلِم أنه لم يرد، فهل هذا متطابق لكلامهم ...؟

هو سيأتي ما بين القدرة والإرادة؛ لأنه قد توجد القدرة وتوجد الإرادة، فيوجد الفعل، وقد توجد الإرادة ولا توجد القدرة، وقد توجد القدرة ولا توجد الإرادة، فلا يوجد الفعل.

طالب: ...

الله -جلَّ وعلا- وفَّق من انقاد وامتثل، قبل وبعد، هو موفق. يعني من بذل الأسباب للصلاة، قام وتوضأ، ما هي بهداية توفيق؟

طالب: ...

مع فعل الوضوء، ما هي مع فعل الصلاة، قبل فعل الصلاة. أصل بحث هذه المسألة، لو أنهم ما أورودها ولا بحثوها ولا طرقوها، هل المسلم بحاجة إلى مثل هذا الكلام؟ والله لا يحتاج، المسلم الذي على فطرته، ما اجتالته الشياطين وقواعد المُتفلسفة والمُتكلمين، الناس ليسوا بحاجة، وكثير من الناس مات وما عرف هذا.

"كالوالد الَّذِي أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ سَيْفًا، فَهَذَا جَاهَدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا قَطَعَ بِهِ الطَّرِيقَ.

وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُطِيعِ نِعْمَةً دِينِيَّةً، خَصَّهُ بِهَا دُونَ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الطَّاعَةِ إِعَانَةً لَمْ يُعِنْ بِهَا الْكَافِرَ".

لكنه بيَّن للكافر، ووضع فيه القدرة والحرية والاختيار، أن يختار ما ينفعه، فاختار ما يضره. لو قيل لإنسان: لا تسلك هذا الطريق، هذا الطريق فيه كذا وكذا وكذا، ثمَّ عاند وسلكه. ترى الطريق فيه وحوش، قال: ما عليكم، ما بُذلت له النصيحة؟ ما بُيِّن له السبيل؟ ثمَّ أصر وعاند فأكلته الوحوش. هل يتجه أن يُلام من مكّنه من الذهاب مع هذا الطريق بعد أن بُيِّن له؟ نعم، لو كان ما فيه عقل، مجنونًا، صبيًّا، يُمنع بالقوة. أما ما دام وجدت معرفة السبيل، ووجدت الحرية والاختيار والقدرة على الذهاب وعلى الامتناع، لم يكن لأحدٍ حُجة.

"كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [سورة الحجرات:7].

فَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا التَّحْبِيبَ وَالتَّزْيِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْخَلْقِ".

يعني: الكافر حُبب إليه الإيمان، وزُيِّن في قلبه، وكُرِّهَ إليه الكفر والفسوق والعصيان. الله جعل فيه هذه الصفات مثل ما جعلها في المؤمن، هذا مقتضى كلامهم.

طالب: ...

وهم راشدون أيضًا، هذا الوصف لهم أيضًا، للكفار، سبحان الله!.

طالب: ...

حببه إلى الجميع.

طالب: ...

على كل حال، هذا كلامهم، ما نقرر إنه هو الصحيح، كلامٌ باطل من كل وجه.

"وَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيَانِ وَإِظْهَارِ دَلَائِلِ الْحَقِّ. وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بالمؤمنين، ولهذا قال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}، وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا رَاشِدِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [سورة الأنعام:125]. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يُبَيِّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَدَى هَذَا وَأَضَلَّ هَذَا. قَالَ تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [سورة الكهف:17]".

والمُعترض ماذا يقول؟ يقول:

ألقاه في اليم مكتوفًا، ثمَّ قال له                        إيَّاك إيَّاك أن تبتل بالماء

هذا مقتضى الجبر، ألقاه في البحر مكتوفًا، وقال: لا تبتل بالماء. فضلاً عن أن يقول له: لا تغرق، وهو مكتوف، من فعل هذا بآخر، هل هو ظالمٌ له أم غير ظالم؟ ظالم. مقتضى قول الجبرية: أن الله ظالمٌ لمن كلفه ولم يمتثل، فعذبه بمقتضى فعله واختياره غير سبيل المؤمنين!

"وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: يُرَجَّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ، إِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ: "يُرَجَّحُ" مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْفِعْلِ، فَذَاكَ هُوَ السَّبَبُ الْمُرَجِّحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى زَائِدٌ كَانَ حَالُ الْفَاعِلِ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ كَحَالِهِ عِنْدَ الْفِعْلِ، ثُمَّ الْفِعْلُ حَصَلَ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى بِلَا مُرَجِّحٍ! وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ!! فَلَمَّا كَانَ أَصْلُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ إِنَّ فَاعِلَ الطَّاعَاتِ وَتَارِكَهَا كِلَاهُمَا فِي الْإِعَانَةِ وَالْإِقْدَارِ سَوَاءٌ - امْتَنَعَ على أصلهم أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ قُدْرَةٌ تَخُصُّهُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تَخُصُّ الْفِعْلَ لَا تَكُونُ لِلتَّارِكِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِلْفَاعِلِ".

يعني: النفي وترك الفعل لا تمشي عليه قاعدتهم؛ لأن الترك لا يحتاج إلى قدرةٍ أصلاً، الترك وعدم الفعل لا يحتاج إلى قدرة، هل هناك أحد يعجز عن الترك؟ ما هناك أحد يعجز عن الترك، لكن الفعل هو الذي يحتاج إلى قوة وقدرة. قوله: "يُرجِّح بلا مُرجِّح" أو "يُرجَّح بلا مُرَجَّح" شيخ الإسلام في بعض المواضع، قال: "كسلوك أحد الطريقين المتساويين والبدء بأحد الرغيفين" عندك رغيفان، قُدما لك وهما أمامك، تأكل هذا؟ أم تأكل هذا؟ ما فيه مُرجِّح، كلاهما واحد. طيب أنت أخذت واحدًا، قدمته ورجحته، لماذا؟ يعني مثل هذه الأمور العادية لا تدخل في الأمور التي فيها الأوامر والنواهي، لا سيما وقد يوجد مُرجَّح، قد يكون هذا أكثر نضجًا، فاحتمال أن تكتفي بواحد، فلا تبدأ بالأقل، هذا مُرجّح. لكن إذا استويا من كل وجه، تبدأ بالأيمن هذا مرجّح، لكن كونك تبدأ بالأيسر، يكون بلا مُرجِّح، لكن كونك تسلك أحد الطريقين، يُقال لك: هذا يوصل المكان الفلاني بمسافةٍ قدرها كذا، وبمستوى من الجودة كذا، والثاني كذلك. تذهب يمينًا أم يسارًا؟ إن ذهبت يمينًا فهذا مرجّح، وإن ذهبت يسارًا كما يقولون بلا مرجّح.

"لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تَخُصُّ الْفِعْلَ لَا تَكُونُ لِلتَّارِكِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِلْفَاعِلِ، وَلَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْقُدْرَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْفِعْلِ، قَالُوا: لَا تَكُونُ مَعَ الْفِعْل؛، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، وَحَالَ وُجُودِ الْفِعْلِ يَمْتَنِعُ التَّرْكُ، فَلِهَذَا قَالُوا: الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ! وَهَذَا بَاطِلٌ قطعًا، فَإِنَّ وُجُودَ الْأَمْرِ مَعَ عَدَمِ بَعْضِ شُرُوطِهِ الْوُجُودِيَّةِ مُمْتَنِعٌ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْفِعْلِ. فَنَقِيضُ قَوْلِهِمْ حَقٌّ، وَهُوَ: أَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قُدْرَةٌ".

يعني: قدرة مُقارنة، كما في حديث عمران. لابد أن تكون القدرة مُقارنة، ويكون قبل ذلك قدرة هي مناط التكليف، فالقدرة مع الفعل مناط الفعل نفسه، والقدرة قبله هي مناط التكليف والأمر بالفعل.

"لَكِنْ صَارَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ هُنَا حِزْبَيْنِ: حِزْبٌ قَالُوا: لَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا مَعَهُ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعٌ وَاحِدٌ لَا يَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَظَنًّا مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَرَضٌ، فَلَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهَا قَبْلَ الْفِعْلِ".

يعني: هذا الكلام الذي ذكروه وما قعَّدوه، هل يقتضيه نقل ولا عقل؟ واقع الناس على اختلاف مستوياتهم وإيجادهم الأفعال على الصورة التي أمر الله بها، هل تحتاج إلى مثل هذا الكلام؟ لا، والله، ما تحتاج إلى هذا الكلام.

"وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ: نَوْعٌ مُصَحِّحٌ لِلْفِعْلِ، يُمْكِنُ مَعَهُ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَهَذِهِ تَحْصُلُ لِلْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَتَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ".

المُطيع قادر، والعاصي قادر، العاصي قادر أن يقوم ويتجه إلى مكان الوضوء، يتوضأ ويذهب إلى المسجد، لديه القدرة والاستطاعة قبل الفعل.

"وَتَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ تَبْقَى إِلَى حِينِ الْفِعْلِ، إِمَّا بِنَفْسِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ، وَإِمَّا بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ".

يعني: هي تتجدد، قدرة تنتهي وقدرة تأتي، الحمد لله على السلامة.

طالب: هذا الكلام فيه شُبهات، هل رد أهل السُّنَّة عليه؟

ردوا عليه، تقرأ في (درء تعارض العقل والنقل) في هذه المسألة، رأيتم كلام شيخ الإسلام بالفعل، يعني الحاجة لا تدعو إلى وجوده، هو وجد بالفعل من المُبتدعة، والرد عليهم مُتعيِّن، لكن ليس لآحاد الطلاب وأوساط المُتعلمين وأيضًا إلقاؤه على العامة أو على المُبتدئين من المُتعلمين، لا ينبغي؛ لأنه قد توجد الشُبهة، فلا تُستطاع إزالتها؛ لأنه كلام مبني على قواعد، قد يكون في فهمها عُسر. فإذا وجدت الشُبهة، اجتثاثها قد يكون فيه نوع من الصعوبة... يُشرب قلب أحدٍ حبها من أوساط المُتعلمين، ثمَّ بعد ذلك يصعُب اجتثاثها ونزعها. لكنها وجدت، فلابد من الرد عليها.

"وَهَذِهِ قَدْ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَأَمْرُ اللَّهِ مَشْرُوطٌ بِهَذِهِ الطَّاقَةِ، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَذِهِ الطَّاقَةُ، وَضِدُّ هَذِهِ الْعَجْزُ، كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَيْضًا: فَالِاسْتِطَاعَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الشَّرْعِ أَخَصُّ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِهَا، فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَدْ تَكُونُ مَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْجَزْ عَنْهُ. فَالشَّارِعُ يُيَسِّرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَيُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ".

قد توجد القدرة الحقيقية مع العجز الحكمي، شخص في بدايات المرض، أو فيه نوع مرض، إن توضأ تأخر بُرؤه أو زاد مرضه، هو يستطيع الوضوء حقيقةً، لكنه عاجزٌ حُكمًا، فلا يُؤمر به؛ لعجزه الحُكمي، وإن وجدت القدرة الحقيقة.

"فَالشَّارِعُ يُيَسِّرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَيُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَالْمَرِيضُ قَدْ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ مَعَ زِيَادَةِ الْمَرَضِ وَتَأَخُّرِ بُرْئِهِ، فَهَذَا فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ".

غير مُستطيعٍ حُكمًا، وإن كان مُستطيعًا حقيقةً.

"لِأَجْلِ حُصُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى مُسْتَطِيعًا".

قد يوجد الماء، والتيمم مشروطٌ بعدم الماء، لكن هذا الماء قد يكون مغصوبًا، يوجد مانع من استعماله، قد يكون مغصوبًا، وقد يكون المُستعمِل مريضًا، يزيد مرضه باستعماله، فيكون هذا الماء وجوده وإن كان حقيقة، لكنه معدومٌ حُكمًا؛ لوجود ما يمنع من استعماله.

طالب: العبد في بعض الأوامر التي تجب عليه، هل يُعتبر هذا عجزًا حُكميًّا؟

هو أصل الرق: عجز حُكمي.

"فَهَذَا فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، لِأَجْلِ حُصُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى مُسْتَطِيعًا. فَالشَّارِعُ لَا يَنْظُرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مُجَرَّدِ إِمْكَانِ الْفِعْلِ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى لَوَازِمِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا مَعَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ اسْتِطَاعَة شَرْعِيَّة، كَالَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَعَ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ يُصَلِّي قَائِمًا مَعَ زِيَادَةِ مَرَضِهِ، أَوْ يَصُومُ الشَّهْرَيْنِ مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك. فإن كَانَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ فِي الْمُكْنَةِ عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ، فَكَيْفَ يُكَلِّفُ مَعَ الْعَجْزِ؟!

وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ -مَعَ بَقَائِهَا إِلَى حِينِ الْفِعْلِ- لَا تَكْفِي فِي وُجُودِ الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَتْ كَافِيَةً لَكَانَ التَّارِكُ كَالْفَاعِلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاثِ إِعَانَةٍ أُخْرَى تُقَارِنُ، مِثْلَ جَعْلِ الْفَاعِلِ مُرِيدًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِقُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ".

لأنه قد يكون قادرًا، لكنه غير مُريد، وهذا فعل الكفار والعصاة، لديهم قدرة، لكنهم لا يريدون أن يفعلوا ما أُمروا به، فلا يتأتى الفعل مع القدرة عليه. وقد توجد الإرادة ولا توجد القدرة، وحينئذٍ يُعذَر بالعجز. وقد توجد الإرادة مع القدرة، فيتحقق الفعل.

طالب: ...

لا، هو الحُكمي.

طالب: ...

لا، ما يُحاسب إذا كان يستطيع حقيقةً ولا يستطيع حُكمًا؛ لأنه معذور. إذا كان يزداد مرضه أو يتأخر بُرؤه، يُفتَى بأنه لا يفعل؛ نظرًا لهذا العجز الحُكمي، ما فيه إشكال.

"وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَارِنَةُ تَدْخُلُ فِيهَا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ، بِخِلَافِ الْمَشْرُوطَةِ فِي التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِرَادَةُ. فَاللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالْفِعْلِ مَنْ لَا يُرِيدُهُ، لَكِنْ لَا يَأْمُرُ بِهِ مَنْ لَوْ أَرَادَهُ لَعَجَزَ عَنْهُ. وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَالْإِنْسَانُ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ".

ما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما لا يُريده هو. أنت تُرسل الولد، تأمره بأن يُحضر لك شيئًا، قد يكون الولد لا يريد هذا.

"فَالْإِنْسَانُ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ، لَكِنْ لَا يَأْمُرُهُ بِمَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْعَبْدُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالْقُوَّةُ التَّامَّةُ، لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ يَقُولُ: كُلُّ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ قَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُ. وَمَا لَا يُطَاقُ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ: بِمَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ، فَهَذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ أَحَدًا، وَيُفَسَّرُ بِمَا لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّكْلِيفُ، كَمَا فِي أَمْرِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، فَلَا يَأْمُرُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ! وَيَأْمُرُهُ إِذَا كَانَ قَاعِدًا أَنْ يَقُومَ، وَيُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِالضَّرُورَةِ".

في كلام لشيخ الإسلام في المسألة في (مجموع الفتاوى) في الجزء الثامن، لعلنا نستعرضه في الدرس اللاحق -إن شاء الله تعالى-.

اللهمَّ صلِّ على محمد.

"