التعليق على تفسير القرطبي - سورة الزخرف (01)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى:-

"سُورَةُ الزُّخْرُفِ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَقَالَ مقاتل: إلا قوله: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا} [الزخرف: 45]، وَهِيَ تِسْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ}، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقِيلَ: " حم" قَسَمٌ، " وَالْكِتابِ الْمُبِينِ" قَسَمٌ ثَانٍ، وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ، وَالْجَوَابُ " إِنَّا جَعَلْناهُ"، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ جَعَلَ جَوَابَ "وَالْكِتابِ" " حم"- كَمَا تَقُولُ: نَزَلَ وَاللَّهِ وَجَبَ وَاللَّهِ- وَقَفَ عَلَى " الْكِتابِ الْمُبِينِ"، وَمَنْ جَعَلَ جَوَابَ الْقَسَمِ " إِنَّا جَعَلْناهُ" لَمْ يَقِفْ عَلَى" الْكِتابِ الْمُبِينِ"، وَمَعْنَى" جَعَلْناهُ" أَيْ سَمَّيْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}[المائدة: 103]، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا، وقال مُجَاهِدٌ: قُلْنَاهُ".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

  أما الكلام في الحروف المقطعة فقد تقدم في مطلع سورة البقرة، وذكر أقوال أهل العلم، ولكن الذي ينبغي أن يقال في مثل هذه الحروف التي لم يرد فيها نص منزَّل: الله أعلم بمراده بها؛ لأنه لم يرد نص يفسِّرها مما يلزم قوله، لا في الكتاب ولا في السنة، فتبقى من المتشابه، أما أنه لا يوجد في كتاب الله شيء يلغز به إلا أن من الكتاب ما هو محكم معروف المعنى واضح، ومنه ما هو متشابه يجب الإيمان به.

 قال: وقيل: حم قسم، هذا من الأقوال التي تقدمت، من الأقوال التي تقدمت، والكتاب المبين قسم ثانِ، قسم بعد قسم، قسم بعد قسم، يكون القسم الثاني وجوابه جوابًا للقسم الأول، والله- جل وعلا- كما هو معلوم أقسم بكثير من مخلوقاته، فله أن يقسم بما شاء، لا يُسأل عما يفعل، وأما بالنسبة لعباده فلا يجوز أن يقسموا بغيره –جل وعلا-؛ «من حلف بغير الله فقد كفر،- أو-أشرك»،  «لا تحلفوا بآبائكم» كما جاء في حديث ابن عمر، لما حلف عمر بأبيه، أقسم عمر بأبيه وهم في ركب ناداه النبي، ناداهم النبي- عليه الصلاة والسلام- قال: «لا تحلفوا بآبائكم»، أما الله –جل وعلا- الذي لا يُسأل عما يفعل، فله أن يقسم بما شاء من عباده، وإذا أقسم بشيء فهذا دليل على رفعته وعلو شأنه؛ إذ لا يقسم بالمحقرات، وإنما بقسم بالأمور التي لها شأن.

 يقول: والجواب إنا جعلناه، يعني جواب القسم الثاني إنا جعلناه، والجملة من القسم الثاني وجوابه جواب القسم الأول.

 يقول: قال ابن الأنباري: من جعل جواب الكتاب حم، يعني مقدمًا عليه، يكون الجواب مقدمًا على القسم، كما تقول: نزل والله، وجب والله، يعني والله نزل، والله وجب، والكتاب حم، وقف على الكتاب المبين؛ لأن الجملة تمت؛ لأن الجملة تمت، ومن جعل جواب القسم إنا جعلناه لم يقف على الكتاب المبين؛ لأن الجملة لم تتم، ومعنى جعلناه سميناه ووصفناه، بخلاف من يزعم أن معنى جعل يعني خلق، كما تقول المعتزلة؛ تأييدًا لرأيهم في كون الله – جل وعلا- خلق كلامه، إن القرآن مخلوق، وإن كلام الله مخلوق، ولذا يذكر عن الزمخشري افتتح كتابه بالحمد لله الذي خلق القرآن، وهو معروف من المعتزلة، ثم قيل له: لو استمرت هذه المقدمة لكسد كتابك، وما وجد من يقرأه، إذا كان مطلعه بدعة، فمن يقرأ بدعة مغلَّظة؟ لأن من أهل العلم من كفَّر القائل بخلق القرآن، الإمام أحمد كفر ابن أبي دؤاد.

 المقصود أنه عدل عن هذه الجملة وقال: الحمد لله الذي جعل القرآن، ويرى أن جعل بمعنى خلق؛ من أجل أن يمرر كتابه، يروج كتابه بحذف خلق –والله المستعان-، والكتاب مملوء من هذا النوع من الاعتزاليات التي لا يعرفها كثير من المتعلمين؛ لأنها تُستخرج بالمناقيش كما قال أهل العلم.

"وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا، وقال مُجَاهِدٌ: قُلْنَاهُ، "وقال الزَّجَّاجُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَيَّنَّاهُ،" عَرَبِيًّا" أَيْ أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ كِتَابُهُ بلسان قومه، قاله سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ السَّمَاءِ عَرَبِيٌّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ اسْمُ جِنْسٍ، فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا، وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: " جَعَلْناهُ" تَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}".

القرآن عربي، القرآن نزل بلغة العرب، والله –جل وعلا- يرسل الرسول بلسان قومه؛ ليتم التفاهم بينه وبينهم، والقرآن المراد به كتاب الله المنزل على محمد-عليه الصلاة والسلام-، وأما الكتب الأخرى فبلسان أقوامهم، بلسان أقوام الرسل التي أنزلت عليهم تلك الكتب.

 يقول مقاتل: لأن لسان أهل السماء عربي. هذا يحتاج إلى دليل، وما جاء من كون العربية هي لغة أهل الجنة فيه ضعف عند أهل العلم. قال: وقيل: المراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة على الأنبياء، وهذا ليس بشيء؛ لأنه لم يجعل الكتب المنزلة على الأنبياء بلسان عربي، وكون القرآن عربيًّا لا يمنع من وجود كلمات مفردة ليست بالعربية، كلمات مفردة، وجود الأعلام العجمية محل إجماع بين أهل العلم، موجودة في القرآن: إبراهيم، إسماعيل، وغيرهما من الأعلام التي منعت من الصرف؛ للعلمية والعجمة، كما قال أهل العلم، فهي موجودة باتفاق، والجمل والتراكيب الأعجمية ليست موجودة بالإجماع في القرآن، الكلام في بعض الألفاظ التي تكلم بها غير العرب إما ابتداءً، فتلقاها عنهم العرب، وإما مما توقفت فيه اللغات، كما يقول جمع من أهل العلم.

 وعلى كل حال فوجود كلمة أو كلمتين أو كلمات يسيرة لا تخرج عن كونه عربيًّا كما يوجد الآن من يتكلم من العرب ببعض الألفاظ العجمية، لا يخرج عن كونه عربيًّا إلا أن هذه الألفاظ يسيرة، لكن إذا غلبت على لغة التخاطب بين الناس صار الحكم لها.

 الكناية: يعني الضمير في قوله: إنا جعلناه، ترجع إلى القرآن، وإن لم يرد له ذكر في هذه السورة، يجوز الضمير على ما لم يجرِ له ذكر إذا كان معلومًا عند المخاطب، كما يقال: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، أنزلنا إيش؟ هل يفهم السامع غير القرآن؟ {حتى توارت بالحجاب، ما التي توارت بالحجاب} ولم يجر لها ذكر؛ لأن المخاطب يعرف، ولا يحتاج إلى تذكير بها.

طالب:... إنا جعلناه قرآنا عربيًّا إلى مبينًا تعدى إلى مفعولين كقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة}، فأين المفعول الثاني في: ما جعل الله من بحيرة؟

الآن الجار والمجرور في حكم المفعول.

طالب: في حكم المفعول...

يقوم مقام المفعولين.

طالب: قوله: إن لم يجر له ذكر، أليس هذا الكلام يعتبر ذكرًا للقرآن ؟

الكتاب المبين على كلامه في السابق أن الكتاب يعم جميع الكتب، نعم الكلام السابق، إن الكتاب جنس يعم جميع الكتب، لكن إذا قلنا: إن أل العهدية الكتاب المعهود المنزل على محمد انتهى الإشكال.

طالب: راجع إلى كتاب الله الكتاب المبين ...

ماذا؟

طالب: راجع على كتاب الله الكتاب المبين كما ذهب المؤلف؟

ما يلزم منه أن يكون جميع الكتبأن يكون أقسم الله بالقرآن، ق والقرآن، خاص بالكتاب هذا القرآن.

"{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ تَفْهَمُونَ أَحْكَامَهُ وَمَعَانِيهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ خَاصًّا لِلْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى".

خاص للعرب دون العجم يعني حال عجمتهم؛ لأنهم لا يفهمونه، لكن إذا تعلموا العربية، وفهموا القرآن فإنهم يكونون في حكم العرب.

" وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خِطَابًا عَامًّا لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ".

بالنسبة للأعاجم كثير منهم تعلم العربية وبرع فيها، وألَّفوا فيها أكثر مما ألفه العرب في العربية، وأعظم كتاب في العربية هو كتاب سيبويه، وليس بعربي، أعجمي، كتاب سيبويه المرجع لأهل العربية مؤلفه أعجمي، وهذا من عظمة هذا الدين، لكن ابن الجوزي له ملحظ، كأنه استقرائي لمن ألَّف في تفسير القرآن من العرب ومن غيرهم، يقول: تجد التأليف، إذا كَتب التفسير أو أراد فهم وتفهيم القرآن من العرب تجده لا يُشكل عليه شيء في الغالب، ما يشكل عليه، ويكون كلامه واضحًا ومفهومًا، بخلاف من فسَّر القرآن من الأعاجم. هذا رأيه، لكن الواقع يشهد بغير ذلك، كلٌّ أوتي نصيبه من فهم القرآن، والقرآن للجميع.

" وَنَعَتَ الْكِتَابَ بِالْمُبِينِ لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِيهِ أَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ، عَلَى مَا تقدم في غير موضع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. " لَدَيْنا" عِنْدَنَا" لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" أَيْ رَفِيعٌ مُحْكَمٌ لَا يُوجَدُ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78 - 77] وَقَالَ تَعَالَى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ  مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 22 - 21]، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَإِنَّهُ" أَيْ  أَعْمَالُ الْخَلْقِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ،" لَعَلِيٌّ" أَيْ رَفِيعٌ عَنْ أَنْ يُنَالَ فَيُبَدَّلُ" حَكِيمٌ" أَيْ مَحْفُوظٌ مِنْ نَقْصٍ أَوْ تَغْيِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ، فَالْكِتَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ" وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ"، وَكَسَرَ الْهَمْزَةَ مِنْ" أُمِّ الْكِتابِ" حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَضَمَّ الباقون، وقد تقدم".

"وإنه" الضمير المتبادر أنه يعود إلى القرآن؛ لأنه جرى ذكره في السابق قرآنًا عربيًّا، وهذا الواضح الذي عليه أكثر المفسرين، وهو باللوح المحفوظ. والقول الثاني يعود إلى أعمال الخلق، يعني مما قدره الله –جل وعلا- وكتبه في اللوح المحفوظ مما يعمله الخلائق، كتب عليهم قبل أن يخلقوا بخمسين ألف سنة، كما جاء في محاجة آدم مع موسى، فهذا الكتاب محفوظ مصون، لا يتطرق إليه تغيير ولا تبديل. أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة. بعضهم يري أن أول المخلوقات القلم؛ بناءً على هذا الحديث، ومنهم من يقول: لا، الأولية هنا مقيدة للأمر بالكتابة، وعلى هذا يكون العرش قبله، كما ذكر ابن القيم الخلاف في نونيته:

 والناس مختلفون في القلم  ......   كتب القضاء به من الديان

هل كان قبل العرش أـو هو بعده..... قولان عند أبي العلا الهمذاني

 والحق أن العرش قبل لأنه ........   وقت الكتابة كانت الأركان

 وكتابة القلم الشريف تعقَّبت.......    إيجاده من غير فصل زمان

يعني أن الأولية مقرونة بالأمر.

طالب: هل يكون الثاني أنه يرجع إلى أعمال الخلق؟

نعم.

طالب: طيب لم يتقدم من أعمال الخلق من إيمان وكفر...

ليس له ذكر فيما تقدم، وليس مما يدركه جميع الناس، يعني ما يخطر على البال، وهو مثل جعلناه، أنزلناه، توارت، هذه أول ما يتبادر إلى الذهن المراد، لكن هنا ما يجري، لذلك أكثر المفسرين على أنه القرآن.

طالب: أحسن الله إليك شيخنا، يقول ابن عباس –رضي الله عنهما-: في أم الكتاب عنده هل يقول بهذا بأن أم الكتاب غير الكتاب المحفوظ؟

الظاهر ما هو اللوح المحفوظ؛ بدليل الآيات المصرحة بذلك، بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ، نعم

طالب: ......

نعم؟

طالب: ......

هذا من فهم الراوي، لكن الرواية المرجحة ما فيها شيء.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْعَذَابُ، أَيْ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ  وَلَا نُعَاقِبُكُمْ عَلَى إِسْرَافِكُمْ وَكُفْرِكُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَفَحَسِبْتُمْ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَلَّمَا تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى أَتُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ وَلَا تُعَاقَبُونَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: الْمَعْنَى أَفَنَتْرُكُكُمْ سُدًى فَلَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى أَفَنُهْلِكُكُمْ وَلَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: أَفَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مِنْ قبلِ أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا نُنَزِّلُهُ عَلَيْكُمْ."

هذا أوضح الأقوال، الأخير هذا هو أوضح الأقوال، أفنمسك نضرب عن تنزيل القرآن صفحًا؛ لأنكم قوم مسرفون؟ لأنكم لا تقبلونه نمتنع من إنزاله؟ هذا كأنه أوضح الأقوال.

" وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ رُفِعَ حِينَ رَدَّدَتْهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ".

حين ردَّته، ما رددته، الترديد يختلف عن الرد.

"قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ رُفِعَ حِينَ رَدَّتْهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَدَّدَهُ وَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَفَنَطْوِي عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا فَلَا تُوعَظُونَ وَلَا تُؤْمَرُونَ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ التَّذَكُّرُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ، وَمَنْ كَسَرَ جعلها للشرط وَمَا قَبْلَهَا جَوَابًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ فِي اللَّفْظِ، وَنَظِيرُهُ: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]".

يعني إن كنتم مؤمنين ذروا ما بقي من الربا، إن كنتم قومًا مسرفين نضرب عنكم الذكر.

" وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَمَعْنَى الْكَسْرِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ الْحَالُ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَعْنَى" صَفْحاً" إِعْرَاضًا، يُقَالُ: صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَدْ ضَرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ وَتَرَكْتُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ صَفْحَةُ الْعُنُقِ، يُقَالُ: أَعْرَضْتُ عَنْهُ أَيْ وَلَّيْتُهُ صَفْحَةَ عُنُقِي، قَالَ الشَّاعِرُ

صُفُوحًا فَمَا تَلْقَاكَ إِلَّا بَخِيلَةً     ****      فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ
وَانْتَصَبَ" صَفْحاً" عَلَى الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى " أَفَنَضْرِبُ" أَفَنَصْفَحُ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَافِحِينَ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ مَشْيًا".

فيكون إعرابها إما مصدرًا من الفعل المرادف، أو حالًا، صفحًا.

" وَمَعْنَى" مُسْرِفِينَ" مُشْرِكِينَ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْفَتْحَ فِي " أَنْ" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاتَبَهُمْ عَلَى مَا كَانَ منهم، وعلمه قبل ذلك من فعلهم".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} كَمْ" هُنَا خَبَرِيَّةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ، وَالْمَعْنَى مَا أَكْثَرَ مَا أَرْسَلْنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان: 25] أَيْ مَا أَكْثَرَ مَا تَرَكُوا { وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ} أَيْ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ نَبِيٌّ { إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ بِكَ، يُعَزِّي نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُسَلِّيهِ".

كم هنا خبرية وللتكثير هذا واضح من السياق، وشواهدها من العربية كثيرة، وهنا التسلية والتعزية بذكر ما حصل مع الأنبياء مع أقوامهم سبق أن أشرنا مرارًا الإشكال الذي قد يرد هنا، وهو هل الإنسان يتسلى ويتعزى بما حصل لغيره من مخالفة لأمر الله؟ يعني هل النبي- عليه الصلاة والسلام- يسرُّه أن يذكر له ما حصل للأنبياء مع أقوامهم من مخالفتهم وتكذيبهم وما حصل لهم من عذاب؟

طالب: يكون التزكية من عظمة الله –سبحانه وتعالى- ....... أنبيائه.

يعني من باب أن الله –جل وعلا- ينتصر لأنبيائه، ويهلك من خالفهم.  نعم من هذه الحيثية، وإلا فالأمر ما فيه أحد يمكن أن يُعزى ويُسلى بما يحصل من مخالفة لأمر الله –جل وعلا-. بعض الناس يرى أن الأمر إذا عمَّ خفَّ وقعه، يعني الإنسان إذا خسر في تجارته بمفرده صارت مصيبة وكارثة عليه، لكن إذا خسر الناس كلهم ما يتعزى وتخف عليه المصيبة؟ نعم، ويتداول العامة: الموت مع الناس رحمة، يكون مع الناس ما يموت لحاله ولا ولده ولا حبيبه، وبينما غيره لا.

 فمن هذه الحيثية من حيث ما جبل عليه الإنسان، من حيث ما جبل عليه الإنسان يتعزى، لكن من حيث ينبغي أن يكون من المحبة الشرعية التي تجب على المكلف، يجب على المكلف أن يقرح لانتصار الدين وعلو الدين وظهور الدين، ولا يفرح بما حصل من تكذيب الأمم لأنبيائهم، وإن كان أيضًا من حيث الجبلة، أنك لست أنت وحدك الذي كُذبت، ولست وحدك الذي أُوذيت،  ولست وحدك الذي، بل حصل للأنبياء من قبلك، لبعضهم ما هو أشد مما حصل لك.

طالب:.......

يعني الأمر الجبلي، أما الأمر الشرعي فينظر الإنسان بعين الشرع.

طالب:....

من هذه الحيثية فلا شك أن الجبلة تستروح لمثل هذا، مثل ما ذكرنا أن الإنسان إذا خسر وحده في تجارته أو أصيب بمرض وحده لا شك أن الواقعة عليه أشد مما لو عم هذا الأمر، مع أنه عليه أن يحب لأحيه ما يحب لنفسه، أن يحب للناس كلهم ألا يصابوا بهذه المصيبة التي أُصيبوا بها من حيث المحبة الشرعية، أما من حيث الجبلة فهذا أمر آخر.

طالب: ألا يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتألم؛ لكونه........

هو يتألم- عليه الصلاة والسلام- من تكذيب قومه له، ومن تكذيب الأمم لأنبيائهم، لكن كون هذا فيه تعزية وتسلية، القصص هذه، يتفق المفسرون على أنه إنما يذكر؛ ليعزى الله نبيه محمدًا– عليه الصلاة والسلام – بهذه القصص، ولا شك أن هذه القصص بها العبرة والعظة، ما كان حديثًا يفترى { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يفترى}، فكونها عبرة وعظة المقصود بها أن نعتبر ونتعظ، ولا نقع في مثل ما وقعوا به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال: مضى القوم، ولم يرد به سوانا، يعني ما المصلحة من ذكر قصة موسى، وتكرر، ويبدأ فيها ويعاد في مواضع كثيرة إلا لنعتبر ونتعظ ونجتنب سبب الهلاك الذي أوقعهم فيه؟

طالب: ......قال للتعزية يا شيخ أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لما خسر قومه خسر دعوته، واستجابتهم للرسول –صلى الله عليه وسلم- يعني لو كان قائمًا معنى التعزية أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- خسر استجابة قومه...

هو ما خسر في النهاية.

طالب: لم يستجيبوا له..

في أول الأمر ما استجابوا، لكنهم استجابوا فيما بعد، لكن كونه تذكر عليه القصص، تذكر له القصص قصص الأنبياء مع أقوامهم، وما حصل لهم بالتفصيل، لا شك أن هذا مثل ما ذكرنا بالنسبة لما جُبل عليه الإنسان نعم، لا سيما العاقبة للمتقين، العاقبة للرسل ولمن اتبعهم على مر التاريخ، إنا لننصر رسلنا، وأحيانًا قد يكون نصر الرسول بإغراق قومه، قد يكون بإهلاك قومه، فالنصر للرسول على أي حال من خلال هذه القصص كلها.

طالب:...واختار أبو عبيدة الفتح على هذا يكون ..

أن كنتم.

طالب: على هذا يا شيخ تكون الآية التي فسَّرها المؤلف إن كنتم...

يعني على قراءة نافع التي يقرأ بها.

 وذكرنا مرارًا أن التفسير في الأصل خالي من الآيات ما فيه آيات يذكر قطعة من الآية {وأنه في أم الكتاب} فقط، ثم يفسرها، ثم يكمل الآية {ولقد أرسلنا من نبيا في الأولين}، ويكمل بعدها يذكر ما يحتاج إلى تفسيره، ثم الطابع لما طبع الكتاب أقحم الآيات حتى في الطبعة الأولى،  المجلد الأول والثاني من الطبعة الأولى ما فيها آيات، بدون آيات، ثم أدخلت الآيات في المجلد الثالث وما يليه، ثم بعد ذلك أعيدت طبعات الكتاب، وأدخلت الآيات في جميعه.

 ذكرنا مرارًا أنهم ليتهم حين تصرفوا وأدخلوا الآيات أدخلوا القراءة التي تتفق مع قراءة المفسِّر؛ لأنه فسر الآية على قراءة نافع، ثم يذكر القراءات الأخرى، وسيأتي أمثلة أوضح من هذه، أوضح من هذه.

 فالتصرف أولاً لا ينبغي التصرف في داخل الكتاب، تدخل فيه الآيات كما فعلوا في فتح الباري وغيره، أدخلوا الأحاديث، وهو مجرد من الأحاديث، ومع ذلك ليتهم لما أدخلوا رواية أو قراءة تناسب ما عليه المفسِّر أو الشارح.

يعني من في سبل السلام أشياء مضحكة، الأصل ما فيه أحاديث، فأدخلوا الأحاديث بين المتضايفين أحيانًا، يعني المضاف قبل الحديث، والمضاف إليه بعده، وهذا كله من شؤم التصرف في كتب أهل العلم، فيبقى الكتاب كما هو، إذا أردت أن تطبع الكتاب، وتيسِّر على القارئ فضعه في أعلى الصفحة، وضع حاجزًا بين المتن والشرح، أو ضعه بالحاشية أو ما شابه ذلك، أو أتركه كما تركه المؤلف.

طالب:......في تفسير ابن كثير.

 لا اللي يظهر أن ابن كثير لا، ابن كثير وضع الآيات، ووضع المقاطع.

طالب: ابن كثير على قراءة ورش، هل هذا صحيح؟

لا، ابن كثير يذكر الآيات، آيتين، ثلاثًا، خمسًا أكثر، أقل، ويقول: يخبر تعالى بعد أن يذكر الآيات لو لم تذكر الآيات فكيف يخبر تعالى؟ عن أي شيء؟

"{فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أَيْ قَوْمًا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَالْكِنَايَةُ فِي " مِنْهُمْ" تَرْجِعُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: " أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً"، فَكَنَّى عَنْهُمْ بَعْدَ أن خاطبهم، و" أَشَدَّ" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ، أَيْ فقد أهلكنا أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ".

يعني في عددهم وعُدَدهم، في بنية أجسامهم، يعني إذا رأى الواحد منهم يحمل الصخرة الكبيرة، وهذا لا يوجد في المتأخرين، قد يوجد هذا فيهم بواسطة ما صنعوه وما اخترعوه، تكون القوة بالآلة وليست بالبدن، والعبرة بالبدن الذي يوجد في كل وقت، وفي كل ظرف، في كل مكان، أما بالنسبة للآلة فقد توجد أحيانًا، وقد لا توجد، وقد تيسر لبعض الناس، وقد لا تتيسر، أما قوة البدن بالنسبة للمتقدمين وآثارهم فشاهدة عليهم، فهي ميسرة لكل منهم.

"{وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ عُقُوبَتُهُمْ، عَنْ قَتَادَةَ، وقيل: صفة الْأَوَّلِينَ، فَخَبَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُهْلِكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، حَكَاهُ النقاش والمهدوي، والمثل: الوصف والخبر.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، " مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ"، فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، ثُمَّ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ جَهْلًا مِنْهُمْ، وَقَدْ مضى في غير موضع."

في مواضع كثيرة يذكر الله –جل وعلا- أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، يقرون بأنه –جل وعلا- هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي، وهو المميت، لكنهم يصرفون العبادة لغير الله أو له ولغيره، يشركون معه، ويقرون بتوحيد الربوبية ولا ينفعهم مع إنكارهم لتوحيد الألوهية، ولذا النبي –صلى الله عليه وسلم- قاتل الكفار وهم يقرون بهذا، ولم يكتفِ منهم بتوحيد الربوبية، وإنما العبرة بتوحيد الألوهية، إفراد الخالق بالعبادة.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} وَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ".

هنا يظهر ما ذكرناه قريبًا قراءة المؤلف: مِهادا، والآية التي طُبعت مع المصحف مهدًا، قراءة المؤلف مهادًا، والآية التي أدخلت وأقحمت في التفسير مهدًا، ذكرنا مرارًا أنهم ليتهم لما تصرفوا أدخلوا قراءة تناسب وتوافق قراءة المفسر. القرآن الذي أُدخل في التفسير هو المصحف المطبوع المعروف بمصحف فاروق، الملك فاروق هذا مصحفه، وهذه حروفه، وهذا صفه. وجزؤه يقرب من ثلاثين صفحة، يعني ثمانٍ وعشرين أو سبع وعشرين صفحة، أكثر من التنضيد الذي عندنا في المصاحف التي تنتهي بآية، هو لا ينتهي بآية في آخر الصفحة، مصحف فاروق لا ينتهي بآية، قد ينتهي بآية، وقد ينتهي بأثنائها في نصفها أو في أولها، وهو معروف ومشهور طباعته فاخرة وجميلة. وأدى دورًا كبيرًا في وقته.

 وكثير من الحفاظ يفضلون المصحف الذي لا ينتهي صفحته بآية؛ حتى يرتبط الحفظ، يرتبط الحفظ، لكن إذا انتهت الصفحة بآية، وقد تنتهي الصفحة التي تليها بنفس التعقيب السابق، ثم بعد ذلك قد يترك الحافظ صفحة كاملة، إذا انتهت بنفس التعقيب السابق ترك صفحة؛ هذا لمن حفظه ليس متقنًا جدًّا، لكن لما يكون المصحف يكون ارتباط الكلام تذكر أول الآية في هذه الصفحة وآخره في الصفحة الثانية هذه يرتبط فيها الكلام مع ذهن القارئ، ولا تكون قراءته تلقائية ينتهي بآخر الصفحة، وقد يبدأ بالصفحة الثانية من الغد أو ما أشبه ذلك. مثل ما ذكرنا أحيانًا يحصل ترك صفحة كاملة؛ لأن التعقيب في آخر الصفحة موافق للتعقيب في الصفحة التي تليها، وهذا موجود، هذا موجود، فيترتب عليه أن الإنسان ينسى، وهذا ما يرجحه بعض الحفاظ، بعضهم يقول: لا، الصفحة إذا انتهت بآية فهذا أفضل وأضبط، وأيضًا كون الصفحة، يعني مثل ما قالوا: إن القراءة لا بد أن تنتهي بآية، فكون الإنسان يقف على صفحة جديدة أفضل من كونه يقف على أثناء صفحة، ثم بعد ذلك لا يدري من أين بدأ، ومن أين انتهى.

 وعلى كل حال العبرة بإتقان الحفظ وضبطه، لا بهذه الصفحات سواء بدأت من أول آية أو من آخرها.

""قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} وَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لَقَالَ الَّذِي جَعَلَ لَنَا الْأَرْضَ،" مِهاداً" فِرَاشًا وَبِسَاطًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ".

مهادًا يعني أن الخلق يلازمونها، الخلق ملازمون لها، كما يلازم الطفل مهاده ومهده.

"وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ :مَهْداً" جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا" أَيْ مَعَايِشَ، وَقِيلَ: طُرُقًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا إِلَى حَيْثُ أَرَدْتُمْ، " لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" فَتَسْتَدِلُّونَ بِمَقْدُورَاتِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ".

من نعم الله –جل وعلا – أن جعل الأرض جعل فيها السبل والطرق التي يسلكها الناس، ولو خلت من هذه الطرق وهذه السبل التي يسلكها الناس، ويتبع بعضهم فيها بعضًا لماتوا في المفاوز، يعني تخرج إلى مفازة لا تدري أين تتجه، ما فيها سبل ولا طرق، نعم الله -جل وعلا- ألهم الخلق أن يتبع بعضهم بعضًا، والتقليد بالنسبة للخلق كأنه جبلي، يعني الأول يشق الطريق بالعلامات التي جعلها الله -جل وعلا- مما ذكر في حكمة خلق النجوم، يسلك الأول، ثم يتبعه غيره، من باب التقليد له، ولو كان قد يوجد ما هو أقرب منه وأسهل.

وانظر إلى خروج الناس من الصلاة يوم الجمعة، تجد الصفوف عشرة وعشرين صفًّا، ثم يقوم واحد من الصف الأول، ويخلوا له الطريق، يتبعه الناس كلهم من ورائه حتى لو وجد فرجة عن يمين أو يسار هذا الذي يتخطاه الناس تجد الناس وراء الأول، هذا ظاهر، يعني ما تجد واحدًا يذهب يمينًا وواحدًا يسارًا، بل تجدهم وراء بعض، مع أن الغاية معروفة، الباب معروف، كل يطلع من باب واحد، يعني يندر أن يحيد واحد يمينًا أو شمالًا، ما يدل على أن التقليد في الناس يعني يمشي، لماذا؟

لأن فيه راحة للعقل، والاجتهاد فيه كد للعقل وتعب، والإنسان مجبول على الراحة، هذا الذي اختط الطريق، كانت الطرق لمن أراد أن يجتهد فيها مهالك، فتجده يسلك الطريق، تؤثر فيه أقدام السالكين، فتكون سبلًا مؤدية، والتعريف بالطرق، بطرق الحج قديمًا تجدهم يعرفون بلدًا بكونه في طريق الحاج من البصرة، طريق الحاج من البصرة يعني من مكة إلى البصرة هذا تحديد دقيق؟ لكنه معروف أنه إذا خرجت مع حجاج البصرة سوف تقف على هذا البلاد، سترد هذا المورد، بخلاف الآن التحديدات الدقيقة التي هي بالدرجات الطول والعرض وغيرها، والله المستعان.

 ولذلك من نعم الله أيضًا أن زادت هذه السبل، وتيسرت، ولله الحمد بتعبيدها وتيسيرها للناس.

يعني كان الطريق يحتاج، من احتاج السيارات، يحتاج إلى مكة إلى أسبوع مثلاً بالسيارة، ومن أيسر الأمور أن تمشي السيارة وتنقلب ثم يعدلونها وتمشي، لكن الآن- ولله الحمد- ست ساعات وتصل مكة، والطريق مريح، وهذه من نعم الله –جل وعلا- {ويخلق ما  لا تعلمون}.

"{وَقِيلَ" لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فِي أَسْفَارِكُمْ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، وَقِيلَ: لَعَلَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جبير، وقيل: تهتدون إلى معايشكم."

وليست الغاية أن يعرف الإنسان النعمة، معرفة النعمة وسيلة إلى شكر هذه النعمة وصرفها فيما يعين على طاعة موجدها، وهو الله -جل وعلا-.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا كَمَا أُنْزِلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ بِغَيْرِ قَدَرٍ حَتَّى أَغْرَقَهُمْ، بَلْ هُوَ بِقَدَرٍ لَا طُوفَانَ مُغْرِقٌ وَلَا قَاصِرَ عن الحاجة".

يعني هذا هو الأصل والغالب، وقد يوجد فيضانات، ويوجد كذا، لكنها من باب العقوبات للمخالفين كما حصل لقوم نوح، ومازالت العقوبات تتوالى على الناس، لكن هل من مدكر؟ يعني حتى يُسأل بعض الناس عن هذه الفيضانات وهذا النضوب في المياه والشحّ فيها يرجعونها إلى أنها أمور طبيعية، لها مقدمات، ولها كذا، ولا يرجعون إلى أنها عقوبات استحقها هؤلاء المخالفون.

" حتى يَكُونَ مَعَاشًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، " فَأَنْشَرْنا" أَيْ أَحْيَيْنَا، " بِهِ" أَيْ بِالْمَاءِ {بَلْدَةً مَيْتاً} أَيْ مُقْفِرَةً مِنَ النَّبَاتِ، " كَذلِكَ تُخْرَجُونَ" أَيْ مِنْ قُبُورِكُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَعْرَافِ" مُجَوَّدًا، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: " يَخْرُجُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وضم الراء، والباقون على الفعل المجهول.

 قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ}.

فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ:

 الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ} أَيْ وَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَيْ الْأَصْنَافَ كُلَّهَا، وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات وَالْأَرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَقِيلَ: أَزْوَاجَ الْحَيَوَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، وَقِيلَ: أَرَادَ أَزْوَاجَ النَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] و{ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ  كَرِيمٍ} [لقمان: 10]".

قول سعيد بن جبير يجمع الأقوال كلها، وما ذكر إنما هو من باب التمثيل، لا من باب الحصر.

"وَقِيلَ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَفَقْرٍ وَغِنًى، وَصِحَّةٍ وَسَقَمٍ.

 قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَعُمُّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا وَيَجْمَعُهَا بِعُمُومِهِ {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ}".

هذا القول يعني القول الأخير، كل ما يتقلب فيه الإنسان، لكن كلام سعيد بن جبير أشمل منه وأعم.

"{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} السُّفُنِ، " والْأَنْعامِ" الْإِبِلِ، " مَا تَرْكَبُونَ" فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ."

الأنعام الأصل فيها الأصناف الثمانية، الأصناف الثمانية، لكن كونها تركب هذا يخصص، وصف مخصص للإبل من الأصناف الثمانية، إذ البقر والغنم لا تُركب، ولم يبقَ إلا الإبل، نعم يعني كما جاء في الصحيح أن الذي ركب البقرة، ثم التفتت إليه وقالت: ما خُلقنا لهذا، في الصحيحين هذا، وقال: آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر، في حديث له جمل أخرى نظير لهذا.

"{لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} ذَكَّرَ الْكِنَايَةَ؛ لِأَنَّهُ".

ذكَّر الضمير، ما قال: على ظهورها.

"ذَكَّرَ الْكِنَايَةَ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى مَا فِي قَوْلِه".

إلى ما، رده إلى ما، يعود الضمير إلى ما، ولفظها مذكر.

ذَكَّرَ الْكِنَايَةَ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى "مَا" فِي قَوْلِه: {مَا تَرْكَبُونَ} قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَضَافَ الظّهُورَ إِلَى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، فَصَارَ الْوَاحِدُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ بِمَنْزِلَةِ الْجَيْشِ وَالْجُنْدِ."

الجمع المضاف كالمفرد المضاف يفيد العموم، يفيد العموم.

"فَلِذَلِكَ ذُكِّرَ، وَجَمَعَ الظُّهُورَ، أَيْ عَلَى ظُهُورِ هذا الجنس.

الثَّانِيَةُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَنْعَامُ هُنَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: الْإِبِلُ وَحْدَهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبُ بَقَرَةً إِذْ قَالَتْ لَهُ لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ» فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «آمَنْتُ بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ»، وَمَا هُمَا فِي الْقَوْمِ."

يعني غير حاضرين، أبو بكر وعمر ليسا في القوم وقت التحديث؛ لأن واقع أبي بكر وعمر ممن يؤمن بمثل هذا الذي يأتي به الخبر الصحيح. لأن بعض الناس قد يرد مثل هذا؛ لأنه لا يتصور أن بقرة تتكلم، وهذا كله من ضعف تصديقه لما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- وإلا فالأصل أنه إذا سمع الخبر الصحيح يقول: سمعنا وأطعنا، سواء دخل عقله فهمه أو لم يفهمه، لكن إن لم تفهمه فهمه غيرك.

" وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " النَّحْلِ" مُسْتَوْفًى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} يَعْنِي بِهِ الْإِبِلَ خَاصَّةً؛ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْفُلْكَ إِنَّمَا تُرْكَبُ بُطُونُهَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَعَطَفَ آخِرَهَا على أحدهما، ويحتمل أن يُجعل ظاهرهما باطنهما".

يعني من ركب في باطن السفينة يحتمل أن يكون البطن هو الظهر، لماذا؟ لأن ظاهر السفينة انغمر في الماء، فلم يظهر منها إلا هذا الباطن للرائي والناظر لم يظهر منها إلا هذا الباطن، وهذا ما قرره هنا، لكن الوضوح أن الظهور للإبل، وأما بالنسبة للسفن فإنما يركب بطنها لا ظهرها، تركب في جوفها، في داخلها، ولا يمنع أن يكون هذا الجوف الظاهر بناءً على أن ظاهر كل شيء بحسبه أو يقال: إن هذا على سبيل التوسُّع والتجوُّز.

"لأن الماء غمره وستره، وباطنهما ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لِلظَّاهِرِينَ وَظَهَرَ لِلْمُبْصِرِينَ.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أَيْ رَكِبْتُمْ عَلَيْهِ وَذِكْرُ النِّعْمَةِ هُوَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى تَسْخِيرِ ذَلِكَ لَنَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ."

يعني الأثر المترتب على الذكر لا الذكر نفسه؛ لأن الإنسان قد يعدد النعم، ولا شك أن الاعتراف بها نوع من أنواع الشكر، لكن العبرة التحدث بها ظاهرًا بين الناس، وتذكير الناس بها نوع من الشكر، لكن يبقي أن المعوّل على الشكر الذي هو صرف هذه النعم فيما يعين على طاعة مسديها وموليها.

"{وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا} أَيْ ذَلَّلَ لَنَا هَذَا الْمَرْكَبَ، وَفِي قِرَاءَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَ لَنَا هَذَا"، " وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ" أَيْ مُطِيقِينَ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيِّ"."

قراءة علي –رضي الله عنه- لا تختلف عن قراءة غيره، فالذي سخر لنا هذا هو من سخر لنا هذا، وهذه القراءة تجوز قبل نسخ الأحرف التي يتخير فيها صورة الكتابة بعد اتفاق الصحابة وإجماعهم على المصاحف التي كتبها عثمان –رضي الله عنه وأرضاه- وأرسلها إلى الأمصار، لكن صورة الكتابة فيها واحدة، قد يختلف شيء من النطق من حرف، لكن صورة الكتابة واحدة.

"وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ:" مُقْرِنِينَ" ضَابِطِينَ، وَقِيلَ: مُمَاثِلِينَ فِي الْأَيْدِ وَالْقُوَّةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ قِرْنُ فُلَانٍ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْقُوَّةِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ أَيْ ضَابِطٌ لَهُ، وَأَقْرَنْتُ كَذَا أَيْ أَطَقْتُهُ، وَأَقْرَنَ لَهُ أَيْ أَطَاقَهُ وَقَوِيَ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ صَارَ لَهُ قِرْنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَيْ مُطِيقِينَ، وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ عَمْرِو بن معد يكرب:

لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ   ******    لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا
وَقَالَ آخَرُ:

رَكِبْتُمْ صَعْبَتِي أَشَرًا وَحَيْفًا   *******     وَلَسْتُمْ لِلصِّعَابِ بِمُقْرِنِينَا
وَالْمُقْرِنُ أَيْضًا: الَّذِي غَلَبَتْهُ ضَيْعَتُهُ، ويَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ غَنَمٌ وَلَا مُعِينَ لَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَكُونُ يَسْقِي إِبِلَهُ وَلَا ذَائِدَ لَهُ يَذُودُهَا".

هذا لا يطيقه، هذا الذي تغلبه ضيعته، ويغلبه عمله، هذا ليس له بمقرن، ليس له بمقرن، وهنا يقول: المقرن الذي غلبه ضيعته، اللهم إلا إذا كان لفظ المقرن من الأضداد، يعني يطلق على المطيق وغير المطيق.

" قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَفِي أَصْلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِقْرَانِ، يُقَالُ: أَقْرَنَ يُقْرِنُ إِقْرَانًا إِذَا أَطَاقَ، وَأَقْرَنْتَ كَذَا إِذَا أَطَقْتَهُ وَحَكَمْتَهُ، كَأَنَّهُ جعله فِي قِرْنٍ -وَهُوَ الْحَبْلُ- فَأَوْثَقَهُ بِهِ، وَشَدَّهُ".

يعني الدليل على القدرة عليه والإطاقة له.

 وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُقَارَنَةِ وَهُوَ أَنْ يُقْرَنَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي السَّيْرِ، يُقَالُ: قَرَنْتُ كَذَا بِكَذَا إِذَا رَبَطْتُهُ بِهِ وَجَعَلْتُهُ قَرِينَهُ.

الْخَامِسَةُ: عَلَّمَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا نَقُولُ إِذَا رَكِبْنَا الدَّوَابَّ، وَعَرَّفْنَا فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى لِسَانِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا نَقُولُ إِذَا رَكِبْنَا السُّفُنَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]، فَكَمْ مِنْ رَاكِبِ دَابَّةٍ عَثَرَتْ بِهِ أَوْ شَمَسَتْ أَوْ تَقَحَّمَتْ أَوْ طَاحَ مِنْ ظَهْرِهَا فَهَلَكَ ".

شمست يعني نفرت.

"أَوْ طَاحَ مِنْ ظَهْرِهَا فَهَلَكَ، وَكَمْ مِنْ رَاكِبِينَ فِي سَفِينَةٍ".

تقحمت يعني أقحمته في مضيق، أو في مكان لا يناسب السير فيه، فترتب على ذلك أن سقط، ولما كانت وسائل النقل هي الدواب كثيرًا ما يتعرض الراكب لما يجرح بدنه، ولا سيما الرجلين إذا كان المكان ضيقًا فتتقحم به، ليس لها مفر من هذا الطريق، وقد تدخل به بين أشجار وبين أشياء تتقحم به في مضايق فيتضرر، وقد يسقط عنها.

" وَكَمْ مِنْ رَاكِبِينَ فِي سَفِينَةٍ انْكَسَرَتْ بهم فغرقوا، فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور وَاتِّصَالًا بِأَسْبَابٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ أُمِرَ أَلَّا يَنْسَى عِنْدَ اتِّصَالِهِ بِهِ يَوْمَهُ، وَأَنَّهُ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ."

يومه الذي وعد به، وهو وقت موته، لما كان الركوب مباشرة أمر محظور، قد يقول قائل أو سائل: الغالب في وسائل النقل السلامة، فكيف يكون أمرًا محظورًا، لكن الاحتمال الثاني وهو الهلاك؛ لأن الاحتمال أقوى مما لو كان الإنسان جالسًا في مكانه لم يركب هذه الدابة، ولم يركب هذه الوسيلة.

" وَأَنَّهُ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ فَمُنْقَلِبٌ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- غَيْرُ مُنْفَلِتٍ مِنْ قَضَائِهِ، وَلَا يَدَعُ ذِكْرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِلِقَاءِ اللَّهِ بِإِصْلَاحِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْحَذَرُ مِنْ أَنْ يكون وركوبه ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ مَوْتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ، حَكَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا فِي سَفَرٍ فَكَانُوا إِذَا رَكِبُوا قَالُوا: { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ رَازِمٍ- وَهِيَ الَّتِي لَا تتحرك هزالا الرازم من الإبل الساكن على الأرض الذي لايقوم من الهزال أو قد رزمت الناقة ترزُم وترزِم رزومًا ورزامًا قامت من الإعياء والهزال، فلم تتحرك فهي رازم قاله الجوهري في الصحاح ".

يعني هذه الهزيلة أستطيع السيطرة عليها؛ لأني لها مقرن، مطيق، يستطيع السيطرة، وبعض الشباب تجده يفعل أفعالًا هي من أسباب الهلاك، الغالب على الظن إن لم يكن محققًا، ويقول: أنا أستطيع السيطرة على السيارة، ومع ذلك الأمثلة والوقائع تشهد أنه لا يستطيع. كم من إنسان لا يستطيع مع عدم تعرضه لمثل هذه الحوادث، يعني يمشي بطريقة مناسبة جدًّا لهذا الدابة أو لهذه السيارة وبذل أسباب السلامة كلها، ومع ذلك يحصل له ما يحصل، فكيف إذا تسبب في هلاك نفسه، ومع ذلك يقول: أنا أستطيع السيطرة، أنا مقرن، أنا مطيق مثل صاحب هذه الدابة الهزيلة هزيلة، يستطيع أن يثنيها كيفما شاء، ومع ذلك لما رأى في نفسه أنه مطيق، ولم يرجع ذلك إلى حفظ الله وعنايته ورعايته حصل له ما حصل.

طالب: معنى مقرن يا شيخ..

مقرن مطيق، الآن الدواب إذا أرادوا أن يمشوا بها جماعات قرنوا بعضها ببعض، فكون صاحبها على ضخامة أجسادها يستطيع أن يقرن الاثنين والثلاثة والعشرة في رباط واحد قادر عليها، لكن هو في الأصل لولا أن الله –جل وعلا- أقدره على ذلك ما كان مطيقًا لذلك.

" فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي لِهَذِهِ لَمُقْرِنٌ، قَالَ: فَقَمَصَتْ بِهِ فَدُقَّتْ عُنُقُهُ، وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا رَكِبَ قَعُودًا لَهُ وَقَالَ: إِنِّي لَمُقْرِنٌ لَهُ فَرَكَضَتْ بِهِ الْقَعُودُ حَتَّى صَرَعَتْهُ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ، ذَكَرَ الْأَوَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالثَّانِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: وَمَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَدَعَ قَوْلَ هَذَا وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ، فَيَقُولُ مَتَى رَكِبَ وَخَاصَّةً فِي السَّفَرِ إِذَا تَذَكَّرَ:" سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ".

أما كونه ليس بواجب فمعلوم أنه لا يجب هذا الذكر، وأما كونه باللسان فلا بد أن يكون باللسان، لأن الذكر والقول لا بد أن يكون باللسان، ولا يكفي إمرار الذكر على القلب، ما يكفي.

طالب:.......

إذا وضع رجله في الغرز، إذا ركب دابته قال ذلك...

طالب:......

في كل مركوب.

طالب: إذا صعد.

هذا يأتي فيه التكبير والتسبيح، إذا صعدنا كبَّرنا، وإذا نزلنا سبَّحنا..

طالب:..........

لكنه ما ينقل من مكان إلى مكان يعني يختلف، إنما هو للصعود والنزول، هذا هو ذكر الصعود والنزول.

طالب: ...مستمع أو قائل..

يعني يكفي أن يقوله واحد من الركاب، والبقية يستمعون؟ يعني كما في الوسائل العامة مثل الطائرات ومثل الباخرات ومثل وسائل النقل الكبيرة يقوله واحد، وقد يكون تسجيلًا بعد.

طالب: ......

 لا، كل إنسان مكلف بنفسه.

طالب:....مع السيارة....الكبيرة..

  لا، لا إذا قاله ذكرَّهم به فيقولونه، وكلٌّ مكلف بنفسه، هذا مطلوب من الجميع.

طالب:....في هذا الحديث حديث...وجدت...يترجمون....

هذا الأصل أن الركوب في السفر، في الحضر في الغالب لا يحتاج إلى ركوب.

طالب: ......

 إذا ركب قاله ما فيه ما يمنع، إن شاء الله.

طالب:......إن هذا في السفر...

يعني إذا ركب سيارته من بابه إلى عمله ما يقول دعاء الركوب؟ دعاء السفر شيء، ودعاء الركوب شيء، ودعاء الركوب يشمل السفر والحضر.

"اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، يَعْنِي بِ" الْحوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ": تَشَتُّتَ أَمْرِ الرَّجُلِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: رَكِبْتُ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ إِلَى أَرْضٍ لَهُ نَحْوَ حَائِطٍ يُقَالُ لَهَا: مُدْرِكَةٌ، فركب عَلَى جَمَلٍ صَعْبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَبَا جَعْفَرٍ! أَمَا تَخَافُ أَنْ يَصْرَعَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَالَ: «عَلَى سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، إِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَكُمْ، ثُمَّ امْتَهِنُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُ اللَّهُ»".

مخرج؟

طالب: ......

ماذا يقول؟

طالب: ......

عَلَى سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ..

طالب: ......

عزاه المؤلف لمن؟

طالب: ......

طالب: ......

طالب: ......

في قصة حصلت..

طالب: ......

عمرو بن دينار...

طالب: ......

وفي النهاية ماذا قال؟

طالب: ......

بمجموع طرقه يدل على أن له أصلًا.

"وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَكِبَ دَابَّةً يَوْمًا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: " سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ".

هذا يشمل الحضر والسفر، أما البقية فخاص بالسفر. يعني الذي هو: " سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ". فيقوله كل راكب.

طالب: ......

المقصود أن هذا الدعاء للركوب، أما دعاء السفر في بقية الخبر فللسفر.

طالب: ......

هذا عندك: فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: " سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا. هذا علي بن أبي طالب.

طالب: ......

نعم.

طالب: ......

نعم، إذا ركب قال الدعاء المعروف، وإذا سافر قال دعاء السفر.

طالب: ......

ماذا فيه؟

طالب: ......

يعني يستعملها، مهنة من المهن.

"ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ- ثَلَاثًا-، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ، وَقَالَ كَمَا قُلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْعَبْدُ- أَوْ قَالَ- عَجَبًا لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ ». خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي أَحْكَامِهِ.

وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ نَحْوَهُ مُخْتَصَرًا عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَفْظُهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: «بِاسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، وَإِذَا نَزَلْتُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ أَنْزِلْنَا مَنْزِلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ». وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ رَكِبَ وَلَمْ يَقُلْ: " سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ"، قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ تَغَنَّهْ".

مع عدم الذكر يحضر الشيطان، ماذا يطلب الشيطان من الإنسان؟ يطلب منه أن يذكر الله – جل وعلا- أو يطلب منه الغناء؟ مزمار الشيطان وذكر الشيطان، لكن إن كان عنده شيء يردعه عن الغناء قال له: تمنَّ. فيقضي طريقه بالأماني التي تضره ولا تنفعه.

ما تخريج الأول؟

طالب: ......

الذي أخرجه الطيالسي.

طالب: ......

والذي بعده؟

طالب: ......

"فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ قَالَ لَهُ: تَمَنَّهْ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ.

وَيَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ مَقَامِ مَنْ يَقُولُ لِقُرَنَائِهِ: تَعَالَوْا نَتَنَزَّهُ عَلَى الْخَيْلِ أَوْ فِي بَعْضِ الزَّوَارِقِ، فَيَرْكَبُونَ حَامِلِينَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ أَوَانِيَ الْخَمْرِ وَالْمَعَازِفَ، فَلَا يَزَالُونَ يَسْتَقُونَ حَتَّى تَمَلَّ طِلَاهُمْ وَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ أَوْ فِي بُطُونِ السُّفُنِ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ، لَا يَذْكُرُونَ إِلَّا الشَّيْطَانَ، وَلَا يَمْتَثِلُونَ إِلَّا أَوَامِرَهُ".

كما قال الله جل وعلا: إن سعيكم لشتى، تجد من يسمع في وسيلته الغناء، ومن يسمع المحاضرات والدروس، وهكذا، كلٌّ بما كان يزاوله.

"قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ السَّلَاطِينِ رَكِبَ وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَلَمْ يَصْحُ إِلَّا بَعْدَ مَا اطْمَأَنَّتْ بِهِ الدَّارُ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِمَسِيرِهِ وَلَا أحس به، فكم بَيْنَ فِعْلِ أُولَئِكَ الرَّاكِبِينَ وَبَيْنَ مَا أُمِرَ الله به في هذه الآية!؟".

هذا السلطان الذي يشرب الخمر من ركوبه إلى نزوله مدة شهر يريد أن تنتهي مدة السفر؛ لأنها مقرونة بالمشقة، فالسفر مقرون بالمشقة، فتنتهي هذه المشقة من غير أن يشعر بها.

لكن لو كان ممن يستغل الأوقات فيما ينفعه في أخراه لا سيما في الذكر الذي لا يكلفه شيئًا لانقطعت المسافة من غير أن يشعر.

طالب: ......

نعم.

طالب: ......

كم باقي على الأذان؟

طالب: عشرون دقيقة.

يكفي جزاكم الله خيرًا.