شرح مختصر الخرقي - كتاب الطهارة (19)

بقي مسألة تتعلق بالتيمم وهي تعارض حديث الخصائص مع بعض رواياته: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وجعلت تربتها لنا طهوراً)) وعرضنا المسألة في الدرس الماضي، وقلنا: إنها إن كانت من باب العموم والخصوص فلا تخصيص؛ لأن حكم الخاص موافق لحكم العام، ويكون التنصيص على الخاص إنما هو لمزيد العناية به، فيحرص المتيمم على أن يتيمم بالتراب، إذا ما وجد فغيره يجزئ؛ لأنه صعيد طيب طاهر، وإذا قلنا: إنه من باب الإطلاق والتقييد، وأن التربة من أوصاف الأرض قلنا: يحمل المطلق على المقيد، وحينئذٍ يتجه قول الشافعي والحنابلة.

أحد الإخوان أبدى لفتة طيبة جزاه الله خيرا، وهي مهمة في الموضوع، يقول: لماذا لا يكون من باب تخصيص العام بالمفهوم، التخصيص بالمفهوم معروف عند أهل العلم، حتى أنا في وقتها قلت: إنه مثل تخصيص حديث: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) خصص بمفهوم حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) وهذا عند الشافعية والحنابلة ظاهر، خصصوا بالمفهوم، هذا إذا صححنا حديث القلتين، وإذا ضعف وقد ضعف بالاضطراب، وتقدم الكلام فيه، ما يرد مثل هذا.

التخصيص بالمفهوم يقول به بعض أهل العلم؛ لأن عندنا تعارض بين منطوق قوي مع ضعفه من جهة كونه عاماً، وعندنا مفهوم ضعيف معارض لمنطوق قوي إلا أن قوته في خصوصه مقابل عموم النص الآخر، فعندنا في كل حديث جهتان، جهة قوة وجهة ضعف، أظن أشرنا إلى هذا في المياه.

كيف نخصص عموم حديث الخصائص: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) بمفهوم رواية: ((وجعلت تربتها لنا طهوراً))؟ مفهوم نص التربة يعني منطوقه موافق لحكم العام فلا يخصص به، انتهينا، مفهومه الذي هو مفهوم المخالفة مخالف لحكم العام، فيخصص به نظير ما خصصوا حديث: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) بمفهوم حديث القلتين.

طيب شيخ الإسلام -رحمه الله- يصحح حديث القلتين ولم يقل بمفهومه، عمل بمنطوقه؛ لأنه موافق للمنطوق القوي الذي هو أقوى منه، ألغى مفهومه لأنه معارض بمنطوق، يقول: يُعمل بمنطوقه دون مفهومه.

وعندنا أيضاً رواية التربة، إذا قلنا بقول شيخ الإسلام قلنا: يعمل بمنطوقها الموافق للعام، ويلغى مفهومها المخالف للعام؛ لأنه مفهوم يعارض منطوقا، وعلى كل حال المسألة مثل ما ترون، يعني تحتاج إلى قشة في الترجيح، يعني عندنا نصان أحدهما قوته بكونه منطوق دلالته في محل نطقه، وضعفه في عمومه، ونصٌ آخر قوته في خصوصيته في كونه خاصاً، وضعفه في كونه مفهوماً لا منطوقاً.

الحافظ العراقي ذكر الروايتين، ذكر حديث الخصائص العام، وذكر الخاص في ألفيته، وفي باب زيادات الثقات، يقول -رحمه الله-:

واقبل زيادات الثقات منهمُ
وقيل لا وقيل لا منهم وقد
دون الثقات ثقة خالفهم
أو لم يخالف فاقبلنه

 

 

ومن سواهم فعليه المعظمُ
قسمه الشيخ وقال: ما انفرد
فيه صريحاً فهو رد عنده
وادعى فيه الخطيب الاتفاق مجمعا

 

 

أو خالف الإطلاق -ننتبه لهذه-

أو خالف الإطلاق نحو: جعلت
فالشافعي وأحمد احتجا بذا

 

تربة الأرض فهي فردٌ نقلت
والوصل والإرسال من ذا أخذا

 

ج

أو خالف الإطلاق...

يعني كأن الحافظ العراقي يجعله من باب الإطلاق والتقييد، وعلى هذا يحمل المطلق على المقيد "فالشافعي وأحمد احتجا بذا" لأن حمل المطلق على المقيد بهذا، حمل المطلق على المقيد لاتحاد في السبب والحكم معروف هذا اتفاقا في مثل هذه الصورة، "فالشافعي وأحمد احتجا بذا" فقالوا: يحمل المطلق على المقيد بالتربة، الأرض المطلقة تحمل على المقيدة بالتربة، فجعله من باب الإطلاق والتقييد.

نرجع إلى ما قاله الشارح، قال: أو خالف الإطلاق فزاد لفظةً معنوية، يعني في معناها ما يخالف ما في اللفظ الآخر، فزاد لفظةً معنوية في حديث لم يذكرها سائر من رواه، نحو جعلت تربة الأرض بالنقل ((تربة الأرض لنا طهوراً)) في حديث: ((فضلت على الناس بثلاث))... إلى آخره، و((جعلت لنا الأرض مسجداً)) فهي -يعني زيادة التربة- فردٌ نقلت، تفرد بروايتها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي عن ربع بن حذيفة أخرجها مسلم في صحيحه.

وكذا أخرجها... إلى آخره، وسائر الروايات الصحيحة من غير حديث حذيفة لفظه: ((وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً))، فقال: قال -رحمه الله- فهذا وما أشبهه يشبه القسم الأول من حيث إن ما رواه الجماعة عاما.

في المتن قال: أو خالف الإطلاق، وهنا قال: إنما رواه الجماعة عاما، وهذا الذي قلناه: إن بعض الشراح حتى شراح الحديث بعضهم يخلط، أحياناً قال: عام وقال: خاص، وأحياناً مطلق، وأحياناً يقول: مقيد، حتى الواحد منهم قد يجعلها من النوعين.

طالب:......

نعم ماذا إذن؟ هو فقيه أصولي، له مؤلفات يمكن أكثر من كتبه في الحديث، مع أنه أثري.

نعم قد يغفل الإنسان عند الحديث المرسل كذا، يعني بدون كتابة، لكن في الكتابة يحرر، يعني الإنسان يدرس ويتكلم إلقاء قد يسبق لسانه إلى إطلاق أو إلى عموم وما أشبه ذلك، لكنه عند الكتابة لا بد من التحرير.

من حيث إن ما رواه الجماعة عامٌ، يعني لشموله جميع أجزاء الأرض، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص يعني بالتراب، فجعله السخاوي الشارح من العام والخاص، وفي ذلك مغايرة في الصفة، رجعنا إلى كونه تقييدا؛ لأن التقييد تقليل الأوصاف، والتخصيص تقليل الأفراد، وفي ذلك مغايرة في الصفة هذا خلط أيضاً، ونوع مخالفة يختلف بها الحكم، ويشبه أيضاً القسم الثاني من حيث إنه لا منافاة بينهما، لا منافاة من حيث الحكم، يعني يجوز التيمم بالعام ويجوز أيضاً بالخاص، فحكم الخاص موافق لحكم العام، فالشافعي بالإسكان، وأحمد احتج بذا، أي باللفظ المزيد هنا، حيث خصا التيمم بالتراب.

يقول النووي في شرح المهذب: مذهبنا أنه لا يصح التيمم بغير تراب، هذا هو المعروف في المذهب، وبه قطع الأصحاب، وتظاهرت عليه نصوص الشافعي، وبه قال أحمد وابن المنذر وداود، وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز بكل أجزاء الأرض حتى بصخرة مغسولة، هذا في شرح المهذب في الجزء الثاني صفحة ثلاثة عشرة ومائتين، ونحوه لابن قدامة في المغني.

الآن اتضح الكلام، يعني من قال بجواز التيمم بغير التراب عمل بالنص العام، ولم ير الخاص معارضاً له للاتحاد في الحكم، ومن قال بعدم جواز التيمم بغير التراب نقول: المعروف عند الشافعية والحنابلة أنه لا يتيمم إلا بتراب له غبار يعلق باليد، وهذا مقتضى قوله -جل وعلا-: {مِّنْهُ} [(6) سورة المائدة] يعني لا بد أن يبقى شيء بحيث يمسح به أعضاء التيمم منه، بشيء منه، وهذه للتبعيض، والحنفية والمالكية عملوا بالعموم، الذي هو عموم ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) هو قويٌ بمنطوقه، المنطوق أقوى من المفهوم.

طالب:......

لا، دلالة المنطوق في الحديث والتيمم بجميع ما على وجه الأرض قوية، باعتبار أنها دلالة منطوق، الضعف من حيث العموم، الخاص أقوى من العام، معارضه الروايات الأخرى ((جعلت تربتها)) قوتها في خصوصها، وضعفها في كونها مفهوم، يعني مثل حديث القلتين مع حديث: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) ولذلك شيخ الإسلام لما نظر إلى قوة المنطوق وضعف المفهوم ألغى المفهوم، بعض الإخوان فهم من عرض المذاهب في كون التيمم مبيح ورافع، وما ذكرناه من أن بعض أهل العلم يراه رافعاً رفعاً مطلقاً كالماء، فهم منه أن الإنسان يستمر على تيممه، ولا ينتقض تيممه إلا بما ينقض الوضوء ولو وجد الماء، يعني يستمر يصلي به ما دام على طهارة، نقول له هذا ما قال به أحد؛ لأن أصل التيمم شرطه عدم وجود الماء، لكن الفرق بين من يقول: إنه رافع رفعا مطلقا، وبين من يقول: إنه رافعا رفعا مؤقتا الفرق بينهما إنما يظهر في الجنابة، ظهوره في الجنابة، فمن تيمم بعد أن أجنب، ثم وجد الماء هل نقول: عليك الغسل؛ لأن رفعه للجنابة رفع مؤقت، حتى وجدت الماء ((فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته)) أو رفع الحدث رفعاً مطلقاً بمعنى أن الجنابة ارتفعت ولا تعود إلا بسببٍ جديد.

هنا يظهر الخلاف، إذاً ما الفرق بين من يقول: إنه يرفع رفعا مؤقتا وبين من يقول: إنه مبيح؟

طالب:......

نعم، الذين يقولون: إنه مبيح عندهم تقييدات كثيرة تأتي -إن شاء الله- في الدرس القادم، والذين يقولون: إنه يرفع رفعا مؤقتا قبل وجود الماء مع عدم الماء حكمه حكم الوضوء، والذين يقولون: إنه مبيح يقولون: لا، ليس حكمه حكم المبيح، إذا تيمم للأدنى لا يفعل به الأعلى، وإذا خرج الوقت بطل التيمم ولو لم يجد الماء، الذين يقولون: إنه رافع يقولون: ما يبطل التيمم إلا بمبطلات الوضوء، أو وجود الماء، اشترط نفيه في الأصل الذي هو وجود الماء، وأما كونه مثل الوضوء أو مثل الغسل من كل وجه، بحيث أنه يستمر طاهراً ولو وجد الماء هذا ما قال به أحد، وليس من مقتضى الإطلاق عند من يقول: إنه يرفع رفعاً مطلقاً.

طالب:......

لا، لا........ لكن لو أجنب مرة ثانية عليه أن يعود، ولذلك في شرح الحديث: ((فليتق الله وليمسه بشرته)) يتجاذبه القولان، ((فليتق الله وليمسه بشرته)) عما مضى من حدث أو لما يستقبل؟ يعني هل شيخ الإسلام يقول: إن الجنب إذا تيمم عن الجنابة يرجع فيغتسل؟ ما يقول بهذا شيخ الإسلام، وكل من يقول: إنه رافع رفعا مطلقا، أما الرفع المؤقت وإن كان في كلام شيخ الإسلام ما يفيد أنه يرفع رفعا مؤقتا في بعض الصور، لكن لا شك أن شيخ الإسلام يرى أنه رافع وليس بمبيح، فهناك اشتراك بين الأقوال، فالقول بأنه يرفع رفعاً مؤقتاً هذا هو القول الوسط في المسألة، ويشبه القول بأنه مبيح من وجه، ويشبه القول بأنه يرفع رفعا مطلقا من وجه، وقلنا: إن المسألة إنما تظهر فائدتها فيمن تيمم عن الجنابة، ثم صلى بهذا التيمم، ثم وجد الماء.

((فليتق الله وليمسه بشرته)) عن الحدث الماضي عن الجنابة الماضية يتفقون على أنه لا يمسه بشرته عن الوضوء الماضي مثلاً، إلا إذا كان الوقت باقٍ على خلافٍ في المسألة معروف، وأما بالنسبة للجنابة فالمرجح أنه يمسه بشرته عن الجنابة الماضية، ولو قلنا: لما يستقبل من أحداث كما قال بعضهم لقلنا: إن النص مؤكد، وعلى الفهم الأول يكون مؤسسا لحكم جديد، والتأسيس عند أهل العلم خيرٌ من التأكيد.

طالب:......

ولا أمره بالإعادة؟ الوصف؟

طالب:......

لا، لا، لو قلنا بمقتضى هذا الوصف لقلنا: عليه الإعادة، الجنب يعيد، لو قلنا: إنه جنب لقلنا بالإعادة، هذا يستدل به من يقول: إنه مبيح لا يرفع، وصف الجنب باقٍ.

طالب:......

رفعاً مؤقتاً إلى أن يجد الماء، فالحدث ارتفع أثناء عدم الماء، فإذا وجد الماء عاد الحدث، فيكون رفعاً مؤقتاً، وهذا القول هو الوسط بين القولين، ولعله هو الراجح.

طالب:......

الماضي أو المستقبل؟

طالب:......

لا، لا، محل إجماع، إلا إذا كان في الوقت، منهم من قال: إنه يعيد في الوقت، على ما سيأتي -إن شاء الله-.

طالب:......

أقول: هذه المسألة -المسألة التي أعدناها- مسألة دقيقة يا إخوان، أقول: حتى الشراح يخلطون أثناء الشرح، أثناء الشرح الواحد يخلطون، فيجعلها بعضهم أحياناً في كلامه يومي إلى أنها إطلاق وتقييد، ثم يعود إليها على أنها خاص وعام، فالمسألة تحتاج إلى انتباه.

طالب:......

يا دكتور هو في المنطوق...

طالب:......

لا، إذا قلنا: إنه من باب الخاص والعام، ونظرنا إلى المنطوق فقط، قلنا: المنطوق موافق لحكم العام، موافق؛ لأن الحكم واحد، وإذا قلنا: بمفهومها وهو أن غير التراب لا يصح في التيمم ولا يجزئ قلنا: إنه خاص، فالقوة في المفهوم، وحكمه حينئذٍ مخالف لحكم العام، حكم المفهوم عدم الصحة، وحكم المنطوق -منطوق العام- الصحة، وهذا مخالف لحكم العام فيخص به عند من يقول بالتخصيص بالمفهوم.

طالب:......

لا، هو المعروف عن مذهب الحنفية أنهم يجيزون مثل هذا، إذا كان التعامل مع غير المكلف كالحربي ونحوه يتعامل معه على أي عقدٍ كان، لكن المسلم يتدين بدين، يكلف بالأوامر والنواهي، عليه أن تكون عقوده موافقة لما جاء عن الله وعن رسوله، بغض النظر عن كونه عقدا مع من يتدين بالدين أو لا.

معروف عند بعض الحنفية أنهم يجيزون الربا مع الكافر.

طالب:......

الخمر ماذا يفعلون؟ يبيعون عليه؟ حتى من يتدين بشربه على النصراني أو شبهه، الذين تباح لهم، يعني ممن تباح لهم في دينه.

طالب:......

أنا ما يحضرني شيء الآن، يراجع.

طالب:......

والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه.