الموقظة في علم مصطلح الحديث (05)

 

"الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

قال المصنف- رحمه الله تعالى-:

الموضوع ما كان متنه مخالفًا للقواعد، وراويه كذابًا كالأربعين الودعانية وكنسخة علي الرضا المكذوبة عليه، وهو مراتب، منه ما اتفقوا على أنه كذب، ويعرف ذلك بإقرار واضعه، وبتجربة الكذب منه، ونحو ذلك، ومنه ما الأكثرون على أنه موضوع، والآخرون يقولون هو حديث ساقط مطروح، ولا نجسر أن نسميْه موضوعًا."

نسميَه.

"ولا نجسر أن نسميَه موضوعًا، ومنه ما الجمهور على وهنه وسقوطه، والبعض على أنه كذب، ولهم في نقد ذلك طرق متعددة وإدراك قوي تضيق عنه عباراتهم من جنس ما يؤتاه الصيرفي الجهبذ في نقد الذهب والفضة، أو الجوهري لنقد الجواهر والفصوص لتقويمها، فلكثرة ممارستهم للألفاظ النبوية إذا جاءهم لفظ ركيك، أعني مخالفًا للقواعد، أو فيه المجازفة في الترغيب والترهيب أو الفضائل، وكان بإسناد مظلم أو إسناد مضيء كالشمس في أثنائه رجل كذاب أو وضاع، فيحكمون بأن هذا مختلق ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتتواطأ أقوالهم فيه على شيء واحد.

وقال شيخنا ابن دقيق العيد: إقرار الراوي بالوضع في رده ليس بقاطع في كونه موضوعًا؛ لجواز أن يكذب في الإقرار.

قلت: هذا فيه بعض ما فيه، ونحن لو فتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد لوقعنا في الوسوسة والسفسطة، نعم كثير من الأحاديث التي وسمت بالوضع لا دليل على وضعها، كما أن كثيرًا من الموضوعات لا نرتاب في كونها موضوعة."

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: الموضوع هو اسم مفعول من الوضع: الحط والإسقاط، يعني كما تقول: وضعت عن فلان الدين إذا حططته وأسقطته، والموضوع من الحديث ما أضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- مما لم يقله أو لم يفعله زورًا وبهتانًا وكذبًا عليه وألصق به، وهو منحطّ عن رتبته وعن رتبة كلامه، وساقط من الكلام زور وبهتان، ما كان متنه مخالفًا للقواعد وراويه كذابًا إذا كان متنه مخالفًا للقواعد، وراويه متهم بالكذب ليس بكذاب، وعرفنا متى يتهم الراوي بالكذب لا يكون موضوعًا، بل يكون متروكًا أو مطروحًا على ما تقدم، أما إذا وجد في سنده راوٍ كذاب فيكفي عند الأئمة أن يحكم عليه بالوضع لهذا الراوي، مع أن الراوي الكذاب قد يصدق، لكن المسألة مرتبطة بغلبة الظن، فمادام هذا الراوي كذابًا، ثبت عنه الكذب عن النبي- عليه الصلاة والسلام-، فجميع ما يرويه محكوم عليه بالوضع.

 "وراويه كذاب كالأربعين الودعانية وكنسخة علي الرضا المكذوبة عليه" هناك نسخ تداولها القصاص، وهي في الأصل موضوعة لا أصل لها يجمع فيها جمل كثيرة جدًّا، وتساق بإسناد واحد، هذه موضوعات، نسخ كاملة موضوعة، والذهبي- رحمه الله- له عناية بهذه النسخ، أشار إلى بعضها في كتبه لاسيما الميزان وغيره.

 "وهو مراتب منه ما اتفقوا على أنه كذب" ما اتُّفق على أنه كذب، ومنها ما يختلف في كونه كذبًا، الذي يتفق عليه وهو ما يروي الوضَّاع وينقله الوضاع مما يتفرد به هذا الوضاع هذا لا خلاف في كونه موضوعًا، أو ينص الراوي على أنه هو الذي وضعه وهو الذي كذبه على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهنا يقول: ما اتفقوا على أنه كذب، ويعرف ذلك بإقرار واضعه وبتجربة الكذب منه ونحو ذلك، أقر، قال: إنه هو الذي وضع هذا الحديث، وسيأتي في كلام ابن دقيق العيد: إقرار الراوي بالوضع في رده ليس بقاطع في كونه موضوعًا؛ لجواز أن يكذب في إقراره. قد يُتهم الراوي في إقراره، متى؟

 إذا كان مثلاً الخبر الذي أقر أنه هو الذي وضعه يؤيد الخصم، يؤيد خصمه، يعني من المبتدعة من يسوِّغ الوضع؛ نصرة لمذهبه يستجيز الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لينصر مذهبه، لا يتصور أن يوجد من يقر بأنه كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الحديث الذي يرد به على مذهبه ما يتصور؟!

طالب: ............

لا، هذا حديث يبطل مذهب هذا المبتدع، يتبرع واحد من أتباع هذه الفئة من أجل نصرة مذهبه فيقول: إنه هو وضعه وتاب، من أجل ماذا؟ ألا يُرَد على مذهبه، هنا يتهم في إقراره، ولذا قال: ليس بقاطع في كونه موضوعًا؛ لجواز أن يكذب في الإقرار، يكذب في إقراره على نفسه بأنه وضع، وإذا كانت التهَمة قائمة ساغ مثل هذا الكلام، لكن مع ذلك يرد الخبر إذا كان لا يُعرف إلا من طريقه، أما إذا عرفناه من طرق أخرى من غير طريقه، فلا يُرَد، يعني إذا ثبت هذا الخبر من طرق صحيحة ثم قال: هو الذي وضع هذا.. نقول: ما جئت به لنا موضوع، لكن ما جاء به غيرك، الذي رواه غيرك موضوع؟!

لا، ليس بصحيح، هذا محل النزاع هنا فيما إذا لم يُعرف إلا من طريقه لما قال الحافظ: بلى نرده وعنه نضرب؛ لأنه لما اعترف على نفسه بأنه وضاع سقطت جميع مروياته نردها لكن لما كان إذا كان الخبر وارد من غير طريقه، من طرق تثبت نقبل حديث غيره، ونرد حديثه، ويعرف ذلك بإقرار واضعه وبتجربة الكذب منه ونحو ذلك، هذا المتفق على كونه موضوعًا، ومنه ما الأكثرون على أنه موضوع، يعني المترجِّح عند الجمهور أنه موضوع، والآخرون يقولون: لا يصل إلى درجة الوضع، بل هو حديث ضعيف متروك ساقط، ولا يجسر أن نسميه موضوعًا، وفي موضوعات ابن الجوزي من هذا النوع الشيء الكثير، الذي ينازَع ابن الجوزي في الحكم عليه بالوضع، ومثله ما الجمهور على وهنه وسقوطه، والبعض على أنه كذب، المقصود أنه قد يختلف في أحاديث، منها ما يتفق على كونه موضوعًا، ومنها ما يكون الجمهور على أنه موضوع، ومنها ما يقول بوضعه بعض العلماء والناس على خلافه، وفي موضوعات ابن الجوزي أمثلة على هذه الأنواع؛ لأن ابن الجوزي ذكر أحاديث موضوعة، وهي الأصل في الكتاب، وذكر أحاديث شديدة الضعف حكم عليها بالوضع، وذكر أحاديث ضعيفة لا تصل إلى درجة المتروك، بل ذكر أحاديث في السنن لا تصل إلى حيِّز الضعف، بل حكم على حديث في صحيح مسلم بأنه موضوع، وحكم على حديث في صحيح البخاري من رواية حماد بن شاكر بأنه موضوع، ولذا يُحكَم على أحكام ابن الجوزي بأنه تساهل في الحكم بالوضع، وسارع إلى القول به مع أنه في أحاديث كثيرة، لا نقول في الأكثر، في أحاديث كثيرة لا تصل إلى درجة الوضع.

وأكثر الجامع فيه إذ خرج

 

لمطلق الضعف عنى أبا الفرج

يعني إذا حكم على أحاديث بأنها موضوعة لا تصل إلى درجة الوضع.

وأكثر الجامع فيه إذ خرج

 

لمطلق الضعف عنى أبا الفرج

ولا شك أن صنيع ابن الجوزي فيه ضرر؛ لأنه إذا كان الحديث صحيحًا أو حسنًا أو ضعيفًا ضعفه منجبر وجد ما يسنده يكون قد فوَّت على الأمة العمل بأحاديث ثابتة، وقد تكون هذه الأحاديث مشتملة على أحكام عملية، فيضيِّع هذه الأحكام بسبب هذا الحكم وهذا التسارع به، وهو نظير ما وقع للحاكم في مستدركه؛ حيث صحح أحاديث ضعيفة، صحح أحاديث واهية، صحح بعض الأحاديث الموضوعة، فتساهل الحاكم يترتب عليه آثار سيئة، وتشديد ابن الجوزي أيضًا يترتب عليه آثار لا تقل عن الآثار التي ترتبت على صنيع الحاكم، فهذا يجعل الناس يعملون بأحاديث لا تثبت، وهذا يفوِّت على الأمة العمل بأحاديث ثابتة، وكل منهما ضرر، والخير في التوسُّط، والخير في التوسُّط.

 ومنه ما الأكثرون على أنه موضوع والآخرون يقولون: هو حديث ساقط مطروح ولا نجسر أن نسميه موضوعًا، ومنه ما الجمهور على وهنه وسقوطه والبعض على أنه كذب، وهذه كلها أمثلتها في موضوعات ابن الجوزي، ولهم في نقد ذلك طرق متعددة وإدراك قوي تضيق عنه عباراتهم، يكفي الإمام أن تعرض عليه هذا الحديث يقول ل:ك موضوع لا أصل له، لكن قد تطالبه بالسبب، بالعلة فما يبين لك، مثل موضوع العلل يقول لك: هذا حديث لا أصل له، هذا حديث لا يثبت عن النبي.. لماذا لا يثبت؟ تضيق عنه عباراتهم من جنس ما يؤتاه الصيرفي الجهبذ في نقد الذهب، الجهبذ النقاد الخبير في نقد الذهب والفضة تأتي إليه تعطيه الدرهم والدينار ويرده عليك، طيب اعرضه على النار يقول: ما يحتاج عرضًا على النار أبدًا، طيب ما السبب؟! ما هو دينار ولا درهم، هذا ليس بذهب ولا فضة أو مغشوش أو فيه ما فيه، هذا موجود، أو الجوهري لنقد الجواهر والفصوص لتقويمها، الآن العملات المزورة والمزيفة تمشي على تسعة وتسعين بالمائة من الناس تمشي عليهم، ما يدريهم؟ لكن بمجرد ما يراها الخبير الذي تعوَّد على رؤيتها يرميها، فكل شخص مع الممارسة ومع المعاناة، إضافة إلى كونه متصفًا بالحذق والفهم، إضافة إلى الخبرة، يصير كل جوانب من جوانب الحياة فيه مَرِّيَّة، نعم فالذي يخدم شخصًا سنين، موظف عند زيد من الناس لخدمته، مجرد ما يوضع الطعام يقول: هذا ما يناسب فلانًا، طيب ما يدريك؟! خبرة يا أخي! مجرد ما يؤتى له بشيء يشربه قال: والله ما يناسب..

 وهكذا الذين عانوا السنة، وأداموا النظر فيها، وأنفقوا الأوقات والأنفاس في خدمتها لا يخفى عليهم مثل هذه الأمور، ومثَّلنا بأصحاب السيارات، ومثَّلنا بأناس عجائب، يعني إذا كان هناك دقة في الملاحظة مع الخبرة الطويلة ينتهي الإشكال، حدث ولا حرج؛ لأن بعض الناس مع الخبرة يكون عنده دقة في الملاحظة، يحدد لك المراد بالدقة، فشخص عنده سيارة فيها صوت غريب ما يدري ما هو؟ وهي تمشي يسمع صوتًا عرضه على المهندسين وعلى الوكالات ما فيه فائدة، مر على شخص كفيف البصر أعمى، وهم في الغالب يعوِّضهم الله- جل وعلا- الدقة ... وضبط ما يراد، حتى وجد منهم من يهندس الإلكترونيات وهو أعمى، شيء ما هو من فراغ، فقال له هذا الأعمى: إذا بقي على أذان الصبح ساعة مر علي، أذان الفجر بقي على الأذان ساعة فأتاه وركب، طلع به خارج البلد وقال: ارجع، قل للمهندسين والوكالة فيه حصاة داخلة بالياي ما يمكن أن يروها والسيارة واقفة، إذا انضغط الياي اختفت، إذا انفرط مع مطب أو شيء تحركت، فراح للوكالة فكوها وطلعوا الحصاة، فالمسألة تحتاج مع دقة الملاحظة والانتباه أيضًا خبرة، فهذا لا يكفي؛ لأنه قد يقول الإنسان: أنا والله هذه الصنعة أنا من خمسين سنة وأنا أشتغل ما أدركت أسرارها نقول: ما عندك دقة، أو شخص ما عنده دقة ولا عنده ملاحظة ولا عناية ولا شيء فينتهي، فلا بد من هذا مع هذا.

 من جنس ما يؤتاه الصيرفي الجهبذ في نقد الذهب والفضي أو الجوهري في نقد الجواهر والفصوص، الآن الكتب لها مَرِّيَّة، النخيل والمزارع لها مَرِّيَّة، تدخل المكتبة تقول: كم تساوي؟ يقول لك: تساوي مائة ألف، مائتي ألف ثم لا تزيد ولا ألف إذا حرجت عليها، فما يعني هذا؟! خبرة، ومثله تأتي بالخارص يخرص لك التمر ... فيه ثلاثة آلاف صاع، ثم تنزله من رؤوس النخل وتكيله ما يزيد ولا ينقص، ما معنى هذا؟ هذه خبرة، هكذا الحديث وكل من عانى شيئًا أدركه.

 يقول: فلكثرة ممارستهم للألفاظ النبوية إذا جاءهم لفظ ركيك؛ لأن الإذن تتبرمج على اللفظ النبوي، تتبرمج فما تقبل غيره، فإذا جاءهم لفظ ركيك، أعني مخالفًا للقواعد أو فيه مجازفة للترغيب أو الترهيب أو الفضائل، وكان له إسناد مظلم أو إسناد مضيء كالشمس في أثنائه رجل كذاب أو وضاع، فيحكم بأن هذا مختلَق، هذه قاعدة يجعلها أهل العلم وهي المجازفة في الترغيب والترهيب، جعل الأجور العظيمة على الأعمال اليسيرة أو العكس، هذا ... يستروحون بمجرده إلى أن الخبر لا يثبت، أعطي ثواب سبعين نبيًّا، من يقول هذا؟! لكن متى نقول هذا إذا لم يكن الحديث في دواوين الإسلام المعتبرة، يعني هذا الحديث لا يوجد في الكتب المعروفة، ثم وجدنا فيه هذه المبالغات نعم يصير عندنا ميل إلى أنه لا يثبت أو يروى من غير إسناد أو يرويه غير أهل الفن، يوجد في كتب الفقه، يوجد في كتب التاريخ.. هذا لا أصل له، بل بعضهم يجعل الحديث إذا لم يوجَد في الكتب المعتبرة أنه لا أصل له ولو لم يشتمل على هذا الأمر، لكن إذا كان الحديث في البخاري مثلاً أو في مسلم واشتمل على أجر عظيم جدًّا جدًّا على شيء يسير ماذا نقول؟ نقول: ما لأحد كلام «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» وسبحان الله وبحمده بدقيقة ونصف تقال، فكيف يجني هذا مثل زبد البحر ذنوب تنمحي بدقيقة ونصف؟!

 نقول: نعم، فضل الله يُحَدّ، يقول: وكان بإسناد مظلم أو بإسناد مضيء كالشمس في أثنائه، رجل كذاب أو وضاع، يكفي وجود هذا الكذاب أو هذا الوضاع، أزيد وأقول: ولو كان بإسناد كالشمس ولا يوجد في دواوين الإسلام، افترض الحديث مالك عن نافع عن ابن عمر، وقفت على حديث عن مالك عن نافع عن ابن عمر في كتاب الأغاني أو في كتاب العقد الفريد أو في كذا ولا تجده في دواوين الإسلام نقول: هذا الإسناد مركَّب، إذ لو وجد خبر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الإسناد لا يمكن أن يُفرَّط به من قِبَل الأئمة؛ لأن الأمة بمجموعها معصومة عن أن تفرط بشيء من دينها حتى نحتاج إلى كتاب من كتب الأدب، وتركيب الأسانيد معروف عند الضعفاء، الذي يسمونه سرقة الأحاديث، يركبون لك إسنادًا كالشمس على لا شيء، فإذا لم نجد الحديث في الدواوين المعروفة عند أهل العلم، كتب الحديث الأصلية، ولو كان سنده كالشمس مثل ما قال هنا في أثنائه كذاب أو وضاع هذا يكفي للحكم عليه، لكن قد لا يكون في سنده شيء، ويكون الإسناد مركَّبًا فيحكمون بأن هذا مختلق ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتتواطأ أقوالهم فيه على شيء واحد، تتواطأ أقوال الأئمة فيه على شيء.. يذهب إلى ابن معين يقول: موضوع، يذهب إلى أحمد يقول: موضوع، يذهب إلى ابن المديني يقول: موضوع، طيب شوفوا يا ناس، أعيدوا النظر، انظروا في الإسناد. هؤلاء هم أطباء الحديث، فإذا قالوا شيئًا كما قيل:

             إذا قالت حذام فصدقوها          

 وهذا الباب لا بد فيه من التسليم، لا بد فيه من التسليم لهؤلاء، أنت إذا دخلت المستشفى ومعك ولد يحتاج عملية تقول: لا، أنا أشارك أو أعترض، ما لك كلام، وأنت بالنسبة للأئمة في الحديث مثل الطبيب الماهر، سلِّم وينتهي الإشكال؛ لأنك قد تقول: أنا والله عندي قواعد، عندي معرفة بأصول الحديث، وجرَّبت وطبقت وذا.. لكن أنت ومن قعَّد هذه القواعد كلكم عالة على الأئمة، ولا شك أن مثل هذا يتبيَّن بالممارسة، يعني كلما كثرت ممارسة الشخص عَظُم تقديره وتعظيمه للأئمة.

 وتتواطأ أقوالهم فيه على شيء واحد يقول: وقال شيخنا ابن دقيق العيد: إقرار الراوي بالوضع في رده ليس بقاطع في كونه موضوعًا؛ لجواز أن يكذب في إقراره، وعرفنا أن التهمة تتجه إليه فيما إذا كان الحديث الذي ادعى وضعه مما يُرَد به على بدعته، فإذا وجدنا هذا الحديث الذي ادعا هذا الشخص أنه وضعه عنده فقط لم نجده عند غيره، بلى نرده وعنه نضرب، لكن إذا وجدناه من طريق غيره بحثنا على أساس أن هذا وجوده مثل عدمه، نبحث الإسناد الآخر فقد يصح، وقد لا يصل إلى درجة الصحة.

 قلت: هذا فيه بعض ما فيه، هذا كناية عن ضعف القول، هذا فيه بعض ما فيه، ونحن لو افتتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد لوقعنا في الوسوسة والسفسطة، الإقرار معمول به في الشرع، يعني لو أن شخصًا قُتِل ولا يُدرى مَن قاتله، فجاء شخص وقال: بدلاً من أن أنتحر أقدِّم نفسي فداءً لهذا القاتل الذي ما يُدرى أين ذهب؛ لأن هذا القاتل يمكن يستفاد منه أولاده وأنا منتحر منتحر، فجاء هو واعترف بأنه هو القاتل، ألا يقاد به؟ يقاد به، لو جوَّزنا الاحتمال البعيد أنه يمكن أن هذا منتحر، قاتل نفسه ما تضمن عندنا شيء، ومن باب التجويز البعيد والوسوسة البعيدة أن يُسنَد بعض أفعال المكلَّفين الموجِبة للحدود إلى جن مثلاً تلبَّس بهذا؛ لأنه قد يقول: اعترف بالسرقة مثلاً فيقول قائل: لا يا أخي، يمكن فيه جني هو الذي سرق، يعني لو فتحنا الباب.. هذه مسألة حاصلة ما هو من فراغ، وجيء براقٍ وقرأ عليه وتكلَّم وقال: إنه هو الذي سرق، لكن يُدرَأ عنه الحد، ما هو بصحيح هذه دعوى كلٌّ يستطيعها، فلا يُتلاعَب بالحدود في مثل هذه الأمور، يعني لو جاء واعترف لا بد أن يُقتَل.

 طيب اعترف فقُتل ثم جاء القاتل الحقيقي قال: أنا الذي قتلته، فماذا نصنع؟ نقتل الثاني باعتباره هو القاتل الحقيقي وقامت القرائن والأدلة على أنه صادق في إقراره، ودلت القرائن على أن الأول كاذب في إقراره يُقتَل؛ لأنه القاتل، طيب بالنسبة للأول يودَى؟ يُدفَع له دية أو ما يدفع؟ لا ما يودى؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه فقتله بحق.

طالب: ..............

كيف؟

طالب: ..............

يقتل الثاني إذا دلت القرائن على أنه قاتل، ويكون قتل الأول من باب أنه هو الذي اعترف بما يوجب قتله، فكأنه قتل نفسه، وإن لم يباشر القتل، لكن أحيانًا التسبب قد يقوى إلى حد يصل إلى ما يقرب من المباشرة.

 لا يوجد في النصوص الشرعية أن الإنسان يجوز له بحال أن يباشر قتل نفسه، لكن يوجد ما يدل على أنه يتسبب إذا ترجحت لديه المصلحة، يتسبب فيخترق صفوف الأعداء، ولو كان بمفرده وغلب على الظن أنه يُقتل، ينزل ببكرة على الأعداء من حصنهم ولو غلب على ظنه أنه يقتل، هذا لم يباشر قتل نفسه، وإن كان أثر التسبب قريبًا من المباشرة، فمثل هذه الإقرارات والاعترافات يؤخذ بها، ولا شك أن الاعتراف أقوى من البينات، فالإقرار مقدَّم على البينة.

كثير من الأحاديث التي وُسمت بالوضع لا دليل على وضعها، وقلنا: إن موضوعات ابن الجوزي اشتمل على كثير من الأحاديث التي لا دليل على وضعها، كما أن كثيرًا من الموضوعات لا نرتاب في كونها موضوعة، يعني لا نتردد في كونها لم تصدر من مشكاة النبوة، لا نتردد، فضلاً عن الكبار الذين وهبهم الله -جل وعلا- هذه الخبرة وهذه المعرفة وهذه القدرة على الحكم.

"عفا الله عنك.

المرسَل علم على ما سقط ذكر الصحابي من إسناده فيقول التابعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقع في المراسيل الأنواع الخمسة الماضية، فمن صحاح المراسيل مرسل سعيد بن المسيَّب ومرسل مسروق ومرسل الصنابحي ومرسل قيس بن أبي حازم، ونحو ذلك، فإن المرسل إذا صح إلى تابعي كبير فهو حجة عند خلق من الفقهاء، فإن كان في الرواة ضعيف إلى مثل ابن المسيب ضعف الحديث من قبل ذلك الرجل، وإن كان متروكًا أو ساقطًا وهن الحديث وطرح.

 ويوجد في المراسيل موضوعات نعم وإن صح الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة كمراسيل مجاهد وإبراهيم والشعبي فهو مرسل جيد لا بأس به يقبله قوم ويرده آخرون، ومن أوهى المراسيل عندهم مراسيل الحسن، وأوهى من ذلك مراسيل الزهري وقتادة وحميد الطويل من صغار التابعين، وغالب المحققين يعدّون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير عن صحابي، فالظن بمرسِله أنه أسقط من إسناده اثنين."

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: المرسَل، وهو اسم مفعول من الإرسال، وهو الإطلاق وعدم التقييد، فكأن المرسِل أطلق هذا الخبر من تقييده براوٍ بعينه من صحابي أو غيره، يقول: علم على ما سقط منه ذكر الصحابي من إسناده، إذا جزمنا بأن الساقط صحابي هل يُترَدَّد في قبوله؟ لا يُترَدَّد في قبوله؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وجهالة الصحابي لا تضر، فإذا تيقنا بأنه ما سقط منه الصحابي فقط فلا يُرد، لذا انتُقد المؤلف في هذا كما انتُقد البيقوني حينما قال:

ومرسل منه الصحابي سقط

 

وقل غريب ما روى راوٍ فقط

هذا منتقَد؛ لأنا إذا عرفنا الساقط وهو الصحابي ما ترددنا في قبوله، والمراسيل محل خلاف طويل بين أهل العلم، فالمحرَّر في تعريف المرسَل ما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-.

مرفوع تابعٍ على المشهور

 

فمرسل أو قيده بالكبير

فما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- هو المرسَل الذي استقر عليه الاصطلاح فيقول التابعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا صحيح، إذا قال التابعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير جزم بأن الساقط صحابي يكون مرسلاً؛ لاحتمال أن يكون هذا التابعي رواه عن تابعي آخر، وهذا التابعي رواه عن تابعي آخر، وهذا التابعي.. إلى أن يجتمع ستة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وقد اجتمعوا بحديث يتعلق بسورة الإخلاص ستة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، فإذا سقط الخمسة من التابعين وبقي الأخير صح أن نقول: مرسَل، وإذا رفعه التابعي الأول إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قلنا: مرسل، لكن ما الذي يدرينا وما الذي يعلمنا أنه لم يسقط إلا صحابي؟ ما ندري، احتمال أن هذا التابعي يكون رواه عن تابعي، والتابعي عن ثانٍ، والثاني عن ثالث إلى أن يصل العدد إلى أطول إسناد، وهو ما اجتمع فيه ستة من التابعين، واحتمال أن يكون في هؤلاء المحذوفين ضعيف؛ لأنه إذا لم يقم هذا الاحتمال فما للتضعيف وجه، إذا قلنا: إن الساقط صحابي فليس للتضعيف وجه وليس للخلاف فيه وجه، لكن التضعيف إنما جاء إلى مراسيل من باب احتمال أن يكون في الساقط تابعي ضعيف.

 ويقع في المراسيل الأنواع الخمسة الماضية الصحيح والحسن والضعيف والمطروح والموضوع، تأتي مراسيل، وتأتي موصولات، تدخل المرفوع، تدخل الموقوف، تدخل المقطوع، تدخل المتصل، تدخل المنقطع. فمن صحاح المراسيل مرسل سعيد بن المسيب ومرسل مسروق ومرسل الصنابحي ومرسل قيس بن حازم يعني كبار التابعين لماذا؟ لأن الذي يغلب على الظن أنهم إنما يروون عن الصحابة، والإمام الشافعي نص على أن إرسال ابن المسيب عندنا حسن، فالشافعي يقبل مراسيل سعيد. مراسيل الكبار هؤلاء عند أبي حنيفة ومالك لا إشكال فيها كغيرها من المراسيل، عند الشافعي أيضًا إذا كان المرسِل تابعيًّا كبيرًا، وإذا سمى هذا التابعي لا يسمي إلا ثقة يعني لا يرسل إلا عن الثقات، وكان للحديث أو للخبر المرسَل شاهد يقويه إما موصول، أو مرسل يرسله غير مرسِل الخبر الأول، أو يفتي به عوام أهل العلم، أو يقول بمحتواه بعض الصحابة يرتفع إلى درجة الاحتجاج عند الإمام الشافعي، فعندنا مالك وأبو حنيفة يقبلون المراسيل، والشافعي يقبله بالشروط التي سطرها في رسالته الأربعة المعروفة. مَن بعدهم يردون المراسيل، ولذا يقول ابن جرير الطبري فيما نقله ابن عبد البر في مقدمة التمهيد: التابعون بأسرهم يقبلون المراسيل، ولا يعرف لهم مخالف إلى رأس المائتين، يعني إلى أن جاء الشافعي، لكن بعد المائتين قوي الخلاف، نعرف السبب فيما بعد، ابن عبد البر نقل عن سعيد بن المسيب أنه كان يرد المراسيل، ولا يستدرَك حينئذ بسعيد على الطبري؛ لأن الطبري كما قررنا مرارًا أنه يرى أن الإجماع قول الأكثر، الإجماع قول الأكثر، وضربنا لهذا أمثلة من تفسيرها، والصواب من ذلك عندنا كذا؛ لإجماع القرأة. وهو ذكر الخلاف.

 المقصود أن الإجماع عنده قول الأكثر، فلا يستدرك عليه بسعيد، طيب عرفنا أن مالكًا وأبا حنيفة يقبلون المراسيل، والشافعي جاء بعدهما فاشترط الشروط، جاء بعدهم من الأئمة من شدَّد في قبول المراسيل، والسبب في التشديد في قبولها الاحتمال الذي أوردناه أن هذا التابعي يروي عن تابعي، تابعي عن تابعي ثالث، ويكون فيه ضعيف.

واحتج مالك كذا النعمان

 

به وتابعوهما ودانوا

ورده جماهر النقاد

 

للجهل بالساقط في الإسناد

وصاحب التمهيد عنهم نقله

 

ومسلم صدر الكتاب أصله

أصل الرد للمراسيل، ابن عبد البر عزا رد المراسيل لجمهور العلماء، يعني الأئمة في أول الأمر كان عندهم مسألة إحسان الظن؛ لأنهم عاشوا في القرون المفضلة، وأدركوا خيار الأمة، فاستروحوا ومالوا إلى أن مثل هؤلاء فضلاً عمن قبلهم تُقبل أخبارهم ولو لم يُذكروا، لكن لما تأخر الوقت وعايش الإمام الشافعي ناسًا غير الذين عايشه أولئك قويت التهمة عنده في رد من لم يذكر اسمه، لكن الذي جاؤوا في القرن الثالث ومن بعدهم ازدادت عندهم التهمة، فنفترض المسألة في شخص عايش في روضة مسجد، ما يعرف إلا خيار الناس الذين حوله هذا ما يحسن الظن بالناس؟ يحسن الظن بالناس، لكن هات أهل الأسواق وأهل البيع والشراء فضلاً عن أصحاب المجتمعات الرديئة وغيرها هذا تجده ما يحسن الظن بأحد، فالذي جعل مالكًا وأبا حنيفة يقبلان المراسيل هو هذا. عاشوا في الصدر الأول فأحسنوا الظن فقبلوا أخبار الرواة ولو لم يسموا، بخلاف الشافعي عاصر سجال، يعني قبل بشروط، ومن جاء بعدهم شدد في هذا الأمر؛ لأنه عاصر أناسًا ما يمكن أن يقبل الخبر حتى يسمى الراوي.

 يقول: فإذا كان في الرواة فإن المرسل إذا صح إلى تابعي كبير فهو حجة عند خلق من الفقهاء.

واحتج مالك كذا النعمان

 

به وتابعوهما ودانوا

أتباع الإمام مالك وأتباع الإمام أبي حنيفة خلائق لا يُحصون، الشافعي أيضًا في مراسيل كبار التابعين بالشروط المعروفة يقبلونها، الإمام أحمد أيضًا في بعض تصرفاته المرسَل عنده أفضل من أقوال الرجال كالحديث الضعيف، فإن كان في الرواة ضعيف إلى مثل ابن المسيَّب ضعف الحديث من قبل ذلك الرجل، يعني غير الإرسال، سبب التضعيف الرجل ليس الإرسال، وإن كان متروكًا أو ساقطًا وهن الحديث وطُرح بسبب هذا المتروك أو الساقط، ويوجد في المراسيل موضوعات نعم يوجد كما أنه يوجد فيها الأنواع السابقة.

 وإن صح الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة إن صح الإسناد إلى تابعي كمراسيل مجاهد وإبراهيم النخعي والشعبي عامر بن شراحيل فمرسل جيد، لماذا؟ لأن هؤلاء صحيح روايتهم عن كبار التابعين وأدركوا كثيرًا من الصحابة، فالمظنون بهم أنهم إنما رووا عن صحابي أو عن تابعي كبير، والتابعي الكبير تقبل مراسيله. إذًا هؤلاء مراسيلهم جيدة، فهو مرسل جيد لا بأس به يقبله قوم ويرده آخرون؛ لاحتمال أنهم رووا عن تابعي أيضًا الاحتمال قائم، فالخلاف فيهم أقوى.

 ومن أوهى المراسيل عندهم مراسيل الحسن، وهي شبه الريح يأخذ عن كل أحد، يرسِل عن الثقات وعن الضعفاء وعن كل أحد، وأوهى من ذلك مراسيل الزهري وقتادة وحميد الطويل من صغار التابعين الذين لم يدركوا إلا الواحد أو الاثنين من الصحابة، هؤلاء الذي يكاد يُجزَم به أنهم رووا عن تابعين، عن تابعي متوسط، وهذا التابعي المتوسط روى عن تابعي كبير، هذا إذا قلنا: طبقتان أو ثلاث، وهاتان الطبقتان يحتمل أن يوجَد فيهما من لا تقبل روايته فترد مراسيلهم، يقول: وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، معضلات يعني أنه سقط منها أكثر من راوٍ، سقط منها أكثر من واسطة، فإذا سقط من الإسناد أكثر من راوٍ..

والمعضل الساقط منه اثنان

 

فصاعدا ومنه قسم ثاني

إلى آخره، المقصود أن مثل هذه تعد معضلات ومنقطعات، فإن غالب رواية هؤلاء عن تابعي كبير عن صحابي الذي بعد يغلب على الظن أنه عن تابعي متوسط عن تابعي كبير عن صحابي، فالظن بمرسله أنه أسقط من إسناده اثنين أو أكثر، والاحتمال قائم في أن يكون بين هؤلاء المسقَطين من هو ضعيف، فلا يغلب على الظن ثبوت مثل هذا الخبر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.