شرح اختصار علوم الحديث (15)

النوع السادس والثلاثون: معرفة مختلف الحديث:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله تعالى- ونفعنا الله بعلمه: النوع السادس والثلاثون: معرفة مختلف الحديث، وقد صنف فيه الشافعي فصلاً طويلاً من كتابه: (الأم) نحواً من مجلد، وكذلك ابن قتيبة له فيه مجلدٌ مفيدٌ، وفيه ما هو غث، وذلك بحسب ما عنده من العلم، والتعارض بين الحديثين قد يكون بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجهٍ كالناسخ والمنسوخ فيصار إلى الناسخ ويترك المنسوخ، وقد يكون بحيث يمكن الجمع، ولكن لا يظهر لبعض المجتهدين فيتوقف حتى يظهر له وجه الترجيح بنوعٍ من أقسامه، أو يهجم فيفتي بواحدٍ منهما أو يفتي بهذا في وقتٍ، وبهذا في وقتٍ، كما يفعل أحمد في الروايات عن الصحابة.

وقد كان الإمام أبو بكر بن خزيمة -رحمه الله- يقول: ليس ثمَّ حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئاً من ذلك فليأتني لأؤلف له بينهما.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"النوع السادس والثلاثون" يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "معرفة مختلف الحديث" وهذا النوع نوعٌ من الأهمية بمكان؛ لأنه به يدفع التعارض بين النصوص، سواءٌ كان بين حديثٍ وحديث، أو حديثٍ مع غيره من آية ونحوها، المقصود بمختلف الحديث أن يقع، أو أن يوجد حديثان متعارضان في الظاهر، في الظاهر متعارضان، والناظر إذا كان من أهل النظر إما أن يستطيع الجمع بين هذه النصوص بوجهٍ من وجوه الجمع فيتعين عليه حينئذٍ، أو يعرف..، لا يستطيع الجمع لكن يعرف المتقدم من المتأخر، وهذا ما يعرف بالنسخ وقد تقدم، فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ، إن لم يعرف المتقدم من المتأخر فالترجيح، فيعمل بالراجح ويترك المرجوح، إن لم يكن هذا ولا هذا فالتوقف؛ لأنه ليس للإنسان أن يعمل بنصٍ معارض من غير ترجيح، الترجيح بين النصوص المتساوية بمجرد الهوى تحكم، لا يجوز لأحد أن يسلكه، ووجوه الترجيح بين النصوص كثيرةٌ جداً عند أهل العلم، ذكر منها الحازمي في مقدمة: (الاعتبار) نحواً من خمسين، وأوصلها الحافظ العراقي في حاشيته على ابن الصلاح إلى ما يقرب من المائة، وحصرها السيوطي في ثمانية أقسام.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "معرفة مختلف الحديث، وقد صنف فيه الشافعي فصلاً طويلاً من كتابه الأم، نحواً من مجلد" الشافعي له مختلف الحديث، أو اختلاف الحديث، وهو مطبوع مفرد ومستقل في حاشية الأم، والمؤلف يرى أنه فصل من كتاب الأم، وغيره يرى أنه كتاب مستقل، وللإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- كلام كثير في (الأم) في ثنايا الكتاب لدفع التعارض بين الأحاديث، وأما كتاب: (اختلاف الحديث) فهو ألفه استقلالاً لهذا النوع، وهو كتاب طبع مراراً.

"وكذلك ابن قتيبة له... مجلدٌ مفيد" مطبوع باسم: (مختلف الحديث) وفيه ملاحظات، وعليه استدراكات؛ لأن أوجه الجمع يدخلها شيءٌ من الاجتهاد، وفهم النصوص، والإنسان قد يوفق في فهمه، وقد لا يوفق، وقد يوفق من وجه بينما يفوته التوفيق من وجوه، ولذا تجد وجوه الجمع عند الأئمة تأخذ مسالك، وكلٌ له مسلك خاص للتوفيق بين النصوص المتعارضة.

وإذا أخذنا على سبيل المثال حديث: ((لا عدوى ولا طيرة)) مع حديث: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) ((ولا يوردن ممرض على مصح)) والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخذ بيد المجذوم وأكل معه، متوكلاً على الله، معتمداً عليه، هذه النصوص في ظاهرها التعارض، وللأئمة مسالك وطرق، منهم من يقول: إن ((لا عدوى)) على حقيقته، العدوى منفية، ولا أثر للخلطة بين الصحيح والسقيم، لا أثر إطلاقاً، يعني مثل ما تعاشر المريض تعاشر الصحيح، لا أثر لذلك مطلقاً، إذاً كيف نؤمر بالفرار من المجذوم؟ قالوا: تفر من المجذوم لئلا يصيبك شيء ابتداءً من الله -سبحانه وتعالى- فتنسب ذلك إلى المخالطة فتقع في معارضة النص، ويكون هذا من باب سد الذريعة لمخالفة النص فقط، وإلا فلا عدوى أصلاً، ومنهم من يثبت العدوى يقول: ((فر من المجذوم)) لأنه يعدي، إذاً كيف يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((لا عدوى))؟ نقول: نعم ((لا عدوى)) بمعنى أن المرض لا يسري بنفسه، وليست مخالطة الصحيح للسليم تسبب انتقال المرض بذاته وبنفسه إلى السليم، لكن هناك عدوى، المعاشرة والمخالطة سبب، والناقل للمرض هو الله -سبحانه وتعالى-، فالمنفي بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا عدوى)) كون المرض يتعدى ويسري بنفسه، ويستقل بالسريان، والأمر بالفرار من المجذوم لأن المخالطة سبب للانتقال، والمسبب هو الله -سبحانه وتعالى-، أظن هذا ظاهر مخالفته للقول الأول، لذاك منحى وذاك منحى، ماذا يترتب على القولين؟ يترتب على القولين أنه على القول الأول إذا كان عندك مزيد ثقة وتوكل على الله -سبحانه وتعالى-، وأنك لو أصبت ابتداءً بهذا الداء أنك لا تلتفت إلى معاشرتك لهذا المريض، ويجول بخاطرك أنك لو لم تخالط هذا المريض ما أصابك شيء، والحديث يقول: ((من أعدى الأول)) هذا على القول الأول، وأنه لا عدوى مطلقاً، فإذا قوي توكل الشخص يجلس مع المريض، ويعاشر المريض، ويأكل معه ويشرب، لكن إن أصيب ابتداءً من غير عدوى وانتقال المرض المنفي في الحديث إن كان ممن يقوى توكله على تحمل مثل هذا المرض، وعدم نسبة إصابته بالمرض إلى مخالطته المريض فليفعل، وإلا فليفر من المجذوم فراره من الأسد.

على القول الثاني: أن هناك عدوى، هناك تأثير لكن المخالطة سبب، سبب مرتب على المخالطة، العدوى المنفية كون المرض يتعدى بنفسه، ويسري بنفسه، والأمر بالفرار لأن للمخالطة أثر، فالمخالطة سبب، والمسبب هو الله -سبحانه وتعالى-، فمن هذه الحيثية تجد الإنسان إذا أراد أن يوفق بين النصوص أحياناً يوفق إلى الجمع القوي، وأحياناً يوفق إلى جمع متوسط، وأحياناً يوفق إلى جمعٍ ضعيف، وأحياناً لا يوفق إلى وجه الجمع أصلاً، ولذا جاء كتاب ابن قتيبة على رغم إفادته وأهميته فيه شيء غث، وقد أحسن من وجه وأساء من وجه، كما قال ابن الصلاح.

يقول: "والتعارض بين الحديثين قد يكون بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه" لا يمكن، تقلب النظر في النصين فلا يمكن بوجه من الوجوه التي ذكرها الأئمة التي تقرب من المائة، مائة وجه كالناسخ والمنسوخ، حينئذٍ إن عرفت التاريخ -إذا لم يمكن الجمع- إن عرفت التاريخ فاعمل بالمتأخر، واحكم على المتقدم بأنه منسوخ، فيصار إلى الناسخ، ويترك المنسوخ، وقد يكون بحيث يمكن الجمع، ولكن لا يظهر لبعض المجتهدين، إذا لم تعرف التاريخ ولا يمكن الجمع، إذا لم يكن الجمع ولا يعرف التاريخ التوقف، المتعين التوقف؛ لأن الترجيح بغير مرجح تحكم.

"وقد يكون بحيث يمكن الجمع، ولكن لا يظهر لبعض المجتهدين فيتوقف حتى يظهر له وجه الترجيح بنوعٍ من أقسامه، أو يهجم فيفتي بواحدٍ منهما" يستروح ويميل ويستحسن أحد القولين فيعمل بأحد النصين ويترك الآخر، لا سيما إذا ترتب على النص الذي عمل به نوع احتياط، أو يفتي بهذا في وقت وبهذا في وقت، لكن إن أفتى بهذا في وقت وهو مرجوح في نفس الأمر، أو أفتى بذلك في وقت آخر، وهو راجح أو مرجوح في نفس الأمر، هذا عملي وإلا ليس بعملي؟ نعم؟

طالب:.......

أقول: إن كان..، استطاع أو توصل إلى أنه يمكن العمل بالنصين معاً، ويحمل هذا على حال وذاك على حال، أو هذا بالنسبة لبعض الناس وذاك..، هذا جمع، هذا وجه من وجوه الجمع، يقول: "كما يفعل -الإمام- أحمد في الروايات عن الصحابة" يروى عن الصحابة قول عن بعضهم، وعن آخرين قولٌ آخر، بحيث لا يستطيع أن يوفق بين القولين، وحينئذٍ يعمل بهذا في وقت، وبهذا في وقت، هذا يمكن أن يسلك إذا أمكن الاحتياط للقولين، أما إذا كان القولان متضادين من كل وجه فلا يمكن الاحتياط.

يقول: "وقد كان الإمام أبو بكر بن خزيمة يقول" الإمام ابن خزيمة في هذا الباب قلَّ أن يوجد له نظير، في باب اختلاف الحديث، والتوفيق بين النصوص، يقول: "ليس ثمَّ حديثان متعارضان من كل وجه" لا يوجد تعارض بين حديثين صحيحين في الحقيقة والواقع، وليس أحدهما منسوخاً والآخر ناسخ، لا يوجد، فالشريعة متآلفة متجانسة غير متضادة ولا متعارضة ولا متضاربة، مرد التعارض الظاهر إما أن يكون بسبب فهم المجتهد فهم الناظر والواقف على الأحاديث، أو بسبب تقدم وتأخير وحينئذٍ لا إشكال في الحكم بالنسخ، أو يخفى على المجتهد وجه الترجيح، المجتهد لا يمكنه إحاطته بكل شيء.

يقول: "ليس ثمَّ حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد بشيء من ذلك فليأتني لأؤلف... بينهما" هذه منزلة ابن خزيمة في هذا الفن، لكن هل يقال: إن ابن خزيمة يستطيع التوفيق بين كل النصوص المتعارضة التي ظاهرها التعارض؟ هو إمام من الأئمة، وهو بارز في هذا الباب، وفي هذا النوع، لكن ليس بالمعصوم، ابن خزيمة نفسه حكم على حديث بالوضع لمعارضته لحديثٍ صحيح، ((لا يَؤمَّن أحدكم..)) أو ((ومن أمّ قوماً فخص نفسه بدعوةٍ دونهم)) وجاء النهي عن ذلك ((لا يَؤمَّن أحدكم قوماً فيخص نفسه بدعوةٍ دونهم)) يقول: هذا حديث موضوع، لماذا؟ لأنه معارض لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما، الرسول -عليه الصلاة والسلام- في دعاء الاستفتاح يقول: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي)) بيني وبين خطاياي ما قال: "بيننا" قال: ((باعد بيني)) خص نفسه بدعوةٍ دون المأمومين، وقد ورد النهي عن أن يخص الإمام نفسه بالدعوة دون المأمومين، وهذا في الصحيحين، وذاك في السنن فحكم على الثاني بالوضع، خفي عليه وجه الجمع، وهناك مسالك للجمع بين الحديثين.

شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: النهي عن تخصيص النفس بالدعاء محمولٌ على الدعاء الذي يؤمَّن عليه، أما الدعاء الذي لا يؤمَّن عليه فللإمام أن يخص نفسه، يدعو وهو ساجد إيش المانع؟ يدعو لنفسه وهو ساجد، يدعو لنفسه بين السجدتين "ربِ اغفر لي وارحمني".. إلى آخره، ما يقول: "ربِ اغفر لنا وارحمنا" ما يلزم، ولا يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم باعد بيننا" ما يلزم، لماذا؟ لأن هذا الدعاء لا يؤمن عليه، لكن يعقل أن إمام يؤمُّ الناس في الوتر مثلاً يقول: "اللهم اهدني فيمن هديت" والمأمومون خلفه يقولون: "آمين" نعم، هنا المخالفة، والنهي هنا، ما يقول: "اللهم اهدني فيمن هديت" والمأمومون..، يمكن بعضهم يقول: الله لا يهديك، ما هو ببعيد، يخص نفسه دونهم "وعافني فيمن عافيت" والمأمومون صفوف خلفه يقولون: "آمين"؟ هنا يرد النهي، هذا مورد النهي عند شيخ الإسلام.

السخاوي له ملحظ آخر في الحديث يقول: يخص الإمام نفسه بالدعاء المشترك الذي يقوله الإمام والمأموم، دعاء الاستفتاح يقوله الإمام والمأموم، فلا يلزم الإمام أن يكون يجمع الضمير، الدعاء بين السجدتين يقوله الإمام والمأموم فلا يلزم الإمام أن يجمع الضمير، لكن لو خص نفسه بدعوةٍ في السجود مما لا يقوله المأموم لا بد أن يجمع الضمير، لكن كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- كأنه أوضح.

طالب:.......

لا، يفرد، الأصل الإفراد، الأصل أنه يدعو لنفسه، فإذا جمع يكون من باب التأكيد، لا من باب التعظيم، تعظيم النفس، وإلا هو واحد، أقول: هو واحد، والأصل في الواحد إفراد الضمير، لكن العرب، قد تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع، كما ذكر ذلك الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، في تفسير سورة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [(1) سورة القدر] من الصحيح، نعم.

النوع السابع والثلاثون: معرفة المزيد في الأسانيد:

النوع السابع والثلاثون: معرفة المزيد في الأسانيد، وهو أن يزيد راوٍ في الإسناد رجلاً لم يذكره غيره، وهذا يقع كثيراً في أحاديث متعددة، وقد صنف الحافظ الخطيب البغدادي -رحمه الله- في ذلك كتاباً حافلاً، قال ابن الصلاح: وفي بعض ما ذكره نظر، ومثَّل ابن الصلاح هذا النوع بما رواه بعضهم عن عبد الله بن المبارك عن سفيان عن عبد الله بن يزيد بن جابر قال: حدثني بُسر بن عبيد الله، قال: سمعت أبا إدريس يقول: سمعت واثلة بن الأصقع يقول: سمعت أبا مرفد الغنوي يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) ورواه آخرون عن ابن المبارك فلم يذكروا سفيان، وقال أبو حاتم الرازي: وهم ابن المبارك في إدخاله أبا إدريس في الإسناد، فهاتان زيادتان.

النوع الثامن والثلاثون: معرفة الخفي من المراسيل:

النوع الثامن والثلاثون: معرفة الخفي من المراسيل، وهو يعم المنقطع والمعضل أيضاً، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابه المسمى بـ(التفصيل لمبهم المراسيل).

وهذا النوع إنما يدركه نقاد الحديث وجهابذته قديماً وحديثاً, وقد كان شيخنا الحافظ المزي إماماً في ذلك، وعجباً من العجب فرحمه الله، وبل بالمغفرة ثراه.

فإن الإسناد إذا عرض على كثير من العلماء ممن لم يدرك ثقات الرجال وضعفاءهم قد يغتر بظاهره, ويرى رجاله ثقات فيحكم بصحته ولا يهتدي لما فيه من الانقطاع أو الإعضال أو الإرسال; لأنه قد لا يميز الصحابي من التابعي، والله الملهم للصواب.

ومثَّل هذا النوع ابن الصلاح بما روى العوَّام بن حوشب عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قال بلال: قد قامت الصلاة نهض وكبر، قال الإمام أحمد: لم يلقَ العوَّام ابن أبي أوفى يعني فيكون منقطعاً بينهما، فيضعف الحديث لاحتمال أنه رواه عن رجلٍ ضعيفٍ عنه، والله أعلم.

هذان النوعان متقابلان، معرفة المزيد في متصل الأسانيد، ومعرفة الخفي من المراسيل، فعلى سبيل الإجمال إذا جاء حديث من طريقين في أحدهما زيادة في الرواة، يكون مروي من طريق ستة رواة، ومن طريقٍ آخر خمسة، الخمسة موجودون في الإسناد الأول والثاني، وبينما سادس زائد أو سابع، وهؤلاء خمسة متعاصرون أو على الأقل هذان اللذين سقطا منهما السادس في الإسناد الثاني، الناظر في الإسناد إما أن تترجح له الزيادة فيكون النقص من خفي المراسيل، أو يترجح عنده النقص فتكون الزيادة من المزيد في متصل الأسانيد، أو يصح عنده الأمران.

ولا يبعد أن يروي الراوي الثقة حديثاً عن شخص عن آخر، ثم يلتقي بالشخص الآخر الذي روي عنه الحديث، روى عنه الحديث بواسطة فيرويه عنه بغير واسطة، الآن الصورة واضحة وإلا ما هي بواضحة؟ عندنا حديث مروي من طريقين، أحد الطريقين الوسائط ستة بينه وبين الرسول -عليه الصلاة والسلام-، والطريق الثاني الوسائط خمسة، الناظر في هذين الطريقين -وهو من أهل النظر- إن ترجح عنده الإسناد الناقص الخمسة، كيف يترجح؟ بالقرائن كما هو معروف، ترجح عنده الإسناد الناقص، فيكون السادس المذكور في الإسناد الأول من المزيد في متصل الأسانيد، إن ترجح عنده الإسناد الزائد الستة يكون الثاني من خفي المراسيل، إن ترجح عنده الأمران، ثبت عنده الأمران؛ لأنه قد يثبت الأمران، وليس بمستحيل أن يرد الحديث من طريق ستة أو من طريق خمسة، ليس بمستحيل، وهذا متصور جداً، تروي عن شخص عن آخر في بلدٍ آخر، ثم تسافر أو تلتقي به في حجٍ أو غيره الذي رويتَ عنه بواسطة فتروي عنه مباشرة، هذا واضح، فيصح الأمران، وحينئذٍ لا يحكم بأن ذاك زائد ولا ناقص، هذا من حيث الإجمال.

"معرفة المزيد في متصل الأسانيد، وهو أن يزيد راوٍ في الإسناد رجلاً لم يذكره غيره" مثل ما نظرنا، هذا السادس الذي ذكر في الإسناد الأول ما ذكره غيره في الإسناد الثاني، وهذا يقع كثيراً في أحاديث متعددة، هذا واقع، له أمثلة كثيرة.

"وقد صنف الحافظ الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً حافلاً، قال ابن الصلاح: في بعض ما ذكره نظر" لماذا؟ لأنه مبنيٌ على اجتهاده؛ لأنه مبني على الاجتهاد، حكم بأن هذا من المزيد في متصل الأسانيد، نظر بين الأسانيد فترجح عنده الإسناد الناقص فحكم على هذه الأسانيد التي أوردها في كتابه بأنها من المزيد، وهل يكلف الإمام الحافظ الخطيب البغدادي رغم ما قيل فيه من بعض المعاصرين في اجتهاد غيره؟ ما يكلف، هو إمام في هذا الشأن، وفي كل باب، وفي كل نوع يمر علينا أنه صنف فيه كتاب، ويقال عنه ما يقال؟ والله المستعان.

"وفي بعض ما ذكره نظر" لا بد أن يوجد نظر، الإمام الدارقطني في بعض ما ذكره نظر، أبو حاتم الرازي في بعض ما ذكره نظر، في أحد يخلو من النظر؟ من يعرو؟ من في أحد يعرو، في بعض ما ذكره نظر صحيح؛ لأنه قد يظهر للمجتهد الثاني خلاف ما ظهر للخطيب، فيكون فيه حينئذٍ نظر من هذه الحيثية، وقد يظهر للخطيب ما لم يظهر للدارقطني فيكون في اجتهاد الدارقطني نظر، فليس هناك أحد معصوم، أو أحد محيط بالعلم كله، أبداً، والله المستعان.

"...مثَّل ابن الصلاح هذا النوع بما رواه بعضهم عن عبد الله بن المبارك عن سفيان عن عبد الله بن يزيد بن جابر قال: حدثني بُسر بن عبد الله سمعتُ أبا أدريس يقول: سمعت واثلة بن الأصقع قال: سمعت أبا مرثدٍ الغنوي يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تجلسوا على القبور، أو تصلوا إليها))" الحديث مخرج في صحيح مسلم، "رواه آخرون عن ابن المبارك فلم يذكروا سفيان"، مباشرة عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن يزيد، "وقال أبو حاتم الرازي: وهم ابن المبارك في إدخال أبا إدريس في الإسناد" فيكون هناك زيادتان، رواه الآخرون عن ابن المبارك عن عبد الله بن يزيد بن جابر، قال: حدثني بسر بن عبد الله يقول: سمعت واثلة قال: سمعت أبا مرثد الغنوي فسقط اثنان، من يرجح الإسناد الأول الذي معنا، الذي مثل به ابن الصلاح، الذي يرجح هذا الإسناد، الذي فيه الاثنان معاً، يحكم على الثاني بأنه مرسل خفي، والذي يرجح الإسناد الثاني يحكم على الأول بأنه مزيد في متصل الأسانيد، وبهذا تتضح الصورة، الآن الصورة فيها خفاء؟

نأتي إلى معرفة الخفي من المراسيل، يقول: وهو.... هاه؟

طالب:......... مخرج على أبي مرثد.

إيه.......

طالب:.......

ما يخالف، لكنه..، هذا حديث أبي مرثد في صحيح مسلم، مروي من طريقين، الكلام في حديث أبي مرثد.

"معرفة الخفي من المراسيل" يقول: "وهو يعم المنقطع والمعضل أيضاً" عندنا الانقطاع من أسباب الضعف، من أسباب ضعف الخبر الانقطاع في إسناده، والانقطاع نوعان: ظاهر وخفي، الظاهر أنواع: يشمل المعلق الذي حذف من مبادئ إسناده من جهة المصنف راوٍ أو أكثر، ولو إلى آخر الإسناد، المنقطع الذي سقط من أثناء إسناده راوٍ واحد، أو أكثر من راوي لا على التوالي، المعضل الذي سقط من إسناده أكثر من راوي، راويان فصاعداً على التوالي، والمقصود من أثناء إسناده؛ لأنه إن سقط اثنان على التوالي من مبادئ الإسناد صار معلقاً.

المرسل: الذي يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا على قول الأكثر، وإلا هناك تعريفات لهذه الأنواع تعرضنا لها في وقتها، لكن القسمة هنا الأصلية ثنائية ظاهر وخفي، الظاهر قسمته رباعية، الخفي ينقسم إلى قسمين؛ لأن للراوي مع من يروي عنه حالات، إذا وقفت على إسناد فيه فلان عن فلان، لا يخلو إما أن يكون فلان الثاني لقي الأول وسمع منه، أولاً: إما أن يكون سمع منه، وهذا أخص الخصوص، أو يكون لقيه ولم يسمع منه، أو يكون عاصره ولم يلقه، أو لم يعاصره، الحالات أربع في احتمال غير هذه الأربع؟ سمع منه، أو لقيه ولم يسمع منه، أو عاصره ولم يلقه، أو لم يعاصره، صح وإلا لا؟ في احتمال خامس؟ في صورة يمكن أن تصور خامسة؟ إذا سمع الراوي عمن..، إذا روى الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه بصيغةٍ موهمة هذا يسمى إيش؟ تدليس، إذا روى الراوي عمن سمع منه أحاديث ما لم يسمعه منه، يعني هذا الحديث ما سمعه منه، بصيغةٍ موهمة كالعنعنة مثلاً هذا إيش؟ تدليس اتفاقاً.

الصورة الثانية: إذا روى الراوي عمن لقيه، يعني لم يثبت سماعه منه، هناك في الصورة الأولى ثبت سماعه منه لأحاديث، لكن هذا الحديث على وجه الخصوص لم يسمعه منه، إذا روى الراوي عمن لقيه ولم يثبت أنه سمع منه، إذا لقيه ثبت لقاؤه له ما لم يسمعه منه بصيغةٍ موهمة هذه أيضاً تدليس، إذا روى الراوي عمن عاصره ولم يثبت لقاؤه له بصيغةٍ موهمة كالعنعنة يصير من النوع؟

طالب: تدليس.

لا، المرسل الخفي، وهذا هو الفرق بين المرسل الخفي والتدليس، لأن بعضهم لا يفرق، وحينئذٍ يقع في إشكالٍ كبير، لو قلنا: إن الرواية عن مجرد المعاصر تدليس ما سلم أحد من التدليس.

المقصود أن الصورة الرابعة: إذا روى شخص عمن لم يعاصره، هذا الراوي مات سنة مائة، والذي روى عنه ولد سنة مائة وعشرة، هل نقول: تدليس؟ نعم؟

طالب:.......

ظاهر ظاهر، سقطٌ ظاهر، انقطاع ظاهر، ليس بتدليس ولا بإسناد خفي، فلنكن على ذكرٍ من هذه الصور وفصلناها فيما مضى.

ولذا فقوله: "يعم المنقطع والمعضل أيضاً" المعضل الساقط منه اثنان، فكيف يكون من خفي المراسيل؟ اللهم إلا في صورةٍ واحدة لو أسقط المعاصر في حالة من روى عنه وقد عاصره أسقط واسطتين، حينئذٍ هو معضل في الحقيقة، لكنه باعتباره خفي مرسل خفي.

"وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً وهو المسمى بـ(بالتفصيل لمبهم المراسيل)، وهذا النوع إنما يدركه نقاد الحديث وجهابذته قديماً وحديثاً" مثل التدليس ما كلٍ يدركه، يعني إيش يدريك أنت هذا ما روى هذا الحديث على هذا الشيخ؟ ما الذي يدريك أنه ما رواه؟ هو لقيه أو على أقل الأحوال عاصره، واحتمال أن يكون لقيه والاحتمال الثاني ما لقيه، ولذا لا يدرك هذا النوع إلا نقاد الحديث وجهابذته قديماً وحديثاً، ليدخل مثل شيخه، "وقد كان شيخنا الحافظ المزي إماماً في ذلك، وعجباً من العجب" كررها مراراً، وأثنى على الحافظ المزي في مواضع، وهو أهل لأن يثنى عليه، أهلٌ بل هو فوق ما ذكر -رحمه الله-، لكن من الحافظ ابن كثير وهو زوج ابنته؟ نعم، في كل موضع يشيد به، هو أهلٌ لذلك، بل فوق ما يذكره الحافظ ابن كثير، والله المستعان، يقول: "فرحمه الله، وبل بالمغفرة ثراه" يعني له أمثال يدركه أئمة جهابذة مثل الحافظ المزي بل فوقه، لكن كونه ينص على الحافظ المزي في كل المواضع، ويغفل غيره، عاد هذه ما تسلم من انحياز، وإن كان الحافظ المزي فوق ما ذكر.

يقول: "فإن الإسناد إذا عرض على كثيرٍ من العلماء" كثير؟! ومن العلماء أيضاً؟! "ممن لم يدرك ثقات الرجال وضعفاءهم" هل نستطيع أن نقول: من العلماء وهم لا يدركون الثقات من الضعفاء؟ هاه؟ هؤلاء ليسوا بأهل العلم، والمقصود العلم بهذا الشأن، "قد يغتر بظاهره ويرى رجاله ثقات" هو ما يدرك هل هم ثقات أم ضعفاء؟ كيف يرى أنهم ثقات؟ "فيحكم بصحته، ولا يهتدي لما فيه من الانقطاع" هو الذي قد يغتر إذا كانوا ثقات، ما في احتمال أنهم ضعفاء، قد يغتر بظاهره من فتش في كتب الرجال فوجد الرواة ثقات، ليس فيهم ضعف، فيغتر به فيصححه، وهؤلاء الثقات لقي بعضهم بعضاً، وغفل عن قضية التدليس، أو الإرسال الخفي "فيحكم بصحته، ولا يهتدي لما فيه من الانقطاع، أو الإعضال، أو الإرسال؛ لأنه قد لا يميز الصحابي من التابعي" يمكن أن يكون هذا؟ كثير من العلماء لا يميزون بين الصحابي والتابعي؟ لا يمكن، "والله الملهم للصواب".

"ومثَّل هذا النوع ابن الصلاح بما رواه العوَّام بن حوشب عن عبد الله بن أبي أوفى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قال بلال: "قد قامت الصلاة" نهض وكبر، قال الإمام أحمد: لم يلقَ العوَّام ابن أبي أوفى" إذا لم يلقَ الراوي من روى عنه يكون هناك واسطة، فيكون الخبر منقطعاً، "يعني فيكون منقطعاً بينهما فيضعف الحديث لاحتمال أنه رواه عن رجلٍ ضعيف عنه" كما تقدم نظيره في المنقطع وفي المرسل وغيره، والله المستعان.

الحديث أيضاً عند البيهقي من طريق الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف أيضاً، فالصواب أن المأموم ينهض إذا رأى الإمام، ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)) نعم، وهذا الحديث في الصحيح، نعم.

النوع التاسع والثلاثون.....

طالب:.......

بعضهم يخلط فيجعل من صور التدليس المعاصرة فقط، التي هي خاصة بالإرسال الخفي، وعلى هذا ابن الصلاح ومن دار في فلكه عنده شيء من الخلط في هذا، لكن لا يتحرر الفرق إلا إذا خصصنا التدليس بالسماع واللقاء، والمرسل الخفي بالمعاصرة فقط دون سماعٍ ولا لقاء.

النوع التاسع والثلاثون: معرفة الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-:

النوع التاسع والثلاثون: معرفة الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، والصحابي: من رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حال إسلام الرائي، وإن لم تطل صحبته له, وإن لم يروِ عنه شيئاً، وهذا قول جمهور العلماء خلفاً وسلفاً.

وقد نص على أن مجرد الرؤية كافٍ في إطلاق الصحبة البخاري وأبو زرعة وغير واحد ممن صنف في أسماء الصحابة كابن عبد البر وابن مندة وأبي موسى....

منده منده بدون تاء، منده وداسه وماجه كلها بدون نقط، نعم.

كابن عبد البر وابن منده وأبي موسى المديني وابن الأثير في كتابه: (الغابة في معرفة الصحابة) وهو أجمعها وأكثرها فوائد وأوسعها -أثابهم الله أجمعين-.

قال ابن الصلاح: وقد شان ابن عبد البر كتابه: (الاستيعاب) بذكر ما شجر بين الصحابة مما تلقاه من كتب الإخباريين وغيرهم، وقال آخرون: لا بد من إطلاق الصحبة مع الرؤية أن يروي عنه حديثاً أو حديثين.

وعن سعيد بن المسيب -رضي الله عنه ورحمه-: لا بد من أن يصحبه سنةً أو سنتين، أو يغزو معه غزوةً أو غزوتين، وروى شعبة عن موسى...

طالب: السبلاني؟

بالباء أو بالياء؟

طالب: بالباء.

نعم ابن كثير تَبِعَ ابن الصلاح بالباء، وحرر الحافظ العراقي تبعاً لابن السمعاني في الأنساب أنه بالياء بالمثناة، نعم، لكن أنت على أنه بالموحدة؛ لأن المؤلف قاله كذلك.

وروى شعبة عن موسى السبلاني وأثنى عليه خيراً، قال: قلتُ لأنس بن مالك -رضي الله عنه-: هل بقي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدٌ غيرك؟ قال: ناسٌ من الأعراب رأوه، فأما من صحبه فلا، رواه مسلم بحضرة أبي زرعة، وهذا إنما نفى فيه الصحبة الخاصة، ولا ينفي ما اصطلح عليه الجمهور من أن مجرد الرؤية كافٍ في إطلاق الصحبة لشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجلالة قدره وقدر من رآه من المسلمين، ولهذا جاء في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: ((تغزون فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: نعم، فيفتح لكم)) حتى ذكر من رأى من رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث بتمامه، وقال بعضهم في معاوية وعمر بن العزيز: "ليومٌ شهده معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرٌ من عمر بن العزيز وأهل بيته".

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في حد الصحابي: "من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً به في حال إسلام الراوي" يعني ومات على الإسلام، ولو تخلله ردة، يقول: "الصحابي: من رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حال إسلام الراوي" أو الرائي؟

طالب: الرائي.

الرائي نعم؛ لأن عندنا في النسخة الراوي، "في حال إسلام الراوي -أو الرائي- وإن لم تطل صحبته له، وإن لم يروِ عنه شيئاً".

رأي الجمهور في حد الصحابي أنه: من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً به، ولو قيل: من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً به، ومات على ذلك؛ ليشمل العميان، اللقاء أوسع، وأشمل من مجرد الرؤية، لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً به ومات على ذلك، ولو تخلله ردة، لو ارتد ورجع إلى الإسلام ومات على الإسلام فهو صحابي، "هذا قول جمهور العلماء خلفاً وسلفاً، وقد نص على أن مجرد الرؤية كافٍ لإطلاق الصحبة الإمام البخاري" في صحيحه، نص على ذلك، في فضائل الصحابة، كما نص على ذلك "أبو زرعة الرازي، وغير واحد ممن صنف في أسماء الصحابة" على كل حال هو قول جمهور أهل العلم "كابن عبد البر وابن منده وأبي موسى المديني وابن الأثير في كتابه: (الغابة)" واسمه؟

طالب: أسد الغابة.

نعم (أسد الغابة في معرفة الصحابة)، "وهو أجمعها وأكثرها فوائد" لأنه جمع الكتب التي تقدمت "وأوسعها، أثابهم الله أجمعين" حرصوا على تمييز الصحابة عن غيرهم لما للصحبة من فضل ومزية وشرف، وأُفردوا بالكتب، وبعد ذلك جاء الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- فجمع ما في هذه الكتب كلها، وزاد عليها ما وقف عليه، إما في سند حديث يقول: سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو ثبتت صحبته بقول واحد، أو بطريقٍ آخر، أو ادعيت صحبته، فالكتاب مقسم إلى أقسام، كتاب: (الإصابة) وهو أجمع هذه الكتب، وفيه ما يزيد على اثني عشر ألف ترجمة.

"قال ابن الصلاح: وقد شان ابن عبد البر كتابه: (الاستيعاب) -في معرفة الأصحاب- بذكر ما شجر بين الصحابة مما تلقاه عن كتب الإخباريين وغيرهم" نعم ذكر ما شجر بين الصحابة، لا شك أنه مما ينبغي الإعراض عنه؛ لأن هذا لا بد أن يؤثر في النفس، والصحابة منزلتهم عند الله عظيمة، وجاءت النصوص بذكرهم وشرفهم، والإشادة بهم بنصوص الكتاب والسنة، على ما سيأتي قريباً -إن شاء الله تعالى-.

"وقال آخرون: لا بد في إطلاق الصحبة مع الرؤية أن يروي حديثاً أو حديثين" هذا قول في تعريف الصحابي، الذي لم يروِ شيئاً على هذا لا يقال له: صحابي، لكن لو غزا بدون رواية ماذا نقول عنه؟ القول الذي يليه: لا بد من أن يصحبه سنة أو سنتين، أو يغزو معه غزوة أو غزوتين، يعني ولو لم يروِ شيئاً، والصواب أنه لا هذا ولا ذاك؛ لأن الأئمة أطبقوا على ذلك الحد السابق أنه مجرد الرؤية واللقاء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- مثبت للصحبة، نعم الصحبة الخاصة من صحبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة، والمقربين من الصحابة هذه صحبة خاصة، وأما مجرد الرؤية فهي صحبة عامة، {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ثناء {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [(29) سورة الفتح].

سعيد بن المسيب يقول: "لا بد من أن يصحبه سنةً أو سنتين" إن صح عنه، وإلا ففي ثبوته عنه نظر، "أو يغزو معه غزوةً أو غزوتين" المقصود أنها تثبت صحبته، إما برواية أو بغزوة أو بشهادة ثقة، أو بادعائه هو، والمفترض أن يكون ثقة، يعني الذي ذكر أنه صحابي وهو ثقة يقبل قوله؛ لأن هذا خبر، وخبر الثقة مقبول مع إمكان القبول، أما إذا لم يمكن القبول، جاءنا شخص سنة مائة وخمسين وقال: هو صحابي يقبل وإلا ما يقبل؟ ما يقبل، لو جاءنا سنة مائة واثنا عشر قال: أنا صحابي قلنا: ما هو بصحيح، لماذا؟

طالب:.......

نعم هذا الحديث.

أقول: إذا أمكن قبول الدعوى من شخصٍ ثقة ثبتت صحبته على ما سيأتي بما تثبت به الصحبة، لكن إذا لم يمكن سنة مائة واثنا عشر شخص قال: هو صحابي، وظاهره العدالة، نقول: لا؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((ما من نفسٍ منفوسة يأتي عليها مائة سنة ممن هو على وجه الأرض..)) صح وإلا لا؟ الحديث....... ما تكمل، فهذا يعارض، ولذا جزم أهل العلم أن آخر من مات من الصحابة أبو الطفيل عامر بن واثلة مات سنة عشرٍ ومائة، وقد ادعى رتن الهندي الصحبة بعد ستمائة، وصدقه جمعٌ غفير من أوباش الناس، واعتقدوا فيه، زعم أنه صحابي، وهو جاء بعد الستمائة، وترجم في كتب الرجال، لكن لبيان كذبه وافترائه، والله المستعان.

"روى شعبة عن موسى السبلاني – أو السيلاني- وأثنى عليه خيراً قال: قلتُ لأنس بن مالك" وقد توفي سنة ثلاثٍ وتسعين في أواخر القرن الأول: "هل بقي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدٌ غيرك؟ قال: ناس من الأعراب رأوه، فأما من صحبه فلا، رواه مسلم، في حضرة أبي زرعة" خبر جيد، إسناده جيد، لكن الصحبة المنفية هي التي تثبت لمن دام الصحبة، الصحبة اللغوية، الصحبة العرفية، لا الصحبة الشرعية، الصحبة العرفية يعني شخص لقيته في الشارع تقول: هذا صاحبٍ لي، أو جمعك به مجلس واحد لمدة ساعة أو نصف ساعة، تقول: هذا صاحب؟ نعم عرفاً ليس بصاحب، فهذا المنفي في هذا الخبر، أما الصحبة المحررة للصحابة عند جمهور أهل العلم فتثبت بمجرد الرؤية.

"وهذا إنما نفى فيه الصحبة الخاصة، ولا ينفي ما اصطلح عليه الجمهور من أن مجرد الرؤية كافٍ في إطلاق الصحبة لشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلالة قدره، وقدر من رآه من المسلمين، ولهذا جاء في بعض ألفاظ الحديث: ((تغزون)) -حديث صحيح مخرج في الصحيحين وغيره- ((تغزون فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)) حتى ذكر من رأى من رأى  رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث بتمامه" يعني فيفتح لهم.

وقال بعضهم في المفاضلة بين معاوية -رضي الله عنه- وعمر بن عبد العزيز، ومنزلة عمر بن عبد العزيز بين التابعين معروفة، ومنزلة معاوية من الصحابة معروفة، فبعضهم قد يتراءى له مع ما اتصف به عمر بن عبد العزيز من العلم والزهد والورع ونقاء السيرة، ما قد يجعله يفضل على بعض الناس ممن خاض في بعض الأمور التي تورع عنها كثيرٌ من الصحابة، في قتال وحروب وتولى أعمال، المقصود أن بعض الناس قد يتراءى له تفضيل بعض الناس على من هو دونه من وجهة نظره، ويغفل عن السبب المؤثر في الترجيح، الصحبة لا يعدلها شيء، ولذا لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) دل على أن الصحابة هم أفضل ناس على الإطلاق، فلا يمكن أن يوجد في التابعين ولو أفضل التابعين أويس القرني أو سعيد بن المسيب أفضل من أقل الصحابة شأناً.

المقصود أن الصحابة هم أفضل الأمة، ولا يوجد من يدانيهم ولا يقاربهم، وإن كان رأي ابن عبد البر في المسألة أن التفضيل إجمالي ((خيركم قرني، ثم الذي يلونهم)) يعني في الجملة، تفضيل القرن على القرن، وإلا قد يوجد في أفراد القرن الثاني من هو أفضل من بعض أفراد القرن الأول، لكنه قول مرجوح، وقد جاء في الحديث -وهو صحيح-: أن للعامل بسنة النبي -عليه الصلاة والسلام- أجر خمسين من الصحابة، إذاً هو أفضل من الصحابة؟ نعم قد يكون أفضل في هذا العلم على وجه الخصوص الذي عمله، لكن شرف الصحبة قدرٌ لا يشاركهم ولا يدانيهم فيهم أحد، وهذا ظاهر.

لو تصورنا شخص لو تصورنا اثنين أحدهم متصف بالعلم والعمل، والآخر عامي لا علم ولا عمل يذكر، يعني وإن كان مسلم، هذا العالم تصدق على شخص قد لا يكون هذا الشخص محتاج، أو حاجته أقل، ثم جاء هذا العامي فتصدق على شخصٍ أنقذه من موت بهذه الصدقة، نقول: صدقة هذا العامي أفضل من خمسين من صدقة هذا العالم، لكن أين هذا العامي في الجملة من هذا العالم العامل ظاهر وإلا ما هو بظاهر؟ فالوصف الذي شرف به صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدانيهم فيه أحد.

"وقال بعضهم في معاوية وعمر بن عبد العزيز: ليومٌ شهده معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرٌ من عمر بن عبد العزيز، وأهل بيته" على ما اتصف به عمر -رضي الله عنه وأرضاه-، ورحمه رحمةً واسعة، ورضي عن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

طالب:.......

لا شك أن المتقدم له شأن، التقدم في الزمن له شأن، والعلماء السابقون لا يلحقهم ولا يدانيهم من جاء بعدهم، فالفصل للمتقدم، ولولا المتقدم ما حاز المتأخر شيء، بواسطة الصحابة انتقل لنا الدين، ولولا الصحابة ما وصل إلينا الدين، كيف يصل إلينا؟ بطريق منقطع؟! فلهم الفضل علينا، والفضل أولاً وآخراً لله -سبحانه وتعالى-، لكن لهم فضل، حفظوا الدين، ونقلوه إلى من بعدهم وبلغوه، ولم يألوا جهداً في تبليغه للناس، وعلمهم لا شك أنه قليل، كلامٌ قليل لكنه علمٌ مبارك، بخلاف العلم عند المتأخرين الكلام كثير، لكن البركة قليلة، فمن نظر في كتاب: (فضل علم السلف على الخلف) للحافظ ابن رجب عرف مقدار الرجال، ومن عرف حال أبي بكر الإسماعيلي كما قال الحافظ الذهبي جزم يقيناً أن المتأخرين على يأسٍ تام من لحاق المتقدمين، لكن ما يمنع أن يوجد في القرن الثالث أو الرابع أو الخامس شخص أفضل من أهل القرن الثاني، لكن في الجملة أهل القرن الثاني أفضل من أهل القرن الثالث وهكذا، هنا التفضيل إجمالي، ولم يستثنَ من ذلك إلا الصحابة لشرف الصحبة.

وإذا أردنا المفاضلة مثلاً بين شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً، أو الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي أو أبو حنيفة ماذا نقول؟ أيهم أفضل؟ إيش؟

طالب:.......

إحراج؟ ما في إحراج.

طالب:.......

رشيد رضا، محمد رشيد رضا سئل هذا السؤال أيهم أفضل شيخ الإسلام ابن تيمية؟ أو أعلم شيخ الإسلام أو الأئمة الأربعة؟ أقول: باعتبار أنه تخرج على كتبهم وكتب أتباعهم فلهم الفضل عليه، وباعتبار أنه أحاط بكتبهم وكتب أتباعهم فهو أعلم من هذه الحيثية، لكن يبقى أن الحافظ ابن رجب -رحمه الله- أورد كلام مقتضاه أن من يفضل مثل شيخ الإسلام على الإمام أحمد يلزمُ منه أنه يفضل المتأخر على المتقدم عموماً، لماذا فضلت شيخ الإسلام؟ لكثرة كلامه في العلوم، فجعلت الإمام أحمد مفضول لقلة كلامه، إذاً فضل الإمام أحمد على من قبله على الصحابة؟ كم يُحفظ لأبي بكر بالنسبة لما حفظه الإمام أحمد من السنة؟! يلزم عليه لوازم باطلة، فيعرف للناس أقدارهم، شيخ الإسلام إمام، ومن جاء بعده أئمة، وجاء قبله هم الأئمة على التحقيق، نعم فرع.

فرعٌ: والصحابة كلهم عدولٌ عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغبةً فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل.

وأما ما شجر بينهم بعده -عليه الصلاة والسلام- فمنه ما وقع عن غير قصدٍ كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهادٍ كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذورٌ وإن أخطأ ومأجور أيضاً، وأما المصيب فله أجران اثنان، وكان عليٌ وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه -رضي الله عنهم أجمعين-.

وقول المعتزلة: الصحابة عدولٌ إلا من قاتل علياً قولٌ باطل مرذول ومردود، وقد ثبت في صحيح البخاري -رحمه الله- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال عن ابن بنته الحسن بن علي، وكان معه على المنبر: ((إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) وظهر مصداق ذلك في نزول الحسن لمعاوية عن الأمر بعد موت أبيه علي -رضي الله عنه-، فاجتمعت الكلمة على معاوية وسمي عام الجماعة، وذلك سنة أربعين من الهجرة، فسمى الجميع مسلمين، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [(9) سورة الحجرات] فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، ومن كان من الصحابة مع معاوية؟ يقال: لم يكن في الفريقين مائة من الصحابة، وعن أحمد: ولا ثلاثون، والله أعلم.

وجميعهم صحابة فهم عدولٌ كلهم، وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم ودعواهم أن الصحابة كفروا إلا سبعة عشر صحابياً وسموهم فهو من الهذيان بلا دليلٍ إلا مجرد الرأي الفاسد عن ذهنٍ باردٍ وهوىً متبع، وهو أقل من أن يرد عليه، والبرهان على خلافه أظهر وأشهر، مما علم من امتثالهم أوامره بعده -عليه السلام-، وفتحهم الأقاليم والآفاق، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس إلى طريق الجنة، ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات في سائر الأحيان والأوقات، مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الجميلة التي لم تكن في أمةٍ من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحدٌ بعدهم مثلهم في ذلك، ورضي الله عنهم أجمعين، ولعنَ الله من يتهم الصادق ويصدق الكاذبين، آمين يا رب العالمين.

يقول -رحمه الله تعالى-: "فرعٌ والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة" مذهب أهل السنة والجماعة الوسط في هذه الأمور، فهم يرتضون عن الصحابة، ويتولونهم كلهم خلافاً للروافض، كما أنهم يترضون عن الآل لا سيما من كان منهم على الهدى خلافاً للنواصب، فالصحابة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن توافر فيه الحد السابق الذي عليه جماهير أهل العلم كلهم عدول، لا يجوز الطعن في أحدٍ منهم ولا واحد، ولو كان أقلهم شأناً، وليس معنى أنهم عدول..، عدول من حيث الديانة، وأما من حيث الضبط فهم متفاوتون، وليسوا بمعصومين من حيث الضبط، يخطئ الصحابي، قد يخطئ، وقد ينسى، وقد يحفظ، وأخبارهم في ذلك معروفة، ليسوا بمعصومين، لكنهم من حيث العدالة كلهم عدول، ومن قارف منهم شيئاً مما يعاب به ويذم فإن الله -سبحانه وتعالى- يكفره له بأعماله العظيمة، وبشرف صحبته للنبي -عليه الصلاة والسلام-، ويوفقون مع ذلكم للتوبة، مستند ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- أثنى عليهم في كتابه العزيز: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [(29) سورة الفتح] وفي سورة الحشر ذكرهم وذكر المهاجرين وأثنى عليهم، ثم ذكر الأنصار وأثنى عليهم، ثم ذكر من اقتدى بهم ممن أتى بعدهم، وترضى عنهم وترحم عليهم، "وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم"، والسنة مستفيضة في مدح الصحابة، ومدح ذلك الجيل الذين صحبوا النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلا التفات إلى قولِ من قدح فيهم، ولا حظ له حينئذٍ من النظر، فنطقت السنة المستفيضة، بل المتواترة في مدح الصحابة في جمع أحوالهم وأخلاقهم وأفعالهم، قد بذلوا الأموال والأرواح، بذلوا مهجهم وأرواحهم وأنفسهم فداءً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فداءً لدينه بين يديه -عليه الصلاة والسلام- "رغبةً فيما عند الله -سبحانه وتعالى- من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل".

حصل من الصحابة بعده -عليه الصلاة والسلام- ما حصل من ارتداد بعضهم، وقاتلهم الصديق -رضي الله عنه-، ورجع كثيرٌ ممن ارتد، وقتل من قتل، لكن يبقى أن هذا النوع نفرٌ يسير بالنسبة لجملة الصحابة، ووقع بينهم أيضاً بعض النزاع والخلاف، حصل بينهم شيء من الحروب منه ما هو من غير قصد، والفتن إذا حلت قد تلجئ الناس وتحوجهم وتجرهم إلى ما لا يريدون وما لا يقصدون، نسأل الله السلامة من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، من هذا النوع ما وقع من غير قصد؛ لأن الإنسان إذا ماجت الفتنة ماذا يصنع؟ يحتار ويطيش عقله، وحينئذٍ لا يتصرف التصرف حسب مقتضى النظر الصحيح، قد لا يسعفه الوقت في الموازنة بين الأمور، نعم من الصحابة من اعتزل وترك، ولا شك أن مثل هذا أسلم، ومنهم من وفق وانضم إلى الصف الذي في جانبه الإصابة، ومنهم من اجتهد وانضم إلى الصف المفضول، وعلى كل حال هم مجتهدون ومعذورون، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحد.

يقول: "منه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً، وأما المصيب فله أجران" أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، والمخطئ معذور وله أجرٌ واحد وهو أجر الاجتهاد، "وكان عليٌ وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية"، وجاءت النصوص التي تدل على ذلك.

"وقول المعتزلة الصحابة عدول إلا من قاتل علياً" مقتضاه أن معاوية ومن قاتل معه ليسوا بعدول، لكن هذا "قولٌ باطل مرذول ومردود" ولا التفات له، والمعتزلة في هذا الباب ضلوا كما ضل من هو شرٌ منهم، يعني في باب الصحابة من الروافض وغيرهم.

يقول: "وقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال عن ابن بنته الحسن بن علي، وكان معه على المنبر: ((إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))" وقد وقع ولله الحمد، تنازل لمعاوية عن الأمر، واستتب الأمر لمعاوية، وكلهم مسلمون، ومدح بالتنازل لمعاوية، وسمي سماه النبي -عليه الصلاة والسلام- صلح، والصلح خير، فلو لم يكن معاوية صحابي وأهل للخلافة والولاية، وأن خلافته شرعية لما مدح من تنازل له، ((إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) فدل هذا على صحة خلافة معاوية، وأنها شرعية، وأن طاعته واجبة، نعم هو في وقت علي -رضي الله عنه- مخطئ، لكنه مجتهد -رضي الله عن الجميع وأرضاهم-.

"وظهر مصداق ذلك في نزول الحسن لمعاوية عن الأمر بعد موت أبيه علي، واجتمعت الكلمة على معاوية" بعد اجتماع الكلمة لا يجوز لأحد ولا يصوغ له بوجه أن يخرج على من اجتمعت له الكلمة، واستتب له الأمر ولو كان عبداً حبشياً، فضلاً عن كونه صحابياً، "وسمي عام الجماعة، وذلك في سنة أربعين من الهجرة فسمى الجميع مسلمين"، ((بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) قال الله -جل وعلا-: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [(9) سورة الحجرات] اقتتلوا ومع ذلكم هم مؤمنون بنص القرآن، فالقتال سواءً كان بين الصحابة أو بين غيرهم لا يخرجهم عن دائرة الإيمان مع الاقتتال.

"ومن كان مع الصحابة مع معاوية؟ يقال: لم يكن في الفريقين مائة من الصحابة" في الفريقين لا مع معاوية ولا مع علي، لم يكن في الفريقين الصحابة، وإنما الفريقان جمعٌ من مجتمع الناس الذين اجتمعوا، الذين حرضوا على قتل عثمان -رضي الله عنه-، والذين يطلبون بثأره فحصلت الفتنة، وطاشت العقول، فحصل ما حصل بسبب ذلك، والله المستعان.

"وأما طوائف الروافض" الذين يزعمون أن الصحابة ارتدوا بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، "وجهلهم" يقول: لجهلهم وقلة علمهم، ودعاواهم الباطلة في "أن الصحابة كفروا إلا سبعة عشر صحابياً" لأن هؤلاء الصحابة هم خواص علي -رضي الله عنه-، يريدون بذلك أن يبينوا أن هؤلاء الذين قاتلوا علياً، والذين لم ينصروه كلهم كفار، نسأل الله العافية، كلهم ارتدوا، وهؤلاء الروافض يظهر من تصرفاتهم عدم قصد الحق، وإلا لو بحثوا عن الحق لوجدوه، وقولهم يترتب عليه هدم الدين بالكلية؛ لأنه كيف وصلنا الدين؟ كيف وصل الدين بجملته من جيل الصحابة إلى جيل التابعين، ومن جيل التابعين إلى من بعدهم إلى يومنا هذا؟ إلا عن طريق الصحابة، فإذا طعنا في الراوي طعنا في المروي، كيف تقبل رواية مرتد؟! فإذا طعنا في الراوي طعنا في المروي، وعلى هذا يلزم من قولهم الطعن في الدين بالكلية، ولا يبقى لنا حينئذٍ دين؛ لأنه إنما وصلنا من طريقهم.

يقول: "فهو من الهذيان بلا دليل إلا مجرد الرأي الفاسد عن ذهنٍ بارد" لا نقول: عن ذهنٍ بارد، بل صدر عن كيد للإسلام، وبابُ الرفض مدخلٌ واسع، كما قال شيخ الإسلام: دخل معه كل زنديق يكيد للإسلام وأهله.

يقول: "وهو أقل من أن يرد"، وقد تولى شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- الرد عليهم، وتفنيد مزاعمهم ودعاويهم، وإبطال أدلتهم في كتابه العظيم الذي لا يستغني عنه طالب علم، لا سيما في مثل هذه الأيام، وهذه الظروف والأحوال التي رفع الروافض فيها رؤوسهم، في كتابه: (منهاج السنة) في الرد ابن المطهر الحلي.

يقول: "والبرهان على خلافه أظهر وأشهر، مما علم من امتثالهم أوامره بعده -عليه الصلاة والسلام-، وفتحهم الأقاليم والآفاق، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس إلى طريق الجنة" هذا أمرٌ مستفيض لا يحتاج إلى استدلال، "ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات، في سائر الأحيان والأوقات" في زمنه -عليه الصلاة والسلام- وبعده، "مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار" وعرفنا أنهم قدموا أنفسهم فداءً لدينهم ونبيهم -عليه الصلاة والسلام-، كما اشتملوا على "الأخلاق الجميلة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحداً بعدهم مثلهم في ذلك، فرضي الله عنهم أجمعين، ولعن الله من يتهم الصادق، ويصدق الكاذبين"، يقول الحافظ ابن كثير: "آمين يا رب العالمين".

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.