شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (091)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع بداية حلقتنا نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم يا شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا وإياكم أيها الإخوة والأخوات في باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان، وبالتحديد في حديث أبي هريرة. كنا في آخر الحلقة الماضية أشرتم -أحسن الله إليكم- إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا ولدت الأمة ربها» أشرتم إلى بعض المعاني التي استنتجها العلماء -رحمهم الله- في هذا اللفظ، بودنا أن نعيدها مختصرة لنستكمل ما تبقى من ألفاظ الحديث -أحسن الله إليكم-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي قوله –عليه الصلاة والسلام- في أشراط الساعة «إذا ولدت الأمة ربها» معروف أن الأمة هي المملوكة التي تباع وتشترى، وربها أي مالكها وسيدها، وذكر أهل العلم في معنى هذا أوجه: الأول قاله الخطابي: ومفاده اتساع رقعة الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها، كان الولد فيها بمنزلة ربها؛ لأنه ولد سيدها، قال النووي وغيره: هذا قول الأكثرين، ونظَّر فيه ابن حجر كما تقدم لأن استيلاد الإماء كان موجودًا حين المقالة، وحينئذٍ لا يكون من علامات الساعة، يعني موجود في عهد النبي –عليه الصلاة والسلام-.

والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذ السراري، هذا كله وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة، لكن العيني أيضًا نظَّر في تنظير الحافظ ابن حجر، لأن قوله «إذا ولدت الأمة ربها» كناية عن كثرة التسري، يعني أصله موجود في عصر النبي –عليه الصلاة والسلام-، لكنه في آخر الزمان يكثر وينتشر ويشيع. كثرة التسري من كثرة فتوح المسلمين، واستيلائهم على بلاد الشرك، وهذا بلا شك لم يكن واقعًا وقت المقالة والتسري، وإن كان موجودًا حين المقالة، ولكنه لم يكن من استيلاء المسلمين على بلاد الشرك والمراد ما يكون من هذه الجهة فافهم.

رد عليه أيضًا الحافظ ابن حجر في الانتقاض بقوله: قلت: محصَّل نظر الأول أن الخطابي إن كان أراد مطلق التسري فلا يصح؛ لأنه كان موجودًا عند المقالة، وإن كان أراد بقيد من الاستيلاء فلا يصح؛ لأن الاستيلاء أيضًا وجد في صدر الإسلام، والسؤال إنما وقع عن العلامات التي إذا وجدت قامت الساعة، وإنما لم يجزم الشارح، يعني نفسه، ابن حجر، برده لاحتمال أن يكون المراد بالعلامة ما يتجدد بعد وقت المقالة، سواء قرب عهد تجدده أم بَعُد، فاقتصر على قوله: فيه نظر، يعني ما قال مردود ولا ضعيف، وإنما قال: فيه نظر لاحتمال صحته لاسيما أنه قول الأكثرين.

الثاني، الوجه الثاني:  معناه أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أم الملك من جملة الرعية، وهو سيدها، وسيد غيرها من رعيته...

المقدم: هذا الثاني يا شيخ؟

هذا الثاني، وهذا قول إبراهيم الحربي.

والثالث: معناه أنه تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، يعني يكثر تداولها ويكثر ترداده في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها وهو لا يدري.

قال العيني: وعلى هذا يكون المراد غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد.

والرابع: أن أم الولد كان عتقها بسبب ولدها بموت أبيه فصارت له المنة عليها كمنة السيد الذي أعتق أمته.

والخامس: أنه يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب والضرب والاستخدام، وسبقت الإشارة إلى هذا وبسطه، وغير ذلك، وأطلق عليها ربها لذلك، وإن كانت حرة؛ لأنه يهينها ويسبها ويضربها ويعاملها معاملة السيد لأمته، وهذا تقدم.

قال ابن حجر: أو المراد بالرب المربي، وهذا أوجَه الأوجُه عندي، يقوله ابن حجر، لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغرَبة، ومحصَّله الإشارة إلى أن قيام الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربَّيًا، والسافل عاليًا.

وقال العيني: هذا ليس بأوجَه الأوجُه، بل أضعفها؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما عد هذا من أشراط الساعة لكونه على نمط خارج على وجه الاستغراب، أو على وجه دال على فساد أحوال الناس، والذي ذكره هذا القائل ليس من هذا القبيل، يعني انعكاس الأمور، كون المربي الرب المربي وحينئذٍ في آخر الزمان ينعكس الأمور، فيكون الولد يربي أباه، والولد يربي أمه، وحصل من هذا شيء، وجد من يضرب أباه لأنه يريبه -نسأل الله العافية- بحجة أنه يريبه، ويضرب أمه بحجة أنه يربيها، على ماذا يربيها؟ يربيها لتخضع لزوجته، والله المستعان، هذا لا شك أنه من انعكاس الأمور، لا شك أنه من انعكاس الأمور، وإذا كثر مثل هذا لا كثرهم الله لا شك أنهم شرار الخلق، مثل هؤلاء هم شرار الخلق، والله المستعان.

وفي رواية: «بعلها» بدل «ربها» قال العيني: الصحيح في معناه أن البعل هو السيد أو المالك، فيكون بمعنى ربها على ما سلف، قال أهل اللغة: بعل الشيء ربه ومالكه، قال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [سورة الصافات 125] أي ربًّا قاله ابن عباس والمفسرون، وقيل معناه هنا: الزوج، في القرآن {وَهَذَا بَعْلِي} [سورة هود 72] ماذا؟ {وَهَذَا بَعْلِي} تقوله مَن؟

المقدم: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [سورة هود 72]. زوجة إبراهيم.

زوجة إبراهيم، وتعني بذلك زوجها، وقيل: معناه هنا الزوج، وعلى هذا معناه نحو ما سبق أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهو لا يدري، وهذا معنًى صحيح إلا أن الأول أظهر؛ لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى.

يعني على سبيل التقريب من يتزوج من غير بلده، ثم تنجب منه بنتًا على سبيل المثال، ثم يطلقها وتذهب إلى بلدها، وبعد سنين طويلة يذهب إلى ذلك البلد ويتزوج منه، هل يعرف ابنته؟ في بلد أجنبي بعيد؟ قد يقع في مثل هذا، قد يقع.

المقدم: وقع.

نعم، نسمع من هذا أشياء، والله المستعان، فهذه أمور ليست افتراضية، هذه أمور واقعية.

يقول ابن حجر: هنا تنبيهان: أحدهما: قال النووي: ليس في الحديث دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا على جوازه، وقد غلط من استدل به لكل من الأمرين؛ لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة.

يعني كون أمهات الأولاد تباع في آخر الزمان، ويكون هذا من علامات الساعة، هل هذا يدل على جوازه؟ يعني ما جاء في أشراط الساعة من وقوع بعض الأمور هذا لا يدل على الجواز ولا على المنع، إنما يدل على أن هذا أمر قدري سوف يكون، وليس بأمر شرعي، كون الظعينة تنتقل من المدينة إلى عدن، لا يستدل به على جواز السفر بدون محرم، كون الشيء يقع لا يعني أنه مشروع.

سائل: أحسن الله إليكم يا شيخ أليس قد يكون وقوع مثل هذه الأشراط الأقرب أنه يدل على عدم الجواز؛ لأنه يعني ما نُصَّ عليها إلا لاستغرابها، كهذا المثال مثلا الظعينة لو أن الظعينة طبيعي عند الناس تخرج من المدينة إلى صنعاء بدون خوف شيء لما نُصَّ عليه، لكن مادام نُصَّ عليه هنا أن الظعينة تخرج من المدينة إلى صنعاء يكون كأنه يعني أقرب إلى استغراب الناس، أو عدم الجواز أو كذا حصول غير معتاد يعني.

هو الخبر ما سيق لذلك، وإنما جيء به على سبيل التمثيل لانتشار الأمن، الذي ينشره، الذي تسبب في نشره التزام الإسلام ظاهرًا وباطنًا، ولا يعني هذا جوازه؛ لأنه ما سيق من أجله، ما سيق الخبر، ومثله ما عندنا، فالنووي يقول: ليس في الحديث دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد ولا على جوازه، استدل بالحديث من يقول بالمنع، واستدل به من يقول بالجواز.

وقد غلط من استدل به لكل من الأمرين؛ لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة.

الثاني التنبيه الثاني يقول: يجمع بين ما في هذا الحديث من إطلاق الرب على السيد المالك في قوله: «ربها» وبين ما في الحديث الآخر وهو في الصحيح أيضا: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي» بأن اللفظ هنا خرج على سبيل المبالغة، هكذا يقول، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه السيد، أو أن النهي كان متأخرًا، أو مختص بغير الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

يعني على حد زعمه، أنه يرى أنه ربها، لا على أنه إقرار من النبي -عليه الصلاة والسلام- لهذا الاستعمال، ومثل ما قلنا سابقًا في مسألة بيع أمهات الأولاد، يعني على حد زعمهم أنه هو يرى أنه رب لها، لا أنه إقرار لذلك اللفظ، وهنا يقول: خرج هنا على سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه لا تقل: أطعم ربك، وضئ ربك السيد، أو أن النهي عنه متأخر، أو مختص بغير الرسول -عليه الصلاة والسلام-، يعني للرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: رب، وليس لغيره أن يقول: أنا رب فلان مثلاً، لكن هل هناك من ضير أن يقول: أنا رب الدار أو أنا صاحب الدار؟

 المقدم: لا.

ما الفرق بين أن يقول السيد: أنا رب هذا الغلام أو رب هذه الأمة، وأن تقول الأمة: فلان ربي؟ ويقول الغلام: زيد ربي مثلاً وبين أن نقول: زيد رب الدار؟ والمقصود صاحب في الموضعين، هل هناك فرق؟

المقدم: الخشية مثلاً من أن يكون بالنسبة للمتحدث يخشى عليه من شيء.

يعني هل لنا أن نقول: إن زيدًا رب بكر؟

لمقدم: لا.

ليس لنا.

المقدم: لكن يجوز أن نقول: رب الدار.

يجوز أن نقول: رب الدار؛ لماذا؟

الأخ الحاضر: لأن الدار ليست عاقلة.

نعم لا يتصور منها التعبد، بخلاف العاقل المكلَّف يتصور منه التعبد، ولا يجوز أن يتعبد لغير الله -عز وجل-.

في فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- يقول: هذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغة فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها تحقيقًا للتوحيد، وسدًّا لذرائع الشرك؛ لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم، فيُنهى عنه لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى، وإنما المعنى أن هذا مالك له، فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الاعتبار، فالنهي عنه حسمًا لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقًا للتوحيد، وبُعْدًا عن الشرك حتى في اللفظ، وهذا من أحسن مقاصد الشريعة لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين فأرشدهم -صلى الله عليه وسلم- إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ، وهو قوله: "سيدي ومولاي".

وكذا قوله: «ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي» لأن العبيد عبيد الله، والإماء إماء الله، قال الله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [سورة مريم 93] ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تعالى تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيمًا لله تعالى وأدبًا، وبعدًا عن الشرك، وتحقيقًا للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا: فتاي وفتاتي وغلامي وهذا من باب حماية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- جناب التوحيد، فقد بلغ -عليه الصلاة والسلام- أمته كل ما فيه لهم نفع، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين، فلا خير إلا دل الأمة عليه خصوصًا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه خصوصًا ما يقربهم من الشرك لفظًا وإن لم يقصد به المعنى، وبالله التوفيق.

قوله في الحديث: «وإذا تطاول» هذه العلامة الثانية «تطاول رعاة الإبل البُهمِ» أو البُهمُ «في البنيان» تطاول أي: تفاخروا في تطويل البنيان، وتكاثروا به، رعاة الإبل: بضم الراء جمع راعٍ كقضاة جمع قاضٍ، وفي بعض الروايات: «رِعاء» بكسر الراء أيضًا كتجار وتاجر، وصحاب وصاحب.

البهم بضم الباء جمع الأبهم، وهو الذي لا شِيَة فيه، أبهم لا يخالط لونه لون آخر، قاله الكرماني، وفي شرح النووي: هو بضم الباء بلا خلاف، بُهْم، ما تقول: بَهْم؛ لماذا؟ البَهْم بفتح الباء يقول الكرماني: خطأ؛ لماذا؟ لأنه في الحديث مع ذكر الإبل، رعاة الإبل، ولا يقال في حق الإبل: بَهْم، الفتح مختص بالغنم.

في شرح النووي: هو بضم الباء بلا خلاف، وروي بجر الميم، يعني البُهمُ والبُهمِ، وروي بجر الميم ورفعها، فمن جر جعله وصفًا للإبل، أي رعاة الإبل السود، قالوا: وهي شرها، ومن ضم جعله صفة للرعاة، ومعناه الرعاة السود، الآن البُهم عرفنا أنه بضم الباء بلا خلاف، الميم؟

المقدم: الميم موضع الخلاف.

موضع الخلاف.

المقدم: إن كان بالكسر فهي صفة الإبل، وإن كانت بالضم فهي صفة الرعاة.

طيب والمرجَّح؟

المقدم: عندي؟

عمومًا إن كان عندك قاعدة.

المقدم: القاعدة تقول: إنه للأخير يا شيخ؟

التابع للمتضايفين يكون للأول أو للثاني؟

المقدم: للأول، للأخير، للمتضايفين للأخير.

هذا يبدو أنه كله تخرص، يعني ما له قاعدة، وليست في ذلك قاعدة، إنما السياق هو الذي يحدد، لكن إذا كان الإعراب بالحروف انتفى الإشكال، لكن إذا كان الإعراب بالحركات هذا المشكل كما هنا، إذا كان الإعراب بالحروف هذا أشرنا له مرارًا {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو} [سورة الرحمن 27].

المقدم: ذو وذي صح.

نعم {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي} [سورة الرحمن 78] إذا كان الإعراب بالحروف انتهى الإشكال؛ لأن الحروف مميزة، لكن الإشكال إذا كان الإعراب بالحركات وليست هناك قاعدة، يفهم من السياق، هل المقصود مررت بغلام زيدٍ الفاضلِ، الفاضل زيد أو غلامه؟

المقدم: غلامه.

ما يلزم.

المقدم: كلاهما ممكن صحيح.

نعم.

الأخ الحاضر: والأصل.

كيف؟

الأخ الحاضر: الأصل.

السياق، يفهم من السياق أنك تمدح زيد أو غلامه؟ الحديث يدور حول زيد أو الغلام؟ السياق.

يقول هنا: روي بجر الميم ورفعها، فمن جر جعله وصفًا للإبل، أي: رعاة الإبل السود، قالوا: وهي شرها، ومن ضم جعله صفةً للرعاة، ومعناه الرعاة السود، جاء فيما يقطع الصلاة، ماذا قال أهل العلم؟ الكلب الأسود البهيم، يعني الذي لا يخالط سواده لون آخر.

يقول الخطابي: البُهم جمع البهيم، وهو المجهول الذي لا يُعرَف، ومن هذا قيل: أبهم الأمر فهو مبهم، واستبهم الشيء إذا لم تُعرَف حقيقته، ولذلك قيل للدابة التي لا شِيَة في لونها بهيم، استبهم الأمر إذا لم تعرف حقيقته، جهلت حقيقته، والسند فيه راوٍ مبهم، معروف أو غير معروف؟ مجهول غير معروف، والمعنى اتساع دين الإسلام، وافتتاح البلدان حتى يسكنها رعاة الإبل، وأصحاب البوادي الذين كانوا لا تستقر بهم الدار، إنما ينتجعون مواقع الغيث، فيتطاولون عند ذلك في البنيان.

الآن التطاول في البنيان مذموم أو غير مذموم؟ العلامة الأولى: أن تلد الأمة ربها، مذمومة، مذمومة أو ممدوحة؟

المقدم: مذمومة.

نحن قلنا: إن سياق الحديث...

المقدم: قلنا: إنها وقعت قدرًا.

نقول: في سياق الحديث لا يدل على بيع على جواز البيع ولا تحريمه، هذا بالنسبة للبيع والشراء، بيع أمهات الأولاد، لكن كون الأمة تلد ربها على الوجوه السابقة التي ذكرها أهل العلم لا شك أن السياق سياق ذم، وهنا التطاول في البنيان مذموم أو ممدوح؟ أو أنه مجرد وقع، وقوعه قدري؟

المقدم: والله التطاول هكذا التفاعل يبدو على أنه مذموم.

يدل على أنه تفاخر، إذا كان للتفاخر، لكن إذا كان للحاجة، كثرة سكان مع ضيق الأرض يُذَم أو ما يُذَم؟

المقدم: لا، ما يُذَم هذا.

ما يُذَم، إذا كان للحاجة، لكن إذا كان للتطاول، كما يُفهَم من الصيغة من التفاخر والتعاظم، لاسيما من أراذل الناس؛ لأننا أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم والناس معادن، والناس يعني لا شك أنهم بينهم تفاوت في هذا، وبعضهم مُسخَّر لبعض، إذا كان أراذل الناس يتطاولون ويتفاخرون فماذا عن عِلْيَة القوم؟ لا شك أن هذا ذم، أما إذا كانت هناك حاجة لتطويل لا نقول: لتطاول إنما لتطويل البنيان بالأدوار لكثرة الناس، وضيق الأرض مثلاً ضيق المساحة هذا ما يُذَم، الحاجة قائمة لذلك، أين يذهب الناس؟ أين يستظل الناس؟ أين يتقي الناس الحر والبرد؟ فهذا ليس بمحل ذم، ولذا لا يقال: إن الناس إذا أطالوا البنيان أن الامتداد الرأسي أفضل أو الامتداد الأفقي كما يقول بعض الناس يستدل بهذا الحديث، الحديث ليس له علاقة بهذه الأمور، إلا إذا كان على سبيل التعاظم والتفاخر من أراذل الناس، لكن على حسب الحاجة إن كانت المساحة قليلة الاتساع الرأسي، وإن كانت المساحة كبيرة والسكان قليل فالأفقي، وهذا تحدده الحاجة والمصلحة.

في شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- قال: والعلامة الثانية: أن يتطاول رعاة الإبل البُهْم في البنيان، والبُهْم هما بضم الباء، وهو جمع بهيم، ثم قيل: إن المراد به المجهول الذي لا يُعرَف، قاله الخطابي، فعلى هذا تكون الرواية البُهْم بضم الميم صفة للرعاة.

لأن الجهالة تتجه للإبل أو لرعاتها؟

المقدم: لرعاتها.

ماذا؟

المقدم: جهالة ماذا يا شيخ؟

هو ما قال: البهيم المجهول؟ المجهول الذي لا يُعرَف، في كلام الخطابي.

المقدم: بالضم تتجه للرعاة.

دعنا من الضم، الآن نريد قرينة ترجِّح الضم أو الجر، إذا قلنا: إن المراد بالبهم المجهول الذي لا يُعرَف.

المقدم: توجه للرعاة جزمًا.

للرعاة نعم، فعلى هذا تكون رواية البهم بضم الميم صفة للرعاة، وقيل: بل المراد به الذي لا شيء لهم، كما قال: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة بهمًا» وقيل: إن البهم بكسر الميم صفة للإبل، وأن الإبل هي السود، وتطاولهم في البنيان هو بمصيرهم ملوكًا ذوي ثروات وأموال، وفي رواية أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سئل عنهم فقال: «هم العُرَيْب» العُرَيْب تصغير العَرَب، وجاء في بعض الروايات: «العَرَب» والمقصود بهم هنا الأعراب، الذين هم رعاة الإبل لتتحد الروايات، يعني ليس المراد بهم الحاضرة من العرب من أجل أن تتحد الروايات، رعاة الإبل مَن هم؟ هم الأعراب.

قال ابن رجب: وهذا وقع في زمن بني أمية حيث كانوا يستعملون الأعراب الحفاة على الناس، ويستعينون بهم على أعمالهم، ثم لما انتقل الملك عن العرب إلى غيرهم انتقل إلى من كان ببلاده كذلك.

أيضًا بادية الأعاجم، كما كانت بادية العرب في عهد بني أمية وُلُّوْا على بعض الأعمال كذلك بادية الأعاجم وُلُّوْا على بعض الأعمال.

وفي هذا إشارة إلى أن من أشراط الساعة فساد ولاة الأمور بجهلهم وجفائهم، ويشهد لهذا: الحديث الآخر: «إذا وكل الأمر على غير أهله فانتظر الساعة» «إذا وسد الأمر على غير أهله فانتظر الساعة» وسيأتي في أول كتاب العلم -إن شاء الله تعالى-.

والتطاول في البنيان من أشراط الساعة.

وقد خرَّج البخاري في شرح ابن رجب ومسلم، ولا يوجد في مسلم، من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان» وقد كان بناء النبي -صلى الله عليه وسلم- للمساجد والبيوت قصيرًا، بحيث تكون السُّقُف تُنال باليد،  وذَكَر في هذا آثارًا كثيرة عن السلف.

وقال الطيبي: المقصود أن علاماتها انقلاب الأحوال، والقرينة الثانية ظاهرة في صيرورة الأذلة أعزة، ملوك الأرض، فتُحمَل القرينة الأولى إلى صيرورة الأعزة أذلة، يقول الطيبي: المقصود أن من علاماتها انقلاب الأحوال، من علامات الساعة انقلاب الأحوال، والقرينة الثانية ظاهرة، القرينة الثانية التي هي ماذا؟ تطاول مَن؟

الأخ الحاضر: الناس.

الناس كلهم؟

الأخ الحاضر: لا، الرعاة.

رعاة الإبل.

القرينة الثانية ظاهرة في صيرورة الأذلة أعزة، ملوك الأرض، فتحمل القرينة الأولى التي هي ماذا؟ أن تلد الأمة ربها، إلى صيرورة الأعزة أذلة، ألا ترى إلى الملكة بنت النعمان حين سُبِيَت وأُحضِرَت بين يدي سعد بن أبي وقاص كيف أنشدت:

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
فأُفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها   
.

 

إذا نحن فيهم سُوقة نتصفُ
تقلب تارات بنا وتصرفُ      
.

هذه حال الدنيا. والله المستعان.

المقدم: جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم. لعلنا نستكمل أيضًا ما تبقى -بإذن الله- في حلقة قادمة.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لقاؤنا يتجدد بكم في حلقة قادمة -بإذن الله تعالى-.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.