التعليق على تفسير سورة الفاتحة من تفسير الجلالين (06)

 بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال -رحمه الله تعالى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] أي نخصك بالعبادة من توحيد وغيره ونطلب المعونة على العبادة وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في تفسير هذه الآية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أشار الشارح إلى أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، ولذا قال: نخصك بالعبادة، وهذا مأخوذ من تقديم المعمول على عامله، والعبادة تشمل التوحيد، التوحيد العلمي والتوحيد العملي، والعبادات من زكاةٍ وصيام وحجٍ وغيرها وجهاد وغيرها مما يبتغى به وجه الله -سبحانه وتعالى-، نخصك بالعبادة، ونخصك أيضاً بطلب المعونة على هذه العبادة وغيرها، فالله -سبحانه وتعالى- هو المستعان على أمور الدنيا، وأمور الآخرة، وفي حاشية الجمل قال: لما ذكر الحقيقة بالحمد ووصفه بصفاتٍ عظام تميز بها عن سائر الذوات خوطب بإياك نعبد، فبداية السورة الحمد لله رب العالمين، ذكر المفسر سابقاً أنه لا بد من تقدير: قولوا: الحمد لله رب العالمين، لماذا؟ قولوا: الحمد لله رب العالمين؟

طالب:.......

نعم، ليناسب هذه الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] ليكون ما جاء في السورة كلها من مقول الخلق بأمر الله -سبحانه وتعالى-، ثم يقول الجمل: "والمعنى يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والانتقال من الغيبة إلى الشهود، الحمد لله، هذا ذكر لغائب، وإن كان حاضراً مع حامده وذاكره بمعيته الخاصة والعامة، لكن الأسلوب أسلوب غيبة، الحمد لله، ولذا ما قيل: الحمد لك يا الله، الترقي من البرهان إلى العيان، والانتقال من الغيبة إلى الشهود، لكن لما قال: إياك نعبد، انتقل من أسلوب الغيبة إلى أسلوب الشهود، يقول: وكأن المعلوم صار عياناً، والمعقول مشاهداً، والغيبة حضوراً.

طالب:.......

في العربية التفات، وابن جني يسمي الالتفات: شجاعة العربية، إيش معنى شجاعة العربية؟ يقول: كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ، وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف يشاء؟ كما يتصرف الشجاع في مجال الوغى بالكر والفر، ومن الأمثلة على الالتفات في القرآن: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} [(22) سورة يونس] وإلا في الأصل أن يقال: وجرين بكم، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "تحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسب لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده أن يثنوا عليه بذلك" هل في هذا مخالفة لما قدره المفسر سابقاً؟ بقوله: قولوا الحمد لله رب العالمين، يقول: وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده أن يثنوا عليه بذلك، يعني إذا قدرنا قولوا فالحمد لله رب العالمين في أول السورة يكون كلام من؟

طالب:.......

القرآن كله كلام الله، لكن قد يكون كلام الله على لسان أحدٍ من خلقه، فقوله تعالى على لسان فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [(24) سورة النازعات] هو كلام الله -سبحانه وتعالى- لكنه على لسان ذلك الطاغية، فقولنا: الحمد لله رب العالمين، يعني قاله الله -سبحانه وتعالى- من تلقاء نفسه، وأمر بقوله، ولذا قدرنا في أوله: قولوا الحمد لله رب العالمين، فهل نقول: إن الحمد لله رب العالمين من مقول الله حمد من الله لنفسه؟ أو حمد من المخلوق لله -سبحانه وتعالى-؟ يعني هل الآية الحمد لله رب العالمين حمد من الله لنفسه؟ وهذا مما يقال في تقسيم الحمد أنه حمد قديم لقديم كما قالوا، وهو حمد الله لنفسه، وحمد قديم لحادث، كحمد الله -سبحانه وتعالى- ومدحه لبعض خلقه، وحمد حادثٍ لقديم وهو حمد المخلوق لربه، وحمد حادثٍ لحادث، وتقدم الفرق بين الحمد والمدح، وهو أنه هل يتأتى بالنسبة للمخلوق أن يحمد أو يمدح؟ والخلاف في ذلك تقدم كله، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة، يعني حينما نقول في ابتداء قراءتنا الحمد لله رب العالمين فنحن نثني على الله -سبحانه وتعالى- بذلك، هل نقول: بعد أن أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بالثناء عليه، وبحمده، أو نقول: اقتداءً بثناء الله -سبحانه وتعالى- على نفسه، وإرشاد لعباده أن يثنوا عليه بذلك، وعلى كل سواء كانت خبر، أو امتثال أمر، فالخبر يأتي ويقصد به الأمر، وحينئذٍ يكون أبلغ في المراد من الأمر الصريح {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [(228) سورة البقرة] هذا خبر، لكن مفاده الأمر، ولذا ما في أحدٍ من أهل العلم قال بأن العدة مباحة؛ لأن هذا خبر وليس بأمر، وليس فيه من قال: إن العدة مندوبة فقط، بل أوجبوا الاعتداد، اعتداد المطلقة، والآية وإن كان لفظها الخبر إلا أن المراد منها الأمر، والحمد سواء قدرنا قولوا أو لم نقدر، فنحن مطالبون بأن نحمد الله -سبحانه وتعالى-، نعم، بإيش؟

طالب:.......

هو ما في تقدير قولوا إلا لتكون السورة كلها متسقة من كلام العباد بس.

{إِيَّاكَ} [(5) سورة الفاتحة] قرأ السبعة بتشديد الياء، وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر إياك، وهي قراءة شاذة مردودة قال ابن كثير: لأن إيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم أياك بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة، وإياك ضمير خطاب، ضمير رفع وإلا نصب؟ ضمير نصب، والأظهر أن كلمة إيا..، الآن هل الضمير إياك كلها أو الكاف؟ لأن الخلاف قائم، هل هو جميع الكلمة هو الضمير؟ أو الكاف أو إيا، والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليعتمد عليها الضمير عند انفصاله، ولذلك لزمها الضمائر نحو إياي وإياك وإياهم..الخ، ومن النحاة من جعل إيا ضميراً منفصلاً ملازماً حالةً واحدةً، وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد، ومنهم من جعل إيا اعتماداً للضمير كما كانت أي اعتماداً للمنادى الذي فيه (أل)، يعني كما سيأتي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [(21) سورة البقرة] ومنهم من جعل إيا اسماً ظاهراً مضافاً للمضمرات، على كلٍ سواء كانت الكلمة كلها ضمير، أو الضمير الكاف، فالمقصود ظاهر منها، هل يجوز حذف إيا إذا قلنا: إن الضمير كاف، في مثل هذا؟

طالب:.......

لماذا؟ لا بد له من معتمد، لا بد له من شيء يعتمد عليه؛ لأن المضير المتصل لا يبدأ به في الكلام، ولا يقع بعد إلا، في حال الاختيار، وإن وقع في حال الاضطرار.

{نَعْبُدُ} [(5) سورة الفاتحة] قرأ أبو المتوكل والحسن وأبو مجلز: يُعبد، بضم الياء وفتح الباء، اختلف في المراد على العباد بالعبادة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى التوحيد، وهذا مروي عن علي وابن عباس في آخرين، والثاني: أنها معنى الطاعة كقوله تعالى: {لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [(60) سورة يــس] والثالث: أنها بمعنى الدعاء، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [(60) سورة غافر] والمراد دعائي، والعبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبد، وبعير معبد، أي مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريفها: "العبادة اسم جامع لما يحبه الله -سبحانه وتعالى- من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة" ابن القيم -رحمه الله- يقول:

وعبادة الرحمن غاية حبه

 

مع ذل عابده هما قطبانِ

و{نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] بفتح النون في قراءة الجمع سوى الأعمش ويحيى بن وثاب فإنهما كسراها قالا: نِستِعين، وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس، وما زالت قائمة عند بعض الجهات وبعض القبائل، وقدم الضمير إياك في الموضعين، وكرر للاهتمام والحصر، وإلا فالأصل: نعبدك ونستعينك، ولو قيل: إياك نعبد ونستعين صح التعبير، لكن كرر للاهتمام والحصر، قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين" يعني العبادة والاستعانة، وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالأول: تبرؤ من الشرك، والثاني: تبرؤ من الحول والقوة، وهذا المعنى جاء في القرآن في آياتٍ كثيرة من كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [(123) سورة هود] وقال: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [(29) سورة الملك] ابن القيم -رحمه الله تعالى- كتاب عظيم، أقول: له كتاب عظيم في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، في ثلاثة مجلدات اسمه معروف: مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وعلى كلٍ من السلف من قال: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة، وهذا خلافاً لما يقوله بعض الغلاة، ممن يعتني بالإشارة دون العبارة، فيقول: الفاتحة سر القرآن، وسرها البسملة، وسر البسملة الباء، وسر الباء في نقطتها، هم يهتمون بإشارة، ما يهتمون بعبارة هم، هذا موروث، مذكور عن بعضهم، بعض الصوفية من يهتم بالإشارة يقول: إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها، وعلى كلٍ هذا قول مخترع لا يدل عليه أي دليل عقلي أو نقلي، ولم يؤثر عن أحدٍ ممن يعتد به من علماء الأمة سلفاً ولا خلفاً. على كلٍ النقطة وإن كانت مفقودة سابقاً، فهي مروية، يعني فرق بين السين والشين، فهي وإن لم تذكر فهي مقصودة يعني، وتقديم أيهما؟ العبادة أو الاستعانة؟ الاستعانة على العبادة وغيرها، لكن نظراً لأهمية العبادة وأنها هي المقصود من خلق الخلق قدمت، وإلا بالنسبة للوجود الاستعانة طلب المعونة من الله -سبحانه وتعالى- في جميع الأحوال، وعلى سائر الصفات على العبادة وغيرها، لكن لما كانت العبادة هي المقصود من خلق الجن والإنس قدمت؛ لأنها هي الغاية من باب تقديم الغاية على الوسيلة، في الأهمية وإن كان الترتيب الزمني ينبغي أن تكون الاستعانة متقدمة على العبادة، لكن إذا تصورنا أن الإنسان لا يستطيع أن يزاول أي عمل إلا بمعونة الله -سبحانه وتعالى- سواء كان من أمور دينه أو دنياه، لا يستطيع أن يزاول أي عمل إلا بعون الله -سبحانه وتعالى- وتوفيقه وتسديده، فيستعين الله -سبحانه وتعالى- على جميع أعماله التي منها العبادة، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "فإن قيل فما معنى النون في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] فإن كانت للجميع فالداعي واحد -يعني الفرد وهو يقرأ القرآن يقول: إياك نعبد ما يقول: إياك أعبد- فإن كانت للجميع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب المقام، وقد أجيب بأن المراد بذلك الإخبار عن جنس العبادة، الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فرد منهم لا سيما إن كان في جماعة أو إمام، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها وتوسط لهم بالخير، ومنهم من قال: يجوز أن تكون للتعظيم، كأن العبد قيل له: إذا كنت في العبادة فأنت شريف، وجاهك عريض، فقل: إياك نعبد وإياك نستعين، ومنهم من قال: إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك أعبد، لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في تفسير سورة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [(1) سورة القدر] قال: إن العرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع، يعني ولو كان واحداً، يجوز أن يقول: نعبد ونستعين مؤكداً فعله بهذا، فإذا كان من معاني النون التعظيم فليكن من معانيها التأكيد، لما ذكره الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-.

والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى، وقد سمى الله رسوله بعبده في أشرف مقاماته، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [(1) سورة الكهف] وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [(19) سورة الجن] وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [(1) سورة الإسراء]..الخ، هذه المقامات الثلاثة، وهي أشرف مقامات النبي -عليه الصلاة والسلام- عبّر فيها بالعبودية، وحكى الرازي في تفسيره عن بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة، لماذا؟ يقول: لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق، والرسالة من الحق إلى الخلق، هذا يقتضي شرف؟ نعم، يقتضي العكس، لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق، والرسالة من الحق إلى الخلق؛ ولأن الله متولي مصالح عبده، والرسول متولي مصالح أمته، يقول الحافظ ابن كثير: "وهذا القول خطأ، والتوجيه أيضاً ضعيف لا حاصل له مع أن الرازي لم يتعرض له بتضعيفٍ ولا رد، اقرأ.

{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [(6) سورة الفاتحة] أي أرشدنا إليه، ويبدل منه {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [(7) سورة الفاتحة] بالهداية، ويبدل من الذين بصلته، {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} [(7) سورة الفاتحة] وهم اليهود، {وَلاَ} وغير {الضَّالِّينَ} وهم النصارى، ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

هذه الخاتمة لمن؟ لجلال الدين المحلي، في نهاية تفسير سورة الفاتحة انتهى نصيبه الذي يبدأ من الكهف إلى نهاية سورة الفاتحة، ثم يبدأ نصيب السيوطي من أول البقرة إلى نهاية سورة الإسراء على ما تقدم.

يقول: اهدنا الصراط المستقيم أي أرشدنا إليه، ولما تقدم الثناء على المسؤول -تبارك وتعالى- ناسب أن يُعقَب بالسؤال، كما جاء في الحديث الصحيح ((فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)) وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته، وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: اهدنا؛ لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، والهداية: الدلالة والإرشاد، والتوفيق والإلهام، وطلبها هنا ممن اهتدى؛ لأن الذي يقول: هو القارئ للقرآن سواء كان في الصلاة أو في غيرها، وهو ممن هدى الله، فطلبها ممن اهتدى للدوام والاستمرار، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [(136) سورة النساء] يعني اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه، واستمروا عليه، وجاء في الحديث: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) أيضاً يستفاد من طلب الهداية هنا الزيادة منها {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [(17) سورة محمد] فالعبد بحاجة إلى أن يدعو الله -سبحانه وتعالى- ليل نهار في أن يثبته ليستمر على هذه الهداية، وأن لا يزيغ قلبه، ويصرفه عن هذه الهداية، وجاء في دعاءه -عليه الصلاة والسلام-: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) وهو أشرف الخلق، وأيضاً العبد وإن كان ممن اهتدى إلا أنه بحاجة إلى مزيدٍ من هذه الهداية؛ لأن الإيمان قابل للزيادة والنقصان على مذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة، فنحن بحاجة إلى أن نسأل الله -سبحانه وتعالى- طلب المزيد من الهداية ومن الإيمان، وأن نبذل السبب يعني نسأل الهداية، ونسأل المزيد منها، ونسأل الثبات ونترك الأسباب؟! لا، لا بد من بذل الأسباب، والهداية نوعان: هداية الدلالة والإرشاد، وهذه مثبتة لغير الله -سبحانه وتعالى- كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(52) سورة الشورى] وأما النوع الثاني من أنواع الهداية: وهو التوفيق والقبول، هذه منفية عمن سوى الله -سبحانه وتعالى-، كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [(56) سورة القصص] الهداية في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [(9) سورة الإسراء] من النوع الأول أو الثاني؟ يعني يدل الناس ويرشدهم؟

طالب:.......

من النوعين، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي} [(9) سورة الإسراء] {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(52) سورة الشورى] هنا دلالة وإرشاد {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [(9) سورة الإسراء] أما هداية الدلالة والإرشاد فلا إشكال فيها موجودة، من اتبع القرآن قادة ودله إلى طريق الجنة، لكن الهادي هو القرآن أو الله -سبحانه وتعالى- المتصف بهذه الصفة وهي صفة الكلام؟ هل نستطيع أن نقول: إن القرآن يهدي بمعنى يوفق ويلهم؟

طالب:.......

هو كلام الله بلا شك، ومنه بدأ وإليه يعود.. إلى آخر ما هو مقرر في مكانه، وكون القرآن يدل ويقود إلى الطريق المستقيم وإلى جناتٍ نعيم ورضوانه -سبحانه وتعالى-، هذا لا إشكال فيه، لكن هل نستطيع أن نقول: إن القرآن يوفق.

طالب:.......

هل نستطيع أن نقول: شاءت الإرادة الإلهية، أو الله -سبحانه وتعالى- شاء؟ الآن القسم بالله -سبحانه وتعالى-، القسم بصفة من صفات الله -سبحانه وتعالى- يجوز وإلا ما يجوز؟ يجوز، نسبة بعض أفعال الله -سبحانه وتعالى- إلى بعض صفاته كما هنا، التوفيق والقبول لله -سبحانه وتعالى-، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [(56) سورة القصص] وهو أفضل الخلق، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} بمعنى يوفق، ويجعل الإنسان يذعن ويقبل من الله -سبحانه وتعالى-، لا من غيره، ولذا نفاه عن أشرف خلقه، والقرآن كلام الله، ليس بمخلوق ليدخل في هذا النفي، فالهداية المنسوبة إلى القرآن لا شك أنها هداية دلالة وإرشاد، هذا ما في إشكال، لكن بقية النوع الثاني: الدلالة والقبول، القبول والإذعان قالوا: هذه منفية عما سوى الله -سبحانه وتعالى-.

طالب:.......

يهدي المؤمن بكلامه، لكن من الذي هدى المؤمن كلام الله أو الله -سبحانه وتعالى-؟

طالب:.......

يهتدي، يهتدي بلا شك، لكن هداية دلالة بمعنى أن القرآن دله، والله وفقه، الله -سبحانه وتعالى- هو الموفق أولاً وآخراً، لكن هل نقول: إن مثل هذا مثل القسم يجوز أن يقسم به؟

طالب:.......

بلا شك أن له ميزة، والله -سبحانه وتعالى- يوفق من اعتنى بكتابه، هذا ما فيه إشكال، لكن هل الذي وفقه الكتاب أو الله -سبحانه وتعالى- بكتابه كما أنه أدخل المؤمن الجنة برحمته، ترى الموضوع دقيق يا إخوان ما هو..

طالب: لو صح أن يسأل التوفيق و...... لكلام الله صح أن يدعى، يدعى كلام الله، وأن كلام الله يهديه..

إيه دعاء الصفة معروف عندهم، دعاء الصفة معروف عندهم.

طالب:.......

إيه، قد يقرأ القرآن ولا يوفق، إذا لم يرد الله له التوفيق قد يقرأ القرآن، إيه بلا شك، بلا شك أن الموفق هو الله -سبحانه وتعالى-.

طالب: لكن يا شيخ حفظك الله لما تدل الآية على دلالة التوفيق والإلهام ليست....، بناءً على القرآن صفة من صفات الله -جل وعلا-؟

طيب لكن هل هذه الصفة توفق أو أن الموفق هو الله -سبحانه وتعالى-؟

طالب: وهل في فرق بين الله -جل وعلا- وبين كلامه؟ أو بين الله وبين صفاته؟

طالب آخر: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ} [(82) سورة الإسراء] القرآن ما هو الذي يشفي، الشفاء يكون بهذه الصفة، بهذا الأمر، لبركة هذا الكلام ليست لغيره من المخلوقات....

إذاً يكون سبب للشفاء، والشافي هو الله -سبحانه وتعالى-، كما أنه سبب للهداية، والهادي هو الله -سبحانه وتعالى-.

طالب:.......

يهتدي نعم.

طالب:.......

وضل، وضل، نعم.

طالب:.......

لا حتى من المسلمين، من اتبع المتشابه وهو من القرآن زاغ.

طالب: ..... ما قال من قرأ القرآن...

لا إذا قلنا: لذاته بغض النظر عن قائله يلزم عليه هذا، وعلى كلٍ المسألة ظاهرة، الهادي هو الله -سبحانه وتعالى-، الهادي أولاً وآخراً هو الله -سبحانه وتعالى-.

طالب: الأمر الثاني يا شيخ هل يجوز....

لا ما يجوز؛ لأن دعاء الصفة ما يجوز، على كلٍ ما نطيل أكثر من كذا؛ لأن المسألة تحتاج إلى تحرير.

طالب: حفظك الله يا شيخ الثاني.....

أيُ؟

طالب:..... التوفيق والإلهام؟

يعني القرآن يلهم؟

طالب:.......

على كلٍ تبحث المسألة -إن شاء الله تعالى-.

و{الصِّرَاطَ}[(6) سورة الفاتحة] وقرئ بالسين، وقرئ بالزاي، والزاي كما قال الفراء: لغة بني عذرة، وبني كلب وبني القين، والصراط كما قال ابن جرير: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ويقول جرير:

أمير المؤمنين على صراطٍ

 

إذا اعوج الموارد مستقيم

وقد تستعيره العرب فتستعمله في كل قولٍ وعملٍ وصف باستقامةٍ أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه، ويقول ابن الجوزي: "يقال: إن أصله بالسين السراط؛ لأنه من الاستراط وهو الابتلاع، فالسراط كأنه يسترط المارين عليه، ومن قرأه بالصاد فلأنها أخف على اللسان" هذا كلام ابن الجوزي، والمراد بالصراط هاهنا أربعة أقوال: اختلف في المراد بالصراط هنا على أربعة أقوال: أحدهما: أنه كتاب الله، وهذا رواه علي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث الترمذي الطويل، والثاني: أنه دين الإسلام كما قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وآخرون، والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والرابع: أنه طريق الجنة، نقل عن ابن عباس أيضاً، ننظر في الأقوال: كتاب الله –الصراط-، ودين الإسلام، الطريق الهادي إلى دين الله، طريق الجنة، في اختلاف بينها وإلا ما في؟

طالب:......

نعم، اختلاف تنوع وليس باختلاف تضاد، ويبدل منه من الصراط، المنصوب بإهدانا، اهدنا الصراط يبدل منه صراط الذين أنعمت عليهم، أنعم عليهم بأي شيء؟ بالهداية؛ لأنه كما سيأتي أن ممن ضل منعم عليه بأنواع من النعم، لكن المطلوب الهداية إلى صراطهم المنعم عليهم بالهداية، ويبدل من الذين بصلته الذين أنعمت عليهم يبدل منه غير المغضوب عليهم، ولذا وافقه في الإعراب، الذين مجرور بصراط مضاف إليه وغير مجرور؛ لأنه تابع للذين، ولذا قال: "ويبدل من الذين بصلته غير المغضوب عليهم، وهم اليهود، ولا غير، كما جاء في بعض القراءات، ولعلها عن عمر -رضي الله عنه- غير المغضوب عليهم وغير الضالين، ولذا قال: "ولا يعني غير الضالين، وهم النصارى، ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى، ونكتة البدل صراط الذين أنعمت عليهم، ألا يكفي ويغني عن قولنا: غير المغضوب عليهم ولا الضالين؟ في الأصل يكفي، صراط الذين أنعمت عليهم، وهم مَن يُذكرون في آية النساء على ما سيأتي، ويكفي عن قولنا: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، هذا في الأصل، لكن لأن من المغضوب عليهم ومن الضالين اليهود والنصارى ممن يدعي أنهم منعم عليهم، بل ممن من غيرهم من الطوائف من يزعم أن اليهود والنصارى منعم عليهم؛ لأنهم أهل كتاب، فاحتيج إلى التنصيص عليهم؛ لأنهم أهل كتاب، فهم وإن أنعم عليهم بكتاب، وإن أنعم الله عليهم بكتاب إلا أنهم غضبوا عليهم لأنهم علموا وعرفوا ما في هذا الكتاب وخالفوه، وأيضاً أنعم على آخرين بكتاب لكنهم أعرضوا عن تعلمه فجهلوه، وعبدوا الله -سبحانه وتعالى- على جهل، فضلوا بسبب ذلك، ولذا في حديث أنس وغيره: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً -أو لم يبق عالم- اتخذ الناس رؤوساً)) وفي روايةٍ: ((رؤساء جهالاً سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) ولذا من عبد الله -سبحانه وتعالى- على جهل ضل، ومن عرف الحق وحاد عنه ومال عنه إلى غيره لأي شيء من الأسباب فهو مغضوب عليه لمشابهته اليهود، ولذا يقول بعضهم: "من ضل أو من حاد من علماء هذه الأمة ففيه شبه باليهود، ومن حاد عن الطريق من عباد هذه الأمة ففيه شبه بالنصارى" نسأل الله العافية.

يبدل من اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، فصراط الثانية بدل كل من كل، من الصراط الأولى، وهو في حكم تكرير العامل، اهدنا الصراط المستقيم، صراط في حكم تكرير العامل، فكأن فيه اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن الصراط المستقيم هو المشهود، والمشهود عليه بالاستقامة على آكد وجهٍ وابلغه، ويبدل من الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، أي بدل كل من كل، وقيل: بدل نكرة من معرفة، وقيل: نعت وهو مشكل؛ لأن غير نكرة والذين معرفة وقد أجيب.. الخ، الآن قولهم: بدل كل من كل، ويبدل من الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، بدل كل من كل، فالذين أنعم الله عليهم إذا قلنا: كما قال المفسر: المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى فكيف نقول: إن غير المغضوب عليهم وغير الضالين غير اليهود والنصارى منعم عليهم؟ لأنه يقول: بدل كل من كل مفهومه أن من عدا اليهود والنصارى منعم عليه؟ لكن ألا يوجد من فرق الضلال، وفرق المغضوب عليهم من غير اليهود والنصارى؟ إذاً كيف يقولون: بدل كل من كل؟

طالب:.......

إذاً الآية ما عليها استدراك، الاستدراك على تخصيص التفسير بالمغضوب عليهم هم اليهود فقط، بحيث لا يدخل فيهم غيرهم ممن شابههم، والضالين هم النصارى فقط بحيث لا يدخل في الآية من شابههم؟

طالب: أغلب المغضوب عليهم اليهود، أغلب الضالين النصارى.

لكن إذا قلنا: بدل كل من كل إذا نظرنا إلى الآية من غير تفسير الكلام ما فيه إشكال، فكل شخص لم يغضب عليه ولم يضل فهو منعم عليه، وكل منعم عليه ليس بمغضوبٍ عليه، وليس بضال، هذا بدل كل من كل، لكن إذا قلنا: إن المغضوب عليهم هم اليهود فقط، والضالون هم النصارى فقط نحتاج إلى ألا نقول: بدل كل من كل، بل بدل بعض من كل، وعلى كلٍ التفسير جاء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عدي بن حاتم على ما سيأتي أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، لكن هذا تفسير بالمثال، ولا يعني هذا أن له مفهوم أن غيرهم اليهود والنصارى ليسوا بمغضوب عليهم ولا ضالين، لا، بل يدخل في هذا الوصف من شابه اليهود، فيكون مغضوباً عليه، ويدخل في الضلال من شابه النصارى فيمن عبد الله على جهل، اليهود هم ضالون، والنصارى مغضوب عليهم؛ لأن منهم علماء شابهوا اليهود، ومن اليهود من هم جهال وعبدوا على..، شابهوا النصارى، لكن هذا تفسير باعتبار الأعم، اليهود الغالب عليهم العلم، والغالب عليهم أيضاً الانحراف مع العلم، والنصارى الغالب عليهم العمل لكنه على جهل، ولذا جاء في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [(82) سورة المائدة] عباد، لكنهم عبدوا الله على جهل، فيدخل في وصفهم من شابههم، وكل ممن هذه صفته له نصيبه من هذه الآية.

طالب:.......

بدل كل من كل إذا نظرنا إلى الآية من غير تفسيرها، أو إذا فسرنا الآية بأن المغضوب عليهم هم اليهود، ومن شابههم، والضالين النصارى ومن شابههم، فيدخل فيهم من غضب عليهم ممن ينتسب إلى الإسلام وغيرهم من طوائف الزيغ، قالوا: هو مشكل، إذا قلنا: بدل كل من كل، غير المغضوب عليهم بدل من الذين أنعمت عليهم، وقيل: نعت وهو مشكل، (غير) مجرورة نعت للذين، وهو مشكل لماذا؟ لأن (غير) نكرة، و(الذين) معرفة، طيب (غير) مضاف و(المغضوب عليهم) مضاف إليه، كيف صارت نكرة؟ الإضافة لفظية لا تفيد التعريف فـ(الذين) الموصولات من المعارف، و(غير المغضوب) إضافتها لفظية فلا تفيد التعريف، فكيف يوصف المعرفة بنكرة؟ أجيب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن (غير) إنما تكون نكرة إذا لم تقع بين ضدين، أحدهما: أن (غير) إنما تكون نكرة إذا لم تقع بين ضدين، فأما إذا وقعت بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فتتعرف حينئذٍ بالإضافة كما تقول: الحركة غير السكون، والثاني: وهو أن الموصول أشبه بالنكرات  في الإبهام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات، الموصول فيه شمول، وفيه عموم، ولذا من صيغ العموم الموصولات، فهي من حيث عمومها وعدم تخصيصها تشبه النكرة، فجاز وصفها بالنكرة لقربها منها، والمراد بالمنعم عليهم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [(69) سورة النساء] الآن نحن مأمورون بأن نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم، ومن هؤلاء المنعم عليهم ما جاء في سورة النساء: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [(69) سورة النساء] لأن الترتيب على طريق التدني من الأعلى إلى الأدنى، النبيين يليهم الصديقون، يليهم الشهداء، يليهم الصالحون، بهذا استدل على صحة إمامة أبي بكر -رضي الله عنه-، لماذا؟ لأنه من الصديقين، أبو بكر صديق بالنص، ونحن مأمورون بأن نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يهدينا طريق الصديقين الذين منهم أبو بكر -رضي الله عنه-، لماذا؟ لأنه داخل فيمن أمرنا الله -سبحانه وتعالى- في السبع المثاني، والقرآن العظيم بأن نسأله أن يهدينا صراطهم، فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وذلك في قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [(6- 7) سورة الفاتحة] وقد بيّن الذين أنعم الله عليهم، فعدّ منهم الصديقين، وقد بيّن -صلى الله عليه وسلم- أن أبا بكرٍ -رضي الله عنه- من الصديقين، في أي مناسبة؟ نعم في قصة الإسراء، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم، الذين أمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن نسأله الهداية إلى صراطهم وطريقهم، فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق.

طيب الله -سبحانه وتعالى- قال عن مريم ابنة عمران: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [(75) سورة المائدة] دخول أبي بكر في الآية ما فيه إشكال، مريم ابنة عمران، أم عيسى -عليه السلام- قال الله -سبحانه وتعالى- عنها: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [(75) سورة المائدة] فهل مريم ممن أمرنا بأن نسأل الله -سبحانه وتعالى- طريقهم وصراطهم؟ عرفنا أن أبا بكر لا إشكال فيه، لكن مريم ابنة عمران أم عيسى -عليه السلام-؟ أقول: هل تدخل في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [(7) سورة الفاتحة]؟ الجواب يتفرع على معرفة مسألة أصولية، نعم؟

طالب:.......

لا، خلينا شرع من قبلنا هذه مسألة أخرى، افرض أنها من هذه الملة، افرض أن مريم لو قيل هذا الكلام في عائشة، أو في خديجة مثلاً، في شرعنا، من أمتنا، الجواب عن هذا يتفرع عن مسألة أصولية، وهي دخول النساء فيما يخص الرجال من جمع المذكر السالم مثلاً، يعني إذا قيل: المؤمنون يدخل فيهم النساء؟ لأن جمع مذكر سالم، يعني في جميع التكسير تدخل النساء، في جمع المذكر السالم؛ لأن لهن ما يقابله من جمع المؤنث السالم، ها؟

طالب:.......

المسألة خلافية في دخول النساء في جمع المذكر السالم، فمن العلماء من يقول: تدخل النساء في جمع المذكر السالم، وقد جاء في مريم بخصوصها في آخر سورة التحريم {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [(12) سورة التحريم] ما قال: وكانت من القانتات، فدخلت في جمع المذكر السالم، وهذا لجمع من العلماء، وقيل: لا يدخل النساء في جمع المذكر إلا لدليل خارجي، وإلا لو دخل النساء في جمع المذكر السالم لما احتيج إلى قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [(31) سورة النــور] يعني يكفي {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ} [(30) سورة النــور] من رجال ونساء، {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [(30) سورة النــور] الخ الآية، ثم قال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ} [(31) سورة النــور] في بعض الآيات: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [(35) سورة الأحزاب] العطف يقتضي المغايرة، فالمؤمنات غير المؤمنين، فدل العطف على عدم دخول النساء في جمع الرجال، لا شك في دخول النساء في خطاب الرجال إذا دلت القرينة على ذلك، هذا ما فيه إشكال، ولا يخالف فيه أحد إذا دلت القرينة على ذلك، فالأصل أن الخطاب بـ(يا أيها الذين آمنوا) يدخل فيه الرجال والنساء، يا أيها الذين آمنوا يدخل فيه الرجال والنساء، والخطاب للجميع، نعم إذا دل الدليل على عدم دخول النساء في الخطاب دلت القرينة على ذلك فلا تدخل، يبقى إذا تجرد الخطاب عن القرينة، كما هنا، فتجرد الخطاب عن القرينة، فهل تدخل الصديقات في الصديقين هو محل الخلاف.

طالب:.......

نعم؛ لأن النساء شقائق الرجال في الأحكام، فأي خطابٍ يتجه للرجال -إلا ما دل الدليل على استثنائه- فمطالب به النساء؛ لأن الشرع نزل للرجال والنساء، لكل مكلف من الرجال والنساء، نعم إذا كان هناك ما يخص المرأة من أحكام تستثنى من خطاب الرجال، أولاً: الموصول من صيغ العموم، والعموم يشمل الجميع، يشمل الرجال والنساء إلا أن تفسيره بالفعل (آمنوا) يغلب جانب الرجال، وإلا فالأصل أن الموصول يشمل الرجال والنساء؛ لأنه من صيغ العموم، لكن تفسيره بصلته (آمنوا) ولم يقل: آمنا فدل على أن المقصود بالأصل الرجال، وتدخل النساء تبعاً للرجال.

جماهير المفسرين على أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وقد جاء بذلك حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن المغضوب عليهم اليهود، وأن الضالين النصارى)) وهذا مروي في المسند والترمذي وابن حبان وغيرهم، وإنما استثني المغضوب عليهم والضالون من المنعم عليهم؛ لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير أو في إنعام الله -سبحانه وتعالى- على كثيرٍ منهم، فبيّن بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، ليس المراد بـ(أنعمت عليهم) النعم العامة من صحة ومال وغيرهما، بل المراد بذلك نعمة خاصة، وهي نعمة الدين والاستقامة.

في النهاية هناك فوائد بالنسبة للتأمين، ما هو التأمين على الأموال ولا على الأنفس، لا بل يستحب لمن قرأ الفاتحة في الصلاة وخارجها أن يقول بعدها: آمين.

طالب: هذه يا شيخ بإمكان أن نرجح في مسألة هل تدخل مريم أم لا في الصديقين على........ من الأدلة المتعارضة؟

أصل مريم أولاً: من أمةٍ متقدمةٍ علينا، والخلاف في شرع من قبلنا هل هو شرع لنا، وأيضاً هل هي متعبدة بشريعةٍ خاصة؟ الجمهور لا، بل هي تابعة لشريعة..، الأمر الثاني: حتى على قول من يقول: إن من النساء أنبياء كابن حزم، وذكر منهن مريم، حتى على هذا القول إذا كان الخلاف في الأنبياء من الذكور المتفق على نبوتهم ورسالتهم، نحن متعبدون بشرائعهم أم لا؟ والقول الوسط في هذه المسألة أننا متعبدون فيما لم يرد شرعنا بخلافه، فالنساء من باب أولى.

طالب: الآن طريق الهداية واحد...؟

مثلنا مثلنا.

يستحب لمن قرأ الفاتحة في الصلاة وخارجها أن يقول بعدها: آمين، ومعناها: "اللهم استجب" وليست من القرآن بدليل أنه لم يثبتها أحد في المصاحف، والدليل على استحبابها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) في صحيح مسلم عن أبي موسى إذا قال يعني الإمام: "ولا الضالين" فقولوا: "آمين يجبكم الله" في المسند وسنن أبي داود والترمذي من حديث وائل بن حجر، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [(7) سورة الفاتحة] فقال: ((آمين)) مد بها صوته، أولاً: بالنسبة للفظها: آمين، بالمد والتخفيف، قرئت أمين بالقصر مع التخفيف، وقرئت: آمّين، بالمد مع التشديد والمراد قاصدين، لكن..، نقول: قرئت، نقول: قرئت وإلا رويت؟

طالب:.......

نعم هي ليست من القرآن، ويجهر بها أيضاً إذا جهر بالقراءة، كما هو معروف خلافاً للحنفية.

الأمر الثاني: اشتملت هذه السورة من العلوم على حمد الله وتمجيده، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد، وهو يوم الدين، وعلى إرشاد العبيد إلى سؤال الله -سبحانه وتعالى، والتضرع إليه، والتبرؤ من الحول والقوة إلى الإخلاص، وتوحيد الألوهية، وتنزيه الله أن يكون له شريك أو نظير، وإلى سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم، والثبات عليه حتى يفضي إلى جناتٍ نعيم في جوار المنعم عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اشتملت السورة أيضاً الترغيب في الأعمال الصالحة؛ ليكونوا من أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك أهل الباطل لئلا يحشرون مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضالون.

المسألة الثالثة في تفسير الرازي في أوله قال: "اعلم أنه مرّ على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحساد، وقوم من أهل الجهل والغي والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة من المعاني، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول، قريب الوصول" ثم شرع في تفسير الفاتحة في مجلد، ما حددت يعني بالضبط واحد اثنين ثلاثة، لا، لكن يمكن أن تستنبط، إذا أتينا إلى: بسم الله الرحمن الرحيم على اعتبار أنها آية، وأخذنا الباء، وذكرنا معاني الباء كلها، وكيف ترسم الباء، ولماذا حذفت الألف بعدها؟ الباء هذه تحتاج إلى مسائل كثيرة، ثم عاد السين، ومن أي حروف هل هي..؟ ثم تناول السين من الناحية الهجائية، ومن ناحية التجويد، ومن ناحية الأصوات وغيرها.. الخ، تجد ألوف مؤلفة من المسائل، فضلاً عما اشتملت عليه السورة بكاملها من المقاصد الشرعية.

طالب: يا شيخ، هذا ما ينطبق عليه كلمة ابن حجر: "هذا تعب ليس وراءه أرب"؟

أنت إذا مسكت الباء وذكرت معانيها في اللغة هذا تعب؟ يعني الباء حينما ترد في البسملة، وحينما ترد في غيرها، معاني الباء، يعني مغني اللبيب كله تعب ليس وراءه أرب؟

طالب: لا، ما قصدت هذا...

هذا من أفضل ما كتب في علم العربية؛ لأنه يذكر معاني الحروف.

طالب:......

لا، لا، إيش تعب، لا، لا، هذه كلها فوائد، كلام بعض الصوفية في كون الفاتحة سر القرآن، وسر الفاتحة البسملة.. الخ، هذا تقدم.

هنا مسألة: وهي إبدال الظاء من الضاد، يعني حينما نقرأ: غير المغضوب عليهم ولا الظالين؟ كثير من الناس يقرؤها ولا الظالين، بالظاء بدلاً من الضاد، وأهل العلم يختلفون في حكم إبدال مثل هذا الحرف على أقوالٍ ثالثها: يعذر بالجهل دون من علم، وهذا بخلاف ما إذا أبدل غير هذا الحرف بحرفٍ آخر، لو أبدل الحاء من قوله: الحمد بالهاء مثلاً، يجوز وإلا ما يجوز؟ لو افترضنا أنه أعجمي، وهذا حال كثيرٍ منهم، أعجمي يقول: الهمد؟ تبطل صلاته وإلا ما تبطل؟ إذا عجز عن النطق بالحاء صحت صلاته، كما لو عجز عن تعلم الفاتحة صحت صلاته، أما إذا قدر...

طالب:......

إيه، ما في شك، هذا بالنسبة للعاجز، وإبدال الضاد بالظاء، الضاد أخت الصاد بالظاء المشالة، عرفنا أن العلماء يختلفون فيها على أقوالٍ ثالثها: العذر مع الجهل، بحيث لا يعذر من عرف واستطاع أن ينطق بالضاد، أما القولان الآخران فهما متقابلان، الجواز المطلق، والمنع المطلق، وهذه عادة لهم في سياق الخلاف، إذا ساقوا الخلاف وقالوا: في المسألة ثلاثة أقوالٍ: ثالثها كذا، فمرادهم أن الأول والثاني متقابلان، الأول الجواز بالإطلاق، والثاني المنع بالإطلاق، والثالث التفصيل، فيغتفر في حق الجاهل ما لا يغتفر في حق العالم.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما، وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان، وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلاً من الحرفين من الحروف المجهورة، ومن الحروف الرخوة، ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك، والله أعلم، يقول ابن كثير: وأما حديث: ((أنا أفصح من نطق بالضاد)) فلا أصل له، والله أعلم".

"