التعليق على تفسير القرطبي - سورة الفرقان (01)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"سورة الفرقان مكية كلها في قول الجمهور، وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [سورة الفرقان: 68] إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [سورة الفرقان:70]، وقال الضحاك: هي مدنية، وفيها آيات مكية، قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} .. الآيات، ومقصود هذه السورة ذكر.."

يعني عكس قول ابن عباس، قول ابن عباس إنَّها مكية إلا ثلاث آيات، قال الضحاك: هي مدنية إلا ثلاث آيات.

"ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة، والرد على مقالاتهم وجهالاتهم، فمن جملتها قولهم: إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله. قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [سورة الفرقان: 1].

 {تَبَارَكَ} اختلف في معناه، فقال الفراء: هو في العربية و (تقدس) واحد، وهما للعظمة، وقال الزجاج: {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة، قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقيل: {تَبَارَكَ} تعالى، وقيل: تعالى عطاؤه: أي زاد وكثر، وقيل: المعنى: دام وثبت إنعامه، قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل والطير على الماء: أي دام وثبت.

فأما القول الأول فمخلّط؛ لأن التقديس إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء، قال الثعلبي: ويقال: تبارك الله، ولا يقال: متبارك ولا مبارك؛ لأنه يُنتهى في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف، وقال الطرماح:

تباركت لا معطٍ لشيءٍ منعته

وليس لما أعطيت يا رب مانعُ

وقال آخر: تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر.

قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى (المبارك)، وذكرناه أيضًا في كتابنا، فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع، وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في عدّه كالدهر وغيره، وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله."

أخذوا هذا الاسم من الفعل {تَبَارَكَ} الذي مقتضاه الإخبار، علمًا بأن دائرة الأسماء أضيق من دائرة الأوصاف فضلًا عن الإخبار، فالاسم يُؤخذ منه صفة ولا عكس، والإخبار أوسع لا يؤخذ منه صفة ولا اسم، هذا الإخبار، فكونهم يأخذون المبارِك أو المبارَك من قوله- جلَّ وعلا-: {تَبَارَكَ} فهذا ليس جاريًا على القواعد المعروفة عند أهل السُّنة، فيبقى الاسم توقيفيًّا، فإن جاء به نص ملزم قيل به وإلا فلا، و{تَبَارَكَ} بهذه الصيغة تفاعل لا يُطلق إلا على الله- جلَّ وعلا-، لا يجوز إطلاقه على أحد، وإن كان يقال: فلان مبارك، وفلان رجل فيه بركة هذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال في هذه الصيغة {تَبَارَكَ} لا تطلق إلى على الله- جلَّ وعلا-؛ لأنه بلغ الغاية في هذا الشأن.

طالب: يقال: هذا الحلال عندي تبارك، وهذه الغنم تباركت يريد كثرتها؟

يعني إذا ظهرت فيه البركة بالكثرة أو النفع لا مانع -إن شاء الله-.

طالب: أو هذا المال تبارك؟

لا، تبارك لا.

طالب: المال؟

ولو كان، يعني حصل فيه بركة، أما تبارك فلا.

طالب: الزيارة، تبارك المحل بدخولك، تبارك دخولك؟

لا، يعني كونكم حضرتم حصلت البركة لا مانع -إن شاء الله تعالى-، لكن البركة تحصل بأدنى شيء، يعني لو لم يكن من بركة هذا الحاضر مثلًا إلا حصول الأجر المترتب على الزيارة، وحصول الأجر للمزور المرتب على الضيافة وهكذا، لكن التبارك الذي هو بلغ الغاية في هذا الأمر فهذا خاص بالله- جلَّ وعلا-.

طالب: هل يمكن أن نقول: تبارك البيت بقدومكم؟ ينكر على من قاله؟

تبارك نعم.

طالب: هذا البيت يتبارك.

نعم، هذا اللفظ ممنوع على أي حال.

{الْفُرْقَانَ} القرآن، وقيل: إنه اسم لكل منزل، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [سورة الأنبياء:48] وفي تسميته فرقانًا وجهان: أحدهما: لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر، والثاني: لأن فيه بيان ما شُرِع من حلال وحرام، حكاه النقاش، {عَلَى عَبْدِهِ} يريد محمدًا- صلى الله عليه وسلم-، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} اسم {يَكُونَ} فيها مضمر يعود على {عَبْدِهِ} وهو أولى؛ لأنه أقرب إليه، ويجوز أن يكون يعود على {الْفُرْقَانَ}، وقرأ عبد الله بن الزبير: {على عباده} ويقال: أنذر إذا خوّف، وقد تقدم في أول البقرة، والنذير المحذر من الهلاك، قاله الجوهري، والنذير المنذر، والنذير الإنذار.

والمراد بـ {الْعَالَمِينَ} هنا الإنس والجن؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد كان رسولًا إليهما ونذيرًا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عامَّ الرسالة إلا نوح، فإنه عم برسالته جميع الإنس بعد الطوفان؛ لأنه بدأ به الخلق."

العموم في رسالة نوح- عليه السلام- عموم ضرورة أنه لا يوجد إلا هؤلاء الناس الذين أُمر بدعوتهم؛ لأن من عداهم غرق بالطوفان وانتهوا، وأما عموم رسالته- عليه الصلاة والسلام- فهو عموم مقصود لذاته، فهو بعث إلى الناس كافة، وهذا من خصائصه- عليه الصلاة والسلام-.

"قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الفرقان:2] عظَّم تعالى نفسه، {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} نزَّه- سبحانه وتعالى- نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله، يعني بنات الله- سبحانه وتعالى-، وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، جلَّ الله تعالى، وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك.

{وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما قال عبدة الأوثان، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء، ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد."

يعني: أنه يخلق فعل نفسه، وهذا قول القدرية، المعتزلة، يقولون: إن الإنسان يخلق فعله، وفعل العبد ليس من مخلوق الله- جلَّ وعلا-، ولذلك سموا مجوس هذه الأُمَّة؛ لمشابهتهم إياهم في إثبات خالق غير الله- جلَّ وعلا-.

"ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد، فالآية رد على هؤلاء، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [سورة الفرقان:2] أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة فهو الخالق المقدَِّر، فإياه فاعبدوه. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} [سورة الفرقان:3] ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته.

{لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} يعني الآلهة، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لمَّا اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع عبَّر عنها كما يُعِّبر عما يعقل."

فقال: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة الفرقان:3] يعني عبَّر عنهم بضمير الجمع، وأثبت لهم النون التي هي في الأصل للعقلاء، عاملهم معاملة جمع المذكر السالم، ولا يجمع على هذه الصيغة إلا من يعقل، هذا على سبيل التنزل لعابديهم الذين عاملوهم معاملة العقلاء.

"{وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [سورة الفرقان:3] أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف، وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء ولا لمن يعبدهم؛ لأنها جمادات، {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [سورة الفرقان:3] أي لا يميتون أحدًا ولا يحيونه، والنشور: الإحياء بعد الموت، أنشر الله الموتى فنشروا وقد تقدم، وقال الأعشى:

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبًا للميت الناشر

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة الفرقان:4] يعني مشركي قريش، وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحرث".

الحارث، ابن الحارث يكتبونها بدون ألف.

"القائل منهم ذلك النضر بن الحارث، وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير، قال محمد بن إسحاق: وكان مؤذيًا للنبي- صلى الله عليه وسلم-، {إِنْ هَذَا} يعني القرآن، {إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} أي كذب أختلقه، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني اليهود، قاله مجاهد.

وقال ابن عباس: المراد بقوله: {قَوْمٌ آخَرُونَ} أبو فكيهة مولى بني الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وقد مضى في النَّحل ذكرهم. {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا} أي بظلم، وقيل: المعنى فقد أتوا ظلمًا، {وَزُورًا* وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الفرقان:4-5] قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث، وقال غيره: أساطير جمع أسطار، مثل أقوال وأقاويل، {اكْتَتَبَهَا} يعني محمدًا، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أي تلقى عليه وتقرأ، {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} حتى تحفظ، و{تُمْلَى} أصله تُملل، فأُبدلت اللام الأخيرة ياءً من التضعيف، كقولهم: تقضّى البازي وشبهه."

مع إمكان الفك، يعني حصل هذا الإبدال مع إمكان أن يؤتى بالأصل فليملل، يعني فك الإدغام، والبقاء على الحروف الأصلية ممكن.

"قوله تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الفرقان:6] أي قل يا محمد: أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر فهو عالم الغيب فلا يحتاج إلى معلم، وذكر (السِّرَّ) دون الجهر."

"لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم، ولو كان القرآن مأخوذًا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها فليس مأخوذًا منها، وأيضًا ولو كان مأخوذًا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضًا، كما تمكن محمد- صلى الله عليه وسلم- فهلا عارضوه، فبطل اعتراضهم من كل وجه. {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [سورة الفرقان:6] يريد غفورًا لأوليائه، رحيمًا بهم.

قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان: 7] فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {وَقَالُوا} ذكر شيئًا آخر من مطاعنهم، والضمير في {قَالُوا} لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله.."

يعني أولًا طعنوا في الكتاب قالوا: أساطير الأولين، ثم طعنوا في النبي- عليه الصلاة والسلام- الذي أُنزل عليه الكتاب.

"وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مجلس مشهور، وقد تقدم في (سبحان) ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره، مضمنه: أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد، إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق، فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكًا، وعيَّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفَّعون عن الأسواق، وكان- عليه السلام- يخالطهم في أسواقهم ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فما له يخالف سيرة الملوك؟ فأجابهم الله بقوله وأنزل على نبيه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان: 20] فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها."

يعني زائل، زائل عنك عارها كما في المثل، ولا شك أن أهل الترفع والكبر لا يمشون مع الناس، ولا يغشون مجالسهم، هذا خلق أهل الكبر، التعالي والترفُّع عن الناس، حتى وجد منهم من لا يصلي في المسجد، فكيف يصلي -على حد زعمه- بين حمّال وزبّال، بعضهم يخشى على ثيابه أن تتسخ بملامسة ثياب الآخرين، وبعضهم يأنف أن يصاف فقيرًا، كل هذا ضروب من الكبر شنيعة.

نعم قد يوجد بعض الناس من فيه ما يُكره من أجله، إما رائحة أو جروح أو قروح، مثل هذا هناك مبرر يعني أن الإنسان لا يصافه، لكن بعض الناس بدون مبرر، يتعالى ويترفع، وقد عرف عن بعض الناس أنه لا يصلي مع الجماعة لهذا، هو موجود في القدم.

"الثانية: دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش، وكان- عليه السلام- يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل؛ لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق، وفي البخاري.."

دخول الأسواق لا شك أنها شر البقاع، لكن إذا ترتب على ذلك مصلحة أعظم، إما قضاء حاجة له أو لغيره أو لمزاولة دعوة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، كل هذه مصالح راجحة، وأسواق المسلمين لا يمكن أن تُترك للعوام الذين يزاولون من العقود ما فيه بعض المخالفات، أو للمتسوقة من الرجال والنساء وما يحصل من بعضهم من بعض المخالفات، مثل هؤلاء لا بد من غشيان الأسواق من أجل الإنكار عليهم.

وإلى وقتٍ قريب والوعاظ يأتون إلى الأسواق ويتكلمون، يصعدون على مكان مرتفع ويتكلمون ويعظون الناس، لكنه انقطع الآن، ما فيه إلا مسألة الإنكار، وعلى ضعفٍ شديد، والله المستعان.

"وفي البخاري في صفته- عليه السلام-."

نعم.

طالب: دخول بعض الأسواق للصالحين متميزة تجد كثيرًا من المنكرات ....

التي يكثر فيها المنكرات من أجل الإنكار؟

طالب: لا، ليس للحاجة؟

إذا لم يكن ثمّ حاجة لكن لمجرد مشاهدة المنكر وعدم القدرة على إنكاره لا يجوز؛ لأنَّ مشاهدة المنكرات منكر مع عدم الإنكار، يعني يقيم الحجة على نفسه.

طالب: ترى الأسواق يا شيخ متميزة من ....

ولو كان، هذا ما يكفي، ما يكفي هذا، وإلا فتح الباب للسياحة مع رؤية المنكرات واستمرائها وعدم إنكارها والذين جربوا هذا تساهلوا في كثيرٍ من الأمور، يعني بعد أن سافروا سياحة وفرجة ونزهة رجعوا بأفكارٍ متغيرة، تغيَّرت حياتهم بعد ذلك؛ لأن كثرة الإمساس تضعف الإحساس، أو تقلّله، وفي النهاية تقضي عليه، إذا كان الإنسان يرى هذا المنكر، وهذا الشرك، ولا يستطيع إنكاره، يرى المتبرجة ولا يستطيع أن ينكر عليها، ويرى الشاب يصنع ما يصنع، ويرى، لا بد من إنكاره أو هجره.

"وفي البخاري في صفته- عليه السلام-: «ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق»، وقد تقدم في (الأعراف)، وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح، وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، خرجه البخاري، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة -إن شاء الله-.

 قوله تعالى: {لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [سورة الفرقان:7] أي: هلَّا {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} جواب الاستفهام."

يعني هذا عرض وتحضيض، {لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [سورة الفرقان:7] هذه.

"قوله تعالى: {أَوْ يُلْقَى} [سورة الفرقان:8] في موضع رفع، والمعنى: أو هلا يلقى {إِلَيْهِ كَنزٌ} أو هلا {تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}، و{ يَأْكُلُ}"

يقترحون على الله- جلَّ وعلا- أن يفعل هذا، كما اقترحوا أحد رجلين من القريتين عظيم، إما أبو جهل أو عروة بن مسعود الثقفي، فهم يقترحون وليس لهم خيرة، وليس لهم أمر، ولا مدخل لهم في هذا.

"{يَأْكُلُ} بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين؛ لأنه قد تقدم ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- وحده، فأن يعود الضمير عليه أبين، ذكره النحاس.

{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [سورة الفرقان:8] تقدم في (سبحان)، والقائل عبد الله بن الزّبعرى فيما ذكره الماوردي.

قوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [سورة الفرقان:9] أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك {فَضَلُّوا} عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} إلى تصحيح ما قالوه فيك، قوله تعالى.."

{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [سورة الفرقان:9]

{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}  إلى تصحيح ما قالوه فيك.

نعم.

"قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ} [سورة الفرقان:10] شرط ومجازاة، ولم يدغم {جَعَلَ لَكَ}؛ لأن الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين."

جعلَّك.

"{وَيَجْعَل لَّكَ} في موضع جزم عطفًا على موضع {جَعَلَ}، ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعًا من الأول، وكذلك قرأ أهل الشام، ويروى عن عاصم أيضًا: {وَيَجْعَلُ لَّكَ} بالرفع: أي سيجعل لك في الآخرة قصورًا، قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرًا كائنًا ما كان، والقصر في اللغة: الحبس."

يعني ولو كان صغيرًا، بخلاف ما عليه عرف الناس من أن القصر لا يقال إلا للكبير.

"والقصر في اللغة: الحبس، وسمي القصر قصرًا؛ لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل: العرب تسمي بيوت الطين القصر، وما يتخذ من الصوف والشعر البيت، حكاه القشيري، وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبي- صلى الله عليه وسلم-: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئًا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة؟ فقال: «يجمع ذلك لي في الآخرة»، فأنزل الله- عزَّ وجلَّ-: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} [(سورة الفرقان:10].

ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-، وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم قال:"

مخرج هذا؟

طالب: قال: ضعيف جدًّا أخرجه الواحدي مطولًا عن ابن عباس، وفيه جويبر واهٍ بمرة والضحاك لم يلق ابن عباس، والخبر شبه موضوع.

طيب ويروى أن هذه الآية أنزلها؟

طالب: علق عليه وقال: هذا باطل والراوي لا يعرف من هو؟ ولم ينزل بالقرآن من الملائكة إلا جبريل.

هذا المعروف.

"وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم قال: يا محمد! رب العزة يقرئك السلام وهذا سفط، فإذا سفط من نور يتلألأ يقول لك ربك:"

بالقاف ولا بالفاء؟

طالب: بالقاف.

بالفاء.

طالب: سفط.

سفط.

"رب العزة يقرئك السلام وهذا سفط، فإذا سفط من نور يتلألأ يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة فنظر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل كالمستشير له، فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع، فقال: «يا رضوان لا حاجة لي فيها، الفقر أحب إلي، وأن أكون عبدا صابرًا شكورًا» فقال رضوان: أصبت! الله لك .. وذكر الحديث.

هذا أيضًا؟

طالب: قال: ضعيف جدًّا أخرجه الواحدي ...

نعم.

"قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} [سورة الفرقان:11] يريد يوم القيامة، {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} يريد جهنم تتلظى عليهم، {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة الفرقان:12] أي من مسيرة خمسمائة عام، {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم، وقيل: المعنى: إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظًا وزفيرًا، حرصًا على عذابهم، والأول أصح .."

لأنه لا يوجد ما يمنع من حصول هذا من جهنم نفسها -نسأل الله السلامة والعافية-.

"والأول أصح؛ لما روي مرفوعًا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدًا»."

المحفوظ والمعروف: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» وأما بهذا اللفظ؟

طالب: قال: أخرجه الطبري مختصرًا، وابن أبي حاتم.... عن تفسير ابن كثير عن خالد بن بريك قال: رجل من الصحابة وإسناده غير قوي، وإن صححه ابن العربي كما نقل عنه القرطبي -رحمه الله-، فإن فيه إرسالًا، قال الذهبي في الميزان: خالد بن بريك روايته عن الصحابة مرسلة، وفيه أصبغ بن زيد وفيه كلام، وهو في الضعيفة، وحكم عليه الألباني بالضعف.

نعم، ضعيف واضح.

قيل: يا رسول الله وهل لها عينان؟ قال: «أما سمعتم الله- عزَّ وجلَّ- يقول: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [سورة الفرقان:12] يخرج عنق من النار له عينان تبصران، ولسان ينطق، فيقول: وكّلت بكل من جعل مع الله إلهًا آخر، فلهو أبصر بهم من الطير بحبّ السمسم فيلتقطه»، وفي رواية: «فيخرج عنق من النار، فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم» ذكره رزين في كتابه .."

المسمى (تجريد الأصول) رزين له كتاب اسمه: (تجريد الأصول) جمع فيه الأصول الستة، ومع ذلك هو غير موجود، ويذكر ابن الأثير شيئًا من زوائده في جامع الأصول.

"وصحَّحه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة؛ كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكّلت بثلاث: بكل جبارٍ عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين»، وفي الباب عن أبي سعيدٍ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.

وقال الكلبي: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [سورة الفرقان:12] كتغيظ بني آدم، وصوتًا كصوت الحمار، وقيل: فيه تقديم وتأخير: سمعوا لها زفيرًا، وعلموا لها تغيظًا، وقال قطرب: التغيظ لا يسمع ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظًا، وسمعوا لها زفيرًا، كقول الشاعر:

ورأيت زوجك في الوغى

متقلدًا سيفًا ورمحا

أي: وحاملًا رمحًا، وقيل: {سَمِعُوا لَهَا} أي فيها، أي سمعوا فيها تغيظًا وزفيرًا للمعذبين، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [سورة هود:106] و (في) و (اللام) يتقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله.

قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [سورة الفرقان:13] قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح، ذكره ابن مبارك في رقائقه، وكذا قال ابن عباس ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبد الله بن عمرو، ومعنى {مُقَرَّنِينَ} مكتفين، قاله أبو صالح، وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، وقيل: قرنوا مع الشياطين: أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه."

الذي هو قرينه، وهذا قريب جدًّا، والقرن، التقرين إنما يكون للجمع بين أكثر من شيء.

"قاله يحيى بن سلام، وقد مضى هذا في (إبراهيم) وقال عمر بن كلثوم:"

عمرو

"وقال عمرو بن كلثوم:

فآبوا بالنهاب والسبايا

وأبنا بالملوك مقرنينا

يقول: أنهم رجعوا بعد هذه المقتلة، هم رجعوا بسبايا من الأموال، ورجعنا بالملوك، قرناهم وصفدناهم.

"{دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [سورة الفرقان:13] أي هلاكًا، قاله الضحاك وقال ابن عباس: ويلًا، وروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أول من يقوله إبليس، وذلك أنه أول من يُكسى حلة من النار، فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه، وهو يقول: واثبوراه»، وانتصب على المصدر: أي ثبرنا ثبورًا، قاله الزجاج، وقال غيره: هو مفعول به.

قوله تعالى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [سورة الفرقان:14] فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة، وقال: ثبورًا؛ لأنه مصدر يقع للقليل والكثير، فلذلك لم يجمع، وهو كقولك: ضربته ضربًا كثيرًا، وقعد قعودًا طويلًا، ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه.

قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [سورة الفرقان:15].

لفظ الثبور الواحد مثل لفظ الثبور الكثير، ثبور واحد، يعني لفظه واحد، سواءً كان واحدًا أو كثيرًا؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير.

"إن قيل: كيف قال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ} ولا خير في النار؟ فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة؟ وقد علم أن السعادة أحب إليه، وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير .."

يعني ليس من باب أفعل التفضيل؛ لأن النار لا خير فيها، فأفعل هنا خير، أصلها أخير، لكن هنا ليست على بابها؛ لأن النار لا خير فيها ولا مقارنة بينها وبين الجنة بوجهٍ من الوجوه، والأصل في أفعل التفضيل أنه يكون بين شيئين يشتركان في وصف يفوق أحدهما الآخر في هذا الوصف.

"قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال: فشرُّكما لخيركما الفداء، قيل: إنما قال ذلك؛ لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل، فقال ذلك؛ لتفاوت ما بين المنزلين، وقيل: هو مردود علي قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ} [سورة الفرقان:10] .. الآية، وقيل: هو مردود على قوله: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [سورة الفرقان:8]، وقيل: إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون: إن في النار خيرًا."

يعني بلسان الحال، وإن لم يكن بلسان المقال، فلما عملوا لها كأنهم زعموا أو ظنوا أن فيها خيرًا.

"قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ} [سورة الفرقان:16] أي من النعيم، {خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا} [سورة الفرقان:16]، قال الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاءً على أعمالهم، فسألوه ذلك الوعد فقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} [سورة آل عمران:194]، وهو معنى قول ابن عباس، وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة دليله قوله تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم} [سورة غافر:8] .. الآية، وهذا قول محمد بن كعب القرظي، وقيل: معنى {وَعْدًا مَسْؤُولًا} أي واجبًا، وإن لم يكن يسأل كالدين، حُكي عن العرب: لأعطينك ألفًا، وقيل: {وَعْدًا مَسْؤُولًا} يعني أنه واجب لك فتسأله، وقال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا، وأعطاهم ما طلبوا، وهذا يرجع إلى القوم الأول."

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، يكفي هذا.

"