التعليق على تفسير سورة الرحمن من تفسير الجلالين (01)

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله أصحابه أجمعين، أما بعد:

 

فمتابعة لتفسير المفصل من القرآن الكريم الذي بدأناه..

 

أما بعد: فاستكمالاً لما بدأناه من مشروع تفسير المفصل من القرآن الكريم في مواقع متعددة يكون نصيب هذا الجامع المبارك تفسير سورة الرحمن.

 

ولست بصدد تكرار ما قلناه مراراً في أهمية تفسير القرآن الكريم لطالب العلم ولغيره من عموم المسلمين؛ لأن القرآن كلام الله وخطاب الله لعباده، وأوامره ونواهيه، دستوره الخالد الذي لا يمكن العمل به إلا بعد فهمه، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- في طريقتهم لفهم القرآن، وتبعهم على ذلك سلف هذه الأمة وأئمتها أنهم لا يتجاوزون العشر الآيات من هذا القرآن إلا وقد عرفوا ما فيها من علم وعمل؛ لأن الغاية من فهم الكلام العمل به، الغاية من فهم كلام الله -جل وعلا-، وكلام نبيه -عليه الصلاة والسلام- العمل، العمل هو الثمرة العظمى، نعم قراءة القرآن فيها ثواب، وفيها فضل عظيم، وفي كل حرف عشر حسنات، لكن الثمرة العظمى هي العمل؛ لأنها من أجلها طلب العلم والتعلم، والجاهل لا يستطيع أن يعبد الله -جل وعلا- على مراده حتى يتعلم ما يدله على العمل الصحيح، وما ينير له الطريق، وما يوصله إلى الله -جل وعلا-.

 

هذا الكلام رددناه في مناسبات كثيرة، في مطلع كل سورة، فلسنا بحاجة إلى أن نفيض فيه، ونذكر الفوائد وكيفية التعلم لكتاب الله -جل وعلا-، هذا ما كررناه مراراً ولا داعي لذكره في هذا المقام؛ لأن تفسير سورة الرحمن فيه شيء من الطول، لكن مع ذلك نسدد ونقارب بقدر الإمكان أن تنتهي في ثلاثة الأيام المحددة -إن شاء الله تعالى-.

 

اعتمدنا في تفسير المفصل على أن يكون بأيدي الإخوان تفسير الجلالين، وذكرنا أن هذا أفضل من التفسير المرسل، الذي لا يتقيد بكتاب؛ لأن التفسير المرسل لا ينتهي، لا ينتهي، ويكون الكلام في بعض الآيات على حساب الكلام في البعض الآخر، كالمنهج بيد طالب العلم أن يعتني بتفسير مختصر، يكرر النظر فيه ويراجعه، يكون بيده سفراً وحضراً، ومن أنسب التفاسير المختصرة لعموم طلاب العلم، بل لعامة المثقفين تفسير الشيخ ابن سعدي، وتفسير الشيخ فيصل بن مبارك (توفيق الرحمن لدروس القرآن) تفسير الجلالين هذا تفسير متين لا يصلح إلا لطالب علم ينوي تأصيل نفسه في هذا الفن، وأشبه ما يكون بالمتون، ولذلك وضعت عليه الحواشي الكثيرة لأهميته لطالب العلم، ولمتانة أسلوبه وقوته، فيه بعض المخالفات العقدية التي يمر التنبيه عليها -إن شاء الله تعالى- في مواطنها، إضافة إلى ما مر سابقاً، تفسير النصف الثاني من الكهف إلى آخره لجلال الدين المحلي الشافعي، بدأ من الكهف إلى أن انتهى ثم عاد ففسر الفاتحة ثم وافته المنية قبل إكماله فأكمله جلال الدين السيوطي على نفس الطريقة والمنهج، ولذا قيل له: تفسر الجلالين، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي.

 

يقول -رحمه الله تعالى-: "سورة الرحمن مكية" والسورة مكية وعرفنا الفائدة من بيان المكي من المدني، قلنا: في مناسبات ما قاله أهل العلم في الحد الفاصل بين المكي والمدني: أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها، يستفاد من ذلك معرفة المتقدم من المتأخر، وبذلك نستطيع أن نعرف الناسخ من المنسوخ.

 

يقول: "مكية" يعني كلها وهذا قول، "أو إلا {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [(29) سورة الرحمن] وهذا هو القول الثاني "الآية فمدنية" والعلماء يقولون: إن الآية التي تليها معها {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(30) سورة الرحمن] فيكون المستثنى من كونها مكية آيتين لا آية واحدة، ويقول: "مكية" هذا القول معروف، هذا قول أكثر أهل العلم، القول الثاني: "أو إلا {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [(29) سورة الرحمن] الآية.." يعني اقرأ الآية، والآية التي بعدها تبع لها {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(30) سورة الرحمن]، فالمستثنى آيتان لا آية واحدة، ومنهم من قال: إن السورة كلها مدنية هذا قول ثالث في المسألة، لكنه قول مرجوح؛ لأنه ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قرأها ليلة الجن، وهذه بمكة على ما سيأتي من عتاب الصحابة، من عتاب النبي -عليه الصلاة والسلام- لصحابته حينما قرأ عليهم وسكتوا ولم يتكلموا بشيء، وسيأتي الإشارة إليه -إن شاء الله تعالى-.

 

يقول: "وهي ست أو ثمان وسبعون آية" وهي ست أو ثمان وسبعون آية، يعني الفرق بين القولين آيتين، قد يقول قائل: أين ذهبت الآيتين على القول بأنها ست وسبعون؟ ومن أين جيء بالآيتين على القول بأنها ثمان وسبعون آية؟ الخلاف في العد لا في الزيادة والنقصان، القرآن مصون عن الزيادة والنقصان، تولى الله -جل وعلا- حفظه، وتكفل بذلك، ولم يكله إلى غيره، الكتب المنزلة كلها استحفظوا عليها فلم يحفظوها ووقع فيها التحريف والتبديل، وأما هذا القرآن فقد تولى الله -جل وعلا- حفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر] فهو مصون من الزيادة والنقصان، من زعم أن هناك حرف زائد أو ناقص هذا يكفر عند علماء الإسلام؛ لأن ما بين الدفتين اتفق عليه الصحابة، فما كان خارج عن مصحف عثمان، الذي أرسله إلى الأمصار، واتفق فيه مع الصحابة ليس بقرآن، قد يروى قراءات لكنها إلى التفسير أقرب، أو من الحروف المنسوخة؛ لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف مراعاةً لحال من أنزل إليهم؛ لأن فيهم الكبير الذي لا يطاوعه لسانه لقراءة بعض الكلمات فوسع على الناس، وسع على الناس أن يقرؤوا القرآن على سبعة أحرف، وهذا شيء مشاهد، لو يأتي عامي عمره سبعون أو ثمانون سنة وهو لم يقرأ تريد أن تقرئه سورة تعبت معه تعباً شديداً، تعبت معه تعباً شديداً، وسمعت من يلقن عامياً في فجر يوم الجمعة سورة الكهف، سورة الكهف نصف جزء تحتاج إلى عشر دقائق بالترتيل، بالقراءة المأمور بها، إلى عشر دقائق أو اثنا عشر دقيقة وبالهذ يكفيها خمس ست دقائق، يلقنه هذه السورة في ساعة ونصف حرفاً حرفاً، فكبار السن لا تطاوعهم ألسنتهم، ونزل القرآن على جمع من هذا النوع، فاحتيج إلى أن يوسع في الأمر مراعاةً لهم فيقرؤونه على سبعة أحرف، وإلى وقت قريب والقراءة في الكتاتيب تجمع الصغير والكبير، وأعرف شخصاً ترك القرآن من أجل كلمة عجز أن ينطقها، فلم يتجاوزها القارئ المكتِب المعلم {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} [(6) سورة العلق] وهو يقرأها ليطقى، ثم يضربه المعلم، ثم يعود إليها فيكررها، أخيراً ترك قراءة القرآن، لو وفق المعلم وتجاوز هذه الكلمة كونه يترك كلمة ثم يعود إليها يعرفها فيما بعد -إن شاء الله تعالى- فمراعاة حال هؤلاء وهذه نصيحة لإخواننا الذين يتولون تعليم القرآن بالنسبة للكبار سواءً من الرجال أو من النساء أن يرفقوا بهم، ويعاملوهم على حد أو على حسب ما يطيقون؛ لأن البديل الترك، الترك ليس بحل، البديل لهؤلاء الترك أن يتركوا تعلم القرآن، وهذا ليس بحل، وكونهم يدركون ما يدركون منه على أي وجه لا يدخل في المحظور بركة.

 

القرآن مصون من الزيادة والنقصان وهنا يقول: "ست أو ثمان وسبعون آية" لا زيادة حرف ولا نقص حرف، إنما الاختلاف في عد البسملة آية فيكون الفرق آية واحدة، وعد {الرَّحْمَنُ} [(1) سورة الرحمن] آية مستقلة، أو بعض آية، فيكون {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [(1-2) سورة الرحمن] آية، وهذا في جميع القرآن، يعني العد البصري والعد الكوفي والعد كذا على حسب ما يرون في البسملة، وفصل بعض الآيات عن بعضها، بعضهم يجعل الآية آيتين، وبعضهم يجعلها آية واحدة، مثل الفاتحة الآن، الفاتحة سبع آيات {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} [(87) سورة الحجر] سبع آيات، وتجدون في المصاحف بعضها البسملة معدودة والعدد سبع، وفي بعضها البسملة غير معدودة والعدد سبع، والسبب {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [(7) سورة الفاتحة] إما أن تكون آية كاملة أو نصف آية، فإن عددنا البسملة قلنا: نصف آية، وأكملنا إلى آخر السورة آية واحدة، وإذا قلنا: البسملة آية..، إذا قلنا: إنها آية عددنا الآيتين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [(7) سورة الفاتحة] آية واحدة، وإذا قلنا: البسملة ليست بآية، وبدأنا من {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(2) سورة الفاتحة] الأولى قسمنا هذه الآية إلى آيتين، وهذا أمر معروف، وهذا لا يتأثر به القرآن، القرآن مصون من الزيادة والنقصان، يعني العد هذا لا تأثير له، لكن الإشكال أن يفهم أنه ما دام قال واحد: ست وسبعين وقال: ثمان وسبعين الفرق آيتين وين راحت الآيتين؟ أين ذهبت الآيتان؟ لا، لا ما ذهب شيء ولا يحتمل زيادة ولا نقصان إنما مرد الخلاف هذا.

 

يقول: "{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"

 

سور القرآن افتتحت بالبسملة بدءاً من الفاتحة وختماً بالناس، يختلف أهل العلم في البسملة هل هي آية من كل سورة أو ليست بآية مطلقاً وإنما كتبها الصحابة للفصل بين السور؟ أو هي آية واحدة آية واحدة نزلت للفصل بين السور، هي آية لا من سورة بعينها بعد إجماعهم على أنها بعض آية من سورة النمل، بعض آية من سورة النمل في أثنائها، وأنها ليست بآية بالاتفاق في أول براءة، وما عدا ذلك هو محل الخلاف وبسطه لا يحتمله المقام.

 

{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

 

{الرَّحْمَنُ} [(1) سورة الرحمن] اسم من الأسماء الحسنى، لا يسمى به غير الرب -جل وعلا-، لا تجوز التسمية به، وأما تسمية مسيلمة الكذاب برحمن اليمامة هذا من شدة عتوه وعناده وعناد أتباعه، وإلا فالاسم خاص بالله -جل علا-، وأما بالنسبة للفظ الجلال (الله) فهذا الله -جل وعلا- قبض الألسنة عن أن يسمى به، وهو خاص به، وهناك أسماء مشتركة مثل الكريم، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، العزيز {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [(51) سورة يوسف] والله -جل وعلا- هو العزيز.

 

هناك أسماء مشتركة وهناك أسماء خاصة بالله -جل وعلا-، والرحمن من الأسماء الخاصة بخلاف الرحيم، الرحيم مشترك، والرحمن تقدم شرحه في البسملة يعني في أول الفاتحة، وشرحنا البسملة هناك من أراد أن يراجع شرحها فهي موجودة ومتداولة، تفسير الفاتحة موجود يعني في أربعة أشرطة متداول.

 

{الرَّحْمَنُ} [(1) سورة الرحمن] على القول بأنها آية مستقلة قالوا: نحتاج إلى تقدير إما مبتدأ أو خبر، فإما أن نقول: اللهُ الرحمنُ هذا على تقدير مبتدأ، أو يقال: الرحمن ربنا، على تقدير أن الرحمن مبتدأ يحتاج إلى خبر، {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [(1-2) سورة الرحمن] يقول: "علم من شاء القرآن" الرحمن الرب -جل وعلا- علم من شاء القرآن، يعني من شاء هدايته، ومن شاء أن يكون من خير هذه الأمة ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) من شاء له التوفيق في أمور دينه ودنياه يعلمه القرآن، بخلاف من صد عن تعلم القرآن، أو تعلمه ولم يقم به، علم من شاء، وبعضهم يقدر المفعول الأول بجبريل، علم جبريل القرآن، وجبريل نزل به إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومنهم من يقدر المفعول الأول بدلاً من التعميم من شاء بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، علم محمداً القرآن، وهذا رد لقول المشركين {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [(103) سورة النحل] والتعميم يشمل جبريل -عليه السلام-، ومحمد -عليه الصلاة والسلام-، ويشمل من أراد الله به خيراً من هذه الأمة، وفيهم كثرة -ولله الحمد-، سلف هذه الأمة وأئمتها عنايتهم بالقرآن لا تحتاج إلى استدلال، فلا يعرف عالم من علماء المسلمين المتقدمين من ليس له عناية بالقرآن أبداً، نعم قد يوجد في العصور المتأخرة من ينتسب إلى العلم ويهتم بالحديث ويقصر في القرآن، يوجد من يعنى بالعقيدة ويقصر في جانب القرآن، يوجد من يعنى بالفقه والأحكام من الحلال والحرام ويقصر في القرآن، لكن من علماء الأمة الربانيين الذين يستحقون هذا اللقب هذا لا يعرف فيهم، ولذا في تراجمهم ما عرفنا إلا في ترجمة ابن أبي شيبة قالوا: إنه لا يحفظ القرآن، وأما غيره ما نص عليه، دليل على أن تعلم القرآن وتعليم القرآن قاسم مشترك للعلماء كلهم من مفسرين ومحدثين وفقهاء وغيرهم، ممن له عناية بالعلم الشرعي، وعلم من شاء القرآن، فـ(علّم) يتعدى إلى مفعولين، والقرآن يطلق ويراد به المصدر القراءة، ويطلق ويراد به اسم المفعول أي المقروء، وإذا تعلم القراءة تعلم المقروء؛ لأن القرآن كما يطلق على ما بين الدفتين من كلام الله -جل علا- يطلق أيضاً على القراءة.

 

...................................

 

يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

 

يعني قراءة للقرآن، ومن فروع هذه المسألة الخلاف في اللفظ بالقرآن هل المراد به المقروء الملفوظ به أو يراد به اللفظ الذي هو المصدر القراءة؟ وهذه مسألة معروفة عند أهل العلم ومبحوثة وشددوا فيها، شدد فيها سلف هذه الأمة؛ لئلا يتطرق القول أو إلى عقيدة المسلم القول بخلق القرآن، ومعروف الخلاف في مسألة اللفظ بين الإمام البخاري والذهلي، وكلهم من أئمة الإسلام، لكن سلف هذه الأمة وأئمتها يحسمون هذه المادة، ولا يقبلون التفصيل في هذا.

 

{عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(2-3) سورة الرحمن] خلقه أوجده من العدم، والمراد بالإنسان "الجنس" جنس الإنسان، من آدم -عليه السلام- إلى آخر مخلوق من هذا الجنس، الله -جل وعلا- هو خالقه، وأما ما يزعمه البشر من أنهم يخلقون نعم يفعلون ويصنعون، والله -جل وعلا- هو خالقهم، وخالق ما يعملون، خالق أفعالهم، ويزعمون أنهم يخلقون إنسان يسمونه آلي، لكنه في الحقيقة ليس بإنسان، فالخالق للإنسان هو الله -جل وعلا-، والإنسان هو الذي يأنس ويؤنس به، فهذه الآلة التي يخلقونها ويزعمون أنها إنسان آلي لا تأنس ولا يؤنس بها جماد، ولن يستطيعوا أن يخلقوا ما فيه روح، ولو اجتمعوا على ذلك، وتضافروا عليه، ولن يستطيعوا أن يخلقوا أقل المخلوقات شأناً وهو الذباب، ولو اجتمعوا له، يعني لو اجتمعت قوى الشرق والغرب ما استطاعوا أن يخلقوا ذباباًَ، كما قال الله -جل وعلا- في آخر سورة الحج.

 

{خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(3) سورة الرحمن] أي جنس الإنسان {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [(4) سورة الرحمن] والمراد بالبيان "النطق" ما يبين به عما في ضميره، النطق هذا هو الذي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، يشارك كثيراً من الحيوانات النامية في الحياة والنمو لكنه ينفصل عنهم، وينفرد عنهم بالنطق، فإذا قيل: حيوان ناطق، لا يدخل فيه غير الإنسان، هذا وصف كاشف مخرج لجميع أفراد ما ينطبق عليه الحيوان، فإذا قيل: ناطق، انتهى، خرج ما عدا الإنسان، ولذلك قال: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [(4) سورة الرحمن] "النطق" فهو الذي يستطيع أن يبين عما في نفسه، وبقية الحيوانات عجماوات، وجاء في الحديث: ((العجماء جبار)) يعني جناية العجماء –الدابة- جبار؛ لأنها عجماء لا تبين عن نفسها، عما في نفسها فهي عجماء، من ذلك سمي الأعاجم والعجم هذا الذين لا ينطقون بالعربية، فباعتبار أن العربية هي لغة الكتاب والسنة فكأن ما عداها لا قيمة له، لا يستطيع أن يبين عما في نفسه بالنسبة لهذه اللغة، ولذلك قوبلت الأعجمية بالعربي {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [(44) سورة فصلت]

 

{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [(4) سورة الرحمن] "النطق" {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [(5) سورة الرحمن] قال: "يجريان" لكن لو قدم المتعلق الذي هو الفعل وهو في الحقيقة خبر على ما يتعلق به لكان أولى، لو قال: الشمس والقمر يجريان بحسبان، اللي معه التفسير يلحظ هذا، قال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [(5) سورة الرحمن] "يجريان" لو قال: الشمس والقمر يجريان بحسبان؛ لأن الأصل تقديم المتعلق، فبحسبان جار ومجرور متعلق بيجريان، الشمس تجري لمستقر لها والقمر كذلك يجري، وكل في فلكه، فلا يتقدم أحدهما على الآخر بنظام بديع مرتب، لا يختل إلا إذا اختل حال العالم {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [(40) سورة يــس] أمور مرتبة بدقة عجيبة متتابعة تتابعاًَ بديعاً، فالشمس آية النهار، والقمر آية الليل، محيت آية الليل فصار فيه الظلام، وبقيت آية النهار مبصرة فصار فيها الضوء والإشراق، ولذا يقولون: في الصباح ما يغني عن المصباح، إذا طلع الصباح انتهى، وفي الليالي المقمرة شيء من الضوء لكنه إشراق بدون إحراق، ضوء ضعيف بخلاف ضوء الشمس، وهما آيتان من آيات الله، أجراهما على هذا النظام البديع، ولا يتغيران ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، بل هما آيتان يخوف الله بهما عباده، وفائدتهما والحكمة من خلقهما لا تخفى على أحد، كما هي حكمة التغاير بين الليل والنهار، يعني لو تصورنا أن الكون كله مظلم، كله ليل سرمدي، أو نهار سرمدي اختل النظام، لا يتم المعاش على هذه الأرض على الوجه المطلوب، لا تدري اليوم من الأمس من الغد، معاملات الناس كلهم وأمورهم كلها تضطرب، لكن جعل هاتين الآيتين مما يتميز به الليل والنهار، وقبل وضع التاريخ فيه ليل ونهار، لكن فيه أيضاً شيء من الاضطراب، يعني وجود الليل والنهار يحل الإشكال، آتيك غداً نهاراً، آتيك غداً ليلاً، أو يحل المبلغ في النهار، يحل المبلغ في الليل، يحل شيء من الإشكال، لكن أيضاً معرفة التاريخ في غاية الأهمية، الذي هو من نتاج تغاير هاتين الآيتين، يعني جيء لعمر بصك فيه دين يحل في شعبان قبل التاريخ، فقال: شعبان الماضي أو شعبان المستقبل؟ قالوا: ما ذكر شيء، الوثيقة في شعبان، فوضع التاريخ -رضي الله عنه وأرضاه-، هذه الأمور معاش الناس لا يستقيم إلا بها، لا يستقيم أمر الناس إلا بها، وكان الناس يحددون ويؤرخون بالوقائع، ثم بعد ذلك صاروا يؤرخون بالسنين، وهذا من فائدة هاتين الآيتين المميزتين لليل من النهار، يجريان بحسبان، الشمس تجري، لكن ماذا عن قول أهل الهيئة وأنها ثابتة والأرض تدور حولها؟ هذا مخالفة للنص القطعي، ولذا أفتي بكفر من يقول بهذا القول، ثبوت الشمس القول به مخالف لقول الله -جل وعلا-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} [(38) سورة يــس] وأيضاً الشمس تجري في فلكها لا تحيد عنه ولا تميل ومع ذلك تسجد في آخر كل ليلة تحت العرش، وتستأذن بالطلوع في الحديث الصحيح، الحديث صحيح في أن الشمس تسجد تحت العرش في آخر كل ليلة تستأذن في أن تطلع من المغرب أو المشرق، ومع ذلكم هي في فلكها، لا يحس بها، وما جاء في النصوص الصحيحة لا بد من الإيمان به، ما يقول قائل: إنها تفقد..، كيف تفقد؟ يعني لو ذهبت وسجدت تحت العرش لا بد أن تفقد من فلكها والمشاهد أنها خلال الأربعة والعشرين ساعة تجري؟ نقول: نؤمن بهذا، ونسلم بما جاء عن وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- دون نقاش، ولا يقول قائل: إن الإسلام يلغي العقول، لا، إنما أتى بأمور تحتار فيها العقول؛ ليعرف الإنسان قدر نفسه، ولذا يقول أهل العلم: قنطرة الإسلام لا تثبت أو قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم، يعني هناك أمور لا بد أن تقف دونها، يعني العقل لا يمكن أن يدرك كل شيء، العقل محدود، يعني كما قرر في حديث النزول مثلاً إن الله ينزل في آخر كل ليلة يقرر شيخ الإسلام أن العرش لا يخلو منه؛ لأنه مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، هذه أمور لا بد من التسليم فيها، لا بد من أن يسلم الإنسان فيها، وإذا حصل عنده أدنى شك فيما ثبت عن الله وعن رسوله فمآله ومصيره إلى الضلال المبين، كما حصل لأصول أو لكبار المبتدعة ابتلوا بمثل هذه المناقشات، وزعموا أن عقولهم تدرك كل شيء وبعد ذلك صدر عنهم ما يضحك منه المجانين والأطفال، عقوبة من الله -جل وعلا-، فعلى الإنسان الحريص على سلامته أن يستسلم، والإسلام هو الاستسلام، هو الاستسلام لله -جل وعلا-.

 

{وَالنَّجْمُ} [(6) سورة الرحمن] والنجم يقول المفسر: "ما لا ساق له من النبات" {وَالشَّجَرُ} [(6) سورة الرحمن] ما له ساق" يعني النجم لا ساق له مما يمتد على وجه الأرض، يمتد على وجه الأرض، ما له ساق يرفعه عن الأرض، والشجر الذي له ساق، له جذع، وله فروع، أما النجم يمتد على وجه الأرض، ولا ساق له يرفعه عنها، هذا ما مشى عليه المؤلف وهو أحد القولين بالنسبة للنجم، فمنهم من يقول: إن النجم هو جنس النجوم الموجودة في السماء، والتي تظهر للناظر بالليل، النجم واحد النجوم، أو هو جنسها لأن (أل) هذه يحتمل أن تكون جنسية فتشمل جميع النجوم، ويحتمل أن تكون عهدية فتطلق على نجم واحد، وهو الثريا كما تقدم فيما مضى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [(1) سورة النجم] النجم "ما لا ساق له من النبات" نعم يطلق عليه نجم في لغة العرب "والشجر ما له ساق" {يَسْجُدَانِ} [(6) سورة الرحمن] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [(6) سورة الرحمن] لله -جل وعلا-، فيخضعان لما يراد منهما، وسجود كل شيء بحسبه؛ لأنه قد يقول قائل: أنا والله ما رأيت عمري كله أنا فلاح منذ سبعين سنة ما رأيت شجرة ساجدة، لكن أنت لا تحس بمثل هذا، لا تحس بمثل هذا، لكن {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [(44) سورة الإسراء] تسبح تذكر الله على حسب حالها، إما بلسان المقال والقدرة الإلهية صالحة لمثل هذا، بل أعظم منه {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [(11) سورة فصلت] أو بلسان الحال بعدم امتناعها مما يطلب منها، ولذا يقول: {يَسْجُدَانِ} [(6) سورة الرحمن] "يخضعان لما يراد منهما" هل تمتنع الشجرة من الإثمار المراد منها؟ نعم قد يوجد قد لا يوجد السبب، وقد يوجد السبب ويوجد مانع، لكن إذا وجد السبب وانتفى المانع فالأثر حاصل بإذن الله -جل وعلا-، فيخضعان لما يراد منهما، يراد من الشجر الثمرة، يراد من الشجرة الظل، يراد من النجم كذلك، يراد من النجم على القول بأنه نجوم السماء ما خلقت من أجله من الحكم الثلاث المعروفة: زينة للسماء، وهداية للناس، ورجوم للشياطين، هل يؤمر النجم بأن يرجم شيطان فيتأخر؟ لا، "يخضعان لما يراد منهما".

 

{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [(7) سورة الرحمن] السماء رفعها: منصوب بفعل يفسره المذكور، التقدير ورفع السماء رفعها، ووضع الميزان "أثبت العدل" لأن العدل إنما يتم في الموزونات بالوزن، وفي المكيلات بالكيل، في المذروعات بالذراع وهكذا، {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [(7) سورة الرحمن] المراد منه العدل، والظلم محرم، حرمه الله -جل وعلا- على نفسه، كما جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) ولذا توزن أعمال العباد يوم القيامة؛ لئلا يكون للناس حجة على الله -جل وعلا-، والله عالم بما يعملون قبل عملهم، وعالم به بعد عملهم به، وما يؤولون إليه، وكتب على كل إنسان ما يؤول إليه أمره من سعادة أو شقاوة، ومع ذلكم وضع الموازين ليقطع الحجج على المحتجين، وإلا فالمعتزلة كما هو معروف ينكرون الميزان، يقولون: ما له داعي، الله -جل وعلا- يعرف أعمال العباد حسنها وسيئها، لكنه الله -جل وعلا- جرت حكمته على إخراج هذا المعلوم من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، بحيث يراه الإنسان ويطمئن، أحياناً تأتي إلى البائع ويكون ثقة وتقول له: أعطني عشرة كيلو من كذا فيعطيك، يعطيك شيء في كيس جاهز، يقول: هذه عشرة كيلو، وهو ثقة نعم تأخذ هذا لكنك يبقى في نفسك شيء لماذا لا يزن الميزان موجود؟ يا أخي ضعه في الميزان من أجل إيش؟ أن يطمئن قلبي، من أجل أن يطمئن قلبي، فإذا وضعه في الميزان خلاص انتهى الإشكال ما في أدنى تردد، فالله -جل وعلا- رفع السماء بغير عمد ترونها، بغير عمد ترونها، وما قاله أهل العلم في القيد "ترونها" هل هو وصف مؤثر أو غير مؤثر؟ له مفهوم أو لا مفهوم له؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم؛ لأن مفاد قوله: {تَرَوْنَهَا} [(10) سورة لقمان] أن لها عمد، لكن هذه العمد لا ترى، هذا إذا قلنا: إن الوصف مؤثر، وإذا قلنا: إنه غير مؤثر ولا مفهوم له، قلنا: إن السماء رفعت بغير عمد البتة، وقوله: {تَرَوْنَهَا} [(10) سورة لقمان] يعني من شأن المعدوم ألا يرى، وإنما هو مجرد وصف لا مفهوم له، وإذا قلنا: إن له مفهوم قلنا: إن السماء رفعت بعمد لكنها لا ترى.

 

{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [(7) سورة الرحمن] من أجل العدل، وضع الميزان ليتعامل به الناس، ووضعه أيضاً يوم القيامة {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [(47) سورة الأنبياء] فمن أجل العدل وضع الميزان، وضعه بالنسبة إلى الخلق فيما بينهم، وبالنسبة لوزن أعمالهم، ووزنهم أو وزن بعضهم يوم القيامة، فيؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، فأحياناً يكون الموزون العمل، وأحياناً يكون الموزون العامل، وأحياناً يكون العامل مع عمله.

 

{أَلَّا تَطْغَوْا} [(8) سورة الرحمن] "أي: لأجل أن لا تجوروا" لأجل أن لا تجوروا، {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [(8) سورة الرحمن] من أجل إيش؟ ألا تجوروا، ولا تظلموا غيركم، والطغيان مجاوزة الحد، لو لم يوجد هذا الميزان وقلت له: أعطني بمبلغ كذا من هذا التمر أو من هذا البر فلا يؤمن أن يطغى البائع أو الشاري، فالبائع يطفف ويعطيه أقل مما يستحق، وإن ترك الأمر للمشتري زاد في الكمية، لكن وجد هذا الميزان من أجل ألا تطغوا، ألا تطغوا أي لأجل ألا تجوروا في الميزان، يعني ما يوزن به، ذو الكفتين، الميزان له كفتان، واحدهما، أو واحدتهما إيش؟ كفة، وبالنسبة لما يوضع في الثوب يقال له: كُفة، يقولون: كل مستدير كِفة، وكل مستطيل كُفة.

 

{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [(9) سورة الرحمن] "بالعدل" وأقيموا الوزن بالقسط يعني بالعدل، وكرر الأمر بالعدل والوزن والميزان ولئلا تطغوا، ولئلا تجوروا، كل هذا من أجل بيان شناعة الظلم والبغي والطغيان؛ لأنه هو المقابل للعدل.

 

{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [(9) سورة الرحمن] أقيموا الوزن بالقسط، بالعدل، لا يزيد، الأصل أن لسان الميزان مستوي، لسان الميزان مستوي لا يزيد ولا ينقص، هذا الأصل، هذا العدل، لكن هناك فضل، تجد بعض الناس إذا وزن ما يجعل لسان الميزان مستوي ينزل شوية وهذا فضل، أما بالنسبة لو عكس وجعل الموزون أخف من المطلوب هذا تطفيف -نسأل الله العافية-.

 

{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [(9) سورة الرحمن] "تنقصوا الموزون" فالأصل أن يتساوى لسان الميزان..، الموزون مع ما يوزن به هذا الأصل، هذا هو العدل، لكن إن زاد فهو فضل وإن نقص فهو تطفيف{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [(9) سورة الرحمن] أي: "تنقصوا الموزون" لأن بعض الناس من شدة تحريه للعدل وإن كان الفضل أفضل من العدل الفضل أفضل من العدل، تجده إذا وزن برتقال مثلاً إن وضع واحدة رجحت وإن رفعها قل الموزون، وهذا لا يريد أن يتفضل ما جبل على فضل، نعم، وهذا شاهدناه من بعض الناس، يصير مجبول على شيء من الشح ولا...، يمكن لو يتيسر له أنه يطفف يمكن ما يتأخر لكن الزبون أمامه، فلا يريد الفضل هو فيأتي بمادة ثانية من نوع ثاني فاكهة أخرى تكون أخف فيضعها من أجل لا تظلمون ولا تظلمون، هذا عدل ما في إشكال، لكن يبقى أن الفضل لا تنسوا الفضل.

 

والوزن كما يكون بالمحسوسات يكون أيضاً في المعاني، والعدل كما يطلب في وزن المحسوسات يطلب أيضاً في وزن المعاني، لا بد من العدل، العلماء حينما تكلموا في الرواة جرحاً وتعديلاً اهتموا بمسألة العدل، لا يجوز أن يجرح الراوي بأكثر مما فيه، كما أنه لا يجوز أن يعطى من الأوصاف والثناء ما يغرر بقبول خبره، وهو مما لا يقبل خبره، يعني لا بد أن يوزن الرجال بالقسط، وأعني بالرجال من يحتاج إلى وزنهم، من يحتاج إلى وزنهم، السنة لا تثبت إلا بالأسانيد، والأسانيد مشتملة على رواة، وكل راوٍ من الرواة له منزلة عند أهل العلم، لا يجوز أن ينزل عنها بحيث يرد خبره، ولا يجوز أن يرفع من شأنه بحيث يقبل خبره، وهو في الأصل لا يقبل خبره، لا بد من العدل، لا بد من الإنصاف، تجد بعض الناس إذا تكلم في بعض الأشخاص نسي الحسنات، وبعضهم إذا تكلم نسي السيئات، أولاً: الكلام في الناس وفي أعراضهم ينبغي أن يتقيه، أن يتقيه المسلم المتحري الحريص على براءة ذمته إلا بقدر الحاجة، يعني إن احتيج إليه، جاء شخص يسألك يستشيرك يقول: تقدم لنا فلان لخطبة البنت مثلاً تشير عليه، إذا كان فيه ما يمدح بسببه تمدح، وإذا كان فيه ما يذم بسببه تذم، ويكون هدفك بذل النصح لصاحبك، لا يكون هدفك التفكه بعرض فلان أو علان، ويكون بقدر الحاجة، وما زاد عن الحاجة يعود إلى الأصل وهو المنع، وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار، يقول ابن دقيق العيد: "وقف على شفيرها العلماء والحكام" فالعلماء يحتاجون إلى الكلام في الناس، الحكام يحتاجون إلى الكلام في الناس، فلا تجوز الزيادة عن الحاجة، وأن يكون الكلام بالعدل بالقسط، لا يزاد في حق فلان ولا..؛ لأنه لو زدت في حقه ورفعته فوق شأنه إن كان راوياً جعلت الناس يقبلون خبره، وهو في الحقيقة خبره غير مقبول، هذا ضرر عظيم، وإن نقصت من شأنه جعلت الناس يردون حديثه، وقد يكون حديثه مقبول، فأنت غررت بهم، وإن كان مما يسأل عنه من أجل ولاية ونحوها إن رفعت من شأنه غششت به الأمة، وإن حططت من شأنه ظلمته وظلمت غيره، فلا بد من العدل، والإنسان ما دام في عافية ما علق هذا الأمر به ولا أنيط به فعليه أن يحرص على إبراء ذمته؛ لأن العدل في مثل هذه الأمور فيه صعوبة، يعني إذا سئلت عن شخص قد تمدحه اليوم وتذمه غداً، إما أن يكون قد ظهر لك من أمره ما لم يظهر، أو يكون تعامله معك في هذا اليوم تغير، مع أن العدل مطلوب سواءً تعامل معك على وجه حسن ترضاه ويروق لك، أو خلاف ذلك، فنعتني بهذا ونهتم به، والإنسان لا يأتي يوم القيامة مفلساً، يجمع الحسنات من الصيام والصلاة والزكاة والبر وغيرها وطلب العلم والتعليم ثم بعد ذلك يأتي يوزع هذه الحسنات على غيره، فيكون مفلساً، كما جاء في الحديث الصحيح، يحرص على أن يحافظ على ما اكتسبه، والوزن مثل ما ذكرنا كما يكون في المحسوسات يكون أيضاً في المعنويات، فلا بد من العدل، ولا بد من القسط.

 

{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [(10) سورة الرحمن] وضعها: "أثبتها" وثبتها وأرساها لئلا تميد ولا تضطرب؛ لأنها لو مادت أو اضطربت ما تم العيش عليها براحة، والأرض وضعها: أثبتها، وبالجبال أرساها، أرساها بالجبال الرواسي لتثبت، فلا تميد بالخلق بالأنام الذين على ظهرها من الجن والإنس وغيرهم، ولو مادت واضطربت وحصل لها ذلك لأصيب الناس بالذعر، كما هو شأن الهزات الأرضية والزلازل -نسأل الله السلامة والعافية-، والحكمة من وجود هذه الجبال هو إرساء الأرض وتثبيتها من أجل أن تثبت لهؤلاء الأنام، لهؤلاء الخلق الذين جعلت لهم كالمهد، فيلازمونها كما يلازم الصبي مهده، ولذا القضاء على هذه الجبال لا شك أنه مخالف للحكمة الإلهية من وجودها، ونرى الأمر يزداد في هذه الأيام في إزالة الجبال من أجل..، لا شك أنه من أجل الانتفاع بهذه الأرض، لكن هل المقصود بالانتفاع لذاته أو للكسب المادي؟ لا شك أن الذين يفعلون هذا يريدون الكسب، وكونهم يزيلون هذه الجبال التي حكمتها إرساء الأرض وتثبيت الأرض، يقولون: نضع مكان هذه الجبال مشاريع عملاقة، عمارات طويلة أطول من هذا الجبل، نقول: مهما كانت لن تكون بمنزلة هذا الجبل في إرساء الأرض، نعم إذا دعت مصلحة عامة صار هذا الجبل في طريق لا بد منه، لا بد من سلوكه فهذا له شأن، لكن تبقى الجبال من أجل إرساء الأرض وتثبيتها.

 

{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا} [(10) سورة الرحمن] يعني "أثبتها" {لِلْأَنَامِ} [(10) سورة الرحمن] "للخلق للجن والإنس وغيرهم" لمن يعيش على ظهرها، ومن يقول بأن الأرض تدور مثلاً وأهل الهيئة يتفقون على أنها تدور حول الشمس، وعرفنا أن من يقول بأن الشمس ثابتة حكم أهل العلم بكفره؛ لأنه مصادم للنص، وبالنسبة للأرض والقول بدورانها مسألة معروفة عند أهل الهيئة ويتفقون عليها، واستنكر هذا القول، ورد عليه في أول الأمر، ثم بدأ الناس من كثرة ما يسمعون من هذا الكلام، وما ذكر لهم من أدلة قد يقتنع بها بعضهم، وما زال أهل العلم يرون أن الأرض ثابتة راسية، على ما جاء في النصوص، وإن كان بعضهم يقول: إن دورانها لا ينافي ثبوتها ولا رسوها، ثابتة باعتبار أنها لا تضطرب ولا تهتز ولا يتأثر من فيه، وتتحرك حركة لا يشعر بها، كما جاء في الجبال يوم القيامة {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [(88) سورة النمل] فهذه الأرض تدور بمن فيها على ما قالوا، ومثل هذه المسائل التي لا يسأل عنها الإنسان، وليس لها نتيجة عملية، لو ترك البحث فيها كان أولى؛ لأن بعض الناس يصرف الوقت الطويل لبحث مثل هذه المسائل فيما لا جدوى له، سواءً كانت ثابتة أو تدور على ظهرها، على الإنسان أن يعبد الله -جل علا- على حسب ما طلب منه، وهو تحقيق العبودية، وبعض العلماء مثل الشيخ ابن باز -رحمه الله- ألف في المسألة مؤلف، ألف في هذه المسألة مؤلف، وشدد في مسألة دوران الأرض، وبعضهم من حكم بكفره من يقول: بدورانها؛ لأن النصوص جاءت بأنها راسية وثابتة، وإن كان الطرف الثاني يقول: إنها مع دورانها راسية وثابتة، يعني مثل ما تقول في بعض السيارات وهي تسير تمشي عليها مائة وخمسين مائة وستين تكون راسية وهي ليست ثابتة تمشي، على كل حال مثل هذه الأمور الخلاف فيها ليست له ثمرة ولا جدوى، ولسنا بمسئولين عنه إذا قبرنا.

 

{فِيهَا} [(11) سورة الرحمن] يعني في الأرض أقرب مذكور {فَاكِهَةٌ} فيها فاكهة، {وَالنَّخْلُ} {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ} [(11) سورة الرحمن] يقول: "المعهود" النخل المعهود؛ ليبين أن (أل) هنا للعهد، وفيها فاكهة فما السر في تنكير فاكهة وتعريف النخل؟ نعم؟

 

طالب:.....

 

كيف؟

 

طالب:.....

 

{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [(11) سورة الرحمن] ما قال: فيها فاكهة ونخل، أو فيها الفاكهة والنخل، نعم الفاكهة كثيرة الأشكال، كثيرة الأجناس، كثيرة الأنواع، النخل شيء واحد ثمره التمر، والفاكهة متنوعة، فالتنكير هنا للتعميم، وأما بالنسبة للنخل فالمراد به النخل المعهود المثمر للتمر فقط.

 

{وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [(11) سورة الرحمن] جمع كِم، جمع كم، وهذا يقال له: كِم وإلا كُم؟ كُم، وواحد الأكمام كِم، وهو وعاء الطلع، وعاء الطلع، الظرف الذي يكون فيه الطلع، ولذا قال: {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [(11) سورة الرحمن] "أوعية الطلع" أوعية الطلع {وَالْحَبُّ} [(12) سورة الرحمن] كالحنطة والشعير الحب الذرة الدخن والحبوب كثيرة، {وَالْحَبُّ} "كالحنطة والشعير" {ذُو الْعَصْفِ} العصف قال: "التبن" لأن الحب له قشر، له قشر وله سنبل، كل هذا إذا استخلص الحب الباقي تعصف به الريح، يكون خفيف تعصف به الريح، ولذا قال: ذو العصف، الحب له عصف، له قشور، وله تبن، وله أشياء إذا استخلص الحب الباقي تعصف به الريح، ومنهم من يقول: ذو العصف المراد به ورق الشجر إذا يبس وسقط منها عصفت به الريح، لكن إضافته للحب إضافته للحب تدل على أنه ملازم للحب، مما يتصف به الحب، الحب ذو، الحب ذو، موصوف بكونه صاحب العصف، والفعْل هنا مقصود به اسم المفعول، كالحمل بمعنى المحمول، العصف يعني المعصوف به وهو التبن وما في حكمه مما يخف للريح فتعصف به.

 

{ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [(12) سورة الرحمن] الريحان قالوا: هو الورق، الريحان: هو الورق، وفي بعض النسخ الرزق، الرزق بدل الورق، والرزق بلغة حمير يسمونه الريحان، أو المشموم الريحان له رائحة يشم رائحة قوية نفاذة ومن قوته تأثيره في بعض الجروح لقوة تأثيره ونفوذه فرائحته متعدية يشم من بعد، ولذا نص عليه فهو المشموم أو الرزق على لغة حمير، واشتمال القرآن على بعض المفردات من اللغات الأخرى سواءً كانت عربية أو غير عربية، غير لغة قريش، القرآن في الأصل نزل بلغة قريش، لكن فيه من لغات القبائل الأخرى كما هو معروف، فيه من لغات القبائل الأخرى، والخلاف في وجود بعض الكلمات بلغات الأمم الأخرى، يعني هل في القرآن ألفاظ غير عربية؟ الإجماع على أنه ليس فيه تراكيب وجمل أعجمية؛ لأنه بلسان عربي مبين، كما أن الإجماع قائم على أن فيه أعلام أعجمية، يعني أسماء أعجمية، وليس فيه تراكيب ولا جمل أعجمية، بقي المفردات مثل: مشكاة، ومثل: استبرق وغيرهما، يعني هل فيه من لغة الحبشة شيء؟ هل فيه من لغة فارس شيء؟ أو ليس فيه شيء من ذلك؟ المسألة خلافية بين أهل العلم منهم من يثبت، وفيه كلمات إذا بحثت عنها في معاجم اللغات الأخرى وجدت لها ذكر، فمن أهل العلم من يثبت، ومنهم من يقول: ليس فيه كلام غير عربي، بل الكلمات الموجودة التي يدعى أنها أعجمية هذا مما اتفقت فيه اللغات، يعني تكلم به العرب وغيرهم، أو مما عرب يعني أصله أعجمي ثم عرب، وفي لغة العرب ما يعرف بالمعرب، فيه كتاب اسمه: (المعرب) للجواليقي كتاب من أنفس الكتب، ينبغي لطالب العلم أن يعتني به.

 

{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(13) سورة الرحمن] فبأي آلالاء: آلاء: النعم، الآلاء: النعم، واحدها (إلى) كـ(معى) أو (ألى) كـ(حصى) وفيها لغات أخرى، المقصود أن الآلاء هي النعم، {فَبِأَيِّ آلَاء} [(13) سورة الرحمن] أي فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن، هل سبق ذكر للإنس والجن وإلا ما سبق؟ {خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(3) سورة الرحمن] هذا ذكر للإنس، لكن الجن لم يسبق لهم ذكر، وقد يعود الضمير على غير مذكور للعلم به، لأنه لا يوقع في لبس، {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [(32) سورة ص] ما هي التي توارت بالحجاب؟ الشمس، لكن لم يسبق لها ذكر، فالجن لم يسبق لهم ذكر، والإنس يفهم ذكرهم من جنس الإنسان الذي تقدم، {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا} [(13) سورة الرحمن] أيها الإنس والجن والخطاب للمكلفين، والتكليف إنما هو للإنس والجن، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات].

 

{تُكَذِّبَانِ} [(13) سورة الرحمن] وهذه الآية ذكرت في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة، إحدى وثلاثين مرة، {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(13) سورة الرحمن] يقول: "ذكرت إحدى وثلاثين مرة، والاستفهام فيها للتقرير" للتقرير، يقول: "لما روى الحاكم عن جابر قال: قرأ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: ((ما لي أراكم سكوتاً؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة –يعني ولا مرة- إلا قالوا –يعني {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(13) سورة الرحمن] - إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد))" وصرح جمع من أهل العلم أنه يستحب للقارئ أو السامع أن يقول مثل هذا؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- عتب على أصحابه حينما سكتوا، والجن نطقوا، قال: ((ما لي أراكم سكوتاً؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(13) سورة الرحمن] إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)) والخبر فيه كلام لأهل العلم، لكن له طرق تدل على أن له أصلاً، يعني لو قالها مرة واحدة في أول مرة أو في آخر مرة يكفي، لكن الأكمل أن تقال عند كل مرة؛ لأنه خطاب للمكلفين ينبغي الرد عليه.

 

{خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(14) سورة الرحمن] أصله، وهو آدم -عليه السلام- {مِن صَلْصَالٍ} يعني هل كل إنسان من المتقدمين أو من المتأخرين خلق من صلصال؟ كيف يخلق الإنسان؟ معروف خلق الإنسان بدايته آدم من طين، وحواء خلقت من ضلعه، وبقية الخلق من التلاقح بين الذكر والأنثى، وهنا يقول: {خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(14) سورة الرحمن] إذا أردنا إذا قلنا: الجنس جنس الإنسان كما تقدم في الأول {خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(3) سورة الرحمن] هناك في أول ما وضع {خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(3) سورة الرحمن] أي الجنس, هنا {خَلَقَ الْإِنسَانَ} [(14) سورة الرحمن] آدم، نعم الله -جل وعلا- خالق آدم وخالق غير آدم، جميع الناس الله -جل وعلا- هو الذي خلقهم، لكن بهذا المتعلق {مِن صَلْصَالٍ} [(14) سورة الرحمن] يراد به آدم؛ لأن من عداه لم يخلقوا من صلصال، إنما الذي خلق من صلصال "طين يابس يسمع له صلصلة أي صوت إذا نقر" إذا نقر بالأصبع ليرى هل فيه عيب؟ يسمع له صلصلة وصوت طنين من صلصال يقول: "من طين يابس يسمع له صلصلة أي صوت إذا نقر" {كَالْفَخَّارِ} [(14) سورة الرحمن] "وهو ما طبخ من الطين" وهو ما طبخ من الطين، جاء خلق آدم من تراب، ومن طين، ومن طين لازب، ومن حمأ مسنون، وهنا {مِن صَلْصَالٍ} [(14) سورة الرحمن] لأنها مرت بمراحل أولاً: التراب جمع يابس، ثم أضيف إليه ما يجعله طيناً، ثم ترك حتى صار حمأ مسنون، ثم صور، أو طبخ صار صلصال، وصور فمروره بهذه المراحل يعني ما يقال هنا يقول: {مِن صَلْصَالٍ} [(14) سورة الرحمن] وهناك   {مِن تُرَابٍ} [(59) سورة آل عمران] وهناك {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [(26) سورة الحجر] هذا ليس فيه اختلاف إنما هي مراحل أولاً: تراب يابس ثم أضيف إليه ما يجعله من طين، ثم صار هذا الطين لازب يعني يلصق يتماسك ثم صور ولما جف صار كالصلصال، يعني قال: "طين يابس يسمع له صلصلة إذا نقر" {كَالْفَخَّارِ} [(14) سورة الرحمن]  "وهو ما طبخ من الطين" الفخار معروف، وما زال يصنع منه بعض الأواني، يصنع منه بعض الأواني.

 

{وَخَلَقَ الْجَانَّ} [(15) سورة الرحمن] "أبا الجن وهو إبليس" يعني أصلهم، يعني كما خلق أصل الإنس من الطين من الصلصال خلق الجان يعني أباهم إبليس أو المراد بالجان الجن كلهم فكلهم خلقوا من نار، أو أن أصلهم كما خلق آدم من طين أصل الإنس خلق أصلهم، وهو إبليس من النار، وأما بقيتهم كبقية بني آدم من التوالد، قولان معروفان عند أهل العلم.

 

{مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [(15) سورة الرحمن] قالوا: "هو لهبها الخالص من الدخان" {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [(15) سورة الرحمن] "هو لهبها الخالص من الدخان" أو المارج اللسان الذي يخرج منها من اللهب الذي فيه أكثر من لون، يعني أحياناً يخرج بلون أصفر وأحمر وأخضر من النار، من هذا المارج الذي يسمى مارج يعني مختلط، من أمور كثيرة، و"هو لهبها الخالص من الدخان" {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(16) سورة الرحمن] والآلاء هي النعم، والله -جل وعلا- يقرر عليهم نعمه، ويلزمهم بشكرها، {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(16) سورة الرحمن] يعني هل تنكرون شيء من هذه النعم أو تنسبونها إلى غيري فتكذبون بها؟ لأن المنكر بالكلية هذا معروف، المكذب معروف، من نسب هذه النعمة إلى السبب مثلاً ونسي المسبب كمن قال: مطرنا بنوء كذا هذا أيضاً مكذب ((كافر بالله مؤمن بالكوكب)) كما جاء في الحديث، نعم قد يوجد هناك أسباب تنشأ عنها بعض النعم، لكن المسبب هو الله -جل وعلا-، والأسباب وإن كان لها دور في إيجاد المسبب فهذه الأسباب لولا أن الله -جل وعلا- جعل فيها هذا الأثر ما نفعت، فالأسباب مؤثرة لكنها لا بذاتها، بل بجعل الله -سبحانه وتعالى- الأثر فيها، ولذا قد توجد هذه الأسباب ولا يوجد المسبب لوجود مانع، أو لأمر يريده الله -جل وعلا-، فالأسباب عند أهل السنة لها أثر، لكنها لا تستقل بهذا الأثر، فالمسبب هو الله -جل وعلا- خلافاً للأشعرية الذين يقولون: لا قيمة لها، وجودها مثل عدمها، وخلافاً للمعتزلة الذين يقولون: مؤثرة بذاتها، ومذهب أهل السنة وسط بين المذهبين، {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(16) سورة الرحمن].

 

{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} [(17) سورة الرحمن] يعني هو رب المشرقين {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن} التثنية هنا على إرادة مشرق الشتاء ومشرق الصيف، ورب المغربين كذلك مغرب الشتاء ومغرب الصيف؛ لأن الشتاء يقصر فيه النهار، والصيف يطول فيه النهار، مقتضى ذلك أن الشمس في الصيف تبقى مدة أطول من بقائها في الشتاء، فالشتاء له مشرق تشرق من جهة وتغرب من جهة في أقصر مسافة، بينما الصيف لطوله تجدها تجدونها تشرق من جهة وتغرب من جهة هي أطول مسافة؛ لأنها تبقى في السماء مدة أطول؛ لأن النهار أطول من نهار الشتاء، فالمراد بالمشرقين مشرقي الصيف والشتاء والمغربين كذلك، وجاء الإفراد {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [(9) سورة المزمل] يعني جهة المشرق وجهة المغرب، وجاء أيضاً الجمع {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [(40) سورة المعارج] فرب المشرقين الشتاء والصيف، والمشرق والمغرب المراد به الجهتين، جهة الشرق وجهة الغرب، والمشارق والمغارب مشرق كل يوم ومغرب كل يوم بحسبه {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(18) سورة الرحمن] كما تقدم.

 

{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [(19) سورة الرحمن] مرج: أي: أرسل يقول المؤلف: "مرج أي أرسل"، "{الْبَحْرَيْنِ}: العذب والملح" العذب الحلو والمالح {يَلْتَقِيَانِ} في رأي العين" يلتقيان في رأي العين، يعني يصب النهر الحلو في البحر المالح يلتقيان، وهذا معروف يعني لو نظرت إلى الأنهار الكبيرة مثل النيل، النيل وين يصب؟ في البحر الأبيض، دجلة والفرات أيضاً مياه عذبة تصب في البحر المالح، هذا على قول، ومنهم من يقول: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [(19) سورة الرحمن] المراد به ماء السماء وماء الأرض، أرسل ماء السماء على ماء الأرض، ماء السماء عذب وماء الأرض مالح، ومنهم من يقول: إن هناك من البحار ولعله يقصد بها الأنهار عذبة حلوة تصب في المياه المالحة "{يَلْتَقِيَانِ} في رأي العين" تنظر هذا يدخل في هذا.

 

{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} [(20) سورة الرحمن] "حاجز" يقول: "من قدرته تعالى" وغيره يقول: لا داعي لـ(من) هذه، حاجز هي قدرته تعالى، قدرة الله -جل وعلا- تحجز بين هذين المائين الحلو والمالح، فلا يختلط هذا بهذا، يستمر الحلو حلو ويستمر المالح مالح، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} [(20) سورة الرحمن] "حاجز من قدرته تعالى" {لَّا يَبْغِيَانِ} [(20) سورة الرحمن] "لا يبغي واحد منهما على الآخر فيختلط به" لا يبغي واحد منهما على الآخر فيختلط به، يستمر العذب عذب والمالح مالح، ويقولون يقول المفسرون ويذكر بعضهم أنه جرب هذا أنه حفر

 

بجوار المالح فخرج له ماء حلو، يعني معزول، الحلو معزول لا يختلط بالمالح، بينما المائعات الأخرى يختلط بعضها ببعض، لو صب الإنسان لبن على الشاي ثم خلطهما يستمر الشاي معزول واللبن معزول؟ لا، يختلط بعضهما..، لكنها القدرة الإلهية، مع لطافة الماء وشفافيته مع ذلك لا يختلط هذا بهذا، وهذه قدرة عجيبة مذهلة، وإلا فالأصل أن المائعات تمتزج، يعني قابلة للامتزاج وإلا فالزيت والدهن لا يمتزج بالماء يبقى يعني بشكله وهيأته

 

{لَّا يَبْغِيَانِ} [(20) سورة الرحمن] لا يبغي واحد منهما على الآخر فيختلط به {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(21) سورة الرحمن] وهذا كما تقدم.

 

{يَخْرُجُ} [(22) سورة الرحمن] أو يُخرَج، {مِنْهُمَا} يَخُرج بالبناء للفاعل، ويَخُرج بالبناء للمفعول {مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [(22) سورة الرحمن] يقول أهل العلم: إن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان، إنما اللؤلؤ والمرجان يخرجان من الملح، من الماء المالح، يقول: "{مِنْهُمَا} من مجموعهما الصادق بأحدهما وهو الملح" من مجموعهما الصادق بأحدهما وهو الملح، ويش معنى هذا الكلام؟ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [(22) سورة الرحمن] الأصل اللؤلؤ والمرجان مقابلة مثنى بمثنى، هل نقول: إن مقابلة المثنى بالمثنى مثل مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة أفراد لكل واحد نوع؟ عندنا (منهما) عندنا بحران عذب ومالح، وعندنا يخرج منهما لؤلؤ ومرجان، يعني إذا قلنا: مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة أفراد لكل واحد نوع خاص قد يكون اللؤلؤ يخرج من المالح والمرجان يخرج من الحلو أو العكس وقيل بهذا من باب أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة أفراد، كما في: (ركب القوم دوابهم) كل واحد ركب دابته، المؤلف هنا مشى على أن العذب لا يخرج منه شيء، إنما اللؤلؤ والمرجان يخرجان من المالح، قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [(22) سورة الرحمن] يعني "من مجموعهما الصادق بأحدهما وهو الملح" يعني نظير ذلك لو أن هناك مسابقة مسابقة بين فريقين، مسابقة علمية مثلاً بين فريقين ألقيت الأسئلة على الفريق ألف ألقيت أسئلة، أجاب عنها واحد منهم ألا يصلح أن نقول: أجاب فرق ألف عن الأسئلة؟ وهو واحد اللي أجاب، والمؤلف يريد ما جاء في هذه الآية من هذا النوع، إذا قيل مثلاً: إن أهل البلد الفلاني زرعوا الزيتون مثلاً، أهل البلد الفلاني زرعوا الزيتون، فأنتج وأثمر عندهم، وهو بلد حار في الأصل لا ينتج زيتون هل معنى هذا أن كل أهل البلد زرعوا أو من يزرع منهم أو من زرع منهم ولو كان واحد أو اثنين؟ المؤلف يريد ما جاء في هذه الآية من هذا النوع، "منهما" يعني: من مجموعهما.

 

يقول: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [(22) سورة الرحمن] والقراءة الأخرى: يُخرج بالبناء للمفعول والبناء للفاعل "منهما من مجموعهما الصادق بأحدهما وهو الملح" {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [(22) سورة الرحمن] اللؤلؤ معروف، المرجان يقول: "خرز أحمر أو صغار اللؤلؤ" صغار اللؤلؤ يسمى مرجان، وعلى القول بأن البحرين المائين ماء السماء وماء الأرض يقولون: إن ما ينزل من السماء يتلقاه الصدف في البحر فيخرج منهما من التزاوج من المائين اللؤلؤ والمرجان، ومن المفسرين من قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [(22) سورة الرحمن] من العذب والملح من تزاوج المائين يخرج اللؤلؤ والمرجان، فجعلوا الماء العذب بمنزلة ماء الرجل، والماء الملح بمنزلة ماء المرأة، فينتج عن المائين هذا المذكور اللؤلؤ والمرجان، وعلى كل حال اللؤلؤ والمرجان موجود، موجود في البحار، وأهل الغوص يعرفون كيف يستخرجونه، وكونه من الملح فقط أو من العذب فقط، وإن كان ظاهر السياق يدل على أنه من المائين هذا الأصل في مثل هذا {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(23) سورة الرحمن] كما تقدم.

 

{وَلَهُ الْجَوَارِ} [(24) سورة الرحمن] السفن {الْمُنشَآتُ} يقول: المحدثات {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} "كالجبال عظماً وارتفاعاً" {وَلَهُ الْجَوَارِ} [(24) سورة الرحمن] وقرئ بإثبات الياء، والأكثر على أنها كسرة وليست ياء، وقرئ شاذاً: "الجوارُ" لكنها شاذة، {وَلَهُ الْجَوَارِ} [(24) سورة الرحمن] السفن التي تجري في البحار.

 

{الْمُنشَآتُ} يعني المحدثات التي أنشأها البشر وصنعوها هي لله -جل وعلا-؛ لأنه هو الذي يسيرها، يعني وسائل النقل الأخرى تسير لكن كيفية سيرها؟ إن كانت من صنع البشر فأمرها واضح، يعني لو قلنا: مثلاً السيارات والطائرات وغيرها، ما الذي يسير..؟ كيف تسير السيارة؟ على أمور محسوسة، أمور محسوسة صنعها البشر، وإن كان البشر لا يستقل فالله خالقه وخالق ما عمل، خالقه، خالق الصانع وخالق الصناعة، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [(96) سورة الصافات] لكن بالحس يدرك أن هذا الذي صنع هذه السيارة وصنع لها هذه الكفرات تجري على هذه الطريقة المحسوسة، الطائرات أيضاً أمرها واضح، لكن السفن التي تسيرها الرياح، وهي من الله -جل وعلا-، {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} [(33) سورة الشورى] يعني السفن أمرها يختلف عن الوسائل الأخرى، يعني الإبل والخيل والبغال والحمير ترى وسائل مشيها بالأرجل أو بالكفرات أو بغيرها، لكن السفن؟ الله -جل وعلا- هو الذي يجريها على هذا الماء، وإن كان هو المجري للجميع ولو شاء -جل وعلا- ما مشى شيء، لكن يبقى أن ما خفي أمره الاعتبار به أكثر، يعني مثل هذه السفن التي تجريها الريح، يعني كما في قوله -جل وعلا-: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [(33) سورة الشورى] يعني ابن جبير ذكر في رحلته أنه في طريقه من سواحل الشام إلى الأندلس ستة أشهر على السفن، ستة أشهر، فجاءت ريح معاكسة في يوم أو يومين أرجعتهم إلى سواحل الشام.

 

{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ} [(24) سورة الرحمن] المحدثات التي صنعها البشر بأمر الله -جل وعلا- وبإرادته وبتعليمه إياه؛ لأنه هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم.

 

{فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [(24) سورة الرحمن] يعني كالجبال، العلم الجبل، الأعلام واحدها علم، وهو الجبل، وكثيراً ما يقال: فلان علم في رأسه نار، أو كأنه علم في رأسه نار، يعني كأنه جبل في ذروته نار، يشاهده القريب والبعيد {كَالْأَعْلَامِ} [(24) سورة الرحمن] "كالجبال عظماً وارتفاعاً" عظماً وارتفاعاً، ومنهم من يقول: إن السفن لا يقال لها: منشئات حتى ترفع أشرعتها، لتكون كالأعلام مرتفعة، {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [(25-26) سورة الرحمن] كل من عليها يعني الأرض من الحيوان {فَانٍ} [(26) سورة الرحمن] يعني: "هالك" {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [(26) سورة الرحمن] يعني على وجه "الأرض من الحيوان" التي تحله الحياة فانٍ بمعنى أنه يموت، وتقدير الأرض هنا وإن لم يجري لها ذكر يجعل اللفظ العام (كل) باقٍ على عمومه، فكل من على وجه الأرض فانٍ، فلا يستثنى شيء وأما في قوله -جل وعلا-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [(88) سورة القصص] فيستثنى منه، يستثنى منه ما يجمعه قول الناظم:

 

ثمانية حكم البقاء يعمها
هي العرش والكرسي نار وجنة

 

من الخلق والباقون في حيز العدم
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

 

ثمانية أشياء هذه مستثناة من قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [(88) سورة القصص] وأما: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [(26) سورة الرحمن] هذه لا يستثنى منها شيء، ولذا قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [(26) سورة الرحمن] يعني: "الأرض من الحيوان" {فَانٍ} [(26) سورة الرحمن] يعني "هالك، وعبر بـ(من) تغليباً للعقلاء" لأن (من) للعاقل و(ما) لغير العاقل، فقال: {كُلُّ مَنْ} [(26) سورة الرحمن] قد يقول قائل: إن هذه تخصص بالعقلاء، فلا يعني أن غير العقلاء من الحيوانات تهلك وتفنى، لا، هنا قال: {مَنْ عَلَيْهَا} [(26) سورة الرحمن] تغليب للعقلاء؛ لأنه لا بد أن يؤتى بـ(من) أو بـ(ما) لا بد أن يؤتى بـ(من) أو بـ(ما)، فإذا أتي بـ(من) غلبنا العقلاء، لا سيما وأنهم هم الذين يستفيدون من مثل هذا الكلام، لكن لو غلب غير العقلاء وهم أكثر وقيل: كل ما عليها فان لقال العقلاء: إننا لا ندخل في هذه الآية؛ لأن المقصود غير العقلاء، لكن إذا قيل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [(26) سورة الرحمن] العقلاء هم المعنيون بهذا الكلام، فلن يقولوا: إننا لن نفنى؛ لأنهم داخلون فيها دخولاً أولياً منصوص عليهم، ظاهر وإلا مو بظاهر؟ يعني هل يمكن أن يقول قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [(26) سورة الرحمن] إننا لن..، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [(26) سورة الرحمن] وهي (من) هذه العقلاء نقول: لن نفنى هذا خاص بغيرنا؟ لا، أنتم تدخلون في هذا دخول أولي، نعم لو قيل: كل ما عليها فان لأمكن أن يقول العقلاء: نحن لا ندخل في هذا؛ لأن (ما) لغير العاقل ولذا غلبوا؛ لأنهم هم المعنيون بهذا، وأما من عداهم فلن يحتج لأنهم ليسوا بعقلاء، ويغلب العقلاء في كثير من المواطن لشرفهم على غيرهم.

 

{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [(27) سورة الرحمن] يقول: "ذاته" وهذا فرار من إثبات الوجه لله -جل وعلا-، على ما يليق بجلاله وعظمته، ففي الآية إثبات الوجه لله -جل وعلا-، على ما جاء عنه وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وعلى ما يليق بجلاله وعظمته.

 

{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} [(27) سورة الرحمن] ذو: من الأسماء الخمسة، مرفوع بالواو، فهو حينئذٍ نعت للمضاف أو للمضاف إليه؟ للمضاف، وهذا بين واضح؛ لأن الإعراب بالحرف، لكن لو كان الإعراب بالحركة نعم، ما تدري، ما تدري إلا إذا وجدت الحركة، لكن لو قلت: مررت بغلام زيدٍ الفاضلِ، تستطيع أن تقول: إن هذا وصف للمضاف أو للمضاف إليه؟ ما تستطيع، لا تستطيع أن تقول: إنه وصف للمضاف أو للمضاف إليه لأن كلاهما مجرور، وهنا واضح أنه وصف للمضاف لأنه مرفوع والمضاف مرفوع، بينما في آخر السورة {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي} [(78) سورة الرحمن] وصف للمضاف إليه، {ذِي الْجَلَالِ} [(78) سورة الرحمن] و{ذُو الْجَلَالِ} [(27) سورة الرحمن] وجه الرب -جل وعلا- ذو الجلال، والرب أيضاً ذو الجلال والإكرام، ذو الجلال: العظمة، والإكرام: للمؤمنين بأنعمه عليهم، الإكرام للمؤمنين ولغيرهم من بني آدم في الدنيا، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [(70) سورة الإسراء] وأما بالنسبة للآخرة فالإكرام خاص بالمؤمنين، الإكرام بالنعيم المقيم الذي لا يشوبه كدر، ولا يخالطه تنغيص هذا في الآخرة، بينما غيرهم من الكفار فهؤلاء لهم العذاب الدائم السرمدي الذي لا يشوبه أدنى نعيم، ولذا نعيم الدنيا مهما بلغ فلا بد من الشوائب، لا بد من المكدرات، طبعت على هذا، الدنيا، فلا نعيم إلا ويشوبه كدر، ولا بؤس ولا شقاء إلا ويتخلله نعيم في الدنيا، يعني هل وجد إنسان على وتيرة واحدة من ذو أن ولد إلى أن مات ما تكدر؟ أو يوجد إنسان من ولد إلى أن مات ما ضحك؟ ولو عاش في شقاء دائم وبؤس مستمر لا بد أن يتخلل شيء، وإنما الخالص من الأمرين من النعيم أو من العذاب إنما هو في الآخرة.

 

الشاطبي في الموافقات بحث هذه المسألة بالنسبة للدنيا واضح أنه ما في نعيم محض صرف لا يشوبه كدر، ولا في شقاء صرف لا يشوبه شيء من اللذة، بينما في الآخرة موجود هذا، وأورد على ذلك أن من في النار ويعذب بأنواع من العذاب وألون من العذاب قد يقول قائل: إنه قد يتنعم إذا رأى من هو أشد منه عذاباً، إذا رأى من هو أشد منه عذاباً قد يتلذذ؛ لأنه يرى من هو أشد منه عذاباً يقول: وفي المقابل أيضاً من في الجنة إذا رأى من هو أكثر منه نعيم قد يتألم، لكن هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن أدنى من في الجنة منزلة لا يرى أن هناك من هو أفضل منه، لا يرى أن هناك من هو أفضل منه، كما أن من هو في أقل الناس أو في أقل الناس عذاباً في النار لا يرى أن هناك من هو أدنى منه أو أقل عذاب، يعني مثلاً أبو طالب الذي شفع له النبي -عليه الصلاة والسلام- فجعل في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، أو ألبس نعلان من نار يغلي منهما دماغه لا يرى أن في النار من هو أشد منه، يعني وأي شيء أعظم من كون الدماغ يغلي بالنار؟ مع أنه يوجد من هو شر منه وأشد منه عذاباً، لكن ما في مجال لأن يوجد أي أنس بتفاوت العذاب، وكذلك أهل الجنة إذا كان أدناهم منزلة وما فيهم دني يعني آخر من يدخل الجنة ويخرج من النار يقال له كما في الحديث الصحيح: تمن، فيتمنى، تنقطع به الأماني، فيقال له: أيرضيك أن يكون لك ملك أعظم ملك في الدنيا؟ يقول: إي وربي، يقال: لك ومثله ومثله ومثله، وعشرة أمثاله، فمثل هذا لا يجد في نفسه من المنغصات ما يوجد في أمور الدنيا، تجد الإنسان عنده مئات الملايين وفي صحة تامة وعنده الولد والمسكن والمركب، وكل ما يحتاجه، لكنه إذا نظر إلى من هو إلى من هو فوقه في أمر الدنيا كأن ما عند شيء، وهذا يدلنا على حقارة هذه الدنيا، يعني إلى متى يجمع؟ إلى متى؟ ومع ذلك تجده في شقاء، لا سيما إذا نظر إلى من فوقه، ولذا أمرنا كما في الحديث الصحيح أن ننظر في أمور الدنيا إلى من هو أسفل منا؛ لئلا نزدري نعمة الله علينا، وأما في أمور الدين فننظر إلى من هو فوقنا؛ لكي نزيد من هذه النعمة نعمة الدين ونعمة العبادة ونعمة الطاعة، ونشمر إلى ما يرضي الله -جل وعلا-، ونسبق من سابقنا، ونسارع إلى مرضاته -سبحانه وتعالى-، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.