شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 30

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله  وخاتمهم، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن والاه أزكى صلاة وأتم تسليم، نرحب بكم أيها الإخوة المستمعون الكرام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فحيا الله معالي الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، ضيفنا في هذا اللقاءات، فأهلاً وسهلاً بكم معالي الشيخ.

 

 حياكم الله وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: إخوتنا المستمعين الكرام في هذه الحلقة، وهي الأخيرة في هذا البرنامج، نسأل الله تبارك وتعالى أن يتم لنا ولكم على خير، لا يزال الكلام في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفيه كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد. ذكرنا كلام أهل العلم في مداومته وملازمته –عليه الصلاة والسلام- لهذه العبادة التي تقوي الصلة، صلة العبد بربه، لما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا.

يقول ابن بطال أيضًا: يحتمل أن يكون إنما ضاعف اعتكافه في العام الذي قُبض فيه، من أجل أنه علم بانقضاء أجله، فأراد أن يستكثر من عمل الخير؛ ليسن لأمته الاجتهاد في العمل، إذا بلغوا انقضاء العمر، ليلقوا الله على خير أحوالهم، وما يدريهم عن ذلك.

يعني من تقدمت به السن، فجاوز الخمسين والستين أنه قد أزف رحيله، وقد أعذر الله -جل وعلا- لامرئٍ بلغه الستين، من بلغ الستين يلتفت.. ليلقوا الله على خير أحوالهم.

وقال ابن حجر: وقيل السبب فيه أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عارضه به مرتين، فكذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين، ويؤيده أن عند ابن ماجه هنا عن أبي بكر بن عياش في آخر حديث الباب متصلاً به، وكان يعرض عليه القرآن في كل عامٍ مرة.

سيأتي في طرف الحديث في فضائل القرآن عن أبي هريرة قال: كان يعرض على النبي (أي جبريل) القرآن في كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه وسيأتي.. فهناك صلة بين عرض القرآن، ومضاعفته في السنة الأخيرة، ومضاعفة الاعتكاف في هذه السنة.

وقال ابن حجر: وقيل السبب فيه أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عارضه به مرتين، فكذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين، ويؤيده أن عند ابن ماجه هنا عن أبي بكر بن عياش في آخر حديث الباب متصلًا به: وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عرض عليه مرتين.

وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير؛ بسبب ما وقع من أزواجه، لما رأى الأخبية، ترك الاعتكاف، في هذه السنة التي ترك فيها الاعتكاف مما رأى من أزواجه يقول ابن العربي: يحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه، واعتكف بدله عشرة من شوال، اعتكف في العام الذي يليه عشرين؛ ليتحقق قضاء العشر في رمضان.

وقال ابن حجر: وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين؛ لأنه كان في العام الذي قبله مسافرًا، ويدل لذلك ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبو داوود وصححه ابن حبان وغيره من حديث أبي بن كعب أن النبي–صلى الله عليه وسلم-  كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عامًا فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين.

قال ابن حجر: ويحتمل تعدد هذه القصة بتعدد السبب، فيكون مرة بسبب ترك الاعتكاف لعذر السفر، ومرة بسبب عرض القرآن مرتين، الآن تعدد القصة بـ مرة.. تعدد القصة أنه أكثر من مرة اعتكف عشرين، لكن هذا بعيد، وقد يتعدد السبب، والمسبَّب واحد، يعني آخر.. في عام الذي قُبض فيه.

المقدم: كأنه نص على أنه مرة واحدة.

نعم مرة واحدة اعتكف عشرين، ما يقال إنه اعتكف عشرين بسبب السفر، اعتكف عشرين بسبب معارضة القرآن مرتين، اعتكف عشرين؛ لأنه يريد أن يقضي الاعتكاف الذي تركه بسبب وجود الأخبية وما أشبه ذلك.

غريبٌ منه أن يقول: يحتمل تعدد هذه القصة، يعني أنه اعتكف عشرين أكثر من مرة، وما اعتكف عشرين إلا في العام الذي قُبض فيه، لكن قد تتعدد الأسباب، والمسبب واحد أن يكون لجميع هذه الأمور اعتكف عشرين، فيكون مرة بسبب ترك الاعتكاف لعذر السبب، ومرة بسبب عرض القرآن مرتين.

فيه لطيفة ذكرها ابن المنذر قال: رُوّينا عن عطاء الخرساني أنه قال: كان يقال مَثَل المعتكف، كمثل عبدٍ ألقى نفسه بين يدي ربه، ثم قال: رب لا أبرح حتى تغفر لي، رب لا أبرح حتى ترحمني هذا الحديث خرَّجه الإمام البخاري في موضعين، الأول في كتاب الاعتكاف، الاعتكاف العشر الأوسط من رمضان، وهو الموضع المشروح.

قال -رحمه الله-: حدثنا عبد الله بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو بكرٍ عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا، وسبق ذكر المناسبة والشرح.

الموضع الثاني: في كتاب فضائل القرآن: باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي –صلى الله عليه وسلم-، وقال لمسروقٌ عن عائشة -رضي الله عنها- عن فاطمة -رضي الله عنها-: أسرّ إليَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وأنه عارضني العام مرتين، ولا أُراه إلا حضر أجلي.

قال -رحمه الله-: حدثنا خالد بن يزيد قال: حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن ذكوان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان يعرض على النبي –صلى الله عليه وسلم- القرآن كل عامٍ مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه.

قال ابن حجر: قوله: كان جبريل يعرض القرآن على النبي –صلى الله عليه وسلم- يعرض بكسر الراء من العرض، وفتح العين، وسكون الراء أي يقرأ، والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه. ثم قال: قوله: وكان يعتكف في كل عامٍ عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه، ظاهره أنه اعتكف عشرين يومًا من رمضان، وهو مناسب لفعل جبريل، حيث ضاعف عرض القرآن قي تلك السنة، ثم ذكر الأسباب التي ذكرناها فيما تقدم، هل هو بسبب السفر؟ أو بسبب العرض؟ أو بسبب تركه للاعتكاف من أجل الأخبية.

في نهاية الكلام عن الاعتكاف، يحسن بنا أن نذكر ما قاله ابن القيم في الهدي، زاد المعاد -رحمه الله- يقول: فصل في هديه –صلى الله عليه وسلم- في الاعتكاف يقول: لما كان صلاح القلب -كلام نفيس لابن القيم رحمه الله يحسن أن نذكر به السامع، وإن كان لجميع الباب لا للحديث نفسه-.

قال -رحمه الله-: لما كان صلاح القلب، واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفًا على جمعيته على الله تعالى، ولمِّ شعثه في إقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام مما يزيده شعثًا.

هذه منافذ إلى القلب، وكلها مؤثرة على القلب، مشوشة على القلب، لكن إذا تركها، وقطع هذه العلائق، وترك هذه الفضول اجتمع عليه قلبه، قال: وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام مما يزيده شعثًا، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى أو يضعفه أو يعوقه، ويوقفه اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهما من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه وتعالى، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه، وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلًا عن أنسه بالخلق، فيُعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم، شُرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه اعتكف مفطرًا قط، بل قالت عائشة: (لا اعتكاف إلا بصوم) ولم يذكر الله سبحانه وتعالى الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا مع الصوم.

تقدم الخلاف في اشتراط الصوم للاعتكاف، لكن المؤلف -رحمه الله تعالى- يرجح أن الصوم شرطٌ في الاعتكاف، فالقول الراجح عند ابن القيم في الدليل الذي عليه جمهور السلف: أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، وأما الكلام فإنه شُرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة، وأما فضول المنام فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر، وأحمده عاقبةً، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن، ولا يعوق عن مصلحة العبد، ومدار رياضة أرباب الرياضيات والسلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي، ولم ينحرف انحراف الغالين، ولا قصر تقصير المفرطين.

وقد ذكرنا هديه –صلى الله عليه وسلم- في صيامه وقيامه، فنذكر هديه في اعتكافه، كان –صلى الله عليه وسلم- يعتكف الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله -عز وجل-، وتركه مرة فقضاه في شوال، واعتكف مرة في العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها بالعشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه -عز وجل-.

المقدم: أحسن الله إليكم معالي الشيخ، ونفع بما قلتم وقرأتم، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيكم عنا خير الجزاء على ما تفضلتم به طيلة حلقات هذا البرنامج خلال هذا الشهر الكريم. كان ضيفنا في هذه اللقاءات مستمعينا الكرام هو معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، شكر الله له وجزاه عنا خيرًا، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وختم لنا ولكم هذا الشهر الكريم برضاه وبالعتق من النار، إنه جواد كريم، هذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.