التعليق على تفسير القرطبي - سورة محمد (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا إلى يوم الدين.

 اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى–

"قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ}.

يَرْجِعُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَوْ إِلَى الْيَهُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُطْعِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. نَظِيرُهَا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] الْآيَةَ {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} أَيْ عادُوه".

عادَوه.

"أي عَادَوْهُ وَخَالَفُوهُ {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى} أَيْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ بِالْحُجَجِ وَالْآيَاتِ، {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} بِكُفْرِهِمْ. {وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ} أَيْ ثَوَابَ مَا عملوه."

لا يضر الله شيئًا يعني كما جاء في حديث أبي ذر: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص من ملكي شيء»، وسيحبط أعمالهم؛ لأن شرط القبول متخلف، شرط القبول الإيمان.

 قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ}.

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْكُفَّارِ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ فِي أَوَامِرِهِ وَالرَّسُولِ فِي سُنَنِهِ {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} أَيْ حَسَنَاتِكُمْ بِالْمَعَاصِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بِالْكَبَائِرِ. ابْنُ جريج: بالرياء والسمعة. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالثُّمَالِيُّ: بِالْمَنِّ، وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يَمُنُّ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِسْلَامِهِ. وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ يَجْمَعُهُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، وَالْمَعَاصِي تُخْرِجُ عَنِ الْإِيمَانِ."

والمراد أعم من ذلك، لا تحبط أعمالكم، لا تبطلوا أعمالكم، لا تفعلوا شيئًا يكون سببًا في إبطالها من الردة –نسأل الله السلامة والعافية-، وما دونها من الرياء، من الانصراف عن العمل وتركه، كمن دخل في صلاة وقطعها، أبطل عمله، من شرع في صيام ثم تركه أفطر، قال: هذا أبطله، ويبحث في مثل هذا التحلل، كما يشير المؤلف من الصلاة والصيام المتطوع بهما، لاسيما مع المعارضة، إذا أقيمت الصلاة وقد شرع المصلي في نافلة، فهل نقول: لا يجوز له أن يقطعها؛ لقوله –جل وعلا- {لا تبطلوا أعمالكم}، أو نقول: له أن يقطعها لحديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»؟

 ويرد على ذلك ما الدلالة عليه فيها شيء من الضعف لا يتناوله الحديث «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» مثل من شرع في نافلة، في راتبة، ثم بعد ذلك كُبر على صلاة الجنازة، إن أكمل النافلة التي شرع فيها فقد تفوته صلاة الجنازة، وإن قطع هذه النافلة وصلى على الجنازة باعتبار أن النافلة وقتها موسع، يأتي بها بعد أن يفرغ من الجنازة، والجنازة ترفع، فهذه محل نظر، لا يتناولها حديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»، بينما شرع في نافلة ثم أقيمت الصلاة الحديث نص فيه، مع أنه قد يتناوله قوله -جل وعلا- { ولا تبطلوا أعمالكم}، لكن الحديث أخص، فهو مخصص لهذه الآية.

 يبقى النظر فيما عدا ذلك مما يترتب عليه إبطال العمل من إبطال الصلاة التي شرع فيها من غير سبب أو لسبب منصوص عليه.  لو أن إنسانًا شرع في نافلة، ثم دعاه من تجب طاعته كما في قصة جريج، فهل يقطع الصلاة أو لا يقطعها؟ شرع في صيام نافلة، هل يقطعه؟ وهل لو قطعه يلزمه قضاء كما يقول بعض أهل العلم أو لا يلزمه باعتبار أنه شرع باللزوم فيه، فصار واجب عليه إتمامه، منهم من يخص ذلك بالحج والعمرة، وما عدا ذلك فالمتطوع أمير نفسه، والمؤلف تعرض لبعض هذه المسائل باختصار.

طالب:...بالوجوب أم بالجواز؟

أي؟

طالب: ....في الصلاة....

في صلاة، هذا ما فيه إشكال.

طالب: بالوجوب..

يلزم، يلزم، لكن هل نقول: يقطعها مباشرة ولو لم يبق عليه إلا الشيء اليسير، أو لا يقطعها حتى يخشى على صلاة الفرض أو ركعة أو ما أشبه ذلك؟

 هم يقولون: ما دون الركعة ليست بصلاة أصلاً، فإذا لم يكمل الركعة يقطعها بدون إشكال؛ لأنها لم تكن صلاة هذه الركعة ما تمت ركعة، فإذا أكمل الركعة تكون له صلاة، فلا يجوز له أن يبطلها إلا إذا خشي على الفريضة.

طالب:......

نعم.

طالب .....إذا صلى ركعة وأقيمت الصلاة..

يكمل خفيفة

طالب: يكمل.

يعني المرجح أنه يكملها خفيفة؛ لأنه ما عليها خطر يعني الفريضة.

طالب:.....تكبيرة الإحرام ..

إذا شرع في الفاتحة، تكبيرة الإحرام ذاهبة، كثير من الأئمة ما يمكنك ولا من السواك.

طالب:....

بعض الأئمة يفوتك تكبيرة الإحرام وأنت تستاك، فعليهم أن يتريثوا.

" الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنَ التَّطَوُّعِ -صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا- بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ الْعَمَلِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ -وَهُوَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ-: الْمُرَادُ بِذَلِكَ إِبْطَالُ ثَوَابِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ، فَنَهَى الرَّجُلَ عَنْ إِحْبَاطِ ثَوَابِهِ. فَأَمَّا مَا كَانَ نَفْلًا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَالْعَامُّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ أَنَّ النَّفْلَ تَطَوُّعٌ، وَالتَّطَوُّعُ يَقْتَضِي تَخْيِيرًا. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِسْلَامِ ذَنْبٌ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَافُوا الْكَبَائِرَ أَنْ تُحْبِطَ الْأَعْمَالَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا عَصَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدْ أبطلتم أعمالكم".

في الصحيح عن سلمان أنه زار أبا الدرداء، زار أبا الدرداء، فوجد امرأته متبذلة، امرأة كبيرة جدًّا، فسألها، فقالت: أخوك ليس له حاجة إلى النساء، فقام يصلي الليل، فقال له سلمان: إن لنفسك عليك حقًّا، نم حتى يأتي وقت القيام، فأراد أن يقوم ثانيًا، فقال له: نم حتى إذا جاء وقت التنزل الإلهي قاما معًا فصليا، ثم لما كان من الغد صام أبو الدرداء، وعنده ضيف، فلما قدم الغداء قال: كل، إن لزورك عليك حقًّا.

 المقصود أنه ألزمه بالفطور، ثم سئل النبي فقال: «صدق سلمان، صدق سلمان»، فإبطال التطوع عند الشافعي والحنابلة لا يلزمه بدل، ولا يأثم به، لا يأثم به ولا يلزمه بدله بمعنى أنه يقضيه، خلافًا للمالكية والحنفية.

طالب :........

نعم.

طالب:......

أبو بكر –رضي الله عنه – حلف ألا يأكل، وهم أيضًا حلفوا ألا يأكلوا حتى يأكل، ولم يلزم أحد منهم كفارة، لماذا؟ قالوا: لأن اليمين التي يراد بها الإكرام لا كفارة فيها، التي يراد بها الإكرام، يعني إذا حلفت على شخص ألا يجلس، ولا يأخذ من شيء، وقال: أنا والله أصنع مثل صنيع أبي بكر –رضي الله عنه-.

طالب: حتى لو عزم...

هو حلف من أجل أن يكرم ضيفه.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، بَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ يُوجِبُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" الْكَلَامُ فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أصحاب القليب وحكمها عام."

اللفظ عام، والعبرة بالعموم، بعموم اللفظ جميع الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا، بهذا الشرط وهم كفار، فلن يغفر الله لهم { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }، والموت على كفر هو شرط الخلود، ويبقى من كان له أعمال صالحة وهو مسلم ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام، هل تبطل أعماله أم ما تبطل؟ مسألة مختلف فيها بين أهل العلم، منهم من يقول: إن الأعمال لا تبطل إلا بالموت على الكفر، كما قيد ذلك في الآية.

 وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا كان حج قبل الردة، حج قبل الردة، مسلم يصوم ويصلي وحج قبل الردة، ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام، { لئن أشركت ليحبطن عملك }، هذا أشرك، فهل نقول: حبط الحج، عليه أن يعيده، أو نقول: {ثم يمت وهو كافر} بهذا القيد؟ مسألة مختلف فيها بين أهل العلم، والآية نصٌّ في هذا القيد، فالمرجح أنه إذ لم يمت على كفره فإن أعماله السابقة صحيحة.

" قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ}.

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَهِنُوا} أَيْ تَضْعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ. وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ، وَقَدْ وَهَنَ الْإِنْسَانُ وَوَهَنَهُ غَيْرُهُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى."

يعني يستعمل لازمًا وهان الإنسان وهنه غيره الأول لازم، والثاني متعدٍّ.

" قَالَ: إنني لست بموهون فقر ووهن أيضا (بالكسر) وهنا أي ضعف، وقرى" فَما وَهَنُوا" بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي (آلِ عِمْرَانَ)."

وهِنوا ووهَنوا

 الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أَيِ الصُّلْحَ، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أَيْ وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فِي الْحُجَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ؛ لِأَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ، وَإِنْ غَلَبُوكُمْ فِي الظَّاهِرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إِلَى صَاحِبَتِهَا."

يعني ركنت إليه وذلت أمامها وخافت منها.

 الثَّالِثَةُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} [الأنفال: 61]؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الصُّلْحِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى الصُّلْحِ. وَقِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها}. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَالْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحَالِ."

نعم مدلول الآيتين مختلف، هذه تنهى عن الصلح، وتلك {وإن جنحوا للسلم} تأمر به، وإذا أمكن الجمع بينهما بأن يحمل الأمر به على حال في حال ضعف المسلمين، والنهي عنه في حالة قوة المسلمين يتعين؛ لأنه أولى من القول بالنسخ، وإن تعذر الجمع، وهو هنا ممكن، إذا تعذر يصار إلى النسخ إذا علم المتقدم من المتأخر.

"وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} مَخْصُوصٌ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْأُخْرَى عَامَّةٌ. فَلَا يَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ إِذَا عَجَزْنَا عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} أَيْ بِالنَّصْرِ والمعونة، مثل {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]."

يعني المعية خاصة.

"{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} أَيْ لَنْ يُنْقِصَكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُ الْمَوْتُورُ الَّذِي قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَلَمْ يُدْرَكْ بِدَمِهِ، تَقُولُ مِنْهُ: وَتَرَهُ يَتِرُهُ وَتْرًا وَتِرَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» أي ذَهَبَ بِهِمَا."

وتِر، وتِر أهله وماله

طالب: يشكل بالفتح.

نعم.

طالب: بالفتح كله.

يعني ذهب بهم يعني نقص أهله وماله جاءه النقص فيهم.

"«مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» أي ذَهَبَ بِهِمَا."  وَكَذَلِكَ وَتَرَهُ حَقَّهُ أَيْ نَقَصَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} أَيْ لَنْ يَنْتَقِصَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ."

إنما هي أعمالكم يحصيها ويبديها ويوفيها إياكم، كما جاء في حديث أبي ذر، الأعمال لا ينقص منها شيء من عمِل عمَلًا صالحًا بشروطه، استحق جوابه وجزاءه.

" كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ." وَأَنْتَ تُرِيدُ فِي الْبَيْتِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. الْفَرَّاءُ:" وَلَنْ يَتِرَكُمْ" هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَلَنْ يفردكم بغير ثواب.

قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} تَقَدَّمَ فِي " الْأَنْعَامِ" {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} شرط وجوابه {وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} أَيْ لَا يَأْمُرُكُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعِهَا فِي الزَّكَاةِ، بَلْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ، قَالَهُ ابْنُ عيينة وغيره."

أعطى الكثير، أعطى الكثير، وأمر بإخراج نسبة يسيرة لا تشق على أحد، تنفع الفقراء والمساكين، ولا تضر بالأغنياء؛ لأن الشرع في تشريعه توازن، لا يجحف بأحد على حساب أحد، إنما يراعي مصلحة الفقير كما يراعي مصلحة الغني.

" وقيل: {لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ لِيَرْجِعَ ثَوَابُهُ إِلَيْكُمْ. وقيل {لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ."

{وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم} المال مال الله، والذي هو بيده مجرد واسطة، سبب، ويجري الله تعالى على يديه إعطاء فلان ومنع فلان، وإلا فالحقيقة أن المعطي والمانع هو الله –جل وعلا-، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إنما أنا قاسم والله المعطي».

 " وقيل: {لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ. لِأَنَّهُ الْمَالِكُ لَهَا وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِإِعْطَائِهَا. وَقِيلَ: وَلَا يَسْأَلْكُمْ مُحَمَّدٌ أَمْوَالَكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. نَظِيرُهُ {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] الآية." إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ" يُلِحُّ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ: أَحْفَى بِالْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَفَ وَأَلَحَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالْحَفِيُّ الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَالِ، وَكَذَلِكَ الْإِحْفَاءُ الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْكَلَامِ وَالْمُنَازَعَةُ."

نعم الإحفاء والإلحاح معناهما واحد الإلحاح في المسألة مسألة المخلوق مذمومة لكن الإلحاح بسؤال الله –جل وعلا –مطلوب.

" وَمِنْهُ أَحْفَى شَارِبَهُ أَيِ اسْتَقْصَى فِي أَخْذِهِ {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ} أَيْ يُخْرِجُ الْبُخْلُ أَضْغَانَكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي سُؤَالِ الْمَالِ خُرُوجَ الْأَضْغَانِ".

ما فيه شك إذا جئت تسأل من أحد شيئًا يضيق بك ذرعًا

ولو سئل الناس ترابًا لأوشكوا                إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

وهو التراب، فكيف بالأموال التي تعب عليها الإنسان فلا يخرجها طيبة بها نفسه وإلا من كان صادقًا في إيمانه –والله المستعان-.

". وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ" وَتَخْرُجُ" بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ." أَضْغانَكُمْ" بِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِ الْفَاعِلَ. وَرَوَى الْوَلِيدُ عَنْ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ" وَنُخْرِجُ" بِالنُّونِ. وَأَبُو مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: " وَيُخْرِجُ" بِالرَّفْعِ فِي الْجِيمِ عَلَى الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ: " وَيُخْرِجُ" كَسَائِرِ الْقُرَّاءِ، عَطْفٌ عَلَى مَا تقدم.

قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ}."

{إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} هذا جواب الشرط، و{يخرج} معطوف على جواب الشرط المجزوم، فقراءة العامة هي الصواب؛ لأن إعرابها معطوف على مجزوم فتُجزم.

" أي هأنتم هؤلاء أيها المؤمنون تُدْعَوْنَ {لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ فِي الْجِهَادِ وَطَرِيقِ الْخَيْر {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِه} أَيْ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ يَمْنَعُهَا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، {وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ} إِلَيْهَا، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أَيْ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ."

"فمنكم من يبخل، ومن يبخل"، " منكم من يبخل" الجملة صلة، و"من يبخل" شرطية، "يبخل" فعل الشرط مجزوم، جوابه ما دخلت عليه الفاء، الجملة، "فإنما" إن واسمها، وخبرها "فإنما يبخل عن نفسه" نعم.

" رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُم} قَالُوا: وَمَنْ يُسْتَبْدَلُ بِنَا؟ قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وَقَوْمُهُ. هَذَا وَقَوْمُهُ» قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ."

ما علته؟

طالب: قال: أخرجه الترمذي والطبراني وصححه ابن حبان وابن .....في تاريخ أصفهان، والبيهقي في الدلائل من حديث أبي هريرة وإسناد.....ضعيف فيه راوٍ لم يسم، وتابعه مسلم....في رواية ابن حبان وعبد الله بن جعفر عند أبي نعيم، وإسماعيل بن جعفر عند البيهقي، رواه بألفاظ متقاربة، فالحديث حسن بهذه الطرق، انظر....

يعني مفرداته ضعيفة.

طالب: الألباني –رحمه الله – ضعفه قديمًا ثم رجع وصححه.

مفرداته ضعيفة، كل واحد من مفرداته فيه علة، وعبد الله بن جعفر هذا الذي أشرت عليه والد علي بن المديني، ضعه ولده وغيره.

طالب:.....

هو بمجموع طرقه يصل إلى مرتبة الحسن لغيره، لكن مفرداته ضعيفة، فيها ما هو شديد الضعف، نعم.

" وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نُجيح".

نَجِيح.

" نَجِيحٍ وَالِدُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي هريرة قال: قال أناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَخِذَ سَلْمَانَ، قَالَ «هَذَا وَأَصْحَابُهُ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ»، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْعَجَمُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: فَلَا أحد بعد العرب مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْأَعَاجِمِ أَحْسَنُ دِينًا، وَلَا كَانَتِ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ إِلَّا الْفُرْسُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْيَمَنُ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ."

يعني كونه يوجد في الفرس بعد أن دخلوا في الإسلام، وتعلموا منه ما تعلموا، كونه يوجد منهم من المحدثين ومن الفقهاء والمفسرين من يفوق كثيرًا من العرب، هذا ليس بغريب؛ لأن الدين ليس حكرًا على أحد، والعلم للجميع، لكنه

العلم يسمو من يسود به         على الجهول ولو من أصله مضر

لكن الغريب في الأمر أن أكثر علماء العربية من الفرس حتى إمامهم ومقدمهم سيبويه منهم، -والله المستعان-، يدل على أن الأصول وما ينتسب إليه وما يتفاخر به عند التحقيق لا شيء.

طالب: هل يقال: إن مرد ذلك إلى انتشار الصحابة في تلك الأقاليم؟  

انتشروا، وبقوا في الجزيرة، بقي كثير منهم، انتشروا في جميع الأقطار في مصر والشام، لكن ما الذي خص الفرس بهذا؟ الدلائل على أن هذه الأصول التي يفتخر بها ويترفع بها ويتكبر بها بعض الناس على غيره أنها عند التحقيق لا شيء.

طالب: هل يقال يا شيخ: إن الأصل العربي أفضل؟

هو باعتبار إذا نظرت على الجنس بحد ذاته ما فيه مفاضلة إلا بالتقوى، لكن إذا ضممت إلى العرب الرسول، وجعلته في كفتهم، فلا شك أن الرسول يعدل بالناس كلهم، لكن إذا نظرنا إلى أصل الأجناس فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.

طالب: ما نقله شيخ الإسلام في المتفق عليه أن العرب أفضل ..

جنس باعتبار أن الرسول منهم، هم فضلوا الناس بهذا.

طالب: شيخ ما يتعارض مع حديث ......

«الإيمان يمانَ، والحكمة يمانية»، ماذا فيه؟

طالب:....

هو كون الفضائل توزع على جميع الجهات وعلى جميع القبائل هذا ما فيه شك أنَّه جاء به الشرع، فكل قبيلة وكل بلد له ما يختص به، وإذا نظرت إلى البلدين المتجاورين وجدت أن هؤلاء لهم من المحاسن والفضائل ما لا يوجد عند أولئك، والعكس، هذا من عدل الله –جل وعلا-.

"قَالَهُ شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْأَنْصَارُ. وَعَنْهُ أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ. عَنْهُ هُمُ التَّابِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ مَنْ شَاءَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ.

 {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ فِي الْبُخْلِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَرِحَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: «هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

طالب: ختمت السورة بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار. تخريج الحديث يا شيخ؟

الحديث الأخير؟

طالب: نعم.

طالب: قال: ذكره الماوردي بقوله: حُكي، وقال مخرجه: لم أهتد إلى تخريجه، والله أعلم.

 قلت: لم يذكر السيوطي في الدر ولا ابن كثير ولا الطبري ولا البغوي ولا غيره من المفسرين، والذي يبدو لي أن هذا الحديث ورد في السورة الآتية عند قوله: { ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك }، وهو الذي أراده الماوردي، ولعله سبق قلم، أو هو من تصرف بعض النساخ، فتنبه.

طالب:......

انظر مطلع السورة الآتية.