شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (076)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

نرحب مع مطلع حلقتنا بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: لا زلنا مع المستمعين الكرام من خلال كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح ومع حديث أنس -رضي الله عنه- في باب زيادة الإيمان ونقصانه. لعلكم تتفضلون باستكمال ما ابتدأناه في الحلقة الماضية.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلام في مفردات الحديث ومعانيها، تقدم هنا الإيراد الذي أورده الكرماني في وزن المعاني، يقول: فإن قلت: الوزن إنما يتصور في الأجسام يعني دون المعاني، والإيمان معنى، ثم أجاب عن هذا الإشكال بقوله: قلت: شبَّه الإيمان بالجسم، فأضيف إليه ما هو من لوازم الجسم وهو الوزن، ومثله يسمى الاستعارة بالكناية، ومقتضاه أنه يوزن حقيقة أو تقديرًا؟ ليس بحقيقة، الوزن ليس بحقيقة، فعلى هذا يلزم عليه لوازم كبيرة إثبات الميزان عند أهل السنة، المعتزلة ينكرون الميزان ينكرونه لهذه الشبهة، لكن القدرة الإلهية صالحة لإحالة المعاني إلى أجسام توزن، وأمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، حديث البطاقة مثلاً، أحاديث كثيرة تدل على أن الأعمال توزن، وأن الميزان له كفتان، كفة للحسنات، وكفة للسيئات.

هنا الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بعد رواية الحديث عقَّبه بقوله: قال أبان: حدثنا قتادة، حدثنا أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من إيمان» مكان «من خير» وأشرنا في آخر الحلقة السابقة أنه يستفاد من هذا التعقيب أمران: الأول: أن المراد بالخير الإيمان، ويستفاد منه أيضًا تصريح قتادة في التحديث عن أنس، وقتادة كما هو معروف مدلِّس، وحينئذٍ زال ما كان يتوهم من تدليسه.

وعلى كل حال لو لم يعقب البخاري بهذا التعقيب، ولم يصرح قتادة بالتدليس، عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال، كما قرر ذلك أهل العلم، ونقل الكرماني عن التيمي أن البخاري استدل بهذا الحديث على نقصان الإيمان؛ لأنه يكون لواحد وزن شعيرة، وهي أكبر من البُرَّة، والبُرَّة أكبر من الذرة، فدل على أنه يكون للشخص القائل: لا إله إلا الله قدر من الإيمان لا يكون ذلك القدر لقائل آخر.

قال الكرماني: وأقول: لا يختص بالنقصان بل يدل على الزيادة أيضًا، يعني من باب أن ما قَبِل الزيادة يقبل النقص والعكس.

يقول النووي -رحمه الله تعالى-: فيه دلالة لما تُرجِم له وهو زيادة الإيمان ونقصه، وقد سبق تقريره في أول كتاب الإيمان، وفيه دخول طائفة من عصاة الموحدين النار، وبهذا يُرَد على مَن؟

المقدم: الخوراج.

دخول عصاة الموحدين النار.

المقدم: المرجئة.

المرجئة. وفيه أن أصحاب الكبائر من الموحدين لا يكفرون بفعلها، ولا يخلدون في النار، هذا رد على الخوارج والمعتزلة أيضًا، وفيه أنه لا يكفي في الإيمان معرفة القلب دون النطق بكلمتي الشهادة، ولا النطق من غير اعتقاد، وهذا مذهب أهل السنة في هذه المسائل.

قال ابن رجب: الحديث نص في تفاوت الإيمان الذي في القلوب، وقد سبق القول في تفاوت المعرفة وتفاضلها فيما تقدم، ونعيد ما تقدم من كلام ابن رجب في تفسير زيادة المعرفة، يقول: تفسر زيادة المعرفة بمعنيين: أحدهما: زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة والنبيين وصفاتهم، والكتب المنزلة عليهم، وتفاصيل اليوم الآخر، وهذا ظاهر لا يقبل نزاعًا، والثاني: زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها، فإن أدلتها لا تُحصَر، التفسير الأول لزيادة المعرفة زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة إلى آخره، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، والخوف يحدو على العمل، والعمل زيادته تؤدي إلى زيادة الإيمان.

والثاني: زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها، فإن أدلتها لا تحصر، بل كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك، وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدَر وغير ذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به، ومن هنا فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين مقام الإيمان ومقام الإحسان، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، والمراد أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودًا بقلبه كالعيان.

وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في كتابه: أن التصديق يتفاوت، وحكاه عن الحسن والعلماء، وهذا يشعر بأنه إجماع عنده، لا شك أن التصديق يتفاوت، وأشرنا إلى هذا سابقًا بحسب صدق المخبِر، يعني قوة ثقة المخبِر وضبطه تتفاوت من شخص إلى آخر، وتتفاوت تبعًا لهذا التفاوت مراتب التصديق، والناس يتفاوتون منهم الصادق، ومنهم الصدوق، ومنهم الصدِّيق، وكلهم من مادة واحدة، كلهم يشتركون في الصدق الذي هو مطابقة الواقع؛ لكنهم يتفاوتون في مقدار هذا الصدق وذلك التصديق.

ذكر محمد بن نصر المروزي في كتابه: أن التصديق يتفاوت كتابه: (تعظيم قدر الصلاة) مطبوع متداول أن التصديق يتفاوت حكاه عن الحسن والعلماء، وهذا يُشعِر بأنه إجماع عنده.

الحديث خرَّجه الإمام البخاري في ثمانية مواضع:

الأول: في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا قتادة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فذكره، وتقدم ذكر المناسبة، الموضع الأول هنا في كتاب الإيمان.

الثاني: في كتاب التفسير، في باب قول الله -عز وجل-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [سورة البقرة 31] يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ح وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون إلى آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك» الحديث مطول يعني الشفاعة.

وفيه إخراج بعض العصاة من النار حتى لا يبقى فيها إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود، في الحديث يعني.

ومناسبة الحديث للترجمة كتاب التفسير، باب قول الله -عز وجل-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [سورة البقرة 31] مناسبته للترجمة في قوله: «وعلمك أسماء كل شيء» والترجمة باب: قول الله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [سورة البقرة 31] مطابقة، ومناسبة ذلك لكتاب التفسير ظاهره؛ لأن المشار إليه في الحديث مطابق لآية في كتاب الله التي هي..، الآية موضوع علم التفسير، موضوع التفسير ماذا؟ شرح كلام الله -عز وجل-، وفي الحديث حاء التحويل، ننتبه لحاء التحويل هنا، يقول الإمام البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ح وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس، حاء التحويل هنا، الحاء هنا المهملة يقصد بها التحويل من إسناد إلى آخر في قول الأكثر.

وفائدتها ما فائدة حاء التحويل؟ اختصار الأسانيد، لكن هنا في هذا الموضع فيه اختصار؟ ليس فيه اختصار.

المقدم: ......

كيف؟

المقدم: ......

لكن هل هنا فيه اختصار للإسناد يعني كون الحاء بعد ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام-؟

المقدم: ما فيه اختصار.

تفيد اختصار؟ ما تفيد اختصار.

وهذه موجودة في مواضع من الصحيح، وهي تؤيد قول من يقول: إن المراد بالحاء الحديث، وهو قول بعض المغاربة؛ لأنها لا تفيد التحويل من إسناد إلى آخر، على قول الأكثر أنها تنفع في هذا الموضع، ما تفيد ما أشاروا إليه من اختصار الأسانيد.

سائل: لكن -أحسن الله إليك- إذا كانت أثناء الإسناد -أحسن الله إليك- ألا تفيد فعلاً التحويل؟

بلى، في أثناء الإسناد تفيد التحويل من إسناد إلى آخر، ويستفاد منها اختصار الأسانيد.

سائل: فإذا وقعت بعد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تفيد.

لا تفيد، أو قد تحول من إسناد إلى آخر، لكنها لا تفيد الاختصار.

سائل: إنما تفيد...

يعني: لو قال هنا: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام ح وقال لي الخليفة: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد كلاهما عن قتادة عن أنس، اختصرنا، وجاءت في موضعها، لكنه بعد ما ساق الإسناد كاملاً، وذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ح، هذه لا تفيد اختصار، وإن أفادت التحويل، ومع ذلكم هي تقوي قول من يقول: إن المراد بالحاء الحديث.

المقدم: ولا يحتمل -أحسن الله إليك- أن يكون من النساخ أو وهم مثلاً؟

منهم من يقول: هي خاء وليست حاء، والخاء رمز المؤلف، يعني رجع الإسناد إلى المؤلف، فقال: قال لي خليفة، منهم من يقول ذلك، وقال لي خليفة، الآن هذا معلَّق أو متصل؟ يعني لو كان بدون لي، وقال خليفة يحتمل، على الخلاف السابق الذي ذكرناه مرارًا، لكن وقال لي خليفة.

المقدم: هذا متصل.

هذا متصل.

الموضع الثالث: في كتاب الرقاق، في باب صفة الجنة والنار، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يجمع الله الناس يوم القيام فيقولون» حديث الشفاعة بطوله، نحو ما تقدم قريبًا، وفيه: الإخراج من النار، والإدخال في الجنة، والترجمة باب صفة الجنة والنار.

في الحديث الإخراج من النار، والإدخال في الجنة، يعني من صفة الجنة أنه يدخل فيها المؤمنون، ومن صفة النار أنه يخرج منها من مات على التوحيد، ولو كان مصرًّا على الكبائر، فمناسبته للباب ظاهرة، ومناسبة الباب للكتاب صفة الجنة والنار، وما أورده في هذا الباب من أحاديث من كتاب الرقاق أظهر، في غاية الظهور، في كونهم يدخلون النار ألا يسوقهم هذا إلى العمل وترك الكبائر، كونهم يخرجون من النار ولو بعد زمان طويل لما معهم من إيمان، هذا يحثهم على الحرص على هذا الإيمان، ومحاولة تثبيته بشتى الوسائل.

على كل حال هذا كتاب الرقاق كتاب يسوق إلى العمل ويحدوا إليه؛ لأنه كتاب مواعظ، والمواعظ سياط للقلوب، نعم قد يشتغل الإنسان طول عمره بالأحكام بالحلال والحرام وما أشبه ذلك؛ لكنه بحاجة ماسة إلى مثل هذا الكتاب؛ لأنه هو الذي يسوقه إلى العمل.

والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أبدع في هذا الكتاب، فوصيتي ونصيحتي لكل مسلم فضلاً عن طلاب العلم وأهل العلم أن يعتنوا بهذا الكتاب من هذا الكتاب العظيم، وبعض الناس يتوقع أنه لا حاجة إليه، ويقول: أنا رجل مستقيم أصلي وأصوم وأعرف الأحكام، وأعبد الله على مراده، لكن ما هو بصحيح، القلب يغفل، فهو بحاجة إلى مثل هذه السياط، والله المستعان.

الموضع الرابع: في كتاب التوحيد، في باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص 75] قال: حدثني معاذ بن فضالة، حدثنا هشام عن قتادة عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أما ترى الناس خلقك الله بيده» الحديث، يذكرون مناقب آدم -عليه السلام-، ومنها: «خلقك الله بيده» وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص 75].

وفيه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرَّة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن ذَرَّة» والشاهد من الحديث كما تقدم قولهم: «خلقك الله بيده» واليد من صفات الله -عز وجل-، ومناسبة الصفات لكتاب التوحيد ظاهرة، إذ الأسماء والصفات أحد أنواع التوحيد الثلاثة.

الموضع الخامس: في كتاب التوحيد أيضًا، في باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة القيامة 22-23].

قال -رحمه الله تعالى-: وقال حجاج بن منهال: حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يُحبَس المؤمنون يوم القيامة حتى يُهِمُّوا بذلك، أو يُهَمُّوا بذلك» يصيبهم الهم «فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا» حديث الشفاعة بطوله، وفيه: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدًا» «فإذا رأيته وقعت ساجدًا» وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة؛ لأن الترجمة باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة القيامة 22-23] والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «فإذا رأيته» فدل على أن الله -سبحانه وتعالى- يُرى، وهذا هو الشاهد من حديث الترجمة.

وفيه أيضًا الأمر بإخراج أقوام من النار، وإدخالهم الجنة حتى ما يبقى في الجنة إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود.

الموضع السادس: في كتاب التوحيد، في باب كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا يوسف بن راشد، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا أبو بكر بن عياش عن حميد، قال: سمعت أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا كان يوم القيامة شُفِّعْتُ فقلت: يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة فيُدخَلون» الحديث مختصَرًا.

وفيه: مخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه، وهذا هو الشاهد: «فقلت: يا رب» والترجمة باب كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم.

الموضع السابع: في الباب السابق، باب التوحيد، باب كلام الرب -عز وجل- مع الأنبياء وغيرهم، من الكتاب السابق من كتاب التوحيد، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا معبد بن هلال العنزي، قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البُنانِي إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فساق الحديث بطوله، وفيه: «فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمَع، وسَل تُعطَ، واشفع تُشفَّع» هذا هو الشاهد «فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان» الحديث مطوَّل جدًّا «فيقال: يا محمد»  «فأقول: يا رب» والترجمة باب كلام الرب -عز وجل- مع الأنبياء وغيرهم.

سائل: هل يُفهَم من هذا أن البخاري -رحمه الله تعالى- يقطِّع الأحاديث ويذكرها بحسب الشاهد، أو أن له ضابطًا في إطالة الحديث أو تقصيره أحيانًا مع اختلاف منازع الاستدلال منه؟

من منهج الإمام البخاري أنه يقطِّع الأحاديث، والمسألة عند أهل العلم خلافية، لكن طريقة البخاري -رحمه الله تعالى- تقطيع الأحاديث، فيذكر في كل باب ما يناسبه، وقد يذكره مطوَّلاً لأمر يقصده، وقد يذكره في مواضع بحيث لا يرى بينها اختلاف إلا أنك إذا دقَّقْت النظر وجدت أنه لا يكرر حديثًا في موضعين بإسناده ومتنه إلا نادرًا، لا بد أن يشتمل التغير على فائدة متنية أو إسنادية، ولو كانت بصيغ الأداء، وأشرنا سابقًا أن البخاري كرر نحو عشرين حديثًا بإسنادها ومتنها من غير زيادة ولا نقصان.

الموضع الثامن: في كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله -عز وجل-: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [سورة النساء 164] قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام قال: حدثنا قتادة عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُجمَع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا هذا» الحديث.

قال ابن حجر: حديث أنس في الشفاعة أَوْرَد فيه طرفًا من أوله إلى قوله في ذكر آدم: «ويذكر لهم خطيئته التي أصاب» قال الإسماعيلي: أراد ذِكْرَ موسى قالوا له: "وكلمك الله" فلم يذكره، الإمام البخاري اقتصر على ذكر آدم، والترجمة: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [سورة النساء 164] يقول: قال الإسماعيلي: أراد ذكر موسى قالوا له: "وكلمك الله" فلم يذكره.

قلت أي ابن حجر: جرى على عادته في الإشارة، وقد مضى الحديث في تفسير سورة البقرة عن مسلم بن إبراهيم شيخه الذي روى عنه في هذا الموضع شيخه هنا وساقه هنا بطوله، وفيه: «ائتوا موسى عبدًا كلمه الله، وأعطاه التوراة» ومضى أيضًا في كتاب التوحيد هذا، في باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص 75] عن معاذ بن فضالة عن هشام بهذا السند.

وساق الحديث بطوله أيضًا، وفيه: «ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلمه تكليمًا» على كل حال كون البخاري يذكر ما لا يدل على الترجمة، مما يستدل بباقيه على الترجمة هذا مطَّرد عنده، قد يذكر طرف الحديث، ويكِل الباقي الذي فيه الشاهد إلى معرفة السامع ومعرفة القارئ، يعني باب ما جاء في رفع البصر مثلاً، وقول الله تعالى: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [سورة الغاشية 17] هنا شاهد على بُعْد، لكن أوضح منه، وإلى..، رفع البصر إلى السماء، نص الآية الثانية {وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} [سورة الغاشية 18] فالإمام البخاري له مقاصد ومغازي يريد أن يشحذ همم القارئ، فلا يكون يقرأ شيئًا واضحًا بحيث لا يستعمل ذهنه، ولا يشحذ فكره، بل عليه أن يفعل ذلك ليستنبط، والإمام البخاري في هذا الباب أتى بالعجائب. والحديث أيضًا خرَّجه الإمام مسلم فهو متفق عليه.

سائل: أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع بعلمكم المسلمين، في الآونة الأخيرة بدأ البعض يحمل لواء الإرجاء في الإيمان، وإخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، ودفع مسألة الزيادة وكذا النقصان، قابلهم فئة أخرى غلَت فكفَّرت، وزادت ونقصت، بل بالغت في إخراج العصاة من الإيمان، وبنى هؤلاء وهؤلاء يا شيخ مذهبهم على قاعدة لا تخفاكم وهي أن الإيمان مركَّب إذا زال بعضه زال كله، فمنعوا الزيادة والنقصان، بل إما كمال أو عدم، وقسموا الناس إلى كافر ومؤمن، ما صحة ذلك يا شيخ؟ وما الجواب عنه؟ وكيف يعني يدفع هؤلاء وهؤلاء الأدلة المتكاثرة الدالة على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، وعلى مسألة الزيادة والنقصان؟ أثابكم الله وأحسن إليكم.

أما وجود المرجئة والخوارج ومن يقول بأقوالهم فهو أمر لا يُستغرَب؛ لأن هذا موجود في العصور الأولى، ولكل قوم وارث، وكونهم يرون أن الإيمان لا يتجزَّأ بناءً على أن الإيمان مجرد التصديق فهو احتجاج أو استدلال على الدعوى بالمدَّعَى، هم قرروا أن الإيمان هو التصديق، ثم قالوا: إنه لا يتجزأ، ولا يقبل الزيادة والنقصان، وسلف هذه الأمة وأئمتها على أنه يتجزأ، ويتفاوت كما قررناه آنفًا، نقلاً عن أهل العلم فيما حكاه محمد بن نصر المروزي وغيره، التصديق نفسه يتجزأ ويتفاوت من شخص إلى آخر، والأعمال كما قرر أهل العلم داخلة في مسمى الإيمان، بل هي من مقتضياته، وعرفوا الإيمان بأنه: قول باللسان، واعتقاد وعمل بالأركان.

أما كونهم صاروا على طرفي نقيض الأمر كذلك، هم على طرفي نقيض، الخوارج من جهة مع المعتزلة، والطرف الآخر هم المرجئة، الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان عمل، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، على كل حال وفَّق الله أهل السنة وهداهم إلى التوسط في هذا الأمر، نظَر المرجئة إلى النصوص من زاوية أهملها الخوارج، ونظر الخوارج إلى النصوص من زاوية أهملها المرجئة، ووفَّق الله أهل السنة والجماعة إلى أن نظروا إلى النصوص بالعينين كلتيهما، ووفَّقوا بينها، ولم يضربوا النصوص بعضها ببعض، بل عملوا بها جميعًا، والله المستعان.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

إذًا يا مستمعي الكرام، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نشكر في ختام حلقتنا صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، شكرًا للإخوة الحضور معنا، الذين حضروا وناقشوا خلال هذا الدرس، شكرًا لكم أنتم يا مستمعي الكرام.

نلقاكم -بإذنه تعالى- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.