شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (299)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

في بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بضيف البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً بكم.

حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث أنس –رضي الله عنه- وفي أطراف الحديث ذكرنا بعض أطرافه، نستكمل هذه الأطراف لو سمحتم يا شيخ.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد،

فقد تكلمنا في آخر الحلقة السابقة عن بعض الأطراف، فذكرنا الأول أنه في كتاب الوضوء المترجم عليه باب الاستنجاء بالماء، والثاني: في كتاب الوضوء، باب من حُمِل معه الماء لطهوره. وفيه قال أبو الدرداء: أليس فيكم صاحب النعلين والوساد والطهور؟ وهذا تقدم الكلام فيه، لكن الإشكال في كلام ابن حجر في إيراد المصنف لقول أبي الدرادء: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد؟

قال: إيراد المصنف لأحاديث أنس مع هذا الطرف من حديث أبي الدرداء يُشعر إشعارًا قويًّا بأن الغلام المذكور في حديث أنس هو ابن مسعود.

قال: وقد قدّمنا أن لفظ الغلام يُطلق على غير الصغير مجازًا، وفي هذا كلامٌ كثير، وانتقاد من العيني، ورد عليه من قِبل ابن حجر في كلامٍ كثير ذكرناه في الحلقة السابقة، ويُشكل حمله على ابن مسعود –حمل الغلام لأنه كبير- وإن قال ابن حجر أنه يُطلق على غير الصغير مجازًا يُشكل عليه أيضًا وصفه بكونه من الأنصار.

وهناك إجابات لكن كثيرٌ منها غير مقنع، لكن الذي يظهر أن ابن مسعود ممن يخدم، وأنس ممن يخدم، وغلامٌ آخر ممن يخدم، وأبو هريرة يخدم، وجابر يخدم. كل هذا جاءت به النصوص، فلا يلزم أن يكون الغلام في هذا الحديث هو ابن مسعود أو أبو هريرة أو جابر، وكلٌّ يتشرف بخدمته- عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: ولا يمكن أن يقال بأن أنسًا –رضي الله عنه- تتكرر معه هذه الحادثة كثيرًا؛ لأنه لا يحتمل أن يكون..

هو الخادم، هو أصل في الباب.

المقدم: وبالتالي لا يمكن أن يقال: إنه مرة خرج معه، خرج مرارًا.

لا، يخرج باستمرار، هو الخادم، هو خادم النبي –عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: يمكن قال مرة: خرجت أنا وغلام من الأنصار، ومرة قال: خرجت أنا وغلام، ومرة: خرجت أنا ورجل.

نعم، هو ثابت، هو الأصل في الباب، هو ثابت، هو الأصل في الخدمة، يخرج معه مرةً أبو هريرة، ومرة جابر، ومرة ابن مسعود، ومرة شخص رابع وخامس وهكذا، فهذه الأوصاف التي فيها إبهام مَن خرج مع أنس تُحمل على من يخرج معه ولو لم يُذكر اسمه.

في صحيح مسلم من حديث أنس بلفظ: «كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إداوةً من ماء وعنزة فيستنجي بالماء».

قوله: نحوي إن كان في السن فابن مسعود أكبر منه بكثير؛ لأنه أحد السابقين الأولين ابن مسعود أسلم قديمًا، وهاجر هجرتين، وشهد بدرًا، وشهد المشاهد كلها فيبعُد أن يكون هو المراد.

المقدم: كونه نحوي.

برواية مسلم. يحتمل أن يكون نحوه في الخدمة، نحوه يعني: مثله في الخدمة، فيتجه مثل هذا.

في هذا الموضع الثاني قال الإمام البخاري بعد ذِكره تابعه النضر وشاذان عن شعبة.

المقدم: الثاني أم الثالث؟

لا، الثاني، الثاني، في الموضع الثاني يقول: تابعه..

المقدم: لأنا أخذنا.

أخذنا اثنين.

المقدم: وذكرنا الثالث المرة الماضية أيضًا.

لكن مادام الكلام في الثاني، والرواية التي ذكرها عندك في المختصر الثانية، ماذا قال؟

المقدم: وفي روايةٍ من ماءٍ وعنزة. ما ذكر الرواية الثانية، أتى بالثالثة: في باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء.

نعم في الموضع الثاني، دعنا في الموضع الثاني انتهينا منه.

الموضع الثالث: يقول: في كتاب الوضوء أيضًا، في باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، يقول -رحمه الله-: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة أنه سمع أنس بن مالك يقول: «كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلامٌ إداوةً من ماءٍ وعنزةً فيستنجي بالماء».

يقول البخاري –رحمه الله-: تابعه النضر وشاذان عن شعبة العنزة عليه زُجّ، الموضع الثاني في المختصر عندك.

المقدم: نعم، صحيح.

الموضع الثاني في المختصر ماذا قال؟

المقدم: وفي روايةٍ: من ماءٍ وعنزة.

وعنزة، هذه هي الموضع الثالث في الأصل، هو الموضع الثاني من المختصر والموضع الثالث في الأصل.

يقول البخاري: تابعه النضر وشاذان عن شعبة العنزة عصًا عليه زُجٌّ، هذه أوردها المختصِر فقال: من ماءٍ وعنزة، أي: أحمل أنا وغلامٌ إداوةً من ماءٍ وعنزةً، أي: وأحمل عنزةً يستنجي بالماء.

المقدم: ممكن نعود قليلاً؟

طيب.

المقدم: لما قال: عصًا عليه.

نعم، البخاري يقول: عليه.

المقدم: ما تُؤنث؟ قال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18].

انظر الرواية التي أوردها الحافظ مؤنثة، لكن التي في الأصل: عصًا عليه زُجٌّ.

قال البخاري: تابعه النضر وشاذان عن شعبة العنزة عصًا عليه زُجٌّ أي: تابع النضرُ بن شميل محمدَ بن جعفر، وحديثه موصولٌ عند النسائي. وشاذان أي: تابع شاذانُ وهو الأسود بن عامر محمدَ بن جعفر، وحديثه عند المصنف في الصلاة وهو الموضع الخامس.

يقول ابن حجر: العنزةُ بفتح النون: عصًا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة، ووقع في رواية كريمة في آخر حديث هذا الباب: العنزة عصًا عليها زُجٌّ، بزاي مضمومة ثم جيمٌ مشددة أي: سنان.

وفي الطبقات لابن سعد أن النجاشي كان أهداها للنبي –صلى الله عليه وسلم-، وهذا يؤيد كونها كانت على صفة الحربة؛ لأنها من آلات الحبشة كما سيأتي في العيدين، إن شاء الله تعالى.

في شرح الكرماني: العنزة بفتح النون أطول من العصا، وأقصر من الرمح، حينما تُقاس بشيء ليس معلوم مقداره مثل العصا، العصا محددة؟! لو قال: أطول من الذراع، أطول من الباع، لكن أطول من العصا! بعض الناس عصاه طويلة ثلاث أذرع، وبعضهم ذراعان، وبعضهم أقل.

المقدم: صحيح، حسب طوله هو أحيانًا.

فهو يقول: أطول من العصا، إلا إذا كان ينظر إلى أوساط الناس كما هو النظر في الغالب، وأقصر من الرمح، وفي طرفها زُجٌّ كزُجّ الرمح، والزُجُّ: الحديدة التي في أسفل الرمح كالسنان، وقال المهلب كما في شرح ابن بطال: معنى حمل العنزة حمل الإداوة من الماء نُصَّ عليه في الحديث قال: يستنجي بالماء، فماذا عن حمل العنزة؟

قال المهلب كما في شرح ابن بطال: معنى حمل العنزة –والله أعلم- أنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، فكانت العنزة لسترته في الصلاة، لكن لا يمنع أن يُلقي عليها ثوبًا فيستتر بها أثناء قضاء الحاجة، لا يختص هذا بالصلاة.

في الموضع الذي يليه –هو الموضع الرابع- في كتاب الوضوء: باب ما جاء في غسل البول، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لصاحب القبر: «كان لا يستتر من بوله» ولم يذكر سوى بول الناس.

الآن البخاري لما قال رحمه الله تعالى: باب ما جاء في غسل البول، (أل) هذه يحتمل أن تكون جنسية فتشمل جميع الأبوال، فيدخل فيها بول الآدمي، وبول الحيوان المأكول وغير المأكول، وبهذا يقول الشافعية يرون نجاسة بول مأكول اللحم، «كان لا يستتر من البول» يستنزه من البول فجعلوا (أل) هذه جنسية.

ومن يقول: بأن بول ما يُؤكل لحمه طاهر استدلالًا بقصة العُرنيين حيث أمرهم أن يشرب من ألبان الإبل وأبوالها، وأيضًا البخاري -رحمه الله تعالى- حينما قال: باب ما جاء في غسل البول، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لصاحب القبر: «كان لا يستتر من بوله» ولم يذكر سوى بول الناس، يدل على أنه يُرجح أن بول ما يؤكل لحمه طاهر.

قال -رحمه الله-: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثني روح بن القاسم، قال: حدثني عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك، قال: «كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا تبرز لحاجته أتيته بماءٍ فيغسل به». المناسبة: من قوله: فيغسل به.

المقدم: لكن هل هو نفس الحديث يا شيخ؟

نعم، هو نفسه عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس، نفس الطريق.

المقدم: نفس الطريق، لكن يعني فرق حتى في اللفظ: أجيء أنا وغلامٌ معنا إداوة من ماء، وهناك مناسبة أخرى أو حدث آخر..

أنس يقول: قال: «كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا تبرز لحاجته، أتيته بماءٍ بإداوة».

المقدم: طيب ليش المختصِر أورده في المختَصَر في موضعه، في مائتين وسبعة عشر لم يلغه، مما يدل على أنه يرجح على أنه حديث آخر؟

أورده من أجل الترجمة، من أجل الاستدلال به.

المقدم: المختصِر.

المختصِر أورده من أجل الاستدلال به على نجاسة البول.

المقدم: لكنه خرم القاعدة التي سار عليها، يترك تراجم كثيرة..

صحيح، لكن هذه بالنسبة لهم مهمة جدًّا، هذه مستمسك الشافعية، هذه الترجمة مستمسك الشافعية وما أورد البخاري تحتها في نجاسة عموم البول.

على كل حال: باب ما جاء في غسل البول مناسبته للحديث ظاهرة؛ لأنه يحمل الإداوة ويأتيه بالماء فيغسل به أثر النجاسة، فدل على أن البول نجس.

الموضع الخامس: في كتاب الصلاة: في باب الصلاة إلى العنزة.

قال: حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، قال: حدثنا شاذان عن شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت أنس بن مالك قال: «كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلامٌ ومعنا عكّازةٌ، أو عصا، أو عنزة، ومعنا إداوةٌ، فإذا فرغ من حاجته ناولناه الإداوة».

البخاري -رحمه الله تعالى- جعل حمل العنزة من أجل الصلاة إليها سترة، كما قرر ذلك المهلب فيما نقلناه عن ابن بطال، فقال: باب الصلاة إلى العنزة، إذًا المناسبة بين الحديث وبين الترجمة –باب الصلاة إلى العنزة- ظاهرة؛ لأنه لمَ تُحمل العنزة وإن كان حملها لما هو أعم من ذلك. نعم قد يُلقي عليها ثوبًا فيستتر بها أثناء قضاء حاجته كما تقدم.

 والحديث مخرَّج من صحيح مسلم، فهو متفقٌ عليه.  

المقدم: قال -رحمه الله تعالى-: عن أبي قتادة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه».

راوي هذا الحديث هو أبو قتادة الحارث عن المشهور من الأقوال في اسمه ابن رِبعي بن بُلدمة بن خُناس بن عُبيد بن غنم بن سلمة الأنصاري الخزرجي السلمي. اختُلف في شهوده بدرًا.

المقدم: عفوًا يا شيخ، خلينا نعيد شيئًا ذكرته قديمًا وسُئلت عنه كثيرًا: الأنصاري الخزرجي؟

السَلَمي.

المقدم: ألم نتفق أن يكون إذا بدأنا بالأقل نطلع تسلسل أو العكس؟

إذا ذكرنا الأعم الأنصاري لا يُغني عن ذِكر الخزرجي.

المقدم: إذا ذكرنا الأعم لا يُغني عن ذِكر الأخص.

وإذا ذكرنا الخزرجي لا يُغني عن السلمي، لو قلنا: السلمي، انتهينا، ما نحتاج إلى خزرجي ولا أنصاري. إذا لم يوجد في القبائل الأخرى نفس النسبة، أما إذا وُجد نفس النسبة في قبيلةٍ أخرى لا يُغني اللفظ الأخص عن الأعم.

اختُلف في شهوده بدرًا، واتفقوا على أنه شهد أُحدًا وما بعدها، وكان يقال له فارس رسول الله– صلى الله عليه وسلم-، توفي بالكوفي في خلافة علي –رضي الله عنه-، وقيل: توفي سنة أربعٍ وخمسين، وله ثنتان وسبعون سنة، انتهى ملخصًا من الإصابة.

وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب النهي عن الاستنجاء باليمين.

يقول ابن حجر: قوله: باب النهي عن الاستنجاء باليمين أي: باليد اليمنى، وعبَّر بالنهي يعني: لم يقل باب تحريم الاستنجاء باليمين، ولا قال: باب كراهة الاستنجاء باليمين، عبَّر بالنهي يعني: فيما هو أعم من التحريم والكراهة، لماذا عدل عن التحريم، وعدل عن الكراهية وعبَّر بالنهي؟

المقدم: يمكن ما اتضح له الحكم؟

نعم، يقول ابن حجر: وعبَّر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم أو للتنزيه، أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له. طيب إذا لم تظهر له، ألا يترجح عنده التحريم؟

المقدم: بلى، إذا لم تظهر ترجَّح له التحريم. الأول نقول: التحريم أرجح.

لكن هذا يعطينا أدبًا علميًّا لطالب العلم، الآن ما قال بالتحريم إلا أهل الظاهر وبعض الشافعية وبعض الحنابلة، وعامة جمهور أهل العلم على أنه للتنزيه.

طيب، ما ظهر له قرينة صارفة عن التحريم، ومع ذلك ما جزم بالتحريم، وهذه مسألة ترِد وتُشكل كثيرًا، وأشرنا إليها في دروسٍ سابقة وهي أنه قد يكون النهي صريحًا، ولا يوجد له صارف.

المقدم: لكن قول الأكثر؟

عامة أهل العلم، الأئمة الأربعة وأتباعهم كلهم على القول بالكراهة، أو أمر صريح ولا يوجد له صارف فيما بين يدي الباحث من الكتب، لكن يواجه بأنه لم يقل بالتحريم إلا الظاهرية، والأئمة الأربعة كلهم على الكراهة، وكذلك الوجوب والاستحباب بالنسبة للأمر الذي لا صارف له.

المقدم: فيسوقه الأدب للقول بقول الأكثر.

لابد أن اتفاق الأئمة مع أتباعهم بما فيهم من عُرف باقتفاء الأثر، يعني: كثير من الشافعية فيهم المحدثون يخالفون الإمام الشافعي في كثيرٍ من المسائل تبعًا للنصوص، ومع ذلك ما خالفوه في هذه المسألة، دل على أنه لابد من وجود صارف ولو لم نطلع عليه.

المقدم: سبق لك أن ذكرت لنا شيئًا من هذا مع سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-.

نعم بحثت مع الشيخ المسألة، وقلت: إن طالب العلم يهاب، عامة أهل العلم يقولون بقول ولا يقابلهم إلا الظاهرية، الشيخ -رحمة الله عليه- من اهتمامه بالسنة وعنايته بها قال: الأصل الدليل، لكنَّا نقول: لا يمنع أن يكون من رد هذا التردد أو هذا التوقف مع هيبة أهل العلم وجماهير أهل العلم أن يكون سبب عدم اطلاع الباحث على الصارف قصورًا أو تقصيرًا.

يعني: نظير ما قالوا في حديثٍ لا معارض له، ولا يعمل به أهل العلم، قالوا: إنه منسوخ. طيب ما الناسخ؟ قالوا: ولو لم نطلع عليه؛ إذ يبعُد أو يستحيل أن يتفق أهل العلم على ترك حديثٍ صحيحٍ مُحكم صريح إلا بمعارض أرجح منه.  

المقدم: وإن لم نطلع عليه.

ولو لم نطلع عليه. وأقول: إذا لم يوجد الصارف مع أن عامة أهل العلم على القول بخلاف مقتضى ما قرروه من أن الأصل في النهي التحريم، والأصل في الأمر الوجوب، ولو لم نطلع عليه وإنما كان سببه القصور أو التقصير، علمًا بأن الصارف عندهم كما سيأتي في كلام الحافظ أن الموضوع في الأدب.

الخبر ولو كان أمرًا في باب الأدب، أو كان نهيًا في باب الأدب، الجمهور يصرفونه من الوجوب والتحريم إلى الاستحباب والكراهة إذا كان من باب الأدب.

على كل حال، يقول: عبَّر بالنهي إشارةً إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم أو للتنزيه، أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له، وهي أن ذلك أدبٌ من الآداب.

يعني هذا الإمام البخاري على سعة اطلاعه وعلمه وفقهه ما جزم، ويوجد الآن في صفوف طلاب العلم الصغار من يجزم ويُخطئ ويُرجح على قلة باعه وقِصر اطلاعه.

المقدم: الله المستعان.

يقول: بكونه للتنزيه، قال الجمهور: وذهب أهل الظاهرِ إلى أنه للتحريم، وفي كلام جماعةٍ من الشافعية ما يُشعر به، لكن قال النووي: مراد من قال منهم: لا يجوز –النووي يريد أن يوجه ما نسبه الحافظ بن حجر لبعض الشافعية من كلامه مما يُشعر بالوجوب، ابن حجر قال: وفي كلام جماعةٍ من الشافعية ما يُشعر به يعني: التحريم، اللفظ الذي يُشعر بالتحريم هو قول بعضهم: لا يجوز، ووجهه النووي- لكن قال النووي: مراد من قال منهم لا يجوز الاستنجاء باليمين أي: لا يكون مباحًا يستوي طرفاه، بل هو مكروهٌ راجح الترك.

ومع القول بالتحريم فمن فعله..  حتى على القول بتحريمه، ما الحكم إذا استنجى بيمينه؟ هل يُجزئ الاستنجاء أو لا يُجزئ؟

المقدم: يُجزئ.

قال: ومع القول بالتحريم فمن فعله أساء وأجزأ، وقال أهل الظاهر: وبعض الحنابلة لا يُجزئ، لماذا؟ لأن النهي يقتضي البطلان مطلقًا عند الظاهرية، وعند الجمهور أن النهي لا يقتضي البطلان إلا إذا عاد إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه أو جزئه المؤثر فيه. إذا تأثر الحكم العام بجزئه المنهي عنه فإنه يؤثر في أصل المسألة.

يعني: إذا عاد إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه أو جزئه المؤثر كالركن فإنه يقتضي البطلان؛ لأنه إذا بطل الشرط بطل الكل، بطل الركن بطل الركن. وما عدا ذلك: إذا عاد إلى أمرٍ خارج فإنه لا يؤثر، ويقولون: يمثلون لمثل هذا بمن صلى وعليه عمامة حرير أو في يده خاتم ذهب..

المقدم: أو على أرضٍ مغصوبة.

هذه الخلاف فيها قوي، خلينا الآن في الخاتم الذي لا أثر له في الصلاة – أمر خارج عنها- وكذلك العمامة، لكن لو صلى وعليه سترة حرير وهي شرط، أثَّر عند الجمهور، والكل مؤثرٌ عند الظاهرية، فلا يصح الاستنجاء، ولا يُجزئ إذا استنجى بيمينه.

يقول: ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليدُ تُباشر ذلك بآلةٍ غيرها.

يستنجي بيمينه بالماء مثلًا، أو بماء يُمسكه بيمينه، هذا محل مورد الحديث، وهو محل الخلاف في الكراهة والتحريم، لكن إذا كانت إزالة النجاسة باليد دون آلة.

قال: ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليدُ تُباشر ذلك بآلةٍ غيرها كالماء وغيره، أما بغير آلةٍ فحرامٌ غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى، والله أعلم، لماذا؟ لأن أصل مباشرة النجاسة..

المقدم: باليمين.

لا، بأي جزء من أجزاء البدن حرام، مباشرة النجاسة حتى ولو كانت باليسار؛ ولذلك قال: أما بغير آلةٍ فحرامٌ غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى، والله أعلم.

المقدم: إذًا لعلنا نستكمل بإذن الله ما تبقى في حلقاتٍ قادمة.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة في شرح كتاب التجريد من أحاديث الجامع الصحيح.

 

لنا بكم لقاء بإذن الله تعالى في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير، شكرًا لطيب المتابعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.