شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (082)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، المسمى: بمختصر صحيح البخاري، للإمام زين الدين أحمد بن عبد اللطيف الزبيدي، المتوفى سنة: 893 للهجرة -رحمه الله-. لا زلنا وإياكم في ثنايا هذا الكتاب الذي يتولى شرح أحاديثه صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال -رحمه الله-:

"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معه حتى يُصلَّى عليها» هكذا عندنا «ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أُحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

راوي الحديث أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، حافظ الصحابة، بل حافظ الأمة، سبق التعريف به في ثاني أحاديث كتاب الإيمان.

والحديث ترجم عليه الإمام بقوله: بابٌ اتباع الجنائز من الإيمان.

قال الحافظ ابن حجر: ختم المصنِّف معظم التراجم التي وقعت له من شعب الإيمان بهذه الترجمة؛ لأن ذلك آخر أحوال الدنيا، وإنما أخَّر ترجمة أداء الخمس من الإيمان لمعنًى سنذكره هناك.

ووجه الدلالة من الحديث للترجمة قد نبهْنا عليه في نظائره قبل، الدلالة من الحديث: «من اتبع جنازة مسلم إيمانًا» والترجمة: بابٌ اتباع الجنائز من الإيمان، وربط الثواب، ثواب اتباع الجنازة بالإيمان دل على أن الاتباع من الإيمان، تعقَّبه العيني بقوله: هذا ليس بصحيح؛ لأنه بقي من الأبواب المترجمة لشعب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان، وهو مذكور بعد أربعة أبواب من هذا الباب، وكيف يصح أن يقال: ختم بهذه الترجمة والتراجم مذكورة؟ هذا يمشي على ماذا؟ هذا يمكن أن يُمشَّى كلام العيني لو لم ينتبه لذلك ابن حجر، يعني لو لم يقل الحافظ ابن حجر: وإنما أخَّر ترجمة أداء الخمس، يعني خفي عليه؟ خفي على ابن حجر هذا الاستدراك؟

المقدم: ما أظن.

ما خفي؛ لأنه نص، وإنما أخر ترجمة أداء الخمس من الإيمان لمعنًى سنذكره هناك هذا كلام ابن حجر.

يقول العيني: هذا ليس بصحيح لأنه بقي من الأبواب المترجمة لشعب الإيمان بابٌ أداء الخمس من الإيمان، هذا ما خفي على ابن حجر، ولذلك قال: ختم المصنف معظم التراجم ما قال: جميع التراجم، والترجمة التي استدركها العيني نص عليها ابن حجر في كلامه.

يقول: فكيف يصح أن يقال: ختم بهذه الترجمة التراجم المذكورة؟ قلت: لم يخف على ابن حجر ما أشار إليه العيني، وقد أشار في أول الكلام أن المصنف ختم معظم التراجم، لا جميع التراجم.

ثم قال العيني: فإن قلت: ما وجه قوله في الباب السابق: بابٌ الزكاة من الإسلام، وفي هذا الباب: بابٌ اتباع الجنائز من الإيمان؟ يقول: قلت: راعى المناسبة والمطابقة بينهما، فإن المذكور في الباب الأول الزكاة من الإسلام، اتباع الجنائز من ماذا؟ من الإيمان، فإن قلت: ما وجه قوله في الباب السابق: باب: الزكاة من الإسلام وفي هذا الباب باب: اتباع الجنائز من الإيمان؟ لماذا ما قال: من الإسلام؟ وفي الأول: لماذا ما قال: من الإيمان؟

المقدم: لمناسبة نص الحديث.

لمناسبة نص الحديث من جهة؛ ولأنهما بمعنى واحد عنده.

المقدم: عند البخاري.

عند البخاري -رحمه الله-.

يقول العيني: قلت: راعى المناسبة والمطابقة فيهما، فإن المذكور في الباب الأول لفظ الإسلام، حيث قال: فإذا هو يسأل عن الإسلام، والمذكور في هذا الباب لفظ الإيمان، حيث قال: «من اتبع جنازة مسلم إيمانًا» فترجم الباب على لفظة الإيمان، وأبدى العيني مناسبة لطيفة بين هذا الباب والذي قبله بقوله: الإنسان له حالتان حالة الحياة وحالة الممات، فالمذكور في الباب الأول هو أركان الدين التي يحصل الثواب بإقامتها بمباشرة الأحياء بدون واسطة، والمذكور في هذا الباب هو الثواب الذي يحصل بإقامتها بمباشرة الأحياء بدون واسطة. والمذكور في هذا الباب، يقول في الأول: المناسبة اللطيفة التي أبداها العيني، يقول: الإنسان له حالتان حالة حياة وحالة ممات، فالمذكور في الباب الأول هو أركان الدين التي يحصل الثواب بإقامتها بمباشرة الأحياء بدون واسطة، والمذكور في هذا الباب هو الثواب الذي يحصل بإقامتها بمباشرة ماذا؟ الأحياء بالواسطة، يحصل الثواب، لكن بواسطة مباشرة الأحياء، يحصل الثواب للميت، كما أنه يحصل الثواب...

المقدم: للأحياء.

للأحياء، يحصل الثواب بالنسبة لهذا الباب بمباشرتهم الصلاة على الجنازة، ومباشرة الدفن يحصل لهم، ويحصل أيضًا للميت بمباشرة الأحياء، فحصل للحي بدون واسطة، وحصل للميت بواسطة.

«من اتبع» بالتشديد وللأصيلي: «تَبِع» بحذف الألف، وكسر الموحدة، قال الكرماني: ظاهره يقتضي المشي وراء الجنازة، ظاهر أم ليس بظاهر؟

المقدم: نعم، لأن الاتباع لا يكون إلا...

نعم، من الخلف.

ظاهره يقتضي المشي وراء الجنازة، وهو مذهب أبي حنفية، وأما الأئمة الثلاثة فقالوا: قدامها أفضل، وحملوا الاتباع على المعنى العرفي؛ إذ لو تقدم عليها أو حاذاها أو تأخر بحيث يُنسَب إلى الجنازة، ويعد من شيعتها كان له حكم الاتباع عرفًا، ولو كان أمامها، ما الذي أخرجه؟

المقدم: إلا الجنازة.

إلا الجنازة.

ورجحوا القدام لما روي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- والشيخين كانوا يمشون أمامها، هذا كلام؟

المقدم: الجمهور.

الجمهور، ضمن كلام الكرماني، فيما ينسبه إلى الجمهور، وأيضًا المشيعون للجنازة كالشفعاء لها؛ ولهذا يقولون في الدعاء: وقد جئناك شفعاء له، ومن شأن الشفيع أن يتقدم بين يدي المشفوع له.

وقال الثوري: الكل على السواء لا ترجيح فيه، قال الحافظ ابن حجر: قد تمسك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل، ولا حجة فيه؛ لأنه يقال: تبعه إذا مشى خلفه، أو إذا مر به فمشى معه، تبعه إذا مشى خلفه، أو إذا مر به فمشى معه، وكذا اتَّبَعه بالتشديد وافتعل منه، فإذا هو مقول بالاشتراك، يعني مشترَك، الاتباع مشترَك، سواء كان خلفه أو أمامه أو عن يمينه أو عن شماله محاذيًا له، إذا كان خروجه أو ذهابه بسببه، يكون متَّبِعًا له.

المقدم: وفِعْل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه عندما كانا أمام الجنازة مشيًا أم ركوبًا يا شيخ؟

يأتي هذا.

يقول: هو مقول بالاشتراك، وقد بيَّن المراد الحديث الآخر المصحَّح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر في المشي أمامها.

وأما أتْبَعه بالإسكان فهو بمعنى لَحِقَه إذا كان سبقه، ولم تأتِ به الرواية، تعقَّبه العيني بقوله: قلت: هذا القائل نفى حجة هؤلاء بما هو حجة عليه، يقول العيني: قلت هذا القائل نفى حجة هؤلاء بما هو حجة عليه؛ لأنه فسَّر لفظ: "تَبِع" بمعنيين: أحدهما: حجة لمن زعم أن المشي خلفها أفضل؛ لأنه قال: تمسك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل، ولا حجة فيه، والآخر ليس بحجة عليه ولا هو حجة لخصمه، يقول: فافهم.

ثم الركوب وراء الجنازة لا بأس به، والمشي أفضل، وقالت الشافعية: لا فرق عندنا بين الراكب والماشي يعني في المشي أمامها، خلافًا للثوري حيث قال: إن الراكب يكون خلفها، وتبعه الرافعي في شرح المسند، وكأنه قلد الخطابي فإنه كذا ادعى.

وفيه حديث صححه الحاكم على شرط البخاري من حديث المغيرة بن شعبة، وقال به من المالكية أيضًا أبو مصعب.

الحديث الذي أشار إليه الكرماني، أن النبي -عليه الصلاة والسلام- والشيخين كانوا يمشون أمامها، أشار إلى الكرماني ابن حجر، أخرجه ابن حبان قال: أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي، قال: حدثنا سُريج بن يونس، قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر -رضوان الله عليهما- يمشون أمام الجنازة، وإسناده صحيح، وهو مخرَّج أيضًا عند ابن أبي شيبة والطيالسي وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد.

والحديث الذي أشار إليه العيني في التفريق بين الماشي والراكب أخرجه الحاكم، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الفقيه، قال: حدثنا الحسن بن مكرم، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي، قال: حدثنا زياد بن جبير بن حية عن أبيه جبير بن حية عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الماشي أمام الجنازة والراكب خلفها والطفل يصلَّى عليه» قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرِّجاه ووافقه الذهبي.

«جنازة» بالجيم المفتوحة والمكسورة.

الآن الخلاصة أيهما أفضل أمامها أو خلفها؟ لفظ: «اتَّبَع».

المقدم: تدل على أنها...

تدل على الخلف، لكن حديث المغيرة نص في الموضوع «الماشي أمام الجنازة، والراكب خلفها» هذا نص، ويبقى أن هذا في حال السعة، لكن لو هناك ضيق شديد وزحام، واضطر الإنسان أن يكون خلفها وهو ماشي، الأمر فيه سعة، لو وجد الراكب فرجة، وأراد أن يتقدم الناس ليهيِّئ ما تحتاجه الجنازة في المقبرة أيضًا يحصل لهم من ذلك الأجر، بل ما هو أعظم.

«جنازة» بالجيم المفتوحة والمسكورة، قال العيني: والكسر أفصح، وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش وعليه الميت، وقيل: عكسه مشتقة من جَنَز إذا سَتَر، قال الجوهري: الجِنازة بالكسر، والعامة تقول بالفتح، والمعنى للميت على السرير، وإذا لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش.

المقدم: يعني يصح كذا وكذا جِنازة وجَنازة.

وجِنازة.

المقدم: صلاة الجِنازة، يصح نقول: صلاة الجِنازة؟

ماذا تقصد بالجِنازة وجَنازة؟

المقدم: هو ما دام أنه يقول: يصح فيها الفتح والكسر.

قال العيني: والكسر أفصح جِنازة، وقيل: بالفتح الجَنازة للميت، وبالكسر للنعش.

المقدم: هذا أحد الأقوال، لكن على قول من قال: إن الجِنازة والجَنازة سواء، نقول: صلاة الجِنازة صحيحة.

صحيحة.

لكن هنا لطيفة يبديها بعضهم عندك فتح وعندك كسر، منهم من يقول: الأعلى للأعلى، والأسفل للأسفل، ما معنى هذا؟ أيهما الأعلى الميت أو السرير؟

المقدم: الميت جَنازة.

طيِّب، الميت جَنازة، والسرير؟

المقدم: جِنازة.

الأعلى للأعلى، والأسفل للأسفل، ويطردون هذا في كثير يقولون: دَجاجة ودِجاجة، دَجاجة للذكر، والكسر للأنثى، المايح والماتح، ما المايح والماتح؟ الماتح: الذي يَستخرِج الماء وهو فوق البئر، والمايح في الأسفل، في أسفل البئر، يستنبط الماء يضع الماء في الدلو، والماتح من فوق، يطردون هذا، وهو من اللطائف، لطيفة يبدونها.

«مسلم» «من اتبع جنازة مسلم» يخرج بذلك الكافر فلا يثبت في اتباع جنازته هذا الأجر، بل يعد هذا من حقوق المسلم على أخيه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز» وروى أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «حق المسلم على المسلم ست» قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: «إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته، وإذا مرض فعده» فسَمِّتْه بالسين والشين، سَمِّتْه وشَمِّتْه بمعنى واحد «وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتَّبِعْه» والحديث مخرَّج أيضًا في المسند والسنن وغيرها.

«إيمانًا واحتسابًا» تقدم شرحه في باب قيام ليلة القدر، والمراد بذلك حال كونه مؤمنًا محتسبًا لا مكافأة ولا رياء ولا مخافة، لا رياء ولا مجاملة، بعض الناس يُحْرَج ثم يضطر يصلي على الميت، ويضطر أيضًا إحراجًا ومماراة أو مخافة أو مكافأة.

المقدم: يقول ما رأوني أهله أو كذا.

نعم، أو مكافأة، والله خرج في جنازة أبي أخرج معه في جنازة أبيه، هذه مكافأة؛ ولذا رُتِّب الأجر على ماذا؟ قوله: «إيمانًا واحتسابًا».

«وكان معه» أي مع المسلم، وللكشميهني: «معها» أي مع الجنازة «حتى يصلَّى عليها» أو «حتى يصلِّي عليها» حتى يصلِّي عليها بكسر اللام، ويُروَى بفتحها، فعلى الأول لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة.

المقدم: بالكسر.

حتى يصلِّي.

المقدم: يصلي هو، نعم.

نعم.

فالأجر مربوط بالأمرين بالصلاة وبالدفن، فعلى الأول لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال: يحصل له ذلك ولو لم يصلِّ.

المقدم: لمجرد الحضور.

يعني مجرد الحضور نعم، مجرد الاتباع، لمجرد الاتباع، وعلى الثاني: قد يقال: يحصل له ذلك ولو لم يصلِّ عليها.

قال ابن حجر: أما إذا قصد الصلاة وحال دونه مانع فالصواب حصول الثواب له مطلقًا، والله أعلم.

قلت: ومثله لو حصل مانع من اتباعها بعد الصلاة عليها، كما يحصل في الجنائز المشهودة، الجنائز الكبرى في الزحام قد لا تتمكن من اتباعها، قد تقصد الاتباع ويحال دونك ودونها من كثرة الناس، وهذا حصل في الجنائز الكبيرة المشهودة، قد يُقفَل باب المقبرة؛ لأنها غَصَّت، امتلأت بالناس، ويُخشَى على القبور من كثرة الناس والزحام، مثل هذا يحصل له الأجر -إن شاء الله تعالى-؛ لأنه قصد وحاول وعجز.

«ويُفْرَغ» بضم أوله وفتح الراء، ويُروى بعكس «من دفنها» قال ابن حجر: أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط، الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد.

المقدم: لكن أنت ذكرت -أحسن الله إليك- يُفرَغ ما ذكرتها يَفرَغ؛ لأن عندنا في النسخة: ويَفرَغ من دفنها.

قلنا: يُفرَغ بضم أوله وفتح الراء.

المقدم: إذًا نسختنا غير صحيحة.

ويروى بالعكس، يَفرُغ.

المقدم: لكن ويَفرَغ.

الآن فَرَغ من أي باب؟ فَرَغ من باب نَصَر، يَفرُغ نَصَر يَنصُر، فَرَغ يَفرُغ وهكذا.

قال ابن حجر: أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن، يحصل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمَد خلافًا لمن تمسك بظاهر بعض الروايات، فزعم أنه يحصل له بالمجموع ثلاثة قراريط.

«فإنه يرجع» مشتق من الرجوع لا من الرَّجْع، قاله العيني كالكرماني.

«من الأجر بقيراطين» تثنية قيراط، أصله قِرَّاط بتشديد الراء، بدليل جمعه على قراريط، فأُبدِل من إحدى الراءين ياء، كما في الدينار أصله دِنَّار بدليل جمعه على دنانير، والقيراط في اللغة نصف دانق، وقال الطيبي: قيل: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، نصف العشر يعني واحد على عشرين، وأهل الشام يجعلونه جزءًا من أربعة وعشرين جزءًا.

وفي العباب: وزن القيراط يختلف باختلاف البلاد فهو عند أهل مكة ربع سدس الدينار، ربع السدس عند أهل مكة يكون ماذا؟ جزءًا من أربعة وعشرين كقول أهل الشام، وعند أهل العراق نصف عشر الدينار كقول أكثر أهل البلاد، وفُسِّر القيراط في الحديث بقوله: «كل قيراط مثل أحد» أي جبل أحد بضمتين، سمي بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى، وهو على نحو ميلين شمال المدينة، وفي الحديث: «أحد جبل يحبنا ونحبه» مخرَّج في الصحيح من حديث سهل بن سعد، الآن القيراط مفسَّر في الحديث: «كل قيراط مثل أحد» وجاء في حديث اقتناء الكلب: «فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط» وفي رواية: «قيراطان» ينقص قيراطان، فهل القيراط في باب اقتناء الكلب هو القيراط هنا؟ إن كان الأمر كذلك فالمسألة مصيبة! كل يوم ينقص من عمله مثل جبل أحد؟! والنصوص الشرعية إنما تفسَّر بمثلها، بنصوص أخرى، ولكن المسألة مختلَف فيها، هل يُرجَع إلى أصل القيراط، وهذا فُسِّر بجبل أحد لأنه فضل من الله -عز وجل-، وفضل الله لا يُحَد، أما إذا كان على قول بعض أهل العلم: إن القيراط في ذلك الباب مثل هذا الباب فالمسألة كارثة.

«ومَن صلَّى عليها ثم رجع قبل أن تدفن» بنصب (قبل) على الظرفية، و(أن) مصدرية، أي قبل الدفن، وهو تسوية القبر بالتمام، أو نصب اللبن عليه «تدفن» يعني ظاهره أنه يفرغ من دفنها، يهال عليها التراب وتنتهي،  نعم وتسوية القبر بالتمام أو نصب اللبن عليه فقط، يعني بحيث يوارى باللبن ولو لم يفرغ من دفنها، قال القسطلاني: والأول أصح عندنا، أنه يفرغ منها فراغ تام، ويفرغ من دفنها.

قال القسطلاني: والأول أصح عندنا، ويحتمل حصول القيراط بكل منهما بمجرد مواراته باللبن، أو الفراغ التام من دفنها بإهالة التراب، يقول: ويحتمل حصول القيراط بكل منهما، لكن القيراط يتفاوت، فإنه يرجع بقيراط من الأجر، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ثم حضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني؛ لماذا؟ صلى وذهب إلى القبر وحده لم يحصل له القيراط الثاني، كذا قاله النووي، لكن قال القسطلاني: ليس في الحديث ما يقتضي ذلك إلا بطريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط بشهود الدفن وحده كان مقدَّمًا، ويجمع حينئذٍ بتفاوت القيراط، نص الحديث.

المقدم: لكن قصده -أحسن الله إليك- أن يتأخر في الحضور يعني يحضر بعد أن تدفن أم كيف يعني يحضر وحده؟

لا، كثير من الناس يفعل هذا، يصلي على الجنازة، ثم يصلي الراتبة، ويقول: ما دام الناس..، الطريق يخف منه الزحام، أصلي النافلة، وقد أقرأ جزءًا من القرآن ثم أصل المقبرة معهم، ما تبعهم لمقصد حسن، في كلام النووي أنه ما يحصل له القيراط، لا بد أن يتبع، ونص الحديث: «من اتبع جنازة وكان معه حتى...» يعني معه «حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها» مقتضاه أنه ما يتخلف عنهم، لكنه مفهوم هذا، مفهومه أن من تخلف عنهم لا يحصل له القيراط الثاني، يحصل له قيراط الصلاة، لكن لا يحصل له قيراط الاتباع والتشييع.

المقدم: هذا قد يشق في بعض المدن الكبيرة يا شيخ أحيانًا لبُعْد المسجد الذي يصلى فيه عن المقابر فيسلك بعض الناس طرقًا مختلفة للوصول إلى المقبرة، ما يحصل له هذا الاتباع، بعض المدن الكبيرة في العالم الإسلامي.

هذا كلام النووي، لكن قال القسطلاني: ليس في الحديث ما يقتضي ذلك إلا بطريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط بشهود الدفن فقط، يعني الغاية؟ الصلاة غاية، الدفن غاية، المشي غاية أو وسيلة؟

المقدم: وسيلة.

المشي وسيلة، المشي إلى الصلاة وسيلة، يعني يلزم على هذا أننا نتبعه من بيته إذا خرج به من بيته إلى المسجد ثم إلى المقبرة إذا قلنا بهذا.

المقدم: جيد، هكذا يوجه كلام النووي.

نعم.

المقدم: لأن مثل -أحسن الله إليك- في القاهرة على سبيل المثال إحدى الدول العربية الكبيرة يُصلَّى مثلاً في القاهرة، ويخرج به إلى المقابر التي تبعد أحيانًا أربعين إلى خمسين كيلو، فمن الصعب جدًّا أن يسير الجميع في موكب كامل مع الجنازة، بعضهم يتواعد، وبعضهم يخرج قبل الجنازة، وبعضهم بعد الجنازة.

حتى عندنا في الرياض لو صُلِّي في الجامع الكبير مثلاً أو جامع عتيقة، ودُفِن في مقبرة النسيم مفاوز.

المقدم: بعيد، صحيح.

والإشارات تعوق أحيانًا، أما الذي يحصل بغير قصد يقصد الاتباع ثم يحال دونه هذا أجره ثابت -إن شاء الله تعالى-، لكن الكلام على الذي يقول: أنا والله أتنفل أصلي الراتبة، وأقرأ جزءًا من القرآن، وأرتاح من الزحام، ثم ألحقهم فيما بعد، هذا الذي ينصَبُّ عليه كلام النووي.

يقول القسطلاني: ليس في الحديث ما يقتضي ذلك إلا بطريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط بشهود الدفن وحده كان مقدمًا، ويجمع حينئذٍ بتفاوت القيراط، ولو صلى ولم يشيع رجع بالقيراط؛ لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة، لكن يكون القيراط من صلى دون قيراط من شيع مثلاً وصلى.

وفي مسلم: «أصغرهما مثل أحد» ويدل على أن القراريط تتفاوت.

لا شك أن الأجور تتفاوت الصلاة، الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام تتفاوت بين زيد وعمرو، فكيف بالصلاة على الجنازة والتشييع وما يحتف بذلك من إخلاص وعدمه؟ لا شك أن القراريط تتفاوت، في رواية مسلم أيضًا: «ومن صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط» لكن يحتمل أن يكون المراد بالاتباع هنا ما بعد الصلاة، ولو تبعها ولم يصلِّ ولم يحضر الدفن فلا شيء له، يعني تبعها إلى المسجد، وهذا مع الأسف الشديد يوجد أحيانًا من يجلس في المسجد، ولا يصلي على الجنازة، هذا حرمان، تبع الجنازة إلى المسجد وجلس في سيارته ينتظرهم يخرجون ما صلى على الجنازة، نقول: له أجر الاتباع؟ نقول: الاتباع هذا إنما شرع من أجل الصلاة، لو تبعها إلى المقبرة، وجلس عند باب المقبرة في سيارته، أو جلس مع أحد يتكلم ولا شهد الدفن له أجر الاتباع؟ نقول: الوسائل إنما يترتب أجرها إذا فعلت مقاصدها، أو حيل بينه وبين فعل هذه المقاصد. وكذا لو تبعها ولم يصل ولم يحضر الدفن فلا شيء له، بل حكي عن أشهب كراهته.

وذكر العيني من أحكام الحديث جملة، منها: الحث على الصلاة على الميت، واتباع جنازته، وحضور دفنه.

وقال أبو الزناد: حضَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على التواصل في الحياة بقوله: «صل من قطعك، وأعط من حرمك، ولا تقاطعوا ولا تدابروا» وعلى التواصل بعد الموت بالصلاة والتشييع إلى القبر والدعاء له.

الثاني: فيه: أن الثواب المذكور إنما يحصل لمن تبعها إيمانًا واحتسابًا، فإن حضورها على ثلاثة أقسام: احتسابًا ومكافأة ومخافة، والأول: هو الذي يجازَى عليه الأجر، ويحط الوزر، والثاني: لا يعد ذلك في حقه، والثالث يقول العيني: الله أعلم بما فيه، يعني إذا خرج مكافأة، خرج كبير، خرج أمير، خرج شخص ظالم، لم يُتبَع في جنازته تسلط أعوانه على بعض الناس مثل هذا الله أعلم بما فيه.

الثالث: فيه وجوب الصلاة على الميت ودفنه وهو إجماع، الرابع: فيه الحض على...

المقدم: وجوب يا شيخ؟

وجوب الصلاة على الميت فرض كفاية معروف، فرض كفاية، وكذلك الدفن وما يتعلق بالميت.

الرابع: فيه الحض على الاجتماع لهما، والتنبيه على عظم ثوابهما، وهي مما خصت به هذه الأمة كذا قال العيني، وسبق الكلام على المشي هل يكون خلف الجنازة أو أمامها؟ والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

لعلنا نستكمل -بإذن الله- ما تبقى في حلقة قادمة. أيها الإخوة والأخوات، نصل بهذا إلى ختام حلقتنا، نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة. أذكركم بالفاكس من أراد المراسلة: 4425543، برنامج: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. شكرًا لكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.