التعليق على تفسير سورة الذاريات من تفسير الجلالين (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يقول: {وَفِي مُوسَى} [(38) سورة الذاريات] يقول: "معطوف على فيها، المعنى وجعلنا في قصة موسى آية" تركنا فيها آية، الآية السابقة، وأيضاً في قصة موسى آية وعبرة للمعتبر، يعني كما جعل في قرى قوم لوط آية وعبرة للمدكر للذين يخافون العذاب الأليم، كذلك جعل في قصة موسى مع فرعون آية وعبرة لمن يخافون العذاب الأليم.

يقول: "معطوف على فيها، المعنى وجعلنا في قصة موسى آية" حينما تكبر وتجبر جاءه موسى بالآيات البينات فعتا وادعى الربوبية والألوهية فكان مصيره ومآله إلى أن أغرقه الله -جل وعلا- وجعل بدنه لمن خلفه آية، لكن آية لمن؟ للذين يخافون العذاب الألم، وإلا فكم من شخص يذهب إلى ديارهم وينظر العلامات والدلائل الواضحات من باب النزهة ويحصل هناك ما يحصل من المخالفات الشرعية ومن اللهو واللعب خلاف ما يطلب من المسلم الذي يخاف العذاب الأليم، لو أن هناك عقل فضلاً عن دين، تجد موضع أهلك فيه شخص عادي، يعني لو أنت في صباك رأيت منظراً شخص قتل في هذا المكان، شخص قتل أو دهس في هذا المكان، يعني تستصحب هذا المنظر إلى أن تموت، كلما رأيت هذا المكان تذكرت، هذا في ظروف عادية، يعني يمكن يكون قتله قصاص، يعني مطلوب شرعاً، أو مثلاً قضاء يعني اعترض لسيارة ودهسته، يعني أمر عادي ومع ذلك تستصحب ولو كان بعد خمسين سنة تمر بهذا المكان تقول: الله المستعان، هذا المكان الذي دهس فيه فلان، وتجد في قلبك شيء من الشعور المناسب لهذا المقام، فكيف بأمة أهلكت وأمم أهلكت في هذا المكان ولا يحرك ساكناً؟! كأن القرآن أنزل لغيرنا أو أنزل لنتفكه بالحديث في أخبار الأمم السابقة، يعني كأننا نقرأ مع أن الإنسان إذا قرأ في كتب التواريخ كتب التواريخ يقرأ فيها طالب العلم ويديم النظر فيها من أجل الاعتبار والادكار؛ لأنها تشتمل على العبر والمواعظ والتواريخ على ما يقال: التاريخ يعيد نفسه، والأسباب قد تتعدد الأسباب، لكن المصير هو الهلاك لهذه الأمم المخالفة.

يقول: {وَفِي مُوسَى} [(38) سورة الذاريات] يقول: "معطوف على فيها، المعنى وجعلنا في قصة موسى آية"   {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ} [(38) سورة الذاريات] ملتبساً أو متلبساً {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [(38) سورة الذاريات] بحجة واضحة" ملتبس من الالتباس واللبس وهو الاختلاط، المتلبس يعني المتقمص لهذا السلطان وهو الحجة البينة الواضحة {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [(38) سورة الذاريات] أي بحجة واضحة، جاء موسى -عليه السلام- بأبين الحجج إلى هذا الطاغية، لكن إذا كان الله -جل وعلا- قد كتب عليه الشقاوة فلا ينفعه، فلا تفيد فيه المواعظ، ولا تفيد فيه المعجزات، ولا تفيد فيه الآيات، يذكر عن شخص وظيفته الطيران طيار يعني، من طوال من الناس يعني طوله واضح، وهو مجرم نسأل الله العافية، منتهك للمحرمات، مجاهر بذلك، مترفع على الناس، متعالٍ عليهم، فقدر الله -جل وعلا- أن سقطت الطائرة فمات من فيها، هذا قائد الطائرة حصلت له كسور في جميع عظامه، وجلس في المستشفى يقولون: ما يقرب من عشر سنين وخرج وقد نقص طوله متر أو نصف متر نسيت عاد، عظامه التي تهلهلت وترضرضت وما استطاعوا أن يضعوها في أماكنها سببت في نقصه، ثم بعد ذلك خرج يمشي على رجليه، ماذا تتوقعون بعد هذه المدة وبعد أن رأى الموت بعينه، {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ} [(101) سورة يونس] خرج أشر وأشد، أشد مما كان عليه، فعلى الإنسان أن يلهج بالسؤال وأن يطلب الله -جل وعلا- وأن يدعوه ضارعاً إليه أن يثبته على دينه، وأن يزيده من الإيمان والخشية لله -جل وعلا-.

جاءه {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [(38) سورة الذاريات] بحجة واضحة بآيات معجزات باهرات خوارق {فَتَوَلَّى} [(39) سورة الذاريات] أعرض عنه وعن الإيمان به، {بِرُكْنِهِ} تولى بركنه، الركن: جانب الشيء الأقوى، جانب الشيء الأقوى، ترون أركان البيت لو سقط منها واحد سقط البيت، أركان الإسلام جوانبه الأقوى، أركان الصلاة ما يبطلها، وهكذا.

{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [(39) سورة الذاريات] مع جنوده؛ لأنهم له كالركن" ولذا من فقد هذا الركن وهذا المعين من البشر قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [(80) سورة هود] هذا من؟ هذا لوط، وجاء في الحديث الصحيح: ((ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)) وهو الله -جل وعلا-، فلا شك أن الدعم والعون ركن للإنسان، وردء للإنسان، لكن إذا عدم الأسباب المادية الحسية فلن يعدم الركن والجانب الأقوى وهو خير معين وأعظم معين وهو الله -جل وعلا-، فلا يقول الإنسان: والله أنا الآن في بلد غريب ما لي أحد ما لي قريب، ما لي معين، ما لي ناصر، أهلي بعيدون كل البعد عني، فلا بد أن أتنازل عن بعض الأشياء من أجل أن أتقرب إلى الناس بها، لا، تأوي إلى ركن شديد وهو الله -جل وعلا- ((ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)) وهذا تكبر وتجبر وأعرض عن الإيمان بركنه، معتمداً على جنوده؛ لأنهم له كالركن، وقال لموسى هو -يعني موسى-: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [(39) سورة الذاريات] ساحر أو مجنون، حينما جاء بـ(أو) هنا ساحر أو مجنون، هو قال: ساحر، وقال: مجنون أيضاً و(أو) هذه قالوا: أنها بمعنى الواو، وربما عاقبت الواو التي هي أو؛ لأنه قالهما، قال: ساحر وقال: مجنون، لكنه قال: ساحر في وقت، وقال: مجنون في وقت آخر، وعلى هذا العطف بالواو هنا ساحر ومجنون، يعني قالهما في أوقات متفاوتة، ما قالهما في آن واحد، أو يقال: إن (أو) هذه للإبهام كأنه يقول: لا أدري هل هو ساحر وإلا مجنون؟ للتقليل من شأنه؛ أن مثل هذا الشخص في نظره أنه ليس بأهل أن أحقق في أمره هل هو هذا أو هذا؟ المقصود أنه لا يلتفت إليه، هذا جاء ليضل الناس بسحره أو يتكلم لهم بكلام لا معنى له كالمجنون.

{فَأَخَذْنَاهُ} [(40) سورة الذاريات] الله -جل وعلا- يقول: {فَأَخَذْنَاهُ} [(40) سورة الذاريات] كثيراً ما يعبر عن نفسه -جل وعلا- بضمير الجمع {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [(1) سورة القدر] يقول: {فَأَخَذْنَاهُ} [(40) سورة الذاريات] والعرب كما

في صحيح البخاري في تفسير سورة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [(1) سورة القدر] يقول البخاري: "العرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع" تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع، {فَأَخَذْنَاهُ} [(40) سورة الذاريات] أي أخذنا فرعون {وَجُنُودَهُ} [(40) سورة الذاريات] ركنه الذي يأوي إليه {فَنَبَذْنَاهُمْ}: طرحناهم {فِي الْيَمِّ} وهو البحر فغرقوا، الذي لا يعرف السباحة يغرق، وأيضاً ولو عرف السباحة وكان في مكان من البحر في قاموس البحر وسط البحر لأن القاموس وسط البحر (القاموس المحيط والقابوس الوسيط لما تفرق من لغة العرب شماطيط) تعرفون الكتاب هذا؟ يعني تكميل الاسم يمكن ضيع الكتاب، نعم، القاموس المحيط أشهر من نار على علم، ما في طالب علم إلا ويعرف القاموس المحيط.

المقصود أنه يقول: طرحناهم في اليم يعني في البحر فغرقوا، وهو أي فرعون، {مُلِيمٌ} مليم: فعيل آت بما يلام عليه من تكذيب الرسل ودعوى الربوبية، وهو مليم: يعني آت ليست على وزن فعيل، مليم قالوا: آت بما يلام عليه، مليم: اسم من لام يلوم فهو ملوم، ملوم، وفعيل: يراد بها اسم المفعول، فهو ملوم، فقد أتى بما يلام عليه من تكذيب الرسل ودعوى الربوبية، فرعون الذي طغى وبغى وتجبر، وفعل ما فعل وادعى الربوبية وادعى الألوهية {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [(24) سورة النازعات] {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [(38) سورة القصص] ومع هذا يقول: مليم، آت بما يلام عليه، ويأتي في حق ذي النون يونس بن متى، مليم يأتي وصفه بأنه مليم آت بما يلام عليه، هذا طاغية متجبر، وهذا نبي مرسل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث يقول: ((لا تفضلوني على يونس بن متى)) هذا مليم، وهذا مليم، يعني هل الاشتراك في الوصف يقتضي الاشتراط في الفعل والجزاء؟ في السبب والجزاء؟ لا يلزم؛ لأن اللوم نسبي، اللوم نسبي، المشرك آت بما يلام عليه، الذي لا يصلي مع الجماعة آت بما يلام عليه، الذي يرتكب معصية آت بما يلام عليه، الذي يترك واجب آت بما يلام عليه، طالب العلم إذا نام الليل كله ولم يصل ملوم، مليم، يلام على هذا، فاللوم نسبي، اللوم نسبي، يعني دعونا في النوافل مثلاً لو أن معلماً يعلم القرآن مثلاً وحدد للطلاب حفظ ورقة كل يوم، فجاء الطلاب يحفظون ورقة غالبهم، وجاء واحد حفظ ورقتين، وجاء ثالث حفظ نصف ورقة صفحة، الذي حفظ نصف ورقة ألا يستحق اللوم؟ ألا يمكن أن يقال: مليم، يعني آت بما يلام عليه؟ ألا يؤنبه المعلم لأنه قصر؟ يلام، الذي يتراخى في طلب العلم وهو سنة يلام، لماذا يا فلان؟ فاللوم نسبي، وكل يلام على حسبه، وعلى حسب بمنزلته، إذا قصر عنها عما ينبغي أن يكون عليه من المستوى يلام، فيونس بن متى مليم، آت بما يلام عليه، و فرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية والألوهية مليم، فلا يقال: وصف فرعون بمليم، ووصف يونس بن متى ذو النون بأنه مليم إذن حكمهما واحد؟ لا، الذي لا يحج الفرض مليم آت بما يلام عليه، لكن لو كان يحج كل سنة وأخر سنة ما حج ما يلام؟ يلام يا أخي ليش.... تأخرت؟ لأنك عملت عملاً فالمفترض أنك تثبت هذا العمل؛ لأن اللوم نسبي، الحرمان نسبي، يعني الذي يملك سعة وجدة وما يحج هذا محروم، وإن كان يحج كل سنة، حرم أجر هذه الحجة، يعني لا يلزم أن يكون محروم بمعناه الشرعي أنه آت بمخالفة شرعية، لا، لكن هذه أمور نسبية والناس منازل، يعني يلام زيد على ما يمدح به زيد، يلام زيد على ما يمدح به زيد، لو أن الإمام صلى بالناس والتفت سلم والتفت ورأى اثنين فاتهم شيء من الصلاة وسلم عليهم بعد الصلاة قال: ما شاء الله، الله يجزاك خير ويزيدك توفيق يقولها لواحد، والثاني: يا أخي ليش وراك الله يهديك اليوم؟ يلومه ليش تأخر؟ لأن منزلة هذا غير منزلة هذا، هذا ما هو بواقع يا الإخوان؟ واقع، يا أخي أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، هذا تفرح أنه جاء يصلي لو ما أدرك إلا التشهد، وذاك طالب علم قدوة بين الناس، ما يصلح أنه يقضي من الصلاة شيء، وإن كان يعني على أجر، وعلى خير وأدرك الجماعة، لكن فرق بين فلان وفلان، ولذلك يكرر أهل العلم مقولة يقولون: حسنات الأبرار سيئات المقربين، حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس معنى هذه السيئات التي يعاقب عليها لا، لكنها بالنسبة لهم، للمقربين يعني يلامون عليها، يلامون عليها، وأما بالنسبة للأبرار يكفي منهم مثل هذا، ومثل ما قلنا: هذا والله فاته ركعة وذا فاته ركعة، هذا ما شاء الله تشجعه وتقول: جزاك الله خير وما شاء الله وأكثر الله من أمثالك، وطيب إنه يجي يصلي مع الناس، والثاني: لا والله يا أخي أنت طالب علم عليك...... ليش تفوتك الصلاة؟ ترى مثلك يقتدى به، ويلام على صنيعه، فمن هذه الحيثية وصف فرعون بأنه مليم، ووصف ذا النون بأنه مليم، ولا يقتضي التساوي في الوصف.

يعني جاء في حديث أن الفقراء يدخلون قبل الأغنياء الجنة بخمسمائة عام، وجاء بمائة وعشرين عاماً، وجاء بسبعين عاماً، يعني هل نقول: إن الأحاديث مضطربة هذه متناقضة؟ لا يا أخي، يعني بين أغنى الناس وأفقر الناس خمسمائة، ثم بعد من دون الأعلى ومن فوق الأدنى ما يناسب، إلى أن يكون التقارب بينهم إلى أن يصل إلى حد سبعين، فما يقال في مثل هذا تناقض بل الأشخاص والأوصاف تتفاوت وهذه أمور نسبية.

"آت بما يلام عليه من تكذيب الرسل ودعوى الربوبية" {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [(24) سورة النازعات] يعني من الطرائف التي تذكر في كتب الأدب، من أخبار المتنبئين جيء لأحد الولاة أظنه المنصور جيء له بشخص ادعى الربوبية وادعى أنه موسى بن عمران، قال: أنا موسى بن عمران، موسى بن عمران نبي بني إسرائيل مات منذ ألوف، قال: أنا موسى بن عمران، طيب أنت موسى بن عمران؟ إذن العصا التي بيدك هي عصا موسى التي تنقلب حية؟ قال: نعم، قال: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [(19) سورة طـه] خلينا نشوف، قال: لا، ما ألقيها حتى تقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [(24) سورة النازعات] إذا قلت، فأمر به وسجن وضرب إلى أن تاب، فيقول: موسى ما تفعل يعني العصا بمجردها حتى تقول، والمسلم لن يقول مثل هذا، على كل حال هذه تذكر من الطرائف في كتب الأدب، وينشط بها السامع، لا مانع، وإن كانت..، الله المستعان.

"دعوى الربوبية {وَفِي} [(41) سورة الذاريات] إهلاك {عَادٍ} آية" هنا يقول: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [(41) سورة الذاريات] في إهلاك عاد آية، لكن لمن؟ {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [(37) سورة الذاريات] ليست لكل أحد، وإلا تجد من يذهب إلى ديارهم للنزهة مع الأسف نجد، لكن الذين يخافون العذاب الأليم لا يجوز لهم أن يدخلوها إلا باكين، وجاء النهي عن الصلاة في مواضع الخسف، ترجم البخاري بهذا وذكر بعض القصص، والله المستعان.

{وَفِي} [(41) سورة الذاريات] إهلاك {عَادٍ} آية" {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [(41) سورة الذاريات] الريح العقيم: الأصل في العقم عدم الإنتاج، عدم الإنتاج، ففي البشر عدم الولادة، من لا يولد له يقال: عقيم، وكثيراً ما يقال: هذا جدل عقيم، إيش معنى هذا؟ يعني ليست فيه فائدة، ليست له ثمرة ولا نتيجة، ما في إنتاج مثمر، "هي التي لا خير فيها؛ لأنها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر" عقيم، قال: "وهي الدبور" هي الدبور، يعني على ما جاء في الحديث الصحيح: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)).

{مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ} [(42) سورة الذاريات] من نفس أو مال" ما تذر من شيء (ما) نافية، و(شيء) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، وأدلخت (من) لتأكيد هذا العموم، وتأكيد النفي "{أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}  كالبالي المتفتت" لكنه عموم يراد به الخصوص، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [(25) سورة الأحقاف] لكنه الشيء الذي يقبل التدمير، والذي كتب الله عليه الدمار، فما دمرت السماوات ولا الأرض ولا الجبال، لكنها دمرت ما أرسلت من أجله، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [(25) سورة الأحقاف] يعني مما أرسلت له، {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ} [(42) سورة الذاريات] من نفس أو مال {أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}  كالبالي المتفتت"، يعني العظام وهي رميم، {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [(78) سورة يــس] يعني أنها تفتت، إذا مضى عليها مدة خلاص صارت رميم وتفتت، صارت مثل الجص، بودرة بيضاء، تفتت، هذا هو الرميم البالي المتفتت.

بعد ذلك قال: {وَفِي ثَمُودَ} [(43) سورة الذاريات] أي "وفي إهلاك {ثَمُودَ} آية" وفي إهلاك ثمود آية، يعني كما في إهلاك عاد آية، وفي موسى آية، وتركنا فيها آية، هذه آيات، ونجد الإنسان يمر هذه السورة بدقيقتين ما كأنها تحمل أي معنى، وقد لا يشعر بها يقرأ في (ق) ثم لا يتذكر إلا إذا أراد أن ينتهي من القراءة، هذا خلل، هذه آيات هذه عبر، إن كنت ممن يخاف العذاب الأليم قف عند هذه الآيات، واعتبر وادكر، لكن نشكو إلى الله قسوة القلوب، صارت لا تفيد المواعظ، ذكر بالقرآن من يخاف وعيد، يعني من لم يتذكر بالقرآن بأي شيء يتذكر، بأي شيء يتعظ، والحسن يقول: ابحث عن قلبك في ثلاثة مواطن: عند قراءة القرآن، وفي الصلاة، والذكر، يقول: إن وجدته وإلا فاعلم أن الباب مغلق، ما في صلة بينك وبين ربك، إذا ما وجدته في هذه المواطن ما في القلب ميت، والواحد منا وهذا حال كثير من الناس يقول: دخلت مسجد واسع جديد كبير، يقول: يوم صفيت خلف الإمام نظرت فإذا المسجد ما في منبر، كبر ونظر في المسجد وإذا ما فيه منبر، وتأمل في المسجد قال: إن كان هذا ما هو بجامع ما في شيء يصلح جامع، ما في منبر، يقول: تأملت ها وين نحط المنبر؟ فإذا فيه غرفة عن يمين المحراب، قلت: هذه تصلح منبر، وسلم الإمام وأنا أنقل الأثاث من هذه الغرفة من أجل أن نجعلها منبر، يا إخوان هذه حال كثير منا ترى يا إخوان، والله إننا واقعين في هذا كثير، هذه الصلاة يعني هل نجد فيها ما يعبر عنه النبي بـ((أرحنا بالصلاة؟)) أبداً والله، يعني اليأس ما هو بوارد، لكن يبقى أن هذا حال كثير من الناس، لا بد من مراجعة، يقول: إن وجدت قلبك في قراءة القرآن والذكر والصلاة وإلا فاعلم أن الباب مغلق، يعني ابدأ من جديد، حاول فتح الباب.

يقول: "وفي إهلاك {ثَمُودَ} آية {إِذْ قِيلَ لَهُمْ} [(43) سورة الذاريات] بعد عقرهم الناقة {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} تمتعوا بما تيسر لكم من متع الحياة، تمتعوا أمر تهديد {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [(205-207) سورة الشعراء] يعني تمتعوا بأنواع الملذات والمشتهيات، لكن جاءهم ما كانوا يوعدون، ويش الفائدة؟ جاءهم ملك الموت وقبض أرواحهم، خلاص انتهت المدة، يعني يغمس في النار غمسة واحدة ينسى مائة سنة عاشها في النعيم، وهذا أنعم أهل الدنيا.

"وفي إهلاك {ثَمُودَ} آية {إِذْ قِيلَ لَهُمْ} [(43) سورة الذاريات] بعد عقرهم الناقة {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} أي إلى انقضاء آجالكم" تمتعوا إلى الأجل الذي حدد لكم "كما في آية {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [(65) سورة هود] ثلاثة أيام: بعد عقر الناقة، عقروها انبعث أشقاها فعقروها، ثلاثة أيام، قال: لكم ثلاثة أيام يأتيكم العذاب، طيب اليوم الأول الثاني الثالث، جاءهم العذاب، انعقدت الأسباب فلا دافع لها ولا رافع ولا مانع، وما استثني من الأمم بعد انعقاد الأسباب إلا قوم يونس، إلا قوم يونس، ما استثني إلا هم، وإلا فالسنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل، والأسباب التي تقتضي الهلاك في الأمم السابقة هي موجودة، يعني إلى قيام الساعة كل من عمل من الأعمال ما عذب به أولئك، فإنه مستحق للعقاب بمثل عقابهم، ولذا يقول أهل العلم: في إرسال الحجارة من طين على قوم لوط يقولون: فيه وجوب رجم اللوطي أنه يرجم، وهنا {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [(65) سورة هود] اليوم الأول، الثاني، الثالث، بعد ذلك {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [(44) سورة الذاريات] تكبروا وتجبروا {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي عن امتثاله {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} بعد مضي الثلاثة الأيام، أي الصيحة المهلكة، الصاعقة الصيحة المهلكة، الأصل في الصاعقة أنها نار تنزل من السماء يصحبها صوت مهول عظيم، فأطلقت على ذلك الصوت، وإن لم يكن معها نار، أهلكوا بالصيحة المهلكة {وَهُمْ يَنظُرُونَ} بالنهار، ينظرون: يبصرون، بالنهار، أو ينتظرون ما حدد لهم.

{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} [(45) سورة الذاريات] أي: "ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب" الجالس جالس ما استطاع أن يقوم، فضلاً عن كونه يستطيع الهرب، ما استطاع القيام، لا تحمله رجله، فكيف يهرب من عذاب الله؟ {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} [(45) سورة الذاريات] أي: "ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب، {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} وما كانوا منتصرين: على من أهلكهم، الذي أهلكهم هو الله -جل وعلا-، والتعبير بمنتصرين معلوم أن المخلوق لا يستطيع ولا يحاول الانتصار على خالقه، وإنما قد يحاول الانتصار على السبب الذي يهلك به، هو لا يحاول أن ينتصر على خالقه الذي أهلكه بهذا السبب، لكنه يحاول أن ينتصر على السبب، يعني مثل: "من عصاني وهو يعرفني سلط عليه من لا يعرفني" كما هو واقع في بلدان المسلمين اليوم، العقوبة من الله -جل وعلا- بسبب ذنوب {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [(30) سورة الشورى] سلط الله على هؤلاء العصاة من لا يعرفهم، من لا يعرف الله -جل وعلا- من الكفار، فهل هؤلاء الذين يريدون أن يدفعوا عن أنفسهم في على حد زعمهم أنهم يريدون الانتصار على المسبب أو على السبب؟ على السبب، إنما يريدون الانتصار على السبب، يعني هل يستطيعوا أن ينتصروا على الصاعقة؟ لا يمكن، هل يستطيعون أن يتقوا هذه الصاعقة بوسائلهم؟ ما كانوا منتصرين، ما استطاعوا.

{وَقَوْمَ نُوحٍ} [(46) سورة الذاريات] في قراءة بالجر {وقومِ نوح} يقول: "بالجر عطف على ثمود" وفي ثمودَ ممنوع من الصرف، ثمود المراد به القبيلة، منعت للعلمية والتأنيث، ثمود، وقوم نوح، قوم مصروف عطف على ثمود فيجر بالكسرة الظاهرة، نوح أيضاً مصروف، نوح عربي وإلا أعجمي؟ أعجمي، لماذا صرف؟ لأنه ثلاثي ساكن الوسط، فيصرف ثلاثي ساكن الوسط، مثل: هند، ثلاثي ساكن الوسط، ليت هنداً، مصروفة لماذا؟ لأنها ثلاثية ساكنة الوسط، والسبب في منع الاسم من الصرف ثقل الصرف، والثلاثي ساكن الوسط خفيف، فإذا وجدت العلتان العلمية والتأنيث كما هنا يمنع من الصرف، فاطمةَ، عن فاطمةَ، عن أبي هريرةَ، يمنع من الصرف علمية وتأنيث، لكنه يصرف إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط، حمص علمية وتأنيث وعجمة، ثلاث علل، لكنه ثلاثي ساكن الوسط، فهل نقول: إنه مصروف مثل هند ومثل نوح، ثلاثي ساكن الوسط؟ قالوا: هذه يختلف فيها هل هذه الخفة الناشئة من كونه ثلاثي ساكن الوسط ترفع علة ويبقى علتين ويستمر الممنوع من الصرف أو كفيلة بأن يصرف مثل هند مادام خفيف يصرف ويش المانع؟ هذه مسألة خلافية بين أهل العلم ومعروف الخلاف فيها.

{وَقَوْمَ نُوحٍ} [(46) سورة الذاريات] بالجر عطف على ثمود" أي وفي إهلاكهم بما في السماء والأرض آية، وبالنصب: أي وأهلكنا قوم نوح، يعني في إهلاك ثمود إهلاك ثمود كذلك اعتبروا، كما في إهلاك ثمود أهلكنا

قوم نوح، قوم نوح، ألا يمكن أن يقال في رواية النصب وقومَ نوح أن نقدر الفاء ونقول: إنه منصوب على نزع الخافض، يعني وفي ثمود وفي قوم نوح، لكن ارتفع نزع الخافض فانتصب ما بعده، كثيراً ما يقولون: انتصب على نزع الخافض، الظروف إنما نصبت بانتزاع الخافض، يومَ، في يوم، أو بتقدير: أهلكنا قوم نوح من قبلُ أي قبل إهلاك هؤلاء المذكورين، (من) حرف جر، (قبلُ) مجرور بـ(من) لكنه مبني على الضم، لماذا؟ لأنه حذف المضاف مع أنه منوي، حذف المضاف مع نيته، لو ذكر المضاف نعم لو قيل: من قبل إهلاك هؤلاء قلنا: يجر، لو ذكر المضاف {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} [(137) سورة آل عمران] ولو حذف المضاف ولم ينو

فساغ لي الشراب وكنت قبلاً

 

...................................

يعرب مع التنوين، لكنه هنا قبل وبعد والجهات الست إذا حذف المضاف ونوي معناه فإنه يبنى على الضم، مثل: أما بعد.

أي قبل إهلاك هؤلاء المذكورين {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [(46) سورة الذاريات] العلة الفسق، والفسق كما يطلق على ارتكاب المحرمات التي لا تخرج من الدين يطلق أيضاً على الكفر، يطلق أيضاً على الكفر   {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} [(18) سورة السجدة] يعني هو مقابل بالإيمان، فالفاسق هو الكافر، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [(46) سورة الذاريات].

"{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [(47) سورة الذاريات] بقوة" بأيد: بقوة، معروف أن المفسر عنده شيء من التأويل، فهل نقول: إنه أول اليد بالقوة أو نقول: إن التفسير هنا صحيح، نعم التفسير صحيح الأيدي هنا القوة، وهو تفسير مأثور عن السلف، وهذه الآية ليست من آيات الصفات وإلا فاليد ثابتة لله -جل وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، على منهج أهل السنة والجماعة لا على طريقة المخالفين من تأويلها بالنعمة أو بالقوة وما أشبه ذلك، اليد ثابتة، لكن هنا هذه الآية ليست من آيات الصفات، وجاء تفسيرها عن جمع من السلف بالقوة، فلا يستدرك عليه هنا، بأيدٍ بقوة.

"{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [(47) سورة الذاريات] قادرون" موسعون قادرون، يعني الموسع في مقابل المقتر، والموسع قادر على تحقيق ما يريد بخلاف المقتر، لكن هنا حينما ارتبطت بالسماء عرفنا أن السعة هذه يراد بها السماء، يعني لموسعون بناءها، بناء هذه السماء، وإذا كانت الأرض التي لا يمكن تقديرها مع أن الوسائل البشرية تطورت، وجابت أقطار الأرض، لكن يبقى أن هناك ما لم يطلع عليه البشر من هذه الأرض إذا كانت نسبتها إلى السماء كحلقة ألقيت في فلاة، أو كدراهم سبعة، السماوات السبع كدراهم سبعة بالنسبة إلى العرش، والأرض بالنسبة للسماء كحلقة ألقيت في فلاة، فما سعت هذه السماء؟! وإذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأمور من هذه العظمة، عظمة الله -جل وعلا- لا تدركها الأفهام، ولا تبلغها الأوهام مهما تخيلت، مهما تخيلت ما يصل، خيالك لن يصل.

"{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [(47) سورة الذاريات] قادرون" يقال: آد الرجل يئيد قوي، وأوسع الرجل صار ذا سعة وقوة" ويريد أن يجعل الفعل هنا أوسع من اللازم؛ لأن لو قلنا: إن السعة هذه متعلقة بالسماء لقلنا: إنه من المتعدي، لموسعون خلقها، خلق هذه السماء، والمؤلف يرى أنها من أوسع الرجل اللازم، الذي لا يتعدى إلى المفعول بنفسه، وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وقوة، لكن هذه السعة يدخل فيها دخولاً أولياً، ما جاء النص عليه في النص، يعني ما يذكر في النص دخوله فيه قطعي، يعني السعة هنا "{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [(47) سورة الذاريات] في كل شيء، يعني قادرون على كل شيء، يعني لو تأملنا قليلاً ما ورد في النصوص، ضرس الكافر مثل جبل أحد، مثل الجبل العظيم ضرس، وما بين منكبي الكافر جاء فيه كذا وكذا، المقصود أن هذه الأمور تثبت سعة الله -جل وعلا- وقدرته على كل شيء، كل شيء قابل للتوسيع في قدرة الله -جل وعلا-، ومنها السماء المنصوص عليها في الآية، يعني دخولها في هذا العموم قطعي، أي "صار ذا سعة وقوة".

"{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} [(48) سورة الذاريات] مهدناها" لكي تناسب العيش عليها فهي مفروشة، يعني لو كانت الأرض كلها جبال لصعب العيش فيها، لكن الجبال إنما أوجدت لترسية الأرض {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [(32) سورة النازعات] ولذا إزالة هذه الجبال كما يفعل الآن لا شك أنه يعرض هذه الأرض لخلاف ما أوجدت الجبال من أجله، نعم لو وجد هناك ضرورة ملحة، وهذه الجبال عائقة في طريق المسلمين لا شك أن المسألة مصالح ومفاسد مترتبة عليها، كما قالوا في وجود مقبرة في طريق المسلمين هذه مسألة تقدر بقدرها، لكن كونها تزال من أجل حطام الدنيا هذا لا شك أنه ينافي الحكمة من إيجاد هذه الجبال، {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [(32) سورة النازعات] ينافي الحكمة من إيجاد هذه الجبال.

"{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} [(48) سورة الذاريات] مهدناها" جعل الأرض مهد يعني يلازمها الناس وغيرهم ممن يعيش على ظهرها، كما يلازم الطفل المهد، فهي ممهدة راسية ثابتة والأرض فرشناها مهدناها "{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [(48) سورة الذاريات] نحن" فالمخصوص بالمدح محذوف تقديره: نحن.

{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [(49) سورة الذاريات] من كل شيء خلقنا زوجين يقول: "متعلق بقوله: خلقنا" الجار والمجرور متعلق بخلقنا، خلقنا زوجين من كل شيء، يعني صنفين، من كل جنس تجد صنفين، الذكر والأنثى، السماء والأرض، الشمس والقمر، السهل والجبل، الصيف والشتاء، الحلو والحامض، النور والظلمة" هذا يمشي إذا لم يوجد ثالث لهذه الأصناف، أو لا يوجد فرد لا ثاني له من المخلوقات، هذا على عمومه يبقى، لكن العرش واحد، والكرسي واحد، والقلم واحد، فهذا مستثنى من كل شيء، أيضاً هناك أشياء منها ثلاثة، وأشياء منها أربعة، الذكر والأنثى، هذا الأصل يعني في المخلوقات ذكر وأنثى، قد يوجد صنف ثالث لا ذكر ولا أنثى، لكن هذا خلاف الأصل، السماء والأرض ماشي، الشمس والقمر ماشي، السهل والجبل ماشي، قد يوجد نوع ثالث مثلاً ليس بسهل ولا جبل وإنما هو منهبط من الأرض، الصيف والشتاء فيه أيضاً ربيع وخريف، وأيضاً الحلو والحامض، فيه المالح وفيه المز الذي ليس بحامض ولا حلو، النور والظلمة متقابلة، هناك ما هو من قبيل الضد، وهناك ما هو من قبيل النقيض، فما هو من قبيل النقيض نعم يدخل في هذا، لكن ما هو من قبيل الضد..، لو تقول مثلاً: منها الأبيض والأسود فيه ألوان أخرى.

على كل حال {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [(49) سورة الذاريات] هذا هو الغالب نعم {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [(49) سورة الذاريات] بحذف إحدى التائين من الأصل" الأصل لعلكم تتذكرون، فحذفت إحدى التائين فصارت تذكرون، ومنهم من يقول: إن التاء الثانية أدخلت أدغمت في الذال، فصارت تذَّكرون تذَّكرون، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [(49) سورة الذاريات] بحذف إحدى التائين من الأصل فتعلمون أن خالق الأزواج فرد فتعبدونه" خالق هذه الأشياء هو المستحق للعبادة، هو المستحق للعبادة.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [(50) سورة الذاريات] ففروا إلى الله، يعني هل الفرار إلى الله -جل وعلا- بأن نركب المراكب الفضائية لنحلق بها إلى ما فوق العرش، نفر إليه بأبداننا إليه -جل وعلا-؟ أو نفر مما يبعدنا منه إلى ما يقربنا إليه؟ لأن التقريب هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وأقرب للإنسان من عنق راحلته، لكن القرب ثابت لله -جل وعلا- لكن قربنا إليه؟ قربه إلينا ثابت بالنصوص، لكن قربنا إليه بما يقربنا إليه من فعل أوامره واجتناب نواهيه، و((أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد)) ففروا إلى الله، فروا إلى ما يقربكم إليه، ولذا يقول: "فروا إلى ثوابه من عقابه بأن تطيعوه ولا تعصوه" فعلى الإنسان أن يفر إلى الله -جل وعلا-، إذا جلس معه أناس وطال بهم المجلس وهناك مكان يمكن أن يختفي به عن هؤلاء وراغ عنهم بخفية وانسل إلى هذا المكان وجلس يذكر الله ويقرأ القرآن، بحيث لا يلفت أنظارهم إليه، أو يصلي ركعتين ثم رجع إليهم وكأن شيئاً لم يكن هذا فرار إلى الله.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [(50) سورة الذاريات] وأمثال ذلك كثيرة، يعني أقل ما يكون فرار القلب إلى الله -جل وعلا-، وكم من إنسان يخالط الناس من خواص المسلمين من عبادهم من علمائهم من فضلائهم تجده يخالط الناس ببدنه وقلبه معلق بالله -جل وعلا-.

"{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [(50) سورة الذاريات] بين الإنذار" بين الإنذار.

{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [(51) سورة الذاريات] يقدر قبل ففروا قل لهم" قل لهم، قل لقومك بعد أن نظروا في أحوال الأمم الماضية، وما فعل الله بهم، وما أنزل بهم من عقوبات، قل لهم: فروا إلى الله بتوحيده، بعبادته، {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [(51) سورة الذاريات] فلا تتركوا هذا التوحيد، وهذه الأوامر.

ثم قال: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [(51) سورة الذاريات] لا تشركوا به {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [(51) سورة الذاريات] يعني أنا لكم نذير مبين في البابين، في باب فعل الأوامر التي على أرسها التوحيد، وفي باب ترك النواهي التي على رأسها الشرك.

وقال: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [(51) سورة الذاريات] يقدر قبل ففروا قل لهم".

ثم قال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا} [(52) سورة الذاريات] كذلك مثل ما حصل من الأمم السابقة ومثل ما قيل لك يا محمد كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا: هو ساحر أو مجنون يعني لمن أرسل إليهم، كثير من الأمم كما مر في قول فرعون {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [(39) سورة الذاريات] يعني لكل قوم وارث، تجد بعض الأمور يتوارثها الناس من غير توصية، من غير توصية، وإلا هل يقال: إن فرعون وقوم فرعون أوصوا قريش أن يقولوا كما قال -جل وعلا- منكراً: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [(53) سورة الذاريات] يعني المسألة مسألة توارث، توارث من غير إيصاء، الآن كم بيننا وبين الجاهلية؟ مفاوز ألف وأربعمائة ويمكن كم؟ وثمان وثلاثين سنة، أو ألف وأربعمائة وأربعين سنة قبل بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام-، ألف وأربعمائة وأربعين سنة أو واحد وأربعين سنة، نعيش الآن من مظاهر الجاهلية التي ذكرت في الكتب ما لم نطلع عليه في كتاب سابق، يعني هل وجدنا في كتب ذكرت عن لباس الجاهلية لنرثه عنهم؟ أبداً، الشيطان أوحى إلى الناس بأن نقع فيما وقعوا فيه، يقول القرطبي في تفسيره: "من مظاهر تبرج الجاهلية الأولى شق القميص من الجانبين" يعني هل هذا يخطر على بال مسلم حينما تلبس زوجته أو تلبس بنته مثل هذا أن الجاهلية أوصوه بهذا أو..؟ لا، لكنه الشيطان الذي ينقل هذه المخالفات من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة و((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)) وهنا يقول: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا هو يعني محمد ساحر أو مجنون، أي مثل تكذيبهم لك بقولهم: إنك ساحر أو مجنون، تكذيب الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك، تجد من يتفوه بكلام تجده وقد سبق إليه بالحرف، الآن مما يكتب تجد أن الإنسان هذا مسبوق إليه، اطلع أو لم يطلع.

"{أَتَوَاصَوْا} [(53) سورة الذاريات] كلهم" يعني من الكفار المتقدمون الأمم السابقة كلهم إلى قومك يا محمد (به) أتواصوا "به؟ استفهام بمعنى النفي" يعني لم يتواصوا به لماذا؟ لانقطاع الأسانيد انقطاع الاتصال بين أمتك وأممهم، يعني من يوجد في آخر الزمان ويقول بمثل ما قاله أبو جهل مثلاً؟ هل نقول: إن أبا جهل أوصاه بالسند المتصل؟ ما يمكن، لكنه الشيطان الذي يوحي إلى أتباعه بمثل هذا، "أتواصوا كلهم به، استفهام بمعنى النفيط يعني لم يتواصوا به {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [(53) سورة الذاريات] إضراب، لم يتواصوا به {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [(53) سورة الذاريات] "جمعهم على هذا القول طغيانهم" يعني اشتراكهم في المبدأ، اشتراكهم في المبدأ جعلهم يتفقون على ما يمليه عليهم هذا المبدأ، جعلهم يتفقون على ما يمليه عليهم هذا المبدأ، ولذلك تجد مثلاً من وسائل الكفار في الشرق والغرب في محاربة الدين وأهله ما يتفقون عليه من غير ما يتوافقون عليه من غير اتفاق، ما يتوافقون عليه من غير اتفاق "{أَتَوَاصَوْا بِهِ} كلهم، استفهام بمعنى النفي، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} جمعهم على هذا القول طغيانهم".

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [(54) سورة الذاريات] يعني أعرض عنهم، لا تلتفت إلى كلامهم، لا يؤثروا عليك، لا يثنونك عما أنت بصدده، وهذا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وعلى من يدعو بدعوته، يعني لو قيل: فلان، يعني العبارة الآن التي تدرج بين الناس: فلان مسكين، مسكين يدخل نفسه في شيء لا يخصه، أو قد يعرضه للابتلاء، قد يعرضه لتعذيب، قد يعرضه لشيء مما يترتب على الأمر والنهي.

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} [(54) سورة الذاريات] عليك أن تؤدي ما عليك، أنت مأمور ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) لا تقول: والله هاذول بيهددون وبيضربون، لكن أنت عليك أيضاً أن تسلك المسلك الذي يحقق المصلحة، ولا تعرض نفسك لما يترتب عليه مفسدة، لا، أنت ما أنت مأمور بهذا، أنت مأمور أن تغير، ولذلك جعلت مراتب، تستطيع تغير باليد عليك أن تغير باليد، لا تستطيع باللسان، لا تستطيع بالقلب، أما أن تقول: والله هذا أمر لا يهمني، ولا أنا مكلف ولا شيء، لا، لكن لو قيل لك وأنت تأمر وأنت تنهى: والله مسكين هذا يدخل نفسه فيما لا يخصه، ويعرض نفسه لكلام الناس ولأذى الناس، نقول: تول عنهم، هؤلاء الذين يتكلمون أنت عليك بذل السبب، يعني سواءً ترتب عليه نتيجة، ارتفع المنكر، اهتدى هذا الضال الذي تدعوه إلى الله -جل وعلا-، أو لم يهتد الأجر مرتب على مجرد بذل السبب

{فَتَوَلَّ} [(54) سورة الذاريات] أي أعرض عنهم {فَمَا أَنتَ بِمَلُوم} لأنك بلغت الرسالة، وأديت ما عليك {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [(99) سورة المائدة] {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [(56) سورة القصص] يعني النتائج بيد الله -جل وعلا-، أما بذل السبب فلا بد منه، لا بد منه، ولا أحد يعفى من بذل السبب، كل على حسب قدرته واستطاعته.

{وَذَكِّرْ} [(55) سورة الذاريات] يعني عظ بالقرآن، كما جاء في آخر سورة (ق) {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [(45) سورة ق] عظهم بالقرآن، وكم يتأثر الإنسان إذا سمع القرآن بصوت مؤثر من شخص مخلص في قراءته، تجده يتأثر تأثر بالغ، هذا إذا كان فيه شيء من حياة، والقرآن مؤثر، مؤثر يعني جبير بن مطعم سمع النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ سورة الطور كاد قلبه أن يطير وهو كافر مشرك ما أسلم، فالقرآن مؤثر إلا إذا كانت القلوب أقسى من الحجارة {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [(21) سورة الحشر] وكما يقال: الجبل ما ألين لأحد، الحجارة ما ألينت لأحد، بينما الحديد ألين لداود، ومع ذلك الحجر الذي ما ألين لأحد يلين للقرآن، وجدته خاشعاً، لكن أكثر القلوب فيما نعيشه ونعايشه أشد من الحجارة، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [(45) سورة ق] ما هو بكل الناس يتذكرون بالقرآن {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} [(54) سورة الذاريات] لأنك بلغت الرسالة، الرسول -عليه الصلاة والسلام- وجد في نفسه وكذلك الصحابة أن المسألة انتهت، بلغت الرسالة وانتهيت، فما بقي إلا العذاب كما حصل للأمم السابقة، جاء بعد ذلك قوله: {وَذَكِّرْ} [(55) سورة الذاريات]  يعني عظ بالقرآن {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [(55) سورة الذاريات] من علم الله تعالى أنه يؤمن، عرف بهذا أن المسألة ما انتهت، تابع التذكير، تابع التذكير، {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [(55) سورة الذاريات] لأنهم هم الذين ينتفعون بها، سواءً كان منهم من آمن بالفعل أو من كان مآله إلى الإيمان، مثل جبير بن مطعم كافر، النصارى إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع، تفيض من الدمع، يعرفون الحق، يعرفون شيء من الحق، وكثير من المسلمين يعني عهدنا كبار السن وفيهم الصلاح الظاهر إذا قرأ عليهم الإمام بكوا، ثم مازال هذا الأمر ينقص حتى فقدناه بالكلية، الآن تجد القارئ يقرأ القرآن من أوله إلى آخره نادر الذي يتأثر.

{وَذَكِّرْ} [(55) سورة الذاريات] يعني "عظ بالقرآن" {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [(55) سورة الذاريات] "من علم الله تعالى أنه يؤمن" من علم الله أنه مؤمن بالفعل تنفعه الذكرى، من علم الله -جل وعلا- أنه يؤمن أيضاً تنفعه الذكرى.

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] هذا هو الهدف الإلهي من وجود أو من إيجاد الجن والإنس، إنما هو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، الهدف تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، ولما كان الأمر كذلك خشي على بعض الناس أنه ينقطع لهذا الأمر فقيل له: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] لأن أمور الآخرة لا تقوم إلا بشيء من أمور الدنيا، أمور الآخرة لا تقوم إلا بشيء من أمور الدنيا؛ لأن الإنسان ركب من أبعاض تحتاج إلى أكل وإلى شرب وإلى بقاء النوع الإنساني يحتاج إلى نكاح، أمور الناس لا يمكن أن تتحقق أو يحققها الإنسان بمفرده فاحتاج إلى غيره، فقيل له: لا تنس نصيبك من الدنيا؛ لأن المسلم إذا سمع مثل هذا الكلام {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] يمكن أن ينقطع للعبادة ويترك أمور الدنيا، لكن هذا ليس بمنهج شرعي، قد يوجد للإنسان من يكفيه أمر الدنيا من والد أو ولد أو ما أشبه ذلك، لكن إذا لم يوجد لا بد أن يتسبب، فلا تنس نصبيك من الدنيا، ومع الأسف الشديد أننا نعيش بين أناس جلهم لا يقال: كلهم بحاجة إلى أن يقال له: لا تنس نصيبك من الآخرة، يعني انهمك في أمر الدنيا بكليته، انصرف إلى أمر الدنيا، وإذا أدى شيئاً من أمر الآخرة تجده بدن بلا روح، جسد بلا روح، يزاول هذه العبادات لمجرد أنه أمر بها ويريد أن يتخلص منها، فلا يتلذذ بها.

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] هذا الهدف الشرعي من خلق الجن والإنس، الله -جل وعلا- خلقهم لهذا، يعني في قضائه الشرعي في قضائه الشرعي، خلقهم للعبادة لكن في قضائه الكوني يعني ألا يوجد من خرج عما خلق له؟ نعم، أمروا بالصلاة ما صلوا، أمورا بالزكاة ما زكوا، هل نقول: إن الله -جل وعلا- قدر عليهم أن يصلوا وما صلوا؟ لا، إنما أمرهم بذلك وقدره السابق من الشقاوة والسعادة نافذ لا مرد له، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين، عدم عبادة الكافرين؛ لأن الغاية لا يلزم وجودها، الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك: بريت هذا القلم لأكتب به، فإنك قد لا تكتب به، نعم في حق المخلوق هذا ظاهر، قد يقدر شيء وفي تقديره أنه يستعمل هذا القلم يشتريه ليكتب، اشتراه ليكتب به ثم يضيع أو يؤخذ منه أو يهبه لأحد فما تحققت العلة، هنا وجد عندهم إشكال أن هذه العلة من وجود الجن والإنس وهذه الحكمة يعني ما تحققت في كثير من الناس فتخلفت هذه العلة التي من أجلها، لكن إذا نظرنا أن هناك قضاء إلهي قدري وقضاء شرعي، ولا تناقض ولا تنافي بين الأمرين، يعني هنا خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، يعني أمرهم بالعبادة بتوحيده بعبادته بطاعته بترك معاصيه شرعاً وإلا كوناً وقدراً؟ أمرهم بذلك شرعاً، لكنه كوناً وقدراً جعل بعضهم سعداء منهم شقي ومنهم سعيد، منهم شقي ومنهم سعيد، وركب فيهم ما يجعلهم يختارون أحد الطريقين، ولم يجبرهم على سلوك أي طريق، يعني بين لهم هداهم النجدين وركب فيهم من حرية الاختيار ما ركب، فليس بظالم لهم، وقدره السابق نافذ لا راد لما قضى الله -جل وعلا-، فمن كان سعيداً فهو سعيد، ومن سبق عليه الكتاب بالشقاوة فهو شقي، ولا تعارض بين ذلك وما جاء في هذه الآية، وإن كان الإشكال أطال فيه المفسرون لكنها ليست بمشكلة؛ لأن المسألة يمكن أن تنفك الجهة يمكن أن تنفك، فإذا كان الله -جل وعلا- قدر عليهم يعني أمرهم شرعاً بالعبادة وقدر عليهم كوناً بعدم العبادة مثل ما في جميع الأوامر، ما في جميع..، ولذلك الجبرية حينما يقولون: إن الإنسان مجبور، وحركته كحركة ورق الشجر في مهب الريح، ماله أي تصرف هنا يكون مظلوم، حينما كتب عليه وقيد لا يفعل ولا يترك، قيد.

ألقاه في اليم مكتوفاً ثم قال له:

 

إياك إياك أن تبتل بالماءِ

هذا مظلوم، يعني شخص أوثق شخص بحبل ثم قال له: لا تبتل بالماء، قلنا: ظلمه، وهذا قدر الله عليه أن يكفر ثم عذبه يقول الجبرية: ظلمه، نقول: نعم ظلمه لو جبره على ذلك، لكن الله -جل وعلا- جعل له من حرية الاختيار ما يجعله يختار، يعني لو أن نفراً خمسة أو ستة جالسين في مكان أقيمت الصلاة قال واحد: يا الله يا الإخوان، ثم قال واحد: ما أستطيع طيب فيك شيء أنت؟ يقول: ما أستطيع، أنا مكتوب علي أني ما أصلي، ويش دريك؟ ما الذي يدريك أنه مكتوب عليك أنك ما تصلي؟ أنت مختار الآن جلست، بإمكانك أن تقوم إلى البرادة لتشرب، ما الذي يمنعك؟ بإمكانك أن تقوم إلى مكان الصلاة فتصلي، هذا كل إنسان يدركه من نفسه، فالذي يقول: إنه مجبور هذا الكلام ليس بصحيح، ولو سرق له مال، أو ضرب بعصا التفت على الذي ضربه لماذا تضربني؟ لو قال: أنا مجبور، قال: أنت مجنون ما أنت بمجبور، ففي أمور الدنيا ما يقرون بالجبر، في أمور الآخرة يقولون: مجبور هذا الكلام ليس بصحيح، نعم الله -جل وعلا- قدر على الخلق أن منهم فريق في الجنة وفريق في السعير، لكن الله -جل وعلا- بين لهم الطريقين، وأرسل لهم الرسل وأنزل لهم الكتب، وجعل فيهم من حرية الاختيار ما يختارون مما لا يجبرهم على الطريق الثاني فلم يكن لأحد حجة.

يقول: "ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين؛ لأن الغاية لا يلزم وجودها، كما في قولك: بريت هذا القلم لأكتب به فإنك قد لا تكتب به"

{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} [(57) سورة الذاريات] لي، ولا لأنفسهم، ولا لغيرهم، {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} إطلاقاً، لا يرزقوني ولا يرزقوا أنفسهم ولا يرزقون غيرهم، إنما خلقتهم لمصلحتهم، لتحقيق العبودية ثم بعد ذلك النعيم الأبدي السرمدي، وما عند الله -جل وعلا- من الرزق لا ينفد، ويمينه ملأى سحاء الليل والنهار، ولو اجتمع الخلق كلهم إنسهم و جنهم، أولهم وآخرهم، فسألوا الله وأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملك الله شيء، فالله -جل وعلا- لا يريد من خلقهم لا تكثر من قلة، ولا تعزز من ذله، الله -جل وعلا- خلقهم ليعبدوه.

{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} [(57) سورة الذاريات] لي ولأنفسهم وغيرهم" {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [(57) سورة الذاريات] ولا أنفسهم ولا غيرهم، من الذي يطعمهم؟ من الذي يطعم غيرهم؟ من الذي يطعمهم؟ الذي يطعمهم هو الله -جل وعلا-، ((يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)) ووجد من انقطعت به الأسباب وكاد قارب وشارف الهلاك ثم نزل عليه رزقه، لكن لا يعني هذا أن الإنسان يترك الأسباب، الأسباب مأمور بها، والسماء لا تمطر ذهب ولا فضة ((ولو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير)) كيف يرزق الطير؟ تجلس في أوكارها وأعشاشها يأتيها الرزق وإلا تغدو وتروح؟ ((تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) يعني ابذلوا الأسباب، ابذلوا ما تستطيعوا من الأسباب ثم بعد ذلك النتائج بيد الله -جل وعلا-، وقد يحرم الإنسان من الأسباب التي يستطيع بها طلب الرزق فيرزق بدون أسباب، فيرزق بدون أسباب، وهناك قصص كثيرة وحادث ووقائع في أول الزمان وآخره من هذا النوع، والسبب {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [(58) سورة الذاريات] إن الله هو الرزاق، يعني تعريف الجملتين حصر فلا رازق إلا الله -جل وعلا-، والتأكيد بأن وضمير الفصل يدل على أنه لا رازق إلا الله -جل وعلا-، وفي ذلك الأسلوب الحصري في تعريف جزئي الجملة، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [(58) سورة الذاريات] يعني لو قيل: إن الله رازق أو رزاق لاحتمل أن يكون معه رازق آخر، لكن لما جيء بالجملة معرفة الجزأين دل ذلك على الحصر.

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} [(58) سورة الذاريات] صاحب القوة الذي لا يغالب، والذي يقول للشيء: كن فيكون {الْمَتِينُ} الشديد بالضم المتينُ وصف لذو، وقرئ المتينِ وصف للقوة؛ لأن الوصف إذا جاء بعد مضاف ومضاف إليه يحتمل أن يكون وصفاً للمضاف ويحتمل أن يكون وصفاً للمضاف إليه، تقول: مررت بغلامِ زيدٍ الفاضلِ، الفاضل وصف لزيد وإلا لغلامه؟ ما أحد يجزم، ما أحد يجزم بهذا ولا ذاك، إنما الذي يحدد وصف الشخص، واقع الشخص، هل الغلام موصوف بالفضل؟ أو هل زيد موصوف بالفضل؟ لينطبق عليه هذا الوصف، ولذلك تحديد المراد فيه صعوبة، إلا إذا كان الإعراب بالحروف، إذا كان الإعراب بالحروف وصار المضاف إما مرفوع أو منصوب، والمضاف إليه مجرور على كل حال، لكن إذا كان المضاف مجرور التبس الأمر إلا بقرائن ترشد إلى ذلك من خلال السياق، فمثلاً في قول الله -جل وعلا-:  {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} [(27) سورة الرحمن] وصف للمضاف لا محالة؛ لأن الوجه مرفوع وذو مرفوع، وفي قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي} [(78) سورة الرحمن] وصف للمضاف إليه؛ لأن ربك مجرور بالإضافة، وذي مجرور بالياء، ما تستطيع أن تقول: ذو، أو وصف للاسم لا، الذي يقع فيه الإشكال إذا كان المضاف والمضاف إليه في حالة جر كلاهما مجرور كما في مررت بغلام زيد الفاضلِ.

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [(58) سورة الذاريات] الشديد وهو وصف لذو صاحب القوة الشديد في هذا الباب وفي غيره، المتين الشديد، أما إذا قلنا: إن المراد بالقوة الشديدة يعني مما يرجح أنه وصف لذو وأنه المتين وصف لذو مما يرجح رفعه وأنه وصف لذو تفسيره بالشديد، وأيضاً تذكير المتين، تذكير المتين، القوة مؤنثة، لو أراد وصف القوة لقال: ذو القوة المتينة، نعم، وهذا مما يرجح قراءة الضم.

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [(59) سورة الذاريات] ظلموا أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم" والظلم يطلق على أشياء منها: ما هو أعظم الظلم وهو الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [(13) سورة لقمان] {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [(82) سورة الأنعام] قال: الشرك، ومنه الظلم ظلم الإنسان لنفسه وظلم الإنسان لغيره بالعظائم والكبائر والموبقات والصغائر أيضاً كله ظلم للنفس {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [(32) سورة فاطر] ظالم لنفسه بالمعاصي سواءً كانت كبيرة كالشرك فما دونه إلى صغائر الذنوب.

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [(59) سورة الذاريات] أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم" يعني ليس هذا خاص بأهل مكة "{ذَنُوبًا} [(59) سورة الذاريات] نصيباً من العذاب" أصل ذنوب الدلو المملوء ماءاً، الذنوب الدلو الكبيرة المملوءة ماءاً، نصباً من العذاب مثل ذنوب نصيب أصحابهم، طيب النصيب عبر عنه بالذنوب؛ لأن القوم الذين يردون الموارد من المياه إنما يكون نصيبهم بالدلو يؤخذ من البئر بالدلو ويعطى هؤلاء نصيبهم، ويؤخذ بالدلو ويعطى هؤلاء نصيبهم يستقى يمتح بالدلو ومن البئر ويعطى هؤلاء نصيبهم، يعني الأعلى يسمى ماتح، الذي يزعب من الأعلى في أعلى البئر يسمى ماتح، والذي في أسفل البئر يملأ هذه الذنوب أو هذا الدلو يسمى مايح بالياء، لأنهم يقولون: الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل، التاء نقطتان فوق، والياء نقطتان من تحت، وهنا يقولون: الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل، كما قالوا في دَجاجة ودِجاجة بالكسر قالوا: المفتوحة للذكر، والمكسورة للمؤنث، يعني هذا من الطرائف التي يذكرونها.

الأصل في قسمة نصيب الناس من الماء الذي به الحياة إنما يكون بالذنوب، فعبر بالنصيب بآلته التي يستخرج بها، الذي هو الذنوب، هؤلاء لهم ذنوب وهؤلاء لهم ذنوب، وذاك من الماء وهذا من العذاب.

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [(59) سورة الذاريات] يعني أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم" "{ذَنُوبًا} [(59) سورة الذاريات] نصيباً من العذاب، مثل ذنوب مثل نصيب أصحابهم الهالكين قبلهم" من الأمم السابقة الذين قص الله علينا أخبارهم {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} [(59) سورة الذاريات] لأنهم استعجلوا العذاب، لا يستعجلون ينتظرون نصيبهم من العذاب، الذي حل بغيرهم لا بد أن يحل بهم، فلا يستعجلون بالعذاب إن أخرتهم إلى يوم القيامة فالعذاب بالنار إن أخذهم فأخذه أليم شديد، أخذ عزيز مقتدر ((إن الله -جل وعلا- ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)) {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [(42) سورة إبراهيم] يعني هذا آخر حد لهم، وإلا قد يؤخذون، وقد يأخذهم بالعذاب قبل ذلك.

{فَوَيْلٌ} [(60) سورة الذاريات] شدة عذاب، يقولون: وادٍ في جنهم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت، لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت، واد في جهنم، أو كلمة عذاب {لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ} [(60) سورة الذاريات] يومهم ظرف، والأصل أن الذي يقدر للظرف (في) الظرف المحتوى هل يكون غاية ابتداء غاية مثلاً؟ هل يكون تبعيض؟ هل يكون بيان؟ لأن (من) تأتي لابتداء الغاية، تأتي للتبعيض، تأتي للبيان، لكنها ظرف، من يومهم يعني هل نقول: من يومهم إلى يوم القيامة لتكون ابتداء غاية؟ أو في يومهم الذي يوعدون فتكون ظرفاً، اليوم هذا ظرف لهذا الوعيد، فالمناسب للظرف (في) وقالوا: إن (من) بمعنى (في) لأنه هو المناسب للظرف والحروف تتقارض، إلا إذا قدرنا فعل يتعدى بالحرف المذكور، وشيخ الإسلام يرى أن تضمين الفعل أولى من تضمين الحرف {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} [(60) سورة الذاريات] فليخافوا من يومهم، إذا قدرنا فعل يتعدى بالحرف المذكور الذي هو (من) أولى من تضمين الحرف، وضمنا (من) معنى (في) عند شيخ الإسلام، وإن كان بعضهم يقول: لا، تضمين الحرف أسهل من تضمين الفعل.

{مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [(60) سورة الذاريات] يعني يوم القيامة، يعني يوم القيامة، والذي فيه الجزاء، وفيه الحساب، وفيه العذاب والنكال، نسأل الله السلامة والعافية، وفيه يجاء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، نسأل الله السلامة والنجاة.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"